يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}[النّساء: 29 - 30].
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاس بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 188].
يريد الله سبحانه وتعالى أن يؤكّد للنَّاس في كلّ علاقاتهم، ولا سيَّما العلاقات المتَّصلة بالجانب الماليّ، أن يحترم كلّ واحد منهم ملكيَّة الآخر، فلا يتصرَّف في ماله بغير إذنه، ولا يغصبه، ولا يعتدي عليه.
أكلُ المالِ بالباطل!
وقد قسَّم الله سبحانه وتعالى مسألة التصرّف في المال إلى قسمين؛ فهناك التصرّف الباطل، وهو المال الَّذي تأخذه بدون أيّ أساس مما تعارف عليه النَّاس من المعاملات، في انتقال المال من شخصٍ إلى شخصٍ، عيناً كان أو منفعة، أو من خلال إذن شخص في التصرّف في ماله من قبل شخص آخر.
كلّ مال تأخذه من دون رضا صاحبه، ومن دون أيَّة وسيلة شرعيَّة تنقل المال إليك، أو تبيح لك التصرّف فيه، هو أكلٌ للمال بالباطل، سواء كان الأكلُ بمعنى أن تُدْخِلَ شيئاً لا تملكه في فمك، أو كان بمعنى أن تتملَّك ما ليس لكَ حقّ أن تملكه، أو أن تتصرَّف ما لا تملك أن تتصرَّف به، ولا سيَّما الوسائل الَّتي يتَّبعها النَّاس في أخذِ الأموال بعضهم من بعض، بواسطة الاحتكامِ إلى حكَّام الجور أو القوانين الجائرة، بحيث إنَّك تستغلّ قانوناً غير شرعيّ يعطيك الحقّ في الملك، مع أنَّ الشَّرعَ لا يعطيك هذا الحقّ، لتبذل المال إلى الحكَّام، ولتتملَّكه من دون حقّ.
كما نجد، مثلاً، في بعض الحالات الَّتي يختلف فيها القانون عن الشَّرع، فنجد أنَّ الشَّرع يقول في الإرث: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}[النّساء: 11]، بينما القانون يعتبر أنَّ للذَّكر مثل حظّ الأنثى، فقد يلجأ بعض النَّاس إلى القانون ليأخذوا للأنثى مثل حظّ الذَّكر، وهذا يعتبر أكلاً للمال بالباطل في هذا المجال. وأمثال هذا كثير فيما يختلف فيه الشَّرع عن القانون في أيّ بلد كان. فلا بدَّ لك إذا أردت أن تأخذ بالقانون، أن تدرس قبل أن تأخذ به؛ هل إنَّ هذا القانون ينسجم مع الحكم الشَّرعيّ أم لا، لأنَّه إذا قال الله لك إنَّك لا تملك، وقال لك القانون إنّك تملك، فإنَّ عليك أن تتبع كلام الله، لا كلام الَّذين صنعوا القانون على خلاف ما أراده الله سبحانه وتعالى، لأنَّ الله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}[الأحزاب: 36]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: 65].
عاقبةُ غصبِ المال
وقد سمعنا الآية تقول بأنَّ هذا الأكل للمال هو أكلٌ بالباطل {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}، يعني أن تأخذ قطعة أرض من دون حقّ، أو تأخذ مالاً من دون حقّ، أو تأخذ بيتاً أو محلّاً بدون حقّ، أو تسكن بيتاً من دون حقّ... فالله يقول لك إنَّك إذا فعلت ذلك ظلماً وعدواناً على المالك الشَّرعيّ، ولم تستأذنه، مما لم يبحه الله، {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا}، والله لا يعجزه ذلك، ولا سيَّما إذا كان هذا الإنسان الَّذي تأخذ ماله نتيجة قانون جائر، أو نتيجة قوَّة قاهرة، باعتبارك صاحب مكانة وصاحب قوّة وسلطة في المجتمع، إذا كان هذا الّذي تأكل ماله يتيماً، فإنَّ المسألة تتضاعف أكثر.
فقد يترك الشَّخص الَّذي يتوفّى أولاداً، قد يكون بينهم الكبار والصّغار، فيعمل الكبار على أن يستغلّوا سلطتهم وقوَّتهم وإمكاناتهم ليحصلوا على أموال الصّغار ويسجّلوها باسمهم، أو باعتبار أنَّ هؤلاء الصّغار لا حول لهم ولا قوَّة. وربما تكون مسألة الضّعف والقوَّة، كما عندما يضطهد الذّكور الإناث، ويجبرونهنّ بالقوّة والقهر والتَّهديد على أن يوقّعن على شيء لا يرضين به، سواء كانت وصيَّة غير شرعيَّة، أو كان هناك إرث موجود، ولكنَّ الذّكور يحاولون أن يأخذوا الأموال كلّها لهم.
لاحظوا كيف يقول الله عن أموال اليتامى: {إِنَّ الَّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا - أي أنَّ ذلك يتحوَّل إلى نار تضطرم في بطونهم يوم القيامة - وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النّساء: 10]، {وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ - بحيث تحاول أن تأخذ الطيّب من مال اليتيم وتبدّله بالخبيث من مالك - وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ - أو أن تضمّوا أموالهم إلى أموالكم - إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}[النّساء: 2]، يعني ذنباً كبيراً.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، هذه المسألة؛ مسألة أن تغصب مال الإنسان الآخر، سواء كان غصباً بطريقة قانونيَّة، أو كان غصباً بطريقة القهر والإكراه واستعمال القوَّة، فهذا من الكبائر الَّتي يستحقُّ الإنسان عليها دخول النَّار بنصّ القرآن.
أحاديثُ عن غصبِ المال
هذا حديث القرآن، أمَّا حديث السنَّة الشَّريفة، فقد ورد عن النَّبيّ (ص) أكثر من حديث في هذا الموضوع. يقول (ص) فيما روي عنه: "مَنِ اقتَطَعَ مالَ مؤمنٍ غَصباً بغَيرِ حَقِّهِ، لَم يَزَلِ اللّه ُمُعرِضاً عَنهُ، ماقِتاً لأِعمالِهِ الَّتي يَعمَلُها مِن البِرِّ والخَيرِ - فحتَّى لو قدَّم أعمال الخير وأعمال البرّ، فإنَّ الله لا يلتفت إليها - لا يُثبِتُها في حَسَناتِهِ، حتّى يَتُوبَ ويَرُدَّ المالَ الَّذي أخَذَهُ إلى صاحِبِهِ".
يعني لنفترض، مثلاً، أنَّ شخصاً كان له عندَك مال، ولكن لم يكن هناكَ سندٌ يثبت له حقَّه، أو أنّه ضيَّعه، فتستغلّ ذلك وترفضُ أن تردَّ مالَهُ إليه، وتنكرُ عليه حقّه، أو أنَّه ردَّ إليك الدَّيْنَ الّذي كان لك عليه، ولكنَّك تنكر ذلك لأنّه لم يوقّع، مثلاً، أو باعَكَ شيئاً ولم يكن عنده سند في البيع، أو غير ذلك، وما أكثر ما يحدث مثل هذه الأمور في هذه الأيَّام!
فإذا اقتطعت مال شخص من غير حقّ، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يُعرِضُ عنك، ويغضب من أعمالك، حتَّى ولو كانت أعمال خير، إذ يجمِّد الله أعمال الخير لهذا الشَّخص في ميزان حسناته، ويظلّ كذلك حتَّى يتوب ويردَّ المال إلى صاحبه.
حديث آخر عنه (ص): "مَنْ غَصَبَ رَجُلاً أرضاً ظُلماً، لَقِيَ اللَّهَ تعالى وهُو علَيهِ غَضبانُ".
عندما تغصب أرضاً ليس لك حقّ فيها، ولكن قد يكون عندك سند وذاك ليس عنده سند، أو تعتمد على القانون الَّذي يعطيك الحقَّ في الأرض، ولكنَّ الله لا يعطيك الحقَّ فيها، فتغصبها، "لَقِيَ اللَّهَ تعالى وهُو علَيهِ غَضبانُ"، وعندما يصل الإنسان يوم القيامة، ويرى الله غضبان عليه، فماذا يكون له بعد؟! ونحن نقرأ في دعاء كميل: "لأَنَّهُ لا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَضَبِكَ وَانْتِقامِكَ وَسَخَطِكَ؟! وَهذا ما لا تَقُومُ لَهُ السَّماواتُ وَالأَرْضُ، يا سَيِّدِي! فَكَيْفَ بِي وَأَنَاْ عَبْدُكَ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ الحَقِيرُ المِسْكِينُ المُسْتَكِينُ؟!".
وعنه (ص): "لا يَحِلُّ لامْرئٍ أنْ يَأخُذَ مالَ أخيه بغَيرِ حقِّه، وذلك لِما حَرَّمَ اللهُ مالَ المُسلِمِ على المُسلِمِ".
وعن الإمام عليّ (ع)، فيما روي عنه: "الحَجَرُ الغَصْبُ في الدَّارِ – ليس أن تغصب داراً، بل لو جئت ببعض الحجارة المغصوبة ووضعتها في الدَّار، فإنَّ هذه الحجارة - رهنٌ عَلَى خَرَابِها"، إلى أن ترجعها إلى أصحابها أو تعوّض عليهم.
والإمام عليّ (ع) يعبّر عن نفسه في مواجهته لأيّ شيء من هذا الَّذي يسمَّى غصباً: "وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ – فلو دارَ الأمر بين هذا وذاك، فأختار أن أتعذَّب وأقيَّد وأتحمَّل، ولا أغصب أحداً أو أظلم أحداً، لأنَّه يوم القيامة، عندما نقف بين يدي الله، فذلك اليوم هو اليوم الَّذي تُرَدُّ فيه المظالم إلى أصحابها {الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر: 17]. هذا شعار يوم القيامة. ولذلك، عندما يقف الإنسان المظلوم في ماله أو في أيّ شيء، يقول: يا عدل، يا حكيم، احكم بيني وبين فلان، فإنَّه ظلمني حقّي، فإنَّه غصبني أرضي، فإنَّه تصرَّف في مالي بدون حقّ، فإنَّه سكن بيتي بغير الحقّ، وما إلى ذلك... - وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا".
ويقول عليّ (ع): "وَاللَّهِ، لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ، مَا فَعَلْتُهُ". فانظروا إلى أيّ مدى يركّز الإمام (ع) على هذه المسألة.
وينقل عن الإمام المهديّ (عج) قوله: "لَا يَحلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ في مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ"، أيّ نوع من التصرّف.
ويقول الإمام الصَّادق (ع) - لما سئل عمَّن أخذ أرضاً بغير حقّه له وبنى فيها؟ -: "يُرفَعُ بِناؤُهُ، وتُسَلَّمُ التُّربَةُ إلى صَاحِبِها؛ ليسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ".
فالإمام (ع) يقول إنَّ أيّ شيء يبنيه الإنسان الظّالم على الأرض الَّتي لا حقّ له فيها، أو أيّ شيء يغرسه فيها، يُهدَم البناء، ويُنزَع الشَّجر والثَّمر من دون أيّ تعويض، باعتبار أنَّه هو الَّذي ظلم في أخذ هذه الأرض، وظلم في البناء، وظلم في الغرس، وما إلى ذلك.
التَّوبةُ قبلَ يومِ الحساب
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الله يريد لمجتمعنا أن يقوم على أساس الخضوع للخطّ الَّذي أراده سبحانه وتعالى في علاقات المسلمين بعضهم ببعض؛ أن لا يتعدَّى مسلمٌ على مسلم، وأن لا يأخذ إنسانٌ مال أخيه بغير حقّ، وأن لا يتصرَّف به بغير حقّ، فإذا فعل ذلك، فعليه إذا أراد أن يتوب، أن لا يكتفي بالاستغفار، بل لا بدَّ من أن يردَّ المال إلى صاحبه، إذا كان قد تملَّكه بغير حقّ، أو تصرَّف فيه بغير حقّ، لأنَّ التَّوبة في حقوق النَّاس لا يكفي فيها الاستغفار، بل لا بدَّ فيها من أن يَردَّ حقوق النَّاس إلى أصحابها، وأن يسترضيهم، ويستغفر الله قبل ذلك وبعده مما فعله.
أيُّها الأحبَّة، الإسلام ليس كلمة، ولكنَّه سلوك وعمل من أجل أن يعيش المجتمع المسلم مجتمعاً يحترم الواحد منهم الآخر في ماله وعرضه ودمه، وقد عبَّر عن ذلك رسول الله (ص) في حجَّة الوداع في منى يوم النَّحر، فقال: "يَا أيُّها النَّاسُ، أيُّ يومٍ هَذا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ. قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا! قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ. فَقَالَ: إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكُم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمةِ يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا"، قال: فأعادها مراراً، ثمَّ رفع رأسه وقال: "أَلَا هَلْ بلَّغْت؟!".
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الدّنيا لا تغني عن الآخرة، إنَّكم تعرفون أناساً غصبوا الأيتام حقوقهم، وغصبوا الضّعفاء حقوقهم، وأكلوا أموال النَّاس بغير حقّ، وتصرَّفوا بغير حقّ، وتركوا الأرض والمال وكلّ ذلك، وناموا في حفرة ضيَّقها الحجر والمدر، وتحوَّلوا طعاماً للدّود هناك، فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا.
لذلك، فكّروا في الله عندما تفكّرون في أنفسكم، فكّروا أن تتعاملوا مع النَّاس كما تريدونهم أن يتعاملوا معكم، هذا هو سرّ استقرار المجتمع، وسرّ قوَّته وسلامته.
أيُّها الأحبَّة، لقد علَّمنا الإمام زين العابدين (ع) أن نستعين بالله على أنفسنا لحفظ الآخرين من ظلمنا لهم: "وَلاَ أُظْلَمَنَّ وَأَنْتَ مُطِيقٌ لِلدَّفْعِ عَنِّي، وَلا أَظْلِمَنَّ وَأَنْتَ القَادِرُ عَلَى الْقَبْضِ مِنِّي"، أمسك يدي يا ربّ، اضغط عليها، شُلَّها قبل أن تمتدَّ إلى حرام، أو عندما أريد أن أظلم النَّاس: "اللَّهُمَّ فَكَمَا كَرَّهْتَ إِلَيَّ أَنْ أُظْلَمَ، فَقِنِي مِنْ أَنْ أَظْلِمَ".
"عَامِلِ النَّاسَ بما تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهِ"، وقالها عليّ لولده الإمام الحسن (ع): "يَا بُنيَّ، اجعلْ نَفْسَكَ ميزاناً بَيْنكَ وَبيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لهَا"، وتلك هي تعاليم رسول الله (ص): "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لنَفْسِهِ".
{يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُمْ بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحجّ: 1 -2].
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله فيما تنطلقون به في حياتكم من كلّ أعمالكم، سواء كانت هذه الأعمال تتَّصل بحياتكم الخاصَّة، فيما تمارسونه في أوضاعكم الشَّخصيَّة، أو تتَّصل بعلاقاتكم بالنَّاس الآخرين، لأنَّ الله أراد للإنسان أن يكون عادلاً مع ربّه ومع نفسه ومع النَّاس، لأنَّ الله أقام الدّين كلَّه على أن يقوم النَّاس بالقسط في كلّ أمورهم الخاصّة والعامّة.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ للإنسان من أن يكون دقيقاً في كلّ حركته فيما يتصرَّف فيه في الحياة، وأن يمتنع عن الشّبهات، فإذا أراد أن يتملَّك مالاً، أو إذا أراد أن يتصرَّف في مال، فعليه أن يحرز بطريقة يملك فيها الحجَّة أمام الله أنَّه يحلّ له أن يتملَّك هذا المال، ويحلّ له أن يتصرَّف فيه، لأنَّ الحديث الشَّريف قال: "الْوُقُوفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَةِ"، "مَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ المحَرَّمَاتِ، وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ المحرَّمَاتِ، وَهَلكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ".
لذلك، لا بدَّ أن يكون الإنسان دقيقاً في ما يتملَّكه، دقيقاً فيما يتصرَّف فيه، وإذا كان لا يعرف مواقع الحلال والحرام، فعليه أن يسأل أهل الذّكر، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النَّحل: 43].
مسؤوليَّةُ مواجهةِ الغاصبين
وكما علينا، أيُّها الأحبَّة، أن لا نغصب النَّاس أموالهم، فعلينا أيضاً أن نقف ضد الَّذين يغصبون النَّاس أموالهم، أن نقف ضدَّهم، أن نقاطعهم، أن نستنكر عليهم، أن ننقذ النَّاس من ظلمهم بكلّ ما أوتينا من قوَّة، لأنَّ الله أرادنا أن نأمر بالمعروف مَنْ تركه، وأن ننهى عن المنكر مَنْ أخذ به، ولا سيَّما إذا كانت القضيَّة تتَّصل بحقوق النَّاس، فإنَّ الله جعلَ هناك نوعاً من التكافل الاجتماعيّ في جوانب أخذ الحقّ، كما جعل نوعاً من التَّكافل الاجتماعيّ في جوانب مواجهة مَنْ منَعَ الحقّ.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن ننكر الغصب من كلّ إنسان ومن كلّ جهة، ولا سيَّما الَّذين يغصبون النَّاس أوطانهم، ويغصبونهم حكمهم وأموالهم...
إنَّ مشكلتنا، أيُّها الأحبَّة، مع إسرائيل، هي أنَّهم غصبوا الأرض وغصبوا السلطة. ولذلك كنّا نقول، لو أنَّ اليهود في فلسطين دخلوا في الإسلام، لقلنا لهم اخرجوا من فلسطين حتَّى لو أصبحتم مسلمين، لأنَّه "لَا يِحلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيْبِ نَفْسِهِ"، فإذا لم يرض أصحاب الأرض بأن تبقوا فيها، فليس لكم الحقّ في البقاء فيها، لا فرق في هذا الحكم بين مسلمٍ وغير مسلم. وهكذا أن نقول لهم ليس لكم السّلطة، لقد غصبتم الأرض وغصبتم السّلطة {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[النّساء: 141]، وقلنا لو أنَّ العالم كلّه اعترف بإسرائيل، فإنَّ أيَّ مسلم يؤمن بإسلامه، ويملك إسلامه، لا يمكن أن يعترف بإسرائيل، لأنَّ المسلم لا يمكن أن يعترف بالحرام أنَّه حلال، فهل يمكن لمسلم أن يقول إنَّ شرب الخمر حلال وقد حرَّمها الله في كتابه؟! كذلك لا يمكن لمسلم أن يقول إنَّ غصب الأرض حلال، وإنَّ غصب السلطة حلال، لأنَّ الله حرَّم ذلك في كتابه وسنَّة نبيّه.
لذلك، ليست المسألة فيما يسيطر عليه اليهود في فلسطين أو في لبنان أو في الجولان، مجرَّد مسألة سياسيَّة تحلّ بالتَّفاوض، ولكنَّها مسألة شرعيَّة دينيَّة لا بدَّ أن تنطلق بالأسلوب الشَّرعيّ وبالأسلوب الدّينيّ في رفض كلّ ما هو غصب، سواء كان ذلك غصب الأرض أو السّلطة.
وفي ضوء هذا، نحن لا بدَّ لنا أن نبقى في مواجهة هؤلاء الَّذين قتلوا الأنبياء بغير الحقّ، وعاثوا في الأرض فساداً، وقد قال لله لنا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذينَ أَشْرَكُوا}[المائدة: 82].
وما زالوا يعيثون في الأرض فساداً، وما زالوا يغصبون أرضاً بعد أرض بطريقة وبأخرى، وما زالت أمريكا تغطّي غصبهم للأرض وللسّلطة، وتغطّي كلَّ ما يقومون به من عدوان وجرائم وتعدّيات، تعطيهم القوَّة، وتقف ضدّ كلّ إدانة لهم في الأمم المتَّحدة.
تعالوا لنعرف ماذا هناك في فلسطين، وماذا هناك في الواقع التركيّ على حدود سوريا، وماذا هناك في البلدان الإسلاميَّة الأخرى، وماذا هنا في لبنان.
تنازلاتٌ لصالحِ إسرائيل!
وأخيراً، خضع رئيس سلطة الحكم الذاتيّ للضّغوط الأمريكيَّة الإسرائيليَّة، في الموافقة على شروط نتنياهو، في تحويل 3% من أراضي الضفَّة الغربيَّة إلى محميَّة طبيعيَّة تحت السَّيطرة الإسرائيليَّة، فالفلسطينيّون يملكونها اسماً، ولكنَّهم لا يملكونها حكماً وسيطرةً وحركةً، بعد معارضة طويلة، أثبت فيها الجانب الصّهيونيّ أنَّه قادر على إخضاع الجانب الفلسطينيّ لشروطه، بمساعي الجانب الأمريكيّ الَّذي عمل ويعمل على متابعة الضَّغط على الفلسطينيّين، لتقديم التنازلات من أرضهم لليهود، وتصفية كلّ مواقع الانتفاضة في الدَّاخل، ما يوحي بأنَّ المفاوضات النّهائيَّة المستقبلة حول القضايا الحيويَّة كالقدس، وما يسمَّى بملفّ اللَّاجئين، سوف تتحرَّك فيها التنازلات الفلسطينيَّة، بما يحقّق لليهود كلَّ أحلامهم في تهويد فلسطين كلّها، كمقدّمة لدفن القضيَّة الفلسطينيَّة، والانتهاء من مشاكلها عربيّاً ودوليّاً، فلا يبقى للشَّعب الفلسطينيّ إلّا جزء بلا سيادة ولا حريَّة.
لقد تحدَّث نتنياهو أنَّ العرب يعارضون ثمَّ يتنازلون، ما يعني أنَّ اليهود يعملون على استثمار عامل الوقت الَّذي يتحرَّك لصالحهم في تنفيذ مخطَّطاتهم، وهذا هو الواقع الَّذي يؤكّد الخطَّة الأمريكيَّة اليهوديَّة الَّتي تقود العرب والفلسطينيّين بشكلٍ خاصّ لتقديم التَّنازلات تلو التَّنازلات من أرضهم وحرَّيتهم على صعيد الحاضر والمستقبل...
ماذا حدث الآن عندما ذهب عرفات إلى أمريكا؟ كأني به جلس مع كلينتون، وبدأ يشكو له مشاكله في الواقع الدَّاخلي، ويقول له كلينتون بالطَّريقة العربيَّة: الصَّديق وقت الضّيق، أنا صديقك وأعطيتك، ومستعدّ أن أعطيك في المستقبل أحلاماً معسولة، ولكن اسمح لنا بهذه الـ 3%، لأنَّ نتنياهو لديه مشاكل في الدَّاخل، ويمكن أن يخرّبوا له الوزارة، فهذه الأرض تبقى باسمكم فلسطينيَّة، ولكن ليس لكم الحقّ أن تزرعوا فيها، أو أن تبنوا فيها، ويبقى الباقي على نتنياهو أن يصادرها في المستقبل!
هذه العقليَّة العربيَّة الَّتي تتحرّك على أساس العاطفة، وتتنازل على أساس العاطفة، وتتمرَّد على حقوق الأمَّة على أساس العاطفة. والعاطفة جيِّدة، لكنَّها تحتاج إلى عقل، العاطفة إنما هي في القضايا العاديَّة، أمَّا في القضايا الأساسيَّة، فلا عاطفة، بل إصرار وتأكيد.
وهذه مشكلة العرب، فأمريكا تعطيهم الكلمات والعواطف، أمَّا مع اليهود، فإنَّها تعطيهم المواقف والأسلحة وكلّ ما يثبّت حكمهم. وهذا هو الفرق بين العقليَّة اليهوديَّة والعقليَّة العربيَّة الموجودة في هذه الأيَّام، فالعرب تاريخهم تاريخ تقديم التَّنازلات، وتاريخ اليهود مع العرب هو تاريخ الإصرار على كلّ ما يقولونه.
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، فإذا لم نغيّر ذهنيَّتنا في مواجهة قضايانا ومصيرنا، وفي مواجهة ثرواتنا، فسنبقى في هزيمة بعد هزيمة، وسقوط وبعد سقوط.
تهديدٌ تركيٌّ لسوريا
وفي هذا الجوّ، فإنَّنا نلاحظ مسلسل توزيع الأدوار في خطّة الحلف التركي الإسرائيلي، والَّذي تجلَّت آخر حلقاته في تهديدات المسؤولين الأتراك لسوريا، وفي الحشود التركيَّة العسكريَّة على حدودها، من أجل خلق أزمة جديدة، لإرباك سوريا، وإضعاف موقفها في مواجهة إسرائيل، كجزء من خطَّة هذا الحلف الاستراتيجيّ. وندعو العرب أمام هذا التطوّر، إلى مواجهة هذه المسألة بموقفٍ عربيّ موحَّد، دعماً لسوريا، بحيث تشعر تركيا معه بأنَّ مثل هذا التحرّك يهدّد مصالحها في العالم العربيّ.
تمييعٌ لقضيَّةِ كوسوفو
وفي هذا الاتجاه، فإنَّنا نتابع اللّعبة الدوليَّة في قضيَّة الشَّعب المسلم في كوسوفو، الَّتي تخضع للكثير من عمليَّة التَّمييع السياسيّ الَّذي يفسح المجال أمام الصّرب لتنفيذ مخطَّطاتهم، في إخضاع المسلمين لسيطرتهم، ومنعهم من الحصول على استقلالهم، وذلك من خلال المجازر الوحشيَّة والتَّمييز العرقيّ الدّينيّ، ما يتحوَّل فيه الموقف إلى نوع من أنواع الإبادة للشَّعب كلّه.
وإذا كان الحلف الأطلسي يهدّد بضربة عسكريَّة للصّرب، فإنَّنا لا نلاحظ جدّيَّة في الخطة السياسيَّة لحلّ المشكلة بما يتناسب مع مصلحة الشّعب هناك. والسؤال الَّذي يفرض نفسه: لو كان إقليم كوسوفو يهوديّاً، فهل تتعامل الأمم المتَّحدة والدّول المسيطرة عليها بهذه الطَّريقة؟! إنَّ هذا الواقع السياسيّ العسكريّ الَّذي يتعرَّض له المسلمون في أكثر من موقع في العالم، يفرض على المسلمين جميعاً الارتفاع إلى مستوى التحدّيات الكبرى الَّتي يواجهونها من خلال الهجمة المتنوّعة الأبعاد، والمتعدّدة الأطراف، الَّتي تعمل على اضطهاد قضاياهم، ونهب ثرواتهم، وإبعادهم عن ممارسة دورهم الكبير في العالم، ليتحوَّلوا إلى مزق متناثرة لا تملك أن تريد أو لا تريد.
إنَّنا نتساءل: ما جدوى منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ الَّتي لم تستطع منذ تأسيسها أن تحلّ أيّ مشكلة في العالم الإسلاميّ، لأنها لم تقف موقفاً حازماً حاسماً أمام الاستكبار العالميّ، وفي مقدَّمه أمريكا، ولم تملك أيّ مبادرة للضَّغط على دولها، بأن تتحرَّك في نطاق المصالح العليا للمسلمين جميعاً؟! وهكذا هو الحال في الجامعة العربيَّة الَّتي بقيت شاهد زور على كلّ القضايا العربيَّة، لأنها بقيت مجرَّد ساحة لإثارة الخلافات في الواقع العربيّ، بعيداً من أيّ فرصة لتوحيد الجهود السياسيَّة في مواجهة التحدّيات الكبرى.
لبنان: مواجهة التحدّيات
وأخيراً، إنَّنا لا نزال في لبنان نواجه الهمَّ الكبير في الاحتلال الَّذي يواجهه المجاهدون بكلّ كفاءة وقوّة، كما نواجه الأوضاع الاقتصاديَّة الصَّعبة الَّتي تسير بالبلد إلى حافة الانهيار. أمَّا الواقع السياسيّ، فإنَّه يتخبَّط في ساحة التحدّيات، فيما يشبه الغموض في حركة الخطوط المتنوّعة هنا وهناك.
إنَّنا نريد الوضوح الَّذي تطرح فيه القضايا، بما يجعل النَّاس يتعرَّفون طبيعةَ التحرّك الَّذي تُصنَعُ فيه ملامح المستقبل، لأنَّ المرحلة الَّتي تعيشها المنطقة في الانهيارات السياسيَّة الفلسطينيَّة، وفي رحلة الضّياع العربيّ، وفي الأزمات الاقتصاديَّة الخانقة، تفرض على الجميع أن يفكّروا ما موقع البلد من ذلك كلّه، وكيف يمكن للشَّعب اللّبنانيّ أن يطمئنّ إلى حياته، ولا سيَّما إذا عرفنا أنَّ تاريخ لبنان هو تاريخ الأزمات الَّتي تثيرها العواصف السياسيَّة في المنطقة.
والسّؤال الكبير: هل نطمع أن يرتفع الجميع إلى مستوى المرحلة الَّتي يشارك فيها الشَّعب، ولو لأوَّل مرَّة، في صنع حاضره ومستقبله، في الأمن والسياسة والاقتصاد؟!
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 02/10/1998م.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}[النّساء: 29 - 30].
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاس بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 188].
يريد الله سبحانه وتعالى أن يؤكّد للنَّاس في كلّ علاقاتهم، ولا سيَّما العلاقات المتَّصلة بالجانب الماليّ، أن يحترم كلّ واحد منهم ملكيَّة الآخر، فلا يتصرَّف في ماله بغير إذنه، ولا يغصبه، ولا يعتدي عليه.
أكلُ المالِ بالباطل!
وقد قسَّم الله سبحانه وتعالى مسألة التصرّف في المال إلى قسمين؛ فهناك التصرّف الباطل، وهو المال الَّذي تأخذه بدون أيّ أساس مما تعارف عليه النَّاس من المعاملات، في انتقال المال من شخصٍ إلى شخصٍ، عيناً كان أو منفعة، أو من خلال إذن شخص في التصرّف في ماله من قبل شخص آخر.
كلّ مال تأخذه من دون رضا صاحبه، ومن دون أيَّة وسيلة شرعيَّة تنقل المال إليك، أو تبيح لك التصرّف فيه، هو أكلٌ للمال بالباطل، سواء كان الأكلُ بمعنى أن تُدْخِلَ شيئاً لا تملكه في فمك، أو كان بمعنى أن تتملَّك ما ليس لكَ حقّ أن تملكه، أو أن تتصرَّف ما لا تملك أن تتصرَّف به، ولا سيَّما الوسائل الَّتي يتَّبعها النَّاس في أخذِ الأموال بعضهم من بعض، بواسطة الاحتكامِ إلى حكَّام الجور أو القوانين الجائرة، بحيث إنَّك تستغلّ قانوناً غير شرعيّ يعطيك الحقّ في الملك، مع أنَّ الشَّرعَ لا يعطيك هذا الحقّ، لتبذل المال إلى الحكَّام، ولتتملَّكه من دون حقّ.
كما نجد، مثلاً، في بعض الحالات الَّتي يختلف فيها القانون عن الشَّرع، فنجد أنَّ الشَّرع يقول في الإرث: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}[النّساء: 11]، بينما القانون يعتبر أنَّ للذَّكر مثل حظّ الأنثى، فقد يلجأ بعض النَّاس إلى القانون ليأخذوا للأنثى مثل حظّ الذَّكر، وهذا يعتبر أكلاً للمال بالباطل في هذا المجال. وأمثال هذا كثير فيما يختلف فيه الشَّرع عن القانون في أيّ بلد كان. فلا بدَّ لك إذا أردت أن تأخذ بالقانون، أن تدرس قبل أن تأخذ به؛ هل إنَّ هذا القانون ينسجم مع الحكم الشَّرعيّ أم لا، لأنَّه إذا قال الله لك إنَّك لا تملك، وقال لك القانون إنّك تملك، فإنَّ عليك أن تتبع كلام الله، لا كلام الَّذين صنعوا القانون على خلاف ما أراده الله سبحانه وتعالى، لأنَّ الله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}[الأحزاب: 36]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: 65].
عاقبةُ غصبِ المال
وقد سمعنا الآية تقول بأنَّ هذا الأكل للمال هو أكلٌ بالباطل {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}، يعني أن تأخذ قطعة أرض من دون حقّ، أو تأخذ مالاً من دون حقّ، أو تأخذ بيتاً أو محلّاً بدون حقّ، أو تسكن بيتاً من دون حقّ... فالله يقول لك إنَّك إذا فعلت ذلك ظلماً وعدواناً على المالك الشَّرعيّ، ولم تستأذنه، مما لم يبحه الله، {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا}، والله لا يعجزه ذلك، ولا سيَّما إذا كان هذا الإنسان الَّذي تأخذ ماله نتيجة قانون جائر، أو نتيجة قوَّة قاهرة، باعتبارك صاحب مكانة وصاحب قوّة وسلطة في المجتمع، إذا كان هذا الّذي تأكل ماله يتيماً، فإنَّ المسألة تتضاعف أكثر.
فقد يترك الشَّخص الَّذي يتوفّى أولاداً، قد يكون بينهم الكبار والصّغار، فيعمل الكبار على أن يستغلّوا سلطتهم وقوَّتهم وإمكاناتهم ليحصلوا على أموال الصّغار ويسجّلوها باسمهم، أو باعتبار أنَّ هؤلاء الصّغار لا حول لهم ولا قوَّة. وربما تكون مسألة الضّعف والقوَّة، كما عندما يضطهد الذّكور الإناث، ويجبرونهنّ بالقوّة والقهر والتَّهديد على أن يوقّعن على شيء لا يرضين به، سواء كانت وصيَّة غير شرعيَّة، أو كان هناك إرث موجود، ولكنَّ الذّكور يحاولون أن يأخذوا الأموال كلّها لهم.
لاحظوا كيف يقول الله عن أموال اليتامى: {إِنَّ الَّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا - أي أنَّ ذلك يتحوَّل إلى نار تضطرم في بطونهم يوم القيامة - وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النّساء: 10]، {وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ - بحيث تحاول أن تأخذ الطيّب من مال اليتيم وتبدّله بالخبيث من مالك - وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ - أو أن تضمّوا أموالهم إلى أموالكم - إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}[النّساء: 2]، يعني ذنباً كبيراً.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، هذه المسألة؛ مسألة أن تغصب مال الإنسان الآخر، سواء كان غصباً بطريقة قانونيَّة، أو كان غصباً بطريقة القهر والإكراه واستعمال القوَّة، فهذا من الكبائر الَّتي يستحقُّ الإنسان عليها دخول النَّار بنصّ القرآن.
أحاديثُ عن غصبِ المال
هذا حديث القرآن، أمَّا حديث السنَّة الشَّريفة، فقد ورد عن النَّبيّ (ص) أكثر من حديث في هذا الموضوع. يقول (ص) فيما روي عنه: "مَنِ اقتَطَعَ مالَ مؤمنٍ غَصباً بغَيرِ حَقِّهِ، لَم يَزَلِ اللّه ُمُعرِضاً عَنهُ، ماقِتاً لأِعمالِهِ الَّتي يَعمَلُها مِن البِرِّ والخَيرِ - فحتَّى لو قدَّم أعمال الخير وأعمال البرّ، فإنَّ الله لا يلتفت إليها - لا يُثبِتُها في حَسَناتِهِ، حتّى يَتُوبَ ويَرُدَّ المالَ الَّذي أخَذَهُ إلى صاحِبِهِ".
يعني لنفترض، مثلاً، أنَّ شخصاً كان له عندَك مال، ولكن لم يكن هناكَ سندٌ يثبت له حقَّه، أو أنّه ضيَّعه، فتستغلّ ذلك وترفضُ أن تردَّ مالَهُ إليه، وتنكرُ عليه حقّه، أو أنَّه ردَّ إليك الدَّيْنَ الّذي كان لك عليه، ولكنَّك تنكر ذلك لأنّه لم يوقّع، مثلاً، أو باعَكَ شيئاً ولم يكن عنده سند في البيع، أو غير ذلك، وما أكثر ما يحدث مثل هذه الأمور في هذه الأيَّام!
فإذا اقتطعت مال شخص من غير حقّ، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يُعرِضُ عنك، ويغضب من أعمالك، حتَّى ولو كانت أعمال خير، إذ يجمِّد الله أعمال الخير لهذا الشَّخص في ميزان حسناته، ويظلّ كذلك حتَّى يتوب ويردَّ المال إلى صاحبه.
حديث آخر عنه (ص): "مَنْ غَصَبَ رَجُلاً أرضاً ظُلماً، لَقِيَ اللَّهَ تعالى وهُو علَيهِ غَضبانُ".
عندما تغصب أرضاً ليس لك حقّ فيها، ولكن قد يكون عندك سند وذاك ليس عنده سند، أو تعتمد على القانون الَّذي يعطيك الحقَّ في الأرض، ولكنَّ الله لا يعطيك الحقَّ فيها، فتغصبها، "لَقِيَ اللَّهَ تعالى وهُو علَيهِ غَضبانُ"، وعندما يصل الإنسان يوم القيامة، ويرى الله غضبان عليه، فماذا يكون له بعد؟! ونحن نقرأ في دعاء كميل: "لأَنَّهُ لا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَضَبِكَ وَانْتِقامِكَ وَسَخَطِكَ؟! وَهذا ما لا تَقُومُ لَهُ السَّماواتُ وَالأَرْضُ، يا سَيِّدِي! فَكَيْفَ بِي وَأَنَاْ عَبْدُكَ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ الحَقِيرُ المِسْكِينُ المُسْتَكِينُ؟!".
وعنه (ص): "لا يَحِلُّ لامْرئٍ أنْ يَأخُذَ مالَ أخيه بغَيرِ حقِّه، وذلك لِما حَرَّمَ اللهُ مالَ المُسلِمِ على المُسلِمِ".
وعن الإمام عليّ (ع)، فيما روي عنه: "الحَجَرُ الغَصْبُ في الدَّارِ – ليس أن تغصب داراً، بل لو جئت ببعض الحجارة المغصوبة ووضعتها في الدَّار، فإنَّ هذه الحجارة - رهنٌ عَلَى خَرَابِها"، إلى أن ترجعها إلى أصحابها أو تعوّض عليهم.
والإمام عليّ (ع) يعبّر عن نفسه في مواجهته لأيّ شيء من هذا الَّذي يسمَّى غصباً: "وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ – فلو دارَ الأمر بين هذا وذاك، فأختار أن أتعذَّب وأقيَّد وأتحمَّل، ولا أغصب أحداً أو أظلم أحداً، لأنَّه يوم القيامة، عندما نقف بين يدي الله، فذلك اليوم هو اليوم الَّذي تُرَدُّ فيه المظالم إلى أصحابها {الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[غافر: 17]. هذا شعار يوم القيامة. ولذلك، عندما يقف الإنسان المظلوم في ماله أو في أيّ شيء، يقول: يا عدل، يا حكيم، احكم بيني وبين فلان، فإنَّه ظلمني حقّي، فإنَّه غصبني أرضي، فإنَّه تصرَّف في مالي بدون حقّ، فإنَّه سكن بيتي بغير الحقّ، وما إلى ذلك... - وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا".
ويقول عليّ (ع): "وَاللَّهِ، لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ، مَا فَعَلْتُهُ". فانظروا إلى أيّ مدى يركّز الإمام (ع) على هذه المسألة.
وينقل عن الإمام المهديّ (عج) قوله: "لَا يَحلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ في مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ"، أيّ نوع من التصرّف.
ويقول الإمام الصَّادق (ع) - لما سئل عمَّن أخذ أرضاً بغير حقّه له وبنى فيها؟ -: "يُرفَعُ بِناؤُهُ، وتُسَلَّمُ التُّربَةُ إلى صَاحِبِها؛ ليسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ".
فالإمام (ع) يقول إنَّ أيّ شيء يبنيه الإنسان الظّالم على الأرض الَّتي لا حقّ له فيها، أو أيّ شيء يغرسه فيها، يُهدَم البناء، ويُنزَع الشَّجر والثَّمر من دون أيّ تعويض، باعتبار أنَّه هو الَّذي ظلم في أخذ هذه الأرض، وظلم في البناء، وظلم في الغرس، وما إلى ذلك.
التَّوبةُ قبلَ يومِ الحساب
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الله يريد لمجتمعنا أن يقوم على أساس الخضوع للخطّ الَّذي أراده سبحانه وتعالى في علاقات المسلمين بعضهم ببعض؛ أن لا يتعدَّى مسلمٌ على مسلم، وأن لا يأخذ إنسانٌ مال أخيه بغير حقّ، وأن لا يتصرَّف به بغير حقّ، فإذا فعل ذلك، فعليه إذا أراد أن يتوب، أن لا يكتفي بالاستغفار، بل لا بدَّ من أن يردَّ المال إلى صاحبه، إذا كان قد تملَّكه بغير حقّ، أو تصرَّف فيه بغير حقّ، لأنَّ التَّوبة في حقوق النَّاس لا يكفي فيها الاستغفار، بل لا بدَّ فيها من أن يَردَّ حقوق النَّاس إلى أصحابها، وأن يسترضيهم، ويستغفر الله قبل ذلك وبعده مما فعله.
أيُّها الأحبَّة، الإسلام ليس كلمة، ولكنَّه سلوك وعمل من أجل أن يعيش المجتمع المسلم مجتمعاً يحترم الواحد منهم الآخر في ماله وعرضه ودمه، وقد عبَّر عن ذلك رسول الله (ص) في حجَّة الوداع في منى يوم النَّحر، فقال: "يَا أيُّها النَّاسُ، أيُّ يومٍ هَذا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ. قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا! قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ. فَقَالَ: إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكُم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمةِ يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا"، قال: فأعادها مراراً، ثمَّ رفع رأسه وقال: "أَلَا هَلْ بلَّغْت؟!".
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الدّنيا لا تغني عن الآخرة، إنَّكم تعرفون أناساً غصبوا الأيتام حقوقهم، وغصبوا الضّعفاء حقوقهم، وأكلوا أموال النَّاس بغير حقّ، وتصرَّفوا بغير حقّ، وتركوا الأرض والمال وكلّ ذلك، وناموا في حفرة ضيَّقها الحجر والمدر، وتحوَّلوا طعاماً للدّود هناك، فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا.
لذلك، فكّروا في الله عندما تفكّرون في أنفسكم، فكّروا أن تتعاملوا مع النَّاس كما تريدونهم أن يتعاملوا معكم، هذا هو سرّ استقرار المجتمع، وسرّ قوَّته وسلامته.
أيُّها الأحبَّة، لقد علَّمنا الإمام زين العابدين (ع) أن نستعين بالله على أنفسنا لحفظ الآخرين من ظلمنا لهم: "وَلاَ أُظْلَمَنَّ وَأَنْتَ مُطِيقٌ لِلدَّفْعِ عَنِّي، وَلا أَظْلِمَنَّ وَأَنْتَ القَادِرُ عَلَى الْقَبْضِ مِنِّي"، أمسك يدي يا ربّ، اضغط عليها، شُلَّها قبل أن تمتدَّ إلى حرام، أو عندما أريد أن أظلم النَّاس: "اللَّهُمَّ فَكَمَا كَرَّهْتَ إِلَيَّ أَنْ أُظْلَمَ، فَقِنِي مِنْ أَنْ أَظْلِمَ".
"عَامِلِ النَّاسَ بما تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهِ"، وقالها عليّ لولده الإمام الحسن (ع): "يَا بُنيَّ، اجعلْ نَفْسَكَ ميزاناً بَيْنكَ وَبيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لهَا"، وتلك هي تعاليم رسول الله (ص): "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لنَفْسِهِ".
{يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُمْ بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحجّ: 1 -2].
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله فيما تنطلقون به في حياتكم من كلّ أعمالكم، سواء كانت هذه الأعمال تتَّصل بحياتكم الخاصَّة، فيما تمارسونه في أوضاعكم الشَّخصيَّة، أو تتَّصل بعلاقاتكم بالنَّاس الآخرين، لأنَّ الله أراد للإنسان أن يكون عادلاً مع ربّه ومع نفسه ومع النَّاس، لأنَّ الله أقام الدّين كلَّه على أن يقوم النَّاس بالقسط في كلّ أمورهم الخاصّة والعامّة.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ للإنسان من أن يكون دقيقاً في كلّ حركته فيما يتصرَّف فيه في الحياة، وأن يمتنع عن الشّبهات، فإذا أراد أن يتملَّك مالاً، أو إذا أراد أن يتصرَّف في مال، فعليه أن يحرز بطريقة يملك فيها الحجَّة أمام الله أنَّه يحلّ له أن يتملَّك هذا المال، ويحلّ له أن يتصرَّف فيه، لأنَّ الحديث الشَّريف قال: "الْوُقُوفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَةِ"، "مَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ المحَرَّمَاتِ، وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ المحرَّمَاتِ، وَهَلكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ".
لذلك، لا بدَّ أن يكون الإنسان دقيقاً في ما يتملَّكه، دقيقاً فيما يتصرَّف فيه، وإذا كان لا يعرف مواقع الحلال والحرام، فعليه أن يسأل أهل الذّكر، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النَّحل: 43].
مسؤوليَّةُ مواجهةِ الغاصبين
وكما علينا، أيُّها الأحبَّة، أن لا نغصب النَّاس أموالهم، فعلينا أيضاً أن نقف ضد الَّذين يغصبون النَّاس أموالهم، أن نقف ضدَّهم، أن نقاطعهم، أن نستنكر عليهم، أن ننقذ النَّاس من ظلمهم بكلّ ما أوتينا من قوَّة، لأنَّ الله أرادنا أن نأمر بالمعروف مَنْ تركه، وأن ننهى عن المنكر مَنْ أخذ به، ولا سيَّما إذا كانت القضيَّة تتَّصل بحقوق النَّاس، فإنَّ الله جعلَ هناك نوعاً من التكافل الاجتماعيّ في جوانب أخذ الحقّ، كما جعل نوعاً من التَّكافل الاجتماعيّ في جوانب مواجهة مَنْ منَعَ الحقّ.
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن ننكر الغصب من كلّ إنسان ومن كلّ جهة، ولا سيَّما الَّذين يغصبون النَّاس أوطانهم، ويغصبونهم حكمهم وأموالهم...
إنَّ مشكلتنا، أيُّها الأحبَّة، مع إسرائيل، هي أنَّهم غصبوا الأرض وغصبوا السلطة. ولذلك كنّا نقول، لو أنَّ اليهود في فلسطين دخلوا في الإسلام، لقلنا لهم اخرجوا من فلسطين حتَّى لو أصبحتم مسلمين، لأنَّه "لَا يِحلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيْبِ نَفْسِهِ"، فإذا لم يرض أصحاب الأرض بأن تبقوا فيها، فليس لكم الحقّ في البقاء فيها، لا فرق في هذا الحكم بين مسلمٍ وغير مسلم. وهكذا أن نقول لهم ليس لكم السّلطة، لقد غصبتم الأرض وغصبتم السّلطة {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[النّساء: 141]، وقلنا لو أنَّ العالم كلّه اعترف بإسرائيل، فإنَّ أيَّ مسلم يؤمن بإسلامه، ويملك إسلامه، لا يمكن أن يعترف بإسرائيل، لأنَّ المسلم لا يمكن أن يعترف بالحرام أنَّه حلال، فهل يمكن لمسلم أن يقول إنَّ شرب الخمر حلال وقد حرَّمها الله في كتابه؟! كذلك لا يمكن لمسلم أن يقول إنَّ غصب الأرض حلال، وإنَّ غصب السلطة حلال، لأنَّ الله حرَّم ذلك في كتابه وسنَّة نبيّه.
لذلك، ليست المسألة فيما يسيطر عليه اليهود في فلسطين أو في لبنان أو في الجولان، مجرَّد مسألة سياسيَّة تحلّ بالتَّفاوض، ولكنَّها مسألة شرعيَّة دينيَّة لا بدَّ أن تنطلق بالأسلوب الشَّرعيّ وبالأسلوب الدّينيّ في رفض كلّ ما هو غصب، سواء كان ذلك غصب الأرض أو السّلطة.
وفي ضوء هذا، نحن لا بدَّ لنا أن نبقى في مواجهة هؤلاء الَّذين قتلوا الأنبياء بغير الحقّ، وعاثوا في الأرض فساداً، وقد قال لله لنا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذينَ أَشْرَكُوا}[المائدة: 82].
وما زالوا يعيثون في الأرض فساداً، وما زالوا يغصبون أرضاً بعد أرض بطريقة وبأخرى، وما زالت أمريكا تغطّي غصبهم للأرض وللسّلطة، وتغطّي كلَّ ما يقومون به من عدوان وجرائم وتعدّيات، تعطيهم القوَّة، وتقف ضدّ كلّ إدانة لهم في الأمم المتَّحدة.
تعالوا لنعرف ماذا هناك في فلسطين، وماذا هناك في الواقع التركيّ على حدود سوريا، وماذا هناك في البلدان الإسلاميَّة الأخرى، وماذا هنا في لبنان.
تنازلاتٌ لصالحِ إسرائيل!
وأخيراً، خضع رئيس سلطة الحكم الذاتيّ للضّغوط الأمريكيَّة الإسرائيليَّة، في الموافقة على شروط نتنياهو، في تحويل 3% من أراضي الضفَّة الغربيَّة إلى محميَّة طبيعيَّة تحت السَّيطرة الإسرائيليَّة، فالفلسطينيّون يملكونها اسماً، ولكنَّهم لا يملكونها حكماً وسيطرةً وحركةً، بعد معارضة طويلة، أثبت فيها الجانب الصّهيونيّ أنَّه قادر على إخضاع الجانب الفلسطينيّ لشروطه، بمساعي الجانب الأمريكيّ الَّذي عمل ويعمل على متابعة الضَّغط على الفلسطينيّين، لتقديم التنازلات من أرضهم لليهود، وتصفية كلّ مواقع الانتفاضة في الدَّاخل، ما يوحي بأنَّ المفاوضات النّهائيَّة المستقبلة حول القضايا الحيويَّة كالقدس، وما يسمَّى بملفّ اللَّاجئين، سوف تتحرَّك فيها التنازلات الفلسطينيَّة، بما يحقّق لليهود كلَّ أحلامهم في تهويد فلسطين كلّها، كمقدّمة لدفن القضيَّة الفلسطينيَّة، والانتهاء من مشاكلها عربيّاً ودوليّاً، فلا يبقى للشَّعب الفلسطينيّ إلّا جزء بلا سيادة ولا حريَّة.
لقد تحدَّث نتنياهو أنَّ العرب يعارضون ثمَّ يتنازلون، ما يعني أنَّ اليهود يعملون على استثمار عامل الوقت الَّذي يتحرَّك لصالحهم في تنفيذ مخطَّطاتهم، وهذا هو الواقع الَّذي يؤكّد الخطَّة الأمريكيَّة اليهوديَّة الَّتي تقود العرب والفلسطينيّين بشكلٍ خاصّ لتقديم التَّنازلات تلو التَّنازلات من أرضهم وحرَّيتهم على صعيد الحاضر والمستقبل...
ماذا حدث الآن عندما ذهب عرفات إلى أمريكا؟ كأني به جلس مع كلينتون، وبدأ يشكو له مشاكله في الواقع الدَّاخلي، ويقول له كلينتون بالطَّريقة العربيَّة: الصَّديق وقت الضّيق، أنا صديقك وأعطيتك، ومستعدّ أن أعطيك في المستقبل أحلاماً معسولة، ولكن اسمح لنا بهذه الـ 3%، لأنَّ نتنياهو لديه مشاكل في الدَّاخل، ويمكن أن يخرّبوا له الوزارة، فهذه الأرض تبقى باسمكم فلسطينيَّة، ولكن ليس لكم الحقّ أن تزرعوا فيها، أو أن تبنوا فيها، ويبقى الباقي على نتنياهو أن يصادرها في المستقبل!
هذه العقليَّة العربيَّة الَّتي تتحرّك على أساس العاطفة، وتتنازل على أساس العاطفة، وتتمرَّد على حقوق الأمَّة على أساس العاطفة. والعاطفة جيِّدة، لكنَّها تحتاج إلى عقل، العاطفة إنما هي في القضايا العاديَّة، أمَّا في القضايا الأساسيَّة، فلا عاطفة، بل إصرار وتأكيد.
وهذه مشكلة العرب، فأمريكا تعطيهم الكلمات والعواطف، أمَّا مع اليهود، فإنَّها تعطيهم المواقف والأسلحة وكلّ ما يثبّت حكمهم. وهذا هو الفرق بين العقليَّة اليهوديَّة والعقليَّة العربيَّة الموجودة في هذه الأيَّام، فالعرب تاريخهم تاريخ تقديم التَّنازلات، وتاريخ اليهود مع العرب هو تاريخ الإصرار على كلّ ما يقولونه.
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، فإذا لم نغيّر ذهنيَّتنا في مواجهة قضايانا ومصيرنا، وفي مواجهة ثرواتنا، فسنبقى في هزيمة بعد هزيمة، وسقوط وبعد سقوط.
تهديدٌ تركيٌّ لسوريا
وفي هذا الجوّ، فإنَّنا نلاحظ مسلسل توزيع الأدوار في خطّة الحلف التركي الإسرائيلي، والَّذي تجلَّت آخر حلقاته في تهديدات المسؤولين الأتراك لسوريا، وفي الحشود التركيَّة العسكريَّة على حدودها، من أجل خلق أزمة جديدة، لإرباك سوريا، وإضعاف موقفها في مواجهة إسرائيل، كجزء من خطَّة هذا الحلف الاستراتيجيّ. وندعو العرب أمام هذا التطوّر، إلى مواجهة هذه المسألة بموقفٍ عربيّ موحَّد، دعماً لسوريا، بحيث تشعر تركيا معه بأنَّ مثل هذا التحرّك يهدّد مصالحها في العالم العربيّ.
تمييعٌ لقضيَّةِ كوسوفو
وفي هذا الاتجاه، فإنَّنا نتابع اللّعبة الدوليَّة في قضيَّة الشَّعب المسلم في كوسوفو، الَّتي تخضع للكثير من عمليَّة التَّمييع السياسيّ الَّذي يفسح المجال أمام الصّرب لتنفيذ مخطَّطاتهم، في إخضاع المسلمين لسيطرتهم، ومنعهم من الحصول على استقلالهم، وذلك من خلال المجازر الوحشيَّة والتَّمييز العرقيّ الدّينيّ، ما يتحوَّل فيه الموقف إلى نوع من أنواع الإبادة للشَّعب كلّه.
وإذا كان الحلف الأطلسي يهدّد بضربة عسكريَّة للصّرب، فإنَّنا لا نلاحظ جدّيَّة في الخطة السياسيَّة لحلّ المشكلة بما يتناسب مع مصلحة الشّعب هناك. والسؤال الَّذي يفرض نفسه: لو كان إقليم كوسوفو يهوديّاً، فهل تتعامل الأمم المتَّحدة والدّول المسيطرة عليها بهذه الطَّريقة؟! إنَّ هذا الواقع السياسيّ العسكريّ الَّذي يتعرَّض له المسلمون في أكثر من موقع في العالم، يفرض على المسلمين جميعاً الارتفاع إلى مستوى التحدّيات الكبرى الَّتي يواجهونها من خلال الهجمة المتنوّعة الأبعاد، والمتعدّدة الأطراف، الَّتي تعمل على اضطهاد قضاياهم، ونهب ثرواتهم، وإبعادهم عن ممارسة دورهم الكبير في العالم، ليتحوَّلوا إلى مزق متناثرة لا تملك أن تريد أو لا تريد.
إنَّنا نتساءل: ما جدوى منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ الَّتي لم تستطع منذ تأسيسها أن تحلّ أيّ مشكلة في العالم الإسلاميّ، لأنها لم تقف موقفاً حازماً حاسماً أمام الاستكبار العالميّ، وفي مقدَّمه أمريكا، ولم تملك أيّ مبادرة للضَّغط على دولها، بأن تتحرَّك في نطاق المصالح العليا للمسلمين جميعاً؟! وهكذا هو الحال في الجامعة العربيَّة الَّتي بقيت شاهد زور على كلّ القضايا العربيَّة، لأنها بقيت مجرَّد ساحة لإثارة الخلافات في الواقع العربيّ، بعيداً من أيّ فرصة لتوحيد الجهود السياسيَّة في مواجهة التحدّيات الكبرى.
لبنان: مواجهة التحدّيات
وأخيراً، إنَّنا لا نزال في لبنان نواجه الهمَّ الكبير في الاحتلال الَّذي يواجهه المجاهدون بكلّ كفاءة وقوّة، كما نواجه الأوضاع الاقتصاديَّة الصَّعبة الَّتي تسير بالبلد إلى حافة الانهيار. أمَّا الواقع السياسيّ، فإنَّه يتخبَّط في ساحة التحدّيات، فيما يشبه الغموض في حركة الخطوط المتنوّعة هنا وهناك.
إنَّنا نريد الوضوح الَّذي تطرح فيه القضايا، بما يجعل النَّاس يتعرَّفون طبيعةَ التحرّك الَّذي تُصنَعُ فيه ملامح المستقبل، لأنَّ المرحلة الَّتي تعيشها المنطقة في الانهيارات السياسيَّة الفلسطينيَّة، وفي رحلة الضّياع العربيّ، وفي الأزمات الاقتصاديَّة الخانقة، تفرض على الجميع أن يفكّروا ما موقع البلد من ذلك كلّه، وكيف يمكن للشَّعب اللّبنانيّ أن يطمئنّ إلى حياته، ولا سيَّما إذا عرفنا أنَّ تاريخ لبنان هو تاريخ الأزمات الَّتي تثيرها العواصف السياسيَّة في المنطقة.
والسّؤال الكبير: هل نطمع أن يرتفع الجميع إلى مستوى المرحلة الَّتي يشارك فيها الشَّعب، ولو لأوَّل مرَّة، في صنع حاضره ومستقبله، في الأمن والسياسة والاقتصاد؟!
والحمد لله ربّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 02/10/1998م.