ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطتبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
مشكلة تقليد الآباء:
من القضايا التي كانت تواجه الأنبياء في كل زمانٍ ومكانٍ، ولا تزال تواجه المصلحين الرساليين، قضية تقليد الآباء والأجداد، وتقليد الأشخاص الذين يملكون موقعاً اجتماعياً أو سياسياً أو ما إلى ذلك، فإذا جاء النبي بفكرة تختلف عما كان عليه الآباء والأجداد فإنهم يواجهونه بأننا نلتزم بعقائد وعادات وتقاليد آبائنا وأجدادنا، ونرفض كل ما يخالف ذلك، ولكن لماذا ذلك؟ ما هي الحجة؟ إنهم لا يقدّمون أي حجة أمام هذه المسألة، ولكنها العاطفة.
كما نلتقي أيضاً في هذا العصر بالناس الذين يواجهونك عندما تطرح فكراً أو حكماً شرعياً مخالفاً لما اعتاده الناس، سواء في المجتمعات العشائرية التي اعتادت الأوضاع العشائرية كشيءٍ أساس في واقع العشيرة، أو في الواقع العام عندما يكون الشيء الذي يُطرح إسلامياً خلاف ما عليه الناس في العصر، ولعلكم تسمعون دائماً في الجواب عن أيّ عمل "العصر هكذا، والناس هكذا"!! أما ما هي الحجة في أن يسير الإنسان على ما في العصر أو ما جرى عليه الناس فلا حجة، لأنه كما يُقال "لا أريد أن أحمل الخشبة بالعرض". وربما يألف الناس وضعاً معيناً، كأن يألفوا حكماً شرعياً جرى عليه بعض العلماء في الماضي، وجاء مجتهدون آخرون ـ باعتبار حركة الاجتهاد ـ يفتون بغير ما أفتى به العلماء في الماضي، فإنهم يقولون لك ـ ولكثير من العلماء ولا أتحدث عن حالة شخصية ـ إن هذا أمر لم يقل به العلماء السابقون، والعلماء السابقون مجتهدون وهؤلاء مجتهدون، حتى أن السيد محسن الحكيم ـ وهو المرجع المعروف ـ عندما أدى اجتهاده إلى طهارة أهل الكتاب ولم يسبقه مرجعٌ يفتي بطهارتهم، وهو الذي كان يفتي على مدى خمسين سنة بالنجاسة، ولكن تأمل في المسألة وتجدد نظره فعدل من النجاسة إلى الطهارة، استنكر عليه المحيطون به بأن هذه الفتوى سوف تخلق له مشكلة لأن هذه الفتوى ليست مألوفة، لكن المرحوم السيد (رحمه الله) كان حاسماً في موقفه وأصرّ على ما توصل إليه من اجتهاده، لأن مقلديه كانوا يعانون من مشكلة، وقد وجد الحل لهؤلاء المقلّدين.
ونحن الآن في الفتوى المتعلقة بقضية الكفّار، رأينا متطوّر على رأي السيد الحكيم (رحمه الله)، فنحن نرى طهارة كل الناس، اليهودي والنصراني والبوذي والملحد، ونجاستهم نجاسة عقلية وليست مادية، ويستنكر البعض علينا هذه الفتوى وغيرها، ولكننا نقول إن الذي يعترض على فتوى أو رأي تاريخي أو عادة فيُقال له إما أن تكون عالماً لتناقش الدليل، وإن لم تكن عالماً فهذا ليس من شغلك.. فعملية التقليد على قسمين: التقليد في القضايا التي لا يملك فيها الإنسان الخبرة فيها، فنحن نقلّد الأطباء والمهندسين في الطب والهندسة، لأننا لا نملك علمهم، أما الأشياء التي يمكن أن يملك الإنسان فيها الخبرة فلا يجوز له أن يقلد، لا سيما في العقائد.
