ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين، وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
محبّـة الله:
من بين أسرار العقيدة الإسلامية في توحيد الله، أنها توجّه الإنسان إلى محبة الله، ويطلب الإنسان من خلالها إلى الله أن يحبّه لتكون المحبة متبادلة، بأن يحب الإنسان ربه ليحبّه ربه. وعلى ضوء هذا، فإنّ على الإنسان أن يعمل لتكون علاقته بالله علاقة حب، حتى بالخوف من الله، لأن الإنسان لا يخاف من الله كما يخاف من شخص قوي، بحيث يخاف أن يظلمه أو يضطهده أو أن يصادر حريته وحياته، لأن الله لا يظلم أحداً ولا يقهر أحداً ليسقط إنسانيته، بل إنّ الإنسان يخاف من الله تماماً كما يخاف أن يفقد حبّ من يحبّ، فيكون حذراً في التصرف مع من يحب بما لا يغضبه أو بما يقربه إليه، للإبقاء على حبه وشدّ أواصر المحبة ليحصل على بركات هذا الحب.
لهذا نحن نخاف من الله إذا عصيناه، لأننا نخشى أن نفقد حبه لنا، وإذا فقدنا حبه لنا فقدنا رضاه عنّا، وإذا فقدنا رضاه عنّا فقدنا رحمته ولطفه بنا.
كيف نحبّ الله؟
بهذا، أيها الأحبة، تحدث الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عمّن يحبون الله كيف يحبونه، والشروط التي يجب توفّرها ليبادلك الله الحب، ففي الآية الأولى يقول تعالى: {ومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبّ الله}، بحيث إن الإنسان يتخذ لنفسه أشخاصاً يجعلهم بمساواة الله، يطيعهم ويخشع لهم ويخضع لهم ويسحق إرادته أمام إرادتهم، تماماً كما هي مسؤوليته أمام الله، فهم يحبونهم كحب الله {والذين آمنوا أشدّ حباً لله}.
قد نحب الناس لجمالهم، لعلمهم، لقوتهم، أو لأنهم أحسنوا إلينا، هذه هي عناصر الحب، فإذا أردنا أن نفكر في الله، فنحن نحب الله لأنه خلقنا وكنّا عدماً، فأعطانا الوجود والحياة وكل الجمال، وهو الذي خلق الجمال كله، وأعطانا كل النعم {وما بكم من نعمة فمن الله} {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وهو القوي {أن القوة لله جميعاً}، {وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه}، حيث لا قوة فوق قوة الله، فالأقوياء يستمدون قوتهم من الله، وكذلك بالنسبة للجمال والنعمة وما إلى ذلك.
إذا أردنا أن نحب الناس لصفة فيهم أو لنعمة منهم، فإنّ علينا أن نحب الله أكثر، لأنه هو الذي خلقهم والذي أعطاهم صفات الحمد، وهو الذي وهبهم القوة ومكّنهم من النعمة التي يقدمونها إلينا، ولذلك فالحمد لله ولا حمد لغيره في جنب حمده، نحب الناس لأنهم قريبون إلى الله، ونحب الأنبياء لأنهم رسل الله وأحباؤه، ونحب الأولياء لأنهم أطاعوا الله. وعليه، فالحب له وحده وكل حب لغيره فهو مرتبط بحبه.
وقد ورد في الحديث: "ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبديَ المؤمن"، فقلب المؤمن هو عرش الله، وليس لك أن تُدخل إلى قلبك أحداً إلا إذا كان ممن يحبه الله، فالحب لا بد أن ينطلق من الإيمان وعلى أساس العلاقة بالله.
ولكن كيف نحب الله، هل حبّ الله هو أن نتغزل به؟ أو أن علاقة الحب هي الطاعة لله ممّا بلّغنا به رسول الله {قل إن كنتم تحبون الله فاتّبعوني}، لأن الله يقول: {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}، فإذا فعلتم ذلك فإن الله يحبكم، كما قال ذاك الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك في الفعال بديع
إن كان حبك صادقاً لأطعته إن المحبّ لمن يحبّ مطيـع
وهكذا، فإننا نقرأ بعض النصوص التي تعلمنا كيف نحب الله، ومَن الذين يحبهم الله، وأولئك الذين لا يحبهم، يقول السيد المسيح(ع) لما سُئل عن عمل واحد يورث محبة الله، قالوا: يا روح الله، دلّنا على عمل يورث فينا محبة الله؟ قال: "أبغِضوا الدنيا يحببكم الله". وهذا ليس معناه أن نترك الدنيا، بأن نترك العمل وما يؤمِّن لنا حاجاتنا، بل معناه أن لا تستغرقوا في الدنيا وتجعلوها كل همكم، بحيث تكون سعادتها هي السعادة وشقاوتها هي الشقاوة، وربحها هو الربح وخسارتها هي الخسارة.
وفي حديث المعراج، في حديث الله إلى نبيه محمد(ص): "يا محمد، وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، ووجبت محبتي للمتعاطفين فيَّ، ووجبت محبتي للمتواصلين فيَّ، ووجبت محبّتي للمتوكلين عليَّ، وليس لمحبتي علمٌ ولا غاية ولا نهاية، وكلما رفعت لهم علماً وضعت لهم علماً".
وقال الإمام الصادق(ع): "قال الله تبارك وتعالى: ما تحبّب إليّ عبدي بأحب مما افترضته عليه"، أن تتحبّب إلى الله بمقدار الفرائض التي فرضها عليك في عبادته وفي حقوقه وفي كل ما أراد لك أن تجتنبه.
ويقول الرسول(ص): "وجبت محبة الله على من أُغضِب فحلُم". ويقول الإمام الباقر(ع): "اعلم رحمك الله، أنّا لا ننال محبة الله إلا ببغض كثير من الناس ـ أي أولئك الذين لا يلتزمون الخط الصحيح ـ ولا ولايته إلا بمعاداتهم، وفوت ذلك قليل يسير لدرك ذلك من الله لقوم يعلمون"، أي أن الإنسان إذا أحب الله عادى أعداءه، وصادق أصدقاءه: "من أكثر ذكر الموت أحبه الله"، لأنه يذكر موعد لقائه بالله وحصوله على كرامته. وعن رسول الله(ص) قال له رجل: أحب أن أكون من أحباء الله ورسوله، قال(ص): "أحب ما أحب الله ورسوله، وابغض ما أبغض الله ورسوله".
مواصفات من يحبهم الله:
وهكذا في مثل هذه الأمور، نأتي إلى الذين يحبهم الله {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}، أحسن إلى الناس في مالك، في عملك، في جاهك، في كل ما يحتاجه الناس منك في حياتهم مما تستطيع أن تعطيهم إياه، ولو بأن تدخل الفرح إلى قلوبهم الحزينة، وأن تزرع البسمة على شفاههم الكئيبة، وما إلى ذلك.
{إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}، فإذا عصيت الله فتذكر أن تتوب إلى الله من معصيتك، فإن الله يحبك، لأنه سبحانه يحب الإنسان الذي إذا عصا استغفر وتاب عن معصيته، وصمّم على إطاعة الله في ما يستقبل من عمره.
ويحب المتطهرين الذين يأخذون بأسباب الطهارة الروحية، والطهارة الجسدية، {بلى من أوفى بعهده واتّقى فإن الله يحب المتقين}، {وكأيِّن من نبي قاتل معه ربيّون كثيرون}، هؤلاء الذين انفتحوا على ربهم {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا} وجاهدوا في سبيله.
والله يحب الصابرين، إذا كنت تريد أن تكون ممن يحبهم الله، عليك أن تصبر على بلاء الله، فلا تجزع، أو أن تصبر على الجهد في طاعة الله، لكي لا تبتعد عن مواقع طاعته، وأن تكون الصابر في الإحساس بالحرمان عندما تبتعد عن معصية الله وتترك ما حرّم الله مما تشتهيه.
وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى يخاطب النبي(ص) ليقيِّم ويقدر أخلاقيته مع الناس، لأنه كان طيب القلب ولين اللسان {فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله إن الله يحب المتوكلين}، والتوكل على الله هو أن تقوم بكل ما تستطيع أن توفره من شروط عملك، ثم إذا خفت من المستقبل، كأن تحدث بعض الطوارىء التي تبطل عملك أو تجلب لك بعض الخسارة، فقل يا ربّ توكلت عليك. وقد ورد في الحديث: "المتوكلون هم الزارعون"، كما الفلاح الذي يقوم بما عليه من فلاحة الأرض وزراعتها والاعتناء بها ويتوكل على الله. ولذلك فإن التوكل على الله يختلف عن الاتكالية، كأن يجلس الإنسان في البيت ويريد أن يأتيه الرزق إلى البيت.
{وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} ، أي العادلين، والعدل هو أن يعطي لكل ذي حقّ حقّه، والله سبحانه وتعالى جعل العدل مطلقاً، {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}، أي قل كلمة الحق حتى ولو كانت ضد أقربائك: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين}، ثم يبيّن الله سبحانه وتعالى طبيعة العلاقة حتى مع الأعداء: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا ـ مع أعدائكم ـ اعدلوا هو أقرب للتقوى}. وهكذا نقرأ أيضاً {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيانٌ مرصوص}، الله يريد للأمة أن تجمد كل خلافاتها، وأن تتوحد إذا دخلت المعركة ضد أعدائها الذين يريدون إسقاطها.
ويقول الإمام زين العابدين(ع): "إن الله يحب كل قلب حزين" من خلال ذنوبه، وحزين في الابتهال إلى الله، "ويحب كل عبد شكور"، يشكر لله ويشكر للناس. ويقول الإمام الباقر(ع): "إن الله عز وجل يحب الحيِي الحليم"، الإنسان الذي يستحي من القبيح، والحليم الذي يوسع صدره ويعفو عن الناس.
وعن النبي(ص) قال: "ثلاث يحبهم الله عز وجل: رجل قام من الليل يتلو كتاب الله، ورجل تصدّق صدقة بيمينه فيخفيها عن شماله ـ صدقة السر ـ ورجل كان في سرية ـ معركة ـ فانهزم أصحابه فاستقبل العدو".
من لا يحبهم الله:
أما الذين لا يحبهم الله: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}، لا تكن المعتدي، والاعتداء هو أن تتصرف مع كل إنسان بما لا حقّ لك فيه، كأن تعذبه أو تشتمه وما إلى ذلك.
{يمحق الله الربا ـ أي أن الربا يزول ـ ويربي الصدقات}، ينمي هذه الصدقات. وقد ورد أن الله يربي للمتصدق صدقته كما يربي أحدكم فصيله حتى تصير كالجبل العظيم، وفي ذلك يقول تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء}.
{والله لا يحب كل كفّار أثيم} {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين}، والظالم هو كل إنسان يتصرف مع الآخر أو حتى مع نفسه بما لا حقّ له فيه.
وقد ورد في الحديث عن علي(ع): "الظلم ثلاثة: ظلم يُغفر، وظلم لا يُغفر، وظلم مطلوب لا يُترك. أما الظلم الذي يُغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات ـ الصغائر ـ وأما الظلم الذي لا يُغفر فالشرك في الله ـ {إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. وجاء في القرآن عندما يوحي لقمان لابنه {يا بنيّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} ـ أما الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم بعضاً". ثم يقول الإمام(ع): "القصاص هناك ـ يوم القيامة ـ شديد، ليس جرحاً بالمدى ـ السكاكين ـ ولا ضرباً بالسياط ـ ظهر العاري ـ ولكنه ما يستصغر ذلك معه".
تنام عينك والمظلوم منتبهٌ يدعو عليك وعينُ الله لم تنمِ
"إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله"، "ظلم الضعيف أفحش الظلم". {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً}، {إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً} ، أي الإنسان المتكبر المتجبر، حيث يقول تعالى: {ولا تصعّر خدّك للناس ولا تمشِ في الأرض مرحاً}. وهكذا {والله لا يحب المفسدين} الذين يفسدون في الأرض بعد إصلاحها {إنه لا يحب المسرفين}، الذين يسرفون أموالهم ويبذرونها، فيصرفونها بغير مواردها الطبيعية، {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول} الذين يغتابون الناس ويشتمونهم ويوجهون إليهم الكلام الفاحش البذيء {إلا من ظلم}.
وعن الإمام الصادق(ع): "ألا وإن أحب المؤمنين إلى الله مَن أعان المؤمن الفقير من الفقر في دنياه ومعاشه، ومن أعان ونفع ورفع المكروه عن المؤمنين"، بالرأي أو بالجاه أو بالمال وما إلى ذلك.
ويقول الإمام الصادق(ع) في حديث آخر: "أحب العباد إلى الله عز وجل رجل صدوق في حديثه ـ لا يكذب ـ محافظ على صلاته ـ لا يستهين بها ـ وما افترض الله عليه مع أداء الأمانة".
وعن النبي(ص): "يقول الله تبارك وتعالى: إن أحب العباد إليّ المتحابون من أجلي، المتعلقة قلوبهم بالمساجد ـ من أجل عبادة الله ـ والمستغفرون بالأسحار، أولئك إذا أردت بأهل الأرض عقوبة ذكرتهم فصرفت العقوبة عنهم".
وهكذا، إن أحبكم إلى الله جلّ ثناؤه أكثركم ذكراً لله وأكرمكم عند الله وأتقاكم له، وهكذا يقول: "الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيت سروراً". وقد سُئِل رسول الله(ص): من أحب الناس إلى الله، قال: "أنفع الناس للناس"، والإمام الصادق(ع) يقول: قال الله عز وجل: "الخلق عيالي، فأحبهم إليّ ألطفهم بهم".
وهكذا، أيها الأحبة، يريد الله منا أن نخلص له، وأن نحبه في طاعتنا له، وترك معصيته، وأن نحبه في أن نفجر كل طاقاتنا في نفع الناس، سواء كانت في المال أو العلم أو السلطة أو الجاه أو ما إلى ذلك، ليكون الإنسان خيراً وبركةً للناس. وقد ورد في تفسير لقول السيد المسيح(ع) في ما نسبه الله له في كتابه: {وجعلني مباركاً أينما كنت}، أي نفاعاً للناس.
تعالوا أيها الأحبة، لنودع طاقاتنا في الحياة، ولا ندعها تموت معنا، لنعطي من هو بحاجة إلى هذه الطاقات، ولنقرأ قوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات ـ من أعمالك ـ خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً} {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله}. فلنعمل لله حتى نلاقي عملنا عنده {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}...
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله، اتقوا الله، وحاولوا أن تحصلوا من تقواه على محبته، لأن الإنسان إذا أحبه الله ارتفعت درجته عنده وقرب إليه فأحاطه الله برحمته ومنحه مغفرته، وسار به إلى طريق الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومن تقوى الله أن نهتم بأمور المسلمين وأن نعمل من أجل وحدتهم أو من أجل قوتهم، ومن أجل دفع الأعداء عنهم ونصرتهم، لأن الله أراد من المسلمين أن يتعاونوا على البرّ والتقوى ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان، وأن ينصروا بعضهم بعضاً، ويساعدوا بعضهم بعضاً، وأن يعملوا من أجل عزة الأمة كلّها، وعزّتها في وحدتها أمام كل التحديات، وأمام كل المستكبرين، حيث لا نزال نواجه الكثير من التحديات في هذه المنطقة وغيرها من المناطق، ولا بد لنا أن نعمل على أساس أن نجابه هذه التحديات، فماذا هناك:
نحذر من النـزف الفلسطيني:
الحرب الأمريكية مستمرة على الانتفاضة في ضغطها على سلطة الحكم الذاتي لتفكيك منظمتي الجهاد وحماس الإسلاميتين، بحجة أنهما إرهابيتان، لأنهما تجاوزتا الخطوط الحمراء في مواجهتها للاحتلال الإسرائيلي، لأن أمريكا تضمن الأمن الإسرائيلي بالمطلق، فلا تسمح لأي فلسطيني أن يعمل على إيقاع الاهتزاز به.. وليس هناك مشكلة في حركة الصراع في مناطق السلطة الفلسطينية، ولكن كل المشكلة هي في امتداد الحرب في مناطق السلطة الإسرائيلية.. فذلك هو الإرهاب بعينه، حتى لو كان ذلك رداً على الإرهاب الإسرائيلي بكل وحشيته، لأنها تعتبره دفاعاً عن النفس.
وما زال الضغط الأمريكي على الفلسطينيين يجتذب ضغطاً أوروبياً وروسياً، ولكن بطريقة أخف في صوت واحد: أوقفوا الانتفاضة، ولتكن إسرائيل هي الحكَم في الحكم بالجدية على وقف إطلاق النار، وهي تنتقل من مطلب إلى آخر لتنضم السلطة بكل جنودها ومخابراتها في ملاحقة المجاهدين، ولا سيما حماس والجهاد، لتعتقل بعضاً من الناشطين في الانتفاضة، لتقوم السلطة باعتقال البعض الآخر وإغلاق المراكز الخيرية والاجتماعية والتربوية التابعة لحماس.. ويبدأ النزف الفلسطيني ليسقط المجاهدون جرحى أو قتلى في صدام السلطة بهم.. وهذا ما تريده إسرائيل.. وهذا هو ما نخافه على الانتفاضة وبالتالي على القضية الفلسطينية التي لا تملك أية ورقة في المفاوضات السياسية أو في المفاوضات الأمنية، لا سيما أن الدول الكبرى ليست مستعدة للضغط على إسرائيل لمنح الفلسطينيين حقوقهم الشرعية في المستوى الأدنى.
عجز عربي في مواجهة التحديات:
كما أن الدول العربية والإسلامية عاجزة عن التدخل بسبب استضعاف نفسها من جهة بسبب ارتباطاتها بأمريكا التي تمنعها من أي موقف قوي ضاغط على خط التسوية بما يحقق للشعب الفلسطيني حقوقه.. وبسبب الضعف الذاتي الذي استراحوا له من جهة أخرى، وهذا هو الذي يفسر أن المؤتمرات السياسية تقول في العلن شيئاً للاستهلاك السياسي وتقول في السر شيئاً آخر.. ولذلك فإننا لا نرى أي تأثير قوي على الكيان الصهيوني أو الموقف الأمريكي.. بل إن هذه الدول ـ في الغالب ـ تمنع شعوبها من التظاهر تأييداً للشعب الفلسطيني، لأنها تخاف من غضبة الشعوب على هذا التخاذل العربي والإسلامي..
إننا ندعو السلطة الفلسطينية إلى الدخول في حوار جدي موضوعي مع مجاهدي الانتفاضة، لا سيما حماس والجهاد، بعيداً عن كل الاتهامات المتبادلة، وندعو المجاهدين إلى دراسة الوسائل العملية الكفيلة بحفظ حق الشعب الفلسطيني في المقاومة الجادة من أجل إزالة الاحتلال، مع العمل على تجاوز الضغوط الهائلة المطبقة على الانتفاضة من جهة والسلطة من جهة أخرى.. ونحذر من أي وضع يستنزف الدم الفلسطيني بيد فلسطينية، فإن ذلك يعني أن ما لم تستطع أن تحصل عليه إسرائيل في ساحة المواجهة، سوف تحصل عليه بدون معركة.. إننا نثق بالشعب الفلسطيني أن يعض على جراحه، وأن يصبر على كل الضغوط القاسية الدولية والإقليمية والمحلية ليتجاوز هذه المحنة ويعود قوياً صامداً في خط التحرير.
أفغانستان.. المصير المجهول
وما تزال أفغانستان تعيش الحرب المتنقلة من بلد إلى آخر، في السهول وفي الجبال تحت قيادة أمريكية خاضعة للحقد الأعمى وللثأر الذاتي بعيداً عما هي مصلحة الشعب الأفغاني، وقد دللت التجارب أن أمريكا دخلت هذا البلد لتستقر فيه سياسياً وأمنياً إذا لم تستقر فيه عسكرياً.. لأن القضية عندها ليست الخلاص من تنظيم القاعدة ورئيسه، بل الحصول على مناطق النفوذ التي تمتد من هذا البلد إلى المنطقة كلها.. أما الحكومة الأفغانية المؤقتة الجديدة، فإنها لا تملك من أمرها شيئاً إلا على مستوى تصريف الأعمال وتنفيذ المخططات الأمريكية في ملاحقة خصوم أمريكا، ولا سيما إذا جاءت القوات الدولية بقيادة بريطانية في الشكل أمريكية في المضمون، بلحاظ الارتباط العضوي الأمني والسياسي بين الدولتين.
إننا نشعر بالقلق والخوف على مستقبل هذا البلد الذي انتقل من مأساة إلى مأساة بفعل التجاذبات السياسية في اللعبة الدولية، ونتمنى له أن يجد السبيل إلى وحدته وإلى وعيه للمؤامرة الدولية التي تنفذ على أرضه..
موقف موحّد لمواجهة أخطار المستقبل:
ونحن ـ في نفس هذا المناخ ـ نتابع التهديدات الأمريكية ضد المنظمات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي باسم مكافحة الإرهاب، من أجل القضاء على أية معارضة حقيقية للسياسة الأمريكية وللوجود الإسرائيلي.. وهذا ما نلاحظه في الحديث المتكرر عن المقاومة الإسلامية في لبنان، من خلال التهويل بالضغط على سوريا ولبنان بإثارة أكثر من اتهام كاذب لا معنى له في علاقة هذه المقاومة ببعض العمليات التفجيرية خارج لبنان، لإبعادها سياسياً في الوجدان العربي والإسلامي ـ واللبناني بشكل خاص ـ عن خط الانتصار في التحرير.
إننا ندعو إلى موقف عربي وإسلامي يلاحق تلك التهديدات التي تتوالى ضد الصومال والعراق، وربما تتحدث ـ ولو من قبيل التهويل ـ عن سوريا ولبنان إذا بقيتا على تأييدهما للمقاومة.. وربما كانت الاختراقات الجوية الإسرائيلية للأجواء اللبنانية رسالة أمريكية إسرائيلية إلى لبنان.. الأمر الذي يفرض موقفاً موحداً ضاغطاً على مستوى الشعب والأمة، لأن القضية تتصل بالمستقبل كله في قضايا المصير.
وفي هذه المرحلة نطل على موسم الأعياد المسيحية والإسلامية، لنواجه المستقبل معاً على مستوى لبنان والعالم، لنقف مع كل المستضعفين في الأرض ضد المستكبرين الذين يضغطون عليهم بكل وسائل القهر والاستبداد، ولنتعاون على تأصيل القيم الروحية والأخلاقية التي تمثل القاعدة الصلبة للقيم الإنسانية القائمة على البر والتقوى، بعيداً عن الإثم والعدوان والتعصب الطائفي والعرقي والحزبي، والإرهاب الذي يجتاح المدنيين في مواقع أمنهم ويصادر حرية الشعوب. إن العالم يتجه إلى ما يشبه الفوضى في خطط الشيطان، وعلينا أن نعيده إلى نظام المحبة والتوازن الذي ينفتح فيه الإنسان على الإنسان في رحاب الانفتاح الروحي على الله.
والحمد لله رب العالمين |