لا ولاية للكافرين على المسلمين

لا ولاية للكافرين على المسلمين

لأن القرآن حذّر المسلمين من المتآمرين على الإسلام
لا ولاية للكافرين على المسلمين


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الإسلام يواجه تحديات الآخرين

من بين البرامج الإسلامية التي أكّدها القرآن الكريم في الواقع الإسلامي العام، ليأخذ بها كلُّ مسلم ومسلمة، على مستوى الفرد والمجتمع والأمة، هي مسألة الوعي لكلِّ الفئات المضادَّة في التعامل معها، لأننا نعرف أن الإسلام عندما انطلق وقف المشركون في مواجهته، وعملوا بكلّ ما لديهم من قوة في سبيل إسقاطه وإضعافه والنيل منه، ثم وقف اليهود في مواجهته وكادوا للمسلمين وللرسول(ص) بالذات حتى أنهم حاولوا اغتياله، بالرغم من أنه أدخلهم منذ وصوله إلى المدينة في العهد والميثاق الذي ربط فيه بين كل المواطنين في المدينة وجعلهم متساوين في الحقوق والواجبات، ولكنهم كانوا ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقتلون النبيين بغير حق، كما حدّث القرآن الكريم عن ذلك.

ثم بدأت التحديات تواجه المسلمين من الآخرين من أهل الكتاب، ودخل المسلمون بعد رسول الله (ص) في أكثر من حرب، وفي تلك المرحلة كان المنافقون ـ الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفرـ يكيدون للإسلام والمسلمين، في حلف مع المشركين تارة ومع اليهود أخرى، ومع كل أعداء الإسلام من غير هؤلاء ثالثة. ثم انفتح المسلمون في مسيرتهم الإسلامية على عالم جديد، فانطلقوا في شرق الأرض وغربها، وأفرزت هذه التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية للمسلمين عداوات كثيرة، من خلال أكثر من جهة رأت من مصلحتها أن تكيد للإسلام والمسلمين، حتى وصلنا إلى عصرنا الحاضر الذي انطلق فيه المستكبرون وتحالفوا مع الكافرين من سائر الأديان والتيارات المضادة، لإسقاط الإسلام والمسلمين وتمزيقهم وتفريقهم وإضعافهم، ليس عقائدياً فحسب، ولكن على أكثر من مستوى، بهدف السيطرة على ثروات المسلمين، وقد سيطروا عليها، فهذا البترول الإسلامي تحت رحمة الاستكبار العالمي إنتاجاً وتصنيعاً وتسويقاً، وهكذا بالنسبة إلى بقية الثروات الموجودة في باطن الأرض وسطحها.

وهكذا، أُريد للبلاد الإسلامية أن تمتنع عن تصنيع ثرواتها، فلا تدخل في العصر الصناعي، لتبقى شعوباً مستهلِكة لإنتاج الآخرين، وأسواقاً للبضائع الاستكبارية من الدول الأمريكية والأوروبية وغيرها، لأنّ المسلمين إذا دخلوا في عصر الصناعة وأصبحوا ينتجون ما يأكلون ويشربون ويلبسون وما يحتاجونه في حياتهم فإن مصانع الآخرين سوف لا تجد فرصةً لتصدير بضاعتها إلى المسلمين، ولا سيما إذا كانت البضائع المنتجة في بلاد المسلمين أقل ثمناً وأفضل جودةً.

الاستكبار يعيق وحدة المسلمين

لذلك، فإنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، بدأ الاستكبار العالمي والغرب الذي يشكل ما يسمى بالحلف الأطلسي، يفتِّش عن عدوّ يبرر استمرار هذا الحلف الذي أُنشئ لمواجهة الاتحاد السوفياتي، ووقفت رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك "مارغريت تاتشر" وقالت: "العدو هو الإسلام"، ووقف أمين عام الحلف الأطلسي آنذاك وقال: "العدوّ هو الإسلام"، لأن هذا الإسلام الحركي والذي يعبّرون عنه بـ"الإسلام الأصولي" هو الذي يقف ضد مصالح المستكبرين في البلدان المنتمية إليه، وهو الذي يتحالف مع كل المستضعفين في العالم من أجل أن تكون قضية الحرية من الاستكبار والاستعمار القضية السياسية الأولى، وتوجه الحلف الأطلسي سياسياً واقتصادياً وأمنياً ضد الإسلام والمسلمين، فلم يسمح للمسلمين أن يتوحّدوا سنّة وشيعة ـ في وحدة إسلامية ـ ولم يسمح أن يتوحّد الشيعة أنفسهم والسنّة أنفسهم، لأنهم لا يستطيعون أن يسودوا إلا إذا كنا نمزّق بعضنا بعضاً، لأننا بذلك نوفّر عليهم الدخول معنا في حرب مباشرة يفقدون فيها الكثير.

ولعلّ مساعدة اليهود في احتلال فلسطين، وفي إرباك كل واقع المنطقة، في عملية تحالف شيطاني بين إسرائيل وبين الغرب، ولا سيما أمريكا، هي جزء من هذه الخطة، حتى تمنع إسرائيل قيام الوحدة في العالم العربي الذي يغلب عليه المسلمون، كما تمنع توازن العالم الإسلامي، لأن إسرائيل تنسّق مع أمريكا في سبيل إضعاف العالم الإسلامي والوقوف إلى جانب كل الفئات المضادة للمسلمين، وهذا ما قرأناه منذ أيام في الصحف، حيث أرسلت إسرائيل إلى الهند خبراء لمواجهة حرب العصابات والميليشيات لمساعدتها على مواجهة المسلمين في "كشمير".