وهناك شيء في التربية الإسلامية، وهي أن الله تعالى يقول لكل إنسان: إن عليك أن تقدّم حساب كل فكرك وخطك وعملك وكلامك أمام الله، {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}، وإلا لو فرضنا انك وقفت أمام الله وسألك: لماذا سرت في هذا الطريق أو أخذت بهذه العادة؟ فتقول: آباؤنا وأجدادنا كانوا هكذا، وهذه عاداتنا، أو الوقت هكذا؟ فهل آباؤك وأجدادك هم أنبياء أو أولياء، وهل هم حجة وممّن يجب اتّباعهم؟
لإنتاج المجتمع المفكر المحاور:
لذلك، الله تعالى يريد من الإنسان أن لا يلتزم بأيِّ خطٍ وفكرٍ وموقف إلا بعد أن يملك الحجة في ذلك أمام الله، بحيث إذا سأله الله عنه استطاع أن يدافع عن موقفه، والله يريد لنا أن نكون المجتمع المفكّر والمحاوِر والسائل، لا المجتمع الذي يغمض عينيه ويمشي، حتى الثقة لا بدّ أن تكون مفتوحة العينين لا أن تكون عمياء، فلو أُثيرت أمامك علامة استفهام أمام فلان من الناس فاسأله وناقشه، لأن ليس هناك أحد فوق النقاش، ومَنْ أعلى مرتبة من النبي (ص)؟ كان النبي (ص) يُسأل وكان يجيب وهو المعصوم، وقد كان الإمام الباقر ـ وهو المعصوم ـ يقول لأصحابه: "إذا قلت لكم شيئاً فقولوا ما هو دليله من القرآن"، لأن الله تعالى يريد للمجتمعات الإسلامية أن تكون مجتمعات مثقفة، لكي يكون لنا ثقافة الفكر الذي نلتزمه..
ولذلك أكّد القرآن الكريم في أكثر من آية على هذا النهج الذي كان ينهجه الآخرون، ولا يزال الكثيرون ينهجونه، فلننطلق إلى كتاب الله لنرى كيف عالج الله تعالى هذه المسألة: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ـ من مفاهيم وعقائد وشريعة ـ قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا ـ لآبائنا مواقف وعادات وتقاليد وأفكار ولا نقبل أن يغيّر لنا أحد هذه العادات والتقاليد، وقد عشنا ذلك أيام الزعامات، عندما كانت القرية الفلانية تابعة لزعيم معيّن، فكان الآباء يورّثون الزعيم أبناءهم، ويجيبهم الله ـ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون}، الإنسان يتبع شخصاً يملك العقل والثقافة وخط الهدى، والأبوة لا تقتضي أن يسير الابن في خط أبيه، لأنك سوف تحاسب وحدك وسيحاسب أبوك وحده، لذلك عندما يقدّم أبوك لك الفكرة ناقشها، فإذا قبلتها فتبنّاها، لأنك اقتنعت بها لا لأن أباك ورّثك إياها..
وفي آية ثانية يقول تعالى: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} {قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين * إن هذا إلا خلق الأولين} {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير}، فلو كان آباؤكم متبعين للشيطان ودعوكم إلى هذا الخط فهل تقبلون به؟
هذا هو الخط القرآني والإسلامي، إنه يريد لكل مجتمع أن يتحمّل مسؤوليته بعيداً عن المجتمع الذي سبقه، {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم}، إن الله يريد أن نحرر عقولنا ونفتحها للحوار والبرهان، ويريد أن لا نقدّم رِجْلاً ولا نؤخر أخرى إلا بعد أن نقدّم الدليل عليه، لكي نقدّم الجواب يوم القيامة، لأنه يريد للمجتمع أن يكون مجتمع الثقافة والعلم والبرهان، {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، هذا هو الخط الإسلامي الذي لا بدّ أن نأخذ به أنفسنا ونربي عليه أبناءنا، حتى لا يأتينا من يغشنا في ديننا وسياساتنا، لأننا إذا تعوّدنا أن نفكر في كل شيء فلن نخضع للذي يريدنا أن لا نفكر.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على كل قضاياكم بالوعي والفكر والسير على نورٍ من ربكم في كل ما تأخذون به وما تتركونه، لتكن لكم الحجة أمام الله، ولتتحركوا في مجتمعاتكم على أساس وعيكم لكل خلفيات الواقع وامتداداته، لأن الله تعالى يريد للمسلمين أن يكونوا الواعين سياسياً كما يريد لهم أن يكونوا الواعين عبادياً وروحياً وفقهياً، لأن مسألة الواقع السياسي هي مسألة المصير الذي ينعكس على كل الواقع، لهذا لن نكون كالأنعام أو أضل سبيلاً، فلا نفكر بعقولنا، ولا نبصر بعيوننا، ولا نسمع بآذاننا، لأن الله يحمّلنا مسؤولية أن نسير في طريق لا نعرف نهايته، فعلينا أن نكون الأمّة الواعية التي تعي كل خطوات المستكبرين والظالمين، لتعرف كيف تحمي نفسها من ذلك كله، وهذا ما نريد أن نواجهه من خلال ما يواجهنا من التحديات الكبرى.
الانتفاضة: توزع الأدوار بين أمريكا وإسرائيل:
لا تزال إسرائيل تواجه الانتفاضة في الداخل بالقصف، والاغتيال للكوادر، وجرف البساتين وتهديم الدور، وفي الخارج بالإعلام الذي يصوّر الفلسطينيين بصورة الإرهابيين الذين يهدِّدون إسرائيل ويقتلون اليهود، في محاولةٍ لتصوير الانتفاضة أمام الرأي العام العالمي ـ ولا سيما الغربي ـ أنها حركة إرهاب لا حركة تحرير، لأن الإعلام الصهيوني في الغرب ينفي أن تكون إسرائيل دولةً محتلةً.. كما يحاول أن يصوّر العمليات الاستشهادية بأنها مزيجٌ من معتقدات تتحدث عن صعود الشهداء إلى الجنة، بما يخالف العقلية الغربية.
ثم، يتحرك كل من "شارون" و"بيريز" في عملية تبادل الأدوار، ليتحدث الأول عن الحرب، ويتحدث الثاني عن السلام، في لعبةٍ سياسيةٍ تحاول خداع الرأي العام العالمي.. أما أمريكا فهي تتحرك لدعم إسرائيل في كل المحافل الدولية، ففي مجلس الأمن ترفض مناقشة العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، وحاجة الشعب الفلسطيني إلى الحماية الدولية مما يشكّل إدانةً لإسرائيل، وتهدد باستعمال حق "الفيتو" ضدّ أيّ قرار لإدانتها، وفي مؤتمر الأمم المتحدة حول التمييز العنصري في "ديربان" في جنوب أفريقيا تهدد بمقاطعته إذا بحث عنصرية الصهيونية، وأثار الممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، ما جعلها تعمل للضغط على بعض الدول العربية والإفريقية للتخفيف من الانتقادات لإسرائيل، وقد نجحت في ذلك بمساعدة عدد من الدول العربية.. ولكن ما زالت بعض الدول الإسلامية والعربية والإفريقية تواصل نشاطها ضد هذا الموقف.. ويبقى الموقف الأمريكي في الواقع الفلسطيني إلى جانب إسرائيل، في اتهامه للفلسطينيين بأنهم وراء إثارة "العنف" ضد اليهود، من دون اعتبار لعنف الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية؟!
تقاعس عربي:
لقد أدّى هذا الموقف الأمريكي إلى الضغط على الموقف العربي الرسمي في مؤتمر وزراء خارجية الدول العربية، الذي عُقِدَ في القاهرة، والذي رفض المقاطعة السياسية والاقتصادية، واكتفى ببعض الخطابيات المألوفة، والدعوة إلى بعض المساعدات، والتأجيل للقضايا الحسّاسة، ما يوحي بأنّ هؤلاء المسؤولين لا يعيشون خطورة الواقع الذي يتمثّل بإبادة الشعب الفلسطيني، في القتل المنظّم اليومي الذي يقوم به "شارون" ضد أفراد هذا الشعب، وفي الوقت الذي يتطلّع فيه هذا الشعب المنكوب إلى الدول العربية والإسلامية لتتخذ الموقف المسؤول، للضغط على أمريكا وإسرائيل من أجل إزالة الاحتلال الصهيوني وإعادة المشرّدين إلى بلادهم، وإرجاع القدس إلى أهلها، ولكن لا حياة لمن تنادي، و"على من تتلو مزاميرك يا داود"؟!
العدوّ في دائرة التخبط:
إننا نعتقد أن المجاهدين في فلسطين سوف يواصلون الجهاد في خط الانتفاضة ـ الثورة من أجل التحرير، مهما كلفهم ذلك من التضحيات، لأنه لا خيار لهم غير ذلك، بالرغم من تهاويل العدو التي يثيرها أمامهم في إعلامه، بالإيحاء بأن لا أفق أمامهم، لإسقاط مواقفهم بالحرب الإعلامية النفسية، لأنه بات يشعر بخطورة استمرار الوضع على هذه الحالة، خاصة وأن عامل الزمن لن يكون في مصلحته.. فقد بدأ التخبط، فهو يتحدث تارةً عن هدنة، وأخرى عن مفاوضات أمنية.. وهكذا يواصل اللعب على الألفاظ للخروج من مأزقه الأمني، ولكنه لن يحصل على ذلك.
وعلى الشعوب العربية والإسلامية أن تقف مع هذا الشعب المجاهد، بانتفاضةٍ إعلامية سياسية تربك الواقع الرسمي المتخاذل، وتهدد المصالح الأمريكية، لتعرف أمريكا بأن مواقفها مع العدو لن تكون نزهة سياسية، بل إن ذلك سوف يكلّفها كثيراً من الخسارة الاقتصادية والسياسية.. إن قضية الثواب والعقاب ـ في نطاق الخطة الشعبية المدروسة ـ هي التي تحرّك الأوضاع السياسية الدولية والإقليمية، وليست الخطابات الاحتجاجية والاستنكارات الانفعالية.
صرخة الناس هي الحقيقية:
أما في الواقع الداخلي اللبناني، فلا يزال الصراخ السياسي يبحث عن الحوار بطريقة تسجيل المواقف، وإثارة المشاعر، وتحريك الانفعالات، ما يجعل الأجواء مليئة بالأحاديث عن الخطر، في الوقت الذي يدفع فيه الجميع ـ بأساليبهم ـ البلد إلى مرحلة الخطر، لا سيما أن العامل الإسرائيلي بدأ يطل برأسه على الساحة، ويفسّر الكثير من المواقف، ويفضح الكثير من الخلفيات.. إن البلد خاضع للعبة الاستعراضات السياسية الباحثة عن موقع لهذا الفريق أو ذاك، من دون دراسة موضوعية.
إننا ندعو الجميع في لبنان إلى مراجعة هادئة دقيقة مع الذات، فيما قدّموا وفيما أخّروا، من داخل الدولة ومن خارجها، وعلى مستوى الخطاب السياسي والأداء الأمني، خاصةً وأن البلد يقف على حافة الهاوية السياسية والاقتصادية، حيث بات الاضطراب السياسي يفرز اضطراباً اقتصادياً..
إنّ الواقع يعيش صرخة داخلية كبرى فيما هي هموم الناس، ولكننا نجد أن من يتباكى هم المسؤولون!! أيها الناس في مواقع المسؤولية: كفّوا عن الصراخ السياسي فيما بينكم، لتستمعوا إلى صرخات الناس من الفقراء والمحتاجين، فتلك هي الصرخة الحقيقية التي ينبغي أن تنطلق وأن يسمعها الجميع في كل تردداتها، لكي تبدأ خطة العمل في نطاق المسؤولية قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع..
إن المرحلة تحتاج إلى خطة للتضامن في مواقع الحكم والحكومة، وفي ساحة السياسة والسياسيين، في مواجهة تحديات العدو في حجم المرحلة، وفي اهتزازات المنطقة، وفي الأزمات الاقتصادية الخانقة.. فتعالوا لنواجه ذلك في حركة المسؤولية الكبرى، من أجل الحاضر والمستقبل. |