ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
الأحد يوم العيد
قبل أن نبدأ بالخطبة، نحب أن نذكر أنه ثبت عندنا أن يوم الأحد بعد غد هو يوم عيد الفطر المبارك، بحسب الحسابات الدقيقة التي تفيد الاطمئنان، وبذلك يكون شهر رمضان شهراً تاماً، لأن اليوم هو التاسع والعشرون وغداً الثلاثون، ويكون يوم الأحد يوم عيد الفطر المبارك الذي نرجو أن يتوحد فيه المسلمون في كل أنحاء العالم الإسلامي، لا سيما أن الحسابات الفلكية الدقيقة تجعل إمكانات الرؤية كبيرة جداً، لأن الهلال يولد في الساعة العاشرة وعدة دقائق من مساء هذا اليوم، وبذلك يكون الهلال عند غروب يوم غد كبيراً جداً، ونسأل الله أن يتوحد فيه المسلمون، ويجدوا فيه عزتهم وكرامتهم، إنه أرحم الراحمين.
وداع شهر رمضان
في هذين اليومين نودِّع شهر رمضان الذي جعله الله شهر رحمة ومغفرة وعطاء، والذي أراد الله للناس أن يعيشوا فيه إسلامهم بروحية عالية، وأن يتثقفوا بالقرآن، ليعرفوا الإسلام في حقائقه، ولينفتحوا في صلاتهم وحياتهم على خط التقوى، وليرتفعوا إلى الله بأرواحهم في ما يحصّلونه من سموّ روحي يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى.
ولهذا، لا بد للإنسان في نهاية هذا الشهر أن يفحص نفسه، هل استطاع أن يحقق تقدماً على الصعيد الروحي والأخلاقي، بالتزامه بحدود الله وحقوقه، وحقوق الناس التي فرضها الله عليه؟؟ هل ازدادت مشاعر الأخوّة تجاه المسلمين الآخرين؟؟ هل أصبح أكثر محبة للناس وإحساساً بالمسؤولية في كل القضايا العامة؟؟ هل أصبح أكثر اهتماماً بالإسلام والمسلمين؟؟ لأن شهر رمضان، كما ورد في دعاء الإمام زين العابدين(ع)، هو شهر الطهور الذي يتطهر فيه الإنسان من كل ذنوبه وعيوبه، وهو شهر التمحيص الذي يمحّص فيه الإنسان نفسه ليطرد منها ما كان بعيداً عن الله، وقد ورد هذا الدعاء في العشرة الأواخر من شهر رمضان،ومنها هذا الدعاء:
"اللهم وهذه أيام شهر رمضان قد انقضت، ولياليه قد تصرّمت، وقد صرت يا إلهي إلى ما أنت أعلم به مني، وأحصى لعدده من الخلق أجمعين، فأسألك بما سألك به ملائكتك المقرّبون، وأنبياؤك المرسلون، وعبادك الصالحون، إن كنت رضيت عني في هذا الشهر فازدد عني رضى، وإن لم تكن رضيت عني فمن الآن ارض عني".
ونقرأ أيضاً في دعاء آخر يُتلى في العشر الأواخر من شهر رمضان أيضاً: "اللهم أدّ عنا حقّ ما مضى من شهر رمضان، واغفر لنا تقصيرنا فيه، وتسلّمه منّا مقبولاً، ولا تؤاخذنا بإسرافنا على أنفسنا، واجعلنا من المرحومين ولا تجعلنا من المحرومين".
وقد ورد في خطبة النبي(ص) التي استقبل بها شهر رمضان: "فإنّ الشقيّ من حُرِم غفران الله في هذا الشهر العظيم".
التقوى أساس الصيام
كان هذا الجانب العام في المسألة، ويبقى علينا أن نستوحي القرآن الكريم الذي ذكر أن أساس الصيام في هذا الشهر هو تحصيل التقوى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، حتى تخرجوا من الصيام وأنتم أتقياء، والتقوى أن لا يجدك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك. وهنا تتحدث بعض الآيات الكريمة لتبين بعض خطوط التقوى، وبعض الآفاق التي لا بد أن يعيشها الإنسان المسلم في معنى إسلامه في الحياة، عندما ينطلق في خطِّ المسؤولية، أو عندما يودِّع هذه الدنيا: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تقاته}، حتى يدفعكم ذلك إلى إطاعته في كل ما أمركم به فتفعلوه، وفي كل ما نهاكم فتتركوه، وهذا هو حقّ التقوى، أن توحد الله في العبادة فلا تعبد في الألوهية غيره، وتوحده في الطاعة فلا تطيع غيره، {ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}، لا بد لك أن تحافظ على إيمانك، حتى لا يقدر أحد أن ينال منه، كما تحمي جسدك وأهلك ومالك وولدك. لتكن الإنسان الذي يفكر أن يبدأ مسلماً وينتهي مسلماً عندما يلاقي وجه الله، وهذه هي وصايا الأنبياء، فنحن نقرأ مثلاً في قصة إبراهيم(ع): {إذ قال له ربه أسلِم قال أسلمت لربّ العالمين* ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}.
وهكذا عندما ندرس النبي يوسف(ع) بعد أن أعطاه الله الملك وعلّمه من تأويل الأحاديث التي استطاع أن يصل بها إلى درجات عاليه، ولكنه(ع) بقي متواضعاً، ودعا ربه {ربّي قد آتيتني من الملك وعلّمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفّني مسلماً وألحقني بالصالحين}.
وفي رواية الإمام علي(ع) عندما أخبره رسول الله(ص) بأنه سوف يقتل في شهر رمضان، "قال: يا رسول الله أوَفي سلامةٍ من ديني؟ قال: بلى، قال: لا أبالي، أوقعت على الموت أم وقع الموت عليّ". والإلحاح على هذه المسألة، لأن الإنسان أمام حالات الإغراء والفوضى التي يعيشها قد يغفل عن إيمانه، حيث يخضع لبعض الصداقات أو العلاقات الزوجية بالنسبة للرجل أو المرأة، وما إلى ذلك من أمور.. والإنسان يفكر بعاقبة أمره، كما جاء في الدعاء: "اللهم اجعل عاقبة أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها وخير أيامي يوم ألقاك فيه".
التوحد بالإسلام
{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا}. من التقوى وحدة المسلمين ووحدة المؤمنين، وتمسك المؤمنين بحبل الوحدة يعني تمسكهم بالقرآن، وهذا ما عبّر عنه النبي(ص) الذي قال: "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي". ولذلك علينا أن نتدبر القرآن ونتأمله، ونعمل بما أمرنا به: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}، إذاً هناك شيء يجمعنا بالرغم من خصوصياتنا القومية والشخصية والعائلية، ألا وهو الإسلام، فعلينا أن نتوحد فيه. {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلّكم تهتدون}.
ثم بين لنا الله بعد ذلك الجانب العملي، وهو أن نعيش الرقابة الإسلامية الاجتماعية، والتواصي بالحق والصبر، بأن ندرس مكامن الخلل في مجتمعنا وما فيه من فساد، {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، أي أن يعيش الإنسان هموم الأمة كلها، ويعيش المسؤولية، ولا يعيش الهموم الفردية والشخصية.
{ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم* يوم تبيضّ وجوه ـ يوم القيامة ـ وتسودّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون* وأما الذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون}.
على ضوء هذا، لا بد من أن نتوحد بالإسلام، وأن نتقي الله في خط الإسلام، وأن نتحمل مسؤولية الواقع الإسلامي، لا سيما عندما تبرز التحديات الكبرى التي تستهدف إسقاط الإسلام، والتي إن لم تستطع أن تنزع الإيمان من نفوس الأجيال المتقدمة، فإنها تعمل على التمهيد لنزعه من نفوس الأجيال اللاحقة.
يوم القدس العالمي
كما تحاول هذه القوى السيطرة على المسلمين والاستيلاء على مقدّراتهم وإخضاع قضاياهم لهيمنتها والمساس بمقدساتهم، كما هو الحال بالنسبة لبيت المقدس الذي يتمتع بخصوصية، وهو أنه بيت الرسالات والمكان الذي يتواجد فيه الرسل ويعبدون فيه الله، ولذلك نحن نؤمن بالرسل كلّهم، وهذه من ميزات الإسلام الذي لا يفرق بين أحد من رسله وكتبه، وهذا ما يجعل الإنسان المسلم غير معقّد من أي شخصية نبوية، بخلاف ما هو عليه أصحاب الديانات الأخرى، لأن تاريخ الرسالات هو تاريخه من آدم وصولاً حتى النبي محمد(ص). والقرآن تحدث عن كل الأنبياء الذين يدين بهم أتباع الأديان الأخرى، وتحدث عن كل الكتب، وخاطب المسلمين على أساس {وتؤمنون بالكتاب كله} من صحف إبراهيم وصحف موسى وعيسى ومحمد(ص).
ولذلك، فإنّ بيت المقدس قبل أن يكون أولى القبلتين وثالث الحرمين، فهو أساساً مهد الرسالات، ففي قصة الإسراء يقولون إن النبي(ص) أقام الصلاة جماعة بالأنبياء حتى يتبيّن أن الإسلام يحتوي كل الأنبياء.
ولذلك فهي تعتبر رمزاً حيوياً مقدساً للمسلمين، ما يجعل السيطرة على المسجد الأقصى وعلى بيت المقدس إضعافاً لموقع مقدس في المسألتين الوجدانية والدينية للمسلمين. كما أنه يمثل موقع عزة المسلمين وعنوان كرامتهم، والإساءة إليه هي إساءة لعزتهم وعنفوانهم وكرامتهم، ولذلك عمل اليهود ونجحوا مؤقتاً في السيطرة على المدينة المقدسة وكل المواقع الدينية للمسلمين والمسيحيين، لأن الاستيلاء على هذا الموقع يجعل موقعهم عالمياً، بحيث يحتاجهم كل الناس من الديانات، ولذلك تشكل القدس الرمز الأساس والعقدة الأصلب في القضية الفلسطينية، فلو كان هناك استعداد فلسطيني أو عربي أو إسلامي للتنازل عن القدس، لأعطى اليهود للفلسطينيين كل الضفة الغربية وغزة، ولما كان هناك مشكلة.
فالقدس في الذهنية اليهودية تعني السيطرة على المواقع الأساسية للأديان، وتتداخل بذلك العناصر السياسية والاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك، ولذا نرى أن قيمة يوم القدس هي في إثارة هذه الجوانب الدينية والسياسية والثقافية بالنسبة للمسلمين جميعاً، كي لا ينسى هذا الرمز، لأن مشكلة الأمم عادة في القضايا السياسية، هي أنه عندما تتغلب أمة على مواقع أمة أخرى، ويطول الزمن، فالأمة صاحبة الموقع تنساه، وهذا ما حصل بالنسبة للأندلس وغيرها.
ولهذا من المهم أن يكون هناك يوم عالمي للقدس، ليتذكر الناس القدس دائماً، وكي