الوعي حصانة للأمة

في هذا الجو الذي عاشه المسلمون في الماضي، ويعيشه المسلمون الآن، يحاول القرآن الكريم تنبيه المسلمين إلى ضرورة امتلاك الوعي بمستوياته المختلفة، أن يمتلكوا الوعي الثقافي فلا يدخل عليهم من يربك ثقافتهم الإسلامية، والوعي السياسي فلا ينفذ إليهم أعداؤهم من أجل أن يسقطوا سياستهم ويحوّلوها إلى هامش للسياسة الاستكبارية، أو ليسقطوا أمنهم واقتصادهم. إن الإسلام يقول لهم: عندما تريدون أن تدخلوا في العلاقات مع الآخرين الذين يضادّونكم، سواء كانوا من الكافرين الذين يحاربون إسلامكم، أو من المستكبرين الذين يحاربون كل كيانكم.. كونوا واعين ولا تستسلموا لهم ولا تطلعوهم على أسراركم، حاولوا أن تكونوا في علاقة حذرة معهم، وادرسوا كل خلفياتهم، لأنكم قد تواجهون في أساليبه ووسائل المخابرات الاستكبارية الكثير من الأشياء التي ظاهرها حق وباطنها باطل، كما حدث في ما يسمى بـ"النهضة العربية"، عندما أرادت بريطانيا ومعها الغرب تمزيق الخلافة العثمانية التي لنا عليها ألف نقد ونقد وإن كان عنوانها إسلامياً، فماذا فعلت بريطانيا؟ حاولت أن تثير فكرة القومية، فجاءت إلى العرب ووعدتهم بالمساعدة للتحرر من تركيا، وصدّق العرب ذلك، وبدأت المسألة من "مكة" من خلال "الشريف حسين" الذي تحالف مع بريطانيا، وشارك في إسقاط الخلافة العثمانية ثم جاءت بريطانيا وطردت "الشريف حسين" ونفته، واستُبدل بحكم آخر وسيطرت بريطانيا على المنطقة كلها آنذاك، وأعطت أمريكا بعض الحصة في منطقة "الحجاز" و"نجد"..

لذلك، دعا القرآن الكريم الإنسان المسلم، والمجتمع المسلم، والأمة المسلمة، والقيادات الإسلامية، لأن تكون حذرةً في علاقاتها مع الفئات الأخرى التي تعمل للتآمر على الإسلام والمسلمين، وذلك لكي يخرج المسلمون من بساطتهم، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ (ع) في حديثه: "إذا غلب الصلاح على الزمان وأهله وأساء إنسان ظناً بإنسان فقد ظلمه، وإذا غلب الفساد على الزمان وأهله وأحسن إنسان ظناً بإنسان فقد غرر"، فلا بد أن تكون حذراً عندما تحسن الظن بأحد، وهذا الأمر قد غفل عنه بعض المسلمين في العالم العربي، الذين قد يستعينون على بعضهم البعض بأمريكا وإسرائيل، ونحن نعرف أن هذه الدول ليست جمعيات خيرية ولا تعمل قربة إلى الله تعالى، لأنها لا تعرف الله ولا معنى القربة إليه، بل تعمل مع بعض المسلمين ضد بعضهم الآخر حتى تسيطر على الجميع في نهاية المطاف..

لا ولاية للكافر على المؤمن

ولذلك أراد الله تعالى للأمة المسلمة أن تكون أمة واعية، وقد جاء في قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ـ عندما تقف بين أن يكون المؤمنون أولياءك وأصدقاءك والفريق الذي تنسق معه وتحارب معه وتسالم معه، وبين أن تكون مع الكافرين الذين قد يقدّمون لك بعض الأرباح والمكاسب الشخصية أو الحزبية أو الطائفية أو المذهبية لتكون معهم ضد المؤمنين، هنا الله تعالى يطلق التهديد ـ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ـ بحيث إن الله تعالى يقطع علاقته به تماماً، وهذا تهديد ليس فوقه تهديد، لأن الله عندما يقطع علاقته بشخص فإنه يقطع رحمته ورعايته عنه، وهذا ما يدل على أن هذه المسألة هي من المسائل الحاسمة وغير المقبولة في الإسلام، تحت أيّ اعتبار كان ـ إلا أن تتقوا منهم تقاةً ـ إلا إذا كان هناك ظرف يفرض عليكم التقية ـ ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير}..

القرآن يفضح مكائد المنافقين

وفي آية ثانية يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ـ والبطانة هي التي توضع تحت القماش، بمعنى لا تتخذوا هؤلاء الذين يضادونكم أمناء سرّ، ولا تحاولوا أن تنسقوا معهم في المسائل الأمنية، وغالباً مخابراتنا العربية هي امتداد للمخابرات الأمريكية الآن والبريطانية في السابق ـ لا يألونكم خبالاً ـ يحاولون دائماً أن يثيروا المشاكل فيما بينكم في سبيل أن يفرّقوا صفوفكم ويربكوا أوضاعكم ـ ودّوا ما عنتّم ـ يحبون ما يدخلكم في المشقة ـ قد بدت البغضاء من أفواههم ـ انظروا إلى الإعلام الغربي بشكل عام كيف يتعاطى مع المسلمين والفلسطينيين بالذات ـ وما تخفي صدورهم أكبر ـ لو اطّلعتم على ما في صدورهم من حقد وعداوة وبغضاء فإنها أكبر مما ظهر لكم من أفواههم ـ قد بيّنا لكم الآيات ـ التي تعطيكم الوعي وتدعوكم إلى الحذر ـ إن كنتم تعقلون ـ إذا كنتم تحركون عقولكم في اكتشاف الحقيقة ومعرفة الخلفيات التي تكمن وراء هؤلاء ـ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ـ المسلمون انفتحوا على كل الناس حتى على اليهود، وقد عاشت كل الديانات في ظل الدولة الإسلامية بكل أمن وحرية في ممارسة عباداتها، حتى إذا سيطر اليهود على فلسطين انطلق اليهود إلى هناك وبدأوا يحاربون المسلمين الذين أحسنوا إليهم على مدى التاريخ ـ وتؤمنون بالكتاب كله ـ لأن المسلمين يؤمنون بالتوراة وبالإنجيل كما يؤمنون بالقرآن ـ وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور* إن تمسسكم حسنة تسؤهم ـ ينزعجون من ربحكم ـ وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا ـ على كل هذه السلبيات في عملية مراقبة ووعي وتخطيط ـ وتتقوا ـ عندما ترسمون الخطط وتؤكدون الإرادة ـ لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط}..

النظر في بواطن الأمور

إن الله يريدنا أن نكون الأمّة الواعية التي تقرأ ما بين السطور، والتي لا تنظر إلى بواطن الأمور لا إلى ظواهرها، لا سيما وأن المخابرات الدولية والإقليمية والمحلية التي ترتبط بأخطبوط واحد يمد أذرعه إلى كل العالم الإسلامي، تملك عمق الثقافة في أساليب التفريق والتمزيق، افتحوا عيون عقولكم جيداً حتى تكتشفوا كل الخطط التي يكيدونها، افتحوا عيون قلوبكم حتى لا تعطوا المحبة لمن يعطيكم البغض، وحتى لا تعطوا الصداقة لمن يمنحكم العداوة.

إن الله تعالى يريد لنا أن نكون خير أمة أُخرجت للناس، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله، وننفتح على الواقع كله، ليكون الحذر في مواقعه هو الغالب على كل كلماتنا وأوضاعنا، وعلينا أن نتحفّظ من كثير من اللغو في أسرارنا العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ومشكلتنا أننا شعب يحب الكلام ولا يتحفظ فيه.. هذه هي المسألة التي لا بد أن نواجهها، وقد ورد في كلام عليّ (ع): "قلب الأحمق وراء لسانه ولسان العاقل وراء قلبه"، فكونوا العقلاء الذين يتدبّرون الكلمة في كل سلبياتها وإيجابياتها، ولا تكونوا من الحمقى الذين يتكلمون بما يخطر في قلوبهم من دون تدبّر وتفكير.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في نظم أمركم فإن المستكبرين والكافرين يعملون على إسقاط كل أمركم لتحويلكم إلى مزق متناثرة، كونوا الواعين لما حولكم ومن حولكم لأن الآخرين يستغلون استغراقكم في كل مشاكلكم الصغيرة لإغراقكم في المشاكل الكبيرة، وهذا ما استطاع الاستكبار العالمي من خلاله أن يسيطر على كل بلادنا ومقدّراتنا، واستطاع اليهود أن يسيطروا على كل فلسطيننا وأكثر من أرض إسلامية، فتعالوا لنعرف ماذا هناك:

الانتفاضة .. رفض المشروع الأمريكي

تواصل الانتفاضة في شهرها الثاني عشر المواجهة الشجاعة للعدو الذي يخترق مواقع السلطة الفلسطينية، فتربك جيشه، وتُنزل به الخسائر، بالرغم من الأسلحة الأمريكية التي يستخدمها في القتل والتدمير.. وأمريكا تكتفي بالتحذير من الاحتلال الدائم الذي لا يتفق مع الاتفاقات الموقَّعة، ولذلك فإنها تدعو لانسحاب العدو من هذه المناطق بعد تنفيذ خطته العسكرية، في الوقت الذي توجه فيه إلى الفلسطينيين الدعوة إلى الامتناع عمّا تسميه العنف..

وتتحرك القوى في الساحة الدولية للسيطرة على الموقف، لئلا يصل إلى حافة الخطر وحالة الانفجار، وتتوالى التحذيرات الأوروبية والروسية لإسرائيل، ولكنها تمضي في عدوانها من دون احترامٍ للنداءات الدولية، والعرب حائرون، يستنكرون، ويحتجون، ولا يملكون أيّ موقف!؟

إن المرحلة تفرض التخطيط لحرب مضادّة يملك الفلسطينيون بفصائلهم المتعددة خياراتها، وإذا كانت إسرائيل قد تجاوزت الخطوط الحمراء ـ كما يقولون ـ فإن عليهم أن يتجاوزوا في حربهم ضدها أكثر من خط أحمر، وإذا كان العدو لا يبالي بالمطالبة الدولية لوقف اعتداءاته، فعلى الشعب الفلسطيني أن لا يبالي بالموقف الأمريكي وتوابعه، لأنّ ساحة الحرب هي التي تحدد النتائج النهائية للمعركة.. وإذا كانت أمريكا تتبنى المنطق الإسرائيلي في المطالبة بإيقاف الانتفاضة كشرطٍ للدخول في المفاوضات وتنفيذ مشروع "ميتشل"، فإن على الفلسطينيين رفض المشروع الأمريكي، لأن الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية تعمل على الانتقال من قضية جزئية إلى قضية جزئية أخرى، والدخول في متاهات التفاصيل من أجل إضاعة القضية الأساس، وهي قضية التحرير والحصول على الاستقلال، وإنتاج الدولة الفلسطينية وعاصمتها "القدس"، وعودة اللاجئين، لأن أمريكا لا تريد ـ تحت أيّ اعتبار ـ الاعتراف بأن الانتفاضة هي حركة تحرير، بل هي ـ في منطقها ـ حركة نزاع ومشكلة عنف، وحرب إرهاب ضد اليهود، لأن الاحتلال لا يمكن أن يجد تأييداً من أيّ شعب أو دولة في العالم المتحضّر.

خشية أمريكية من مساواة الصهيونية بالعنصرية

ولهذا، تعمل أمريكا على منع وضوح الرؤية للحقيقة السياسية في فلسطين، وهذا ما جعلها تتحفظ من المشاركة في مؤتمر مكافحة العنصرية في جنوب أفريقيا، بعد أن نجحت في منع المؤتمر من إدخال عنوان مساواة الصهيونية للعنصرية في جدول أعماله، لأنها تخشى من إثارة العنصرية الإسرائيلية في مداخلات الدول العربية والإسلامية والإفريقية، ما يحرج الموقف الأمريكي ويفضح دعواته المتحركة لاحترام حقوق الإنسان، في الوقت الذي تدعم فيه إهدار حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال من قِبَل إسرائيل التي تقوم بأعنف حملة وحشية ضد هذا الشعب..

الوقوف مع قضايا الحرية

إننا ندعو الدول العربية والإسلامية، والدول الأفريقية التي عانت من التمييز العنصري كثيراً، أن تحوّل المؤتمر إلى مظاهرة سياسية كبيرة رافضة للموقف الأمريكي ـ الإسرائيلي من انتفاضة الشعب الفلسطيني، لأن الوقوف مع قضية الحرية في أيّ موقع سوف يقوّي قضايا الحرية في المواقع الأخرى..

ويبقى للشعب الفلسطيني أن يواصل الحرب ويزيد في المأزق الإسرائيلي، ويجابه الموقف الأمريكي.. أما الشعوب العربية والإسلامية فإن مسؤوليتها أن تواجه أمريكا بالمقاطعة الاقتصادية، وبإرباك مصالحها في العالمين العربي والإسلامي، لتعرف أمريكا وشركاتها أن موقفها السياسي من الانتفاضة ومن العرب والمسلمين سوف يؤدي إلى خسارة مواقعها في هذا العالم، وإضعاف مصالحها الاقتصادية.. وإذا كان البعض يتحدث عن قوة أمريكا في العالم، فإن الشعوب تملك الكثير من الفرص في إضعاف قوة الدول الكبرى بمواقفها القوية الحاسمة.

أميركا تمارس العدوان في أكثر من اتجاه

وبهذه المناسبة، فإننا ـ كشعب عربي مسلم ـ نرفض الدعوة الأمريكية لسوريا لـ"ضبط نشاطات تنظيمات فلسطينية تعمل فوق أراضيها"، على حدّ قولهم، في الوقت الذي لم توجّه فيه الدعوة ـ بهذه القوة ـ لإسرائيل بالانسحاب من الأراضي السورية المحتلة، أو بالامتناع عن اغتيال القيادات الفلسطينية السياسية والجهادية، أو برفع حصارها عن الشعب الفلسطيني!! إن على أمريكا إذا أرادت الحفاظ على مصالحها في المنطقة، أن تقف مع حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال، ولا سيما الشعب الفلسطيني..

ومن جهة أخرى، فإننا نشير إلى دخول أمريكا على خط النزاع بين إيران وأذربيجان، في النزاع الحدودي بين البلدين حول استغلال موارد بحر قزوين، وتأييدها لأذربيجان ضد إيران التي تعمل مع الدول المشرفة على هذا البحر لحل النزاع بالطرق السلمية، لأن الدول الإسلامية تملك حلّ القضايا المتنازع عليها بينها بأكثر من طريقة سياسية.. ولكن أمريكا تعمل على تعقيد العلاقات بين الدول الإسلامية، لإحكام سيطرتها عليها في مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية.

وبالمناسبة، فإن القصف الأمريكي ـ البريطاني للأراضي العراقية، الذي يؤدي إلى قتل المدنيين العراقيين، يمثل العدوان المستمر على الشعب العراقي، بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي الذي تمارسه الأمم المتحدة بتغطية أمريكية.

وفي هذا الجو، تتحرك السفارة الأمريكية في لبنان للدعوة إلى التهدئة على الحدود اللبنانية، أمام تهويلات العدو بحشد جيشه على الحدود تحسباً لهجوم مفترض تقوم به المقاومة الإسلامية ضد عدوانه، ولا سيما ضد طائراته التي تخترق الأجواء اللبنانية، مع إثارة قضية قرية "الغجر" التي يملك اللبنانيون ـ بما فيهم المقاومة ـ الدخول إليها في الجانب اللبناني.. لقد كان من الواجب على أمريكا ـ من خلال ممثليها ـ توجيه دعوتها إلى العدو للانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة، فذلك وحده هو الذي يحل مشكلته في لبنان، لأن اللبنانيين ـ جيشاً ومقاومةً ـ يملكون الحق في مواجهة احتلاله لأراضيهم.

انعدام الخطة يفضي إلى كوارث

أما على مستوى الموقف الداخلي، فإننا نرحب بعودة الهدوء إلى ساحة الخطاب السياسي الداخلي، والانطلاق من حالة التوتر إلى حالة التفكير الموضوعي في الأفق العام، والأخطار المحيطة بالمنطقة في هذه المرحلة.. إننا نريد للدولة أن تنطلق كموقع واحد في التصدي للأخطار السياسية، حيث يساهم اللااستقرار السياسي في مضاعفة الأزمة الاقتصادية، كما أننا نتفاءل بالكلمات التي تدعونا إلى الاطمئنان للوضع الاقتصادي، حيث لا تخلو هذه الكلمات من المسؤولية في رصد المستقبل، وتطويق الأجواء السياسية التي ساهمت في إيجاد حالة من الذعر على المستوى الاقتصادي والنقدي، لأننا نخشى أن يخسر البلد في حسابات الزمن، وقد خسرنا الكثير من السنوات التي تحركت فيها اللعبة السياسية الاقتصادية بعيداً عن الخطة، وباتت أية خسارة جديدة لكل شهر أو سنة بمثابة الكارثة التي لا تعيق حركة تقدّم البلد فقط، بل تحوّله إلى دمية اقتصادية في سوق الأمم وساحات الشعوب..

كشف غوامض قضية الإمام الصدر

وتبقى قضية العلاّمة السيد موسى الصدر في الوجدان اللبناني والإسلامي جرحاً ينزف في كل سنة، من خلال جريمة الاختطاف الوحشي التي لا تزال ليبيا تتحمّل مسؤوليتها بطريقة وبأخرى، ما يجعلها مسؤولةً أمام الرأي العام الإسلامي ـ الذي يمثّل السيد الصدر رمزاً كبيراً من رموزه الفاعلة ـ في كشف غوامض القضية، لأن ما قدّمته من ادّعاءات لا يحمل شيئاً من الحقيقة.. إننا ندعو إلى متابعة الملاحقة لهذه القضية، لأن غياب شخصية كالسيد موسى الصدر بهذه الطريقة يُتعب الضمير اللبناني والإسلامي بكل قوة.

لأن القرآن حذّر المسلمين من المتآمرين على الإسلام
لا ولاية للكافرين على المسلمين


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

الإسلام يواجه تحديات الآخرين

من بين البرامج الإسلامية التي أكّدها القرآن الكريم في الواقع الإسلامي العام، ليأخذ بها كلُّ مسلم ومسلمة، على مستوى الفرد والمجتمع والأمة، هي مسألة الوعي لكلِّ الفئات المضادَّة في التعامل معها، لأننا نعرف أن الإسلام عندما انطلق وقف المشركون في مواجهته، وعملوا بكلّ ما لديهم من قوة في سبيل إسقاطه وإضعافه والنيل منه، ثم وقف اليهود في مواجهته وكادوا للمسلمين وللرسول(ص) بالذات حتى أنهم حاولوا اغتياله، بالرغم من أنه أدخلهم منذ وصوله إلى المدينة في العهد والميثاق الذي ربط فيه بين كل المواطنين في المدينة وجعلهم متساوين في الحقوق والواجبات، ولكنهم كانوا ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقتلون النبيين بغير حق، كما حدّث القرآن الكريم عن ذلك.

ثم بدأت التحديات تواجه المسلمين من الآخرين من أهل الكتاب، ودخل المسلمون بعد رسول الله (ص) في أكثر من حرب، وفي تلك المرحلة كان المنافقون ـ الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفرـ يكيدون للإسلام والمسلمين، في حلف مع المشركين تارة ومع اليهود أخرى، ومع كل أعداء الإسلام من غير هؤلاء ثالثة. ثم انفتح المسلمون في مسيرتهم الإسلامية على عالم جديد، فانطلقوا في شرق الأرض وغربها، وأفرزت هذه التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية للمسلمين عداوات كثيرة، من خلال أكثر من جهة رأت من مصلحتها أن تكيد للإسلام والمسلمين، حتى وصلنا إلى عصرنا الحاضر الذي انطلق فيه المستكبرون وتحالفوا مع الكافرين من سائر الأديان والتيارات المضادة، لإسقاط الإسلام والمسلمين وتمزيقهم وتفريقهم وإضعافهم، ليس عقائدياً فحسب، ولكن على أكثر من مستوى، بهدف السيطرة على ثروات المسلمين، وقد سيطروا عليها، فهذا البترول الإسلامي تحت رحمة الاستكبار العالمي إنتاجاً وتصنيعاً وتسويقاً، وهكذا بالنسبة إلى بقية الثروات الموجودة في باطن الأرض وسطحها.

وهكذا، أُريد للبلاد الإسلامية أن تمتنع عن تصنيع ثرواتها، فلا تدخل في العصر الصناعي، لتبقى شعوباً مستهلِكة لإنتاج الآخرين، وأسواقاً للبضائع الاستكبارية من الدول الأمريكية والأوروبية وغيرها، لأنّ المسلمين إذا دخلوا في عصر الصناعة وأصبحوا ينتجون ما يأكلون ويشربون ويلبسون وما يحتاجونه في حياتهم فإن مصانع الآخرين سوف لا تجد فرصةً لتصدير بضاعتها إلى المسلمين، ولا سيما إذا كانت البضائع المنتجة في بلاد المسلمين أقل ثمناً وأفضل جودةً.

الاستكبار يعيق وحدة المسلمين

لذلك، فإنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، بدأ الاستكبار العالمي والغرب الذي يشكل ما يسمى بالحلف الأطلسي، يفتِّش عن عدوّ يبرر استمرار هذا الحلف الذي أُنشئ لمواجهة الاتحاد السوفياتي، ووقفت رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك "مارغريت تاتشر" وقالت: "العدو هو الإسلام"، ووقف أمين عام الحلف الأطلسي آنذاك وقال: "العدوّ هو الإسلام"، لأن هذا الإسلام الحركي والذي يعبّرون عنه بـ"الإسلام الأصولي" هو الذي يقف ضد مصالح المستكبرين في البلدان المنتمية إليه، وهو الذي يتحالف مع كل المستضعفين في العالم من أجل أن تكون قضية الحرية من الاستكبار والاستعمار القضية السياسية الأولى، وتوجه الحلف الأطلسي سياسياً واقتصادياً وأمنياً ضد الإسلام والمسلمين، فلم يسمح للمسلمين أن يتوحّدوا سنّة وشيعة ـ في وحدة إسلامية ـ ولم يسمح أن يتوحّد الشيعة أنفسهم والسنّة أنفسهم، لأنهم لا يستطيعون أن يسودوا إلا إذا كنا نمزّق بعضنا بعضاً، لأننا بذلك نوفّر عليهم الدخول معنا في حرب مباشرة يفقدون فيها الكثير.

ولعلّ مساعدة اليهود في احتلال فلسطين، وفي إرباك كل واقع المنطقة، في عملية تحالف شيطاني بين إسرائيل وبين الغرب، ولا سيما أمريكا، هي جزء من هذه الخطة، حتى تمنع إسرائيل قيام الوحدة في العالم العربي الذي يغلب عليه المسلمون، كما تمنع توازن العالم الإسلامي، لأن إسرائيل تنسّق مع أمريكا في سبيل إضعاف العالم الإسلامي والوقوف إلى جانب كل الفئات المضادة للمسلمين، وهذا ما قرأناه منذ أيام في الصحف، حيث أرسلت إسرائيل إلى الهند خبراء لمواجهة حرب العصابات والميليشيات لمساعدتها على مواجهة المسلمين في "كشمير".

الوعي حصانة للأمة

في هذا الجو الذي عاشه المسلمون في الماضي، ويعيشه المسلمون الآن، يحاول القرآن الكريم تنبيه المسلمين إلى ضرورة امتلاك الوعي بمستوياته المختلفة، أن يمتلكوا الوعي الثقافي فلا يدخل عليهم من يربك ثقافتهم الإسلامية، والوعي السياسي فلا ينفذ إليهم أعداؤهم من أجل أن يسقطوا سياستهم ويحوّلوها إلى هامش للسياسة الاستكبارية، أو ليسقطوا أمنهم واقتصادهم. إن الإسلام يقول لهم: عندما تريدون أن تدخلوا في العلاقات مع الآخرين الذين يضادّونكم، سواء كانوا من الكافرين الذين يحاربون إسلامكم، أو من المستكبرين الذين يحاربون كل كيانكم.. كونوا واعين ولا تستسلموا لهم ولا تطلعوهم على أسراركم، حاولوا أن تكونوا في علاقة حذرة معهم، وادرسوا كل خلفياتهم، لأنكم قد تواجهون في أساليبه ووسائل المخابرات الاستكبارية الكثير من الأشياء التي ظاهرها حق وباطنها باطل، كما حدث في ما يسمى بـ"النهضة العربية"، عندما أرادت بريطانيا ومعها الغرب تمزيق الخلافة العثمانية التي لنا عليها ألف نقد ونقد وإن كان عنوانها إسلامياً، فماذا فعلت بريطانيا؟ حاولت أن تثير فكرة القومية، فجاءت إلى العرب ووعدتهم بالمساعدة للتحرر من تركيا، وصدّق العرب ذلك، وبدأت المسألة من "مكة" من خلال "الشريف حسين" الذي تحالف مع بريطانيا، وشارك في إسقاط الخلافة العثمانية ثم جاءت بريطانيا وطردت "الشريف حسين" ونفته، واستُبدل بحكم آخر وسيطرت بريطانيا على المنطقة كلها آنذاك، وأعطت أمريكا بعض الحصة في منطقة "الحجاز" و"نجد"..

لذلك، دعا القرآن الكريم الإنسان المسلم، والمجتمع المسلم، والأمة المسلمة، والقيادات الإسلامية، لأن تكون حذرةً في علاقاتها مع الفئات الأخرى التي تعمل للتآمر على الإسلام والمسلمين، وذلك لكي يخرج المسلمون من بساطتهم، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ (ع) في حديثه: "إذا غلب الصلاح على الزمان وأهله وأساء إنسان ظناً بإنسان فقد ظلمه، وإذا غلب الفساد على الزمان وأهله وأحسن إنسان ظناً بإنسان فقد غرر"، فلا بد أن تكون حذراً عندما تحسن الظن بأحد، وهذا الأمر قد غفل عنه بعض المسلمين في العالم العربي، الذين قد يستعينون على بعضهم البعض بأمريكا وإسرائيل، ونحن نعرف أن هذه الدول ليست جمعيات خيرية ولا تعمل قربة إلى الله تعالى، لأنها لا تعرف الله ولا معنى القربة إليه، بل تعمل مع بعض المسلمين ضد بعضهم الآخر حتى تسيطر على الجميع في نهاية المطاف..

لا ولاية للكافر على المؤمن

ولذلك أراد الله تعالى للأمة المسلمة أن تكون أمة واعية، وقد جاء في قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ـ عندما تقف بين أن يكون المؤمنون أولياءك وأصدقاءك والفريق الذي تنسق معه وتحارب معه وتسالم معه، وبين أن تكون مع الكافرين الذين قد يقدّمون لك بعض الأرباح والمكاسب الشخصية أو الحزبية أو الطائفية أو المذهبية لتكون معهم ضد المؤمنين، هنا الله تعالى يطلق التهديد ـ ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ـ بحيث إن الله تعالى يقطع علاقته به تماماً، وهذا تهديد ليس فوقه تهديد، لأن الله عندما يقطع علاقته بشخص فإنه يقطع رحمته ورعايته عنه، وهذا ما يدل على أن هذه المسألة هي من المسائل الحاسمة وغير المقبولة في الإسلام، تحت أيّ اعتبار كان ـ إلا أن تتقوا منهم تقاةً ـ إلا إذا كان هناك ظرف يفرض عليكم التقية ـ ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير}..

القرآن يفضح مكائد المنافقين

وفي آية ثانية يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ـ والبطانة هي التي توضع تحت القماش، بمعنى لا تتخذوا هؤلاء الذين يضادونكم أمناء سرّ، ولا تحاولوا أن تنسقوا معهم في المسائل الأمنية، وغالباً مخابراتنا العربية هي امتداد للمخابرات الأمريكية الآن والبريطانية في السابق ـ لا يألونكم خبالاً ـ يحاولون دائماً أن يثيروا المشاكل فيما بينكم في سبيل أن يفرّقوا صفوفكم ويربكوا أوضاعكم ـ ودّوا ما عنتّم ـ يحبون ما يدخلكم في المشقة ـ قد بدت البغضاء من أفواههم ـ انظروا إلى الإعلام الغربي بشكل عام كيف يتعاطى مع المسلمين والفلسطينيين بالذات ـ وما تخفي صدورهم أكبر ـ لو اطّلعتم على ما في صدورهم من حقد وعداوة وبغضاء فإنها أكبر مما ظهر لكم من أفواههم ـ قد بيّنا لكم الآيات ـ التي تعطيكم الوعي وتدعوكم إلى الحذر ـ إن كنتم تعقلون ـ إذا كنتم تحركون عقولكم في اكتشاف الحقيقة ومعرفة الخلفيات التي تكمن وراء هؤلاء ـ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ـ المسلمون انفتحوا على كل الناس حتى على اليهود، وقد عاشت كل الديانات في ظل الدولة الإسلامية بكل أمن وحرية في ممارسة عباداتها، حتى إذا سيطر اليهود على فلسطين انطلق اليهود إلى هناك وبدأوا يحاربون المسلمين الذين أحسنوا إليهم على مدى التاريخ ـ وتؤمنون بالكتاب كله ـ لأن المسلمين يؤمنون بالتوراة وبالإنجيل كما يؤمنون بالقرآن ـ وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور* إن تمسسكم حسنة تسؤهم ـ ينزعجون من ربحكم ـ وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا ـ على كل هذه السلبيات في عملية مراقبة ووعي وتخطيط ـ وتتقوا ـ عندما ترسمون الخطط وتؤكدون الإرادة ـ لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط}..

النظر في بواطن الأمور

إن الله يريدنا أن نكون الأمّة الواعية التي تقرأ ما بين السطور، والتي لا تنظر إلى بواطن الأمور لا إلى ظواهرها، لا سيما وأن المخابرات الدولية والإقليمية والمحلية التي ترتبط بأخطبوط واحد يمد أذرعه إلى كل العالم الإسلامي، تملك عمق الثقافة في أساليب التفريق والتمزيق، افتحوا عيون عقولكم جيداً حتى تكتشفوا كل الخطط التي يكيدونها، افتحوا عيون قلوبكم حتى لا تعطوا المحبة لمن يعطيكم البغض، وحتى لا تعطوا الصداقة لمن يمنحكم العداوة.

إن الله تعالى يريد لنا أن نكون خير أمة أُخرجت للناس، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله، وننفتح على الواقع كله، ليكون الحذر في مواقعه هو الغالب على كل كلماتنا وأوضاعنا، وعلينا أن نتحفّظ من كثير من اللغو في أسرارنا العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ومشكلتنا أننا شعب يحب الكلام ولا يتحفظ فيه.. هذه هي المسألة التي لا بد أن نواجهها، وقد ورد في كلام عليّ (ع): "قلب الأحمق وراء لسانه ولسان العاقل وراء قلبه"، فكونوا العقلاء الذين يتدبّرون الكلمة في كل سلبياتها وإيجابياتها، ولا تكونوا من الحمقى الذين يتكلمون بما يخطر في قلوبهم من دون تدبّر وتفكير.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في نظم أمركم فإن المستكبرين والكافرين يعملون على إسقاط كل أمركم لتحويلكم إلى مزق متناثرة، كونوا الواعين لما حولكم ومن حولكم لأن الآخرين يستغلون استغراقكم في كل مشاكلكم الصغيرة لإغراقكم في المشاكل الكبيرة، وهذا ما استطاع الاستكبار العالمي من خلاله أن يسيطر على كل بلادنا ومقدّراتنا، واستطاع اليهود أن يسيطروا على كل فلسطيننا وأكثر من أرض إسلامية، فتعالوا لنعرف ماذا هناك:

الانتفاضة .. رفض المشروع الأمريكي

تواصل الانتفاضة في شهرها الثاني عشر المواجهة الشجاعة للعدو الذي يخترق مواقع السلطة الفلسطينية، فتربك جيشه، وتُنزل به الخسائر، بالرغم من الأسلحة الأمريكية التي يستخدمها في القتل والتدمير.. وأمريكا تكتفي بالتحذير من الاحتلال الدائم الذي لا يتفق مع الاتفاقات الموقَّعة، ولذلك فإنها تدعو لانسحاب العدو من هذه المناطق بعد تنفيذ خطته العسكرية، في الوقت الذي توجه فيه إلى الفلسطينيين الدعوة إلى الامتناع عمّا تسميه العنف..

وتتحرك القوى في الساحة الدولية للسيطرة على الموقف، لئلا يصل إلى حافة الخطر وحالة الانفجار، وتتوالى التحذيرات الأوروبية والروسية لإسرائيل، ولكنها تمضي في عدوانها من دون احترامٍ للنداءات الدولية، والعرب حائرون، يستنكرون، ويحتجون، ولا يملكون أيّ موقف!؟

إن المرحلة تفرض التخطيط لحرب مضادّة يملك الفلسطينيون بفصائلهم المتعددة خياراتها، وإذا كانت إسرائيل قد تجاوزت الخطوط الحمراء ـ كما يقولون ـ فإن عليهم أن يتجاوزوا في حربهم ضدها أكثر من خط أحمر، وإذا كان العدو لا يبالي بالمطالبة الدولية لوقف اعتداءاته، فعلى الشعب الفلسطيني أن لا يبالي بالموقف الأمريكي وتوابعه، لأنّ ساحة الحرب هي التي تحدد النتائج النهائية للمعركة.. وإذا كانت أمريكا تتبنى المنطق الإسرائيلي في المطالبة بإيقاف الانتفاضة كشرطٍ للدخول في المفاوضات وتنفيذ مشروع "ميتشل"، فإن على الفلسطينيين رفض المشروع الأمريكي، لأن الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية تعمل على الانتقال من قضية جزئية إلى قضية جزئية أخرى، والدخول في متاهات التفاصيل من أجل إضاعة القضية الأساس، وهي قضية التحرير والحصول على الاستقلال، وإنتاج الدولة الفلسطينية وعاصمتها "القدس"، وعودة اللاجئين، لأن أمريكا لا تريد ـ تحت أيّ اعتبار ـ الاعتراف بأن الانتفاضة هي حركة تحرير، بل هي ـ في منطقها ـ حركة نزاع ومشكلة عنف، وحرب إرهاب ضد اليهود، لأن الاحتلال لا يمكن أن يجد تأييداً من أيّ شعب أو دولة في العالم المتحضّر.

خشية أمريكية من مساواة الصهيونية بالعنصرية

ولهذا، تعمل أمريكا على منع وضوح الرؤية للحقيقة السياسية في فلسطين، وهذا ما جعلها تتحفظ من المشاركة في مؤتمر مكافحة العنصرية في جنوب أفريقيا، بعد أن نجحت في منع المؤتمر من إدخال عنوان مساواة الصهيونية للعنصرية في جدول أعماله، لأنها تخشى من إثارة العنصرية الإسرائيلية في مداخلات الدول العربية والإسلامية والإفريقية، ما يحرج الموقف الأمريكي ويفضح دعواته المتحركة لاحترام حقوق الإنسان، في الوقت الذي تدعم فيه إهدار حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال من قِبَل إسرائيل التي تقوم بأعنف حملة وحشية ضد هذا الشعب..

الوقوف مع قضايا الحرية

إننا ندعو الدول العربية والإسلامية، والدول الأفريقية التي عانت من التمييز العنصري كثيراً، أن تحوّل المؤتمر إلى مظاهرة سياسية كبيرة رافضة للموقف الأمريكي ـ الإسرائيلي من انتفاضة الشعب الفلسطيني، لأن الوقوف مع قضية الحرية في أيّ موقع سوف يقوّي قضايا الحرية في المواقع الأخرى..

ويبقى للشعب الفلسطيني أن يواصل الحرب ويزيد في المأزق الإسرائيلي، ويجابه الموقف الأمريكي.. أما الشعوب العربية والإسلامية فإن مسؤوليتها أن تواجه أمريكا بالمقاطعة الاقتصادية، وبإرباك مصالحها في العالمين العربي والإسلامي، لتعرف أمريكا وشركاتها أن موقفها السياسي من الانتفاضة ومن العرب والمسلمين سوف يؤدي إلى خسارة مواقعها في هذا العالم، وإضعاف مصالحها الاقتصادية.. وإذا كان البعض يتحدث عن قوة أمريكا في العالم، فإن الشعوب تملك الكثير من الفرص في إضعاف قوة الدول الكبرى بمواقفها القوية الحاسمة.

أميركا تمارس العدوان في أكثر من اتجاه

وبهذه المناسبة، فإننا ـ كشعب عربي مسلم ـ نرفض الدعوة الأمريكية لسوريا لـ"ضبط نشاطات تنظيمات فلسطينية تعمل فوق أراضيها"، على حدّ قولهم، في الوقت الذي لم توجّه فيه الدعوة ـ بهذه القوة ـ لإسرائيل بالانسحاب من الأراضي السورية المحتلة، أو بالامتناع عن اغتيال القيادات الفلسطينية السياسية والجهادية، أو برفع حصارها عن الشعب الفلسطيني!! إن على أمريكا إذا أرادت الحفاظ على مصالحها في المنطقة، أن تقف مع حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال، ولا سيما الشعب الفلسطيني..

ومن جهة أخرى، فإننا نشير إلى دخول أمريكا على خط النزاع بين إيران وأذربيجان، في النزاع الحدودي بين البلدين حول استغلال موارد بحر قزوين، وتأييدها لأذربيجان ضد إيران التي تعمل مع الدول المشرفة على هذا البحر لحل النزاع بالطرق السلمية، لأن الدول الإسلامية تملك حلّ القضايا المتنازع عليها بينها بأكثر من طريقة سياسية.. ولكن أمريكا تعمل على تعقيد العلاقات بين الدول الإسلامية، لإحكام سيطرتها عليها في مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية.

وبالمناسبة، فإن القصف الأمريكي ـ البريطاني للأراضي العراقية، الذي يؤدي إلى قتل المدنيين العراقيين، يمثل العدوان المستمر على الشعب العراقي، بالإضافة إلى الحصار الاقتصادي الذي تمارسه الأمم المتحدة بتغطية أمريكية.

وفي هذا الجو، تتحرك السفارة الأمريكية في لبنان للدعوة إلى التهدئة على الحدود اللبنانية، أمام تهويلات العدو بحشد جيشه على الحدود تحسباً لهجوم مفترض تقوم به المقاومة الإسلامية ضد عدوانه، ولا سيما ضد طائراته التي تخترق الأجواء اللبنانية، مع إثارة قضية قرية "الغجر" التي يملك اللبنانيون ـ بما فيهم المقاومة ـ الدخول إليها في الجانب اللبناني.. لقد كان من الواجب على أمريكا ـ من خلال ممثليها ـ توجيه دعوتها إلى العدو للانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة، فذلك وحده هو الذي يحل مشكلته في لبنان، لأن اللبنانيين ـ جيشاً ومقاومةً ـ يملكون الحق في مواجهة احتلاله لأراضيهم.

انعدام الخطة يفضي إلى كوارث

أما على مستوى الموقف الداخلي، فإننا نرحب بعودة الهدوء إلى ساحة الخطاب السياسي الداخلي، والانطلاق من حالة التوتر إلى حالة التفكير الموضوعي في الأفق العام، والأخطار المحيطة بالمنطقة في هذه المرحلة.. إننا نريد للدولة أن تنطلق كموقع واحد في التصدي للأخطار السياسية، حيث يساهم اللااستقرار السياسي في مضاعفة الأزمة الاقتصادية، كما أننا نتفاءل بالكلمات التي تدعونا إلى الاطمئنان للوضع الاقتصادي، حيث لا تخلو هذه الكلمات من المسؤولية في رصد المستقبل، وتطويق الأجواء السياسية التي ساهمت في إيجاد حالة من الذعر على المستوى الاقتصادي والنقدي، لأننا نخشى أن يخسر البلد في حسابات الزمن، وقد خسرنا الكثير من السنوات التي تحركت فيها اللعبة السياسية الاقتصادية بعيداً عن الخطة، وباتت أية خسارة جديدة لكل شهر أو سنة بمثابة الكارثة التي لا تعيق حركة تقدّم البلد فقط، بل تحوّله إلى دمية اقتصادية في سوق الأمم وساحات الشعوب..

كشف غوامض قضية الإمام الصدر

وتبقى قضية العلاّمة السيد موسى الصدر في الوجدان اللبناني والإسلامي جرحاً ينزف في كل سنة، من خلال جريمة الاختطاف الوحشي التي لا تزال ليبيا تتحمّل مسؤوليتها بطريقة وبأخرى، ما يجعلها مسؤولةً أمام الرأي العام الإسلامي ـ الذي يمثّل السيد الصدر رمزاً كبيراً من رموزه الفاعلة ـ في كشف غوامض القضية، لأن ما قدّمته من ادّعاءات لا يحمل شيئاً من الحقيقة.. إننا ندعو إلى متابعة الملاحقة لهذه القضية، لأن غياب شخصية كالسيد موسى الصدر بهذه الطريقة يُتعب الضمير اللبناني والإسلامي بكل قوة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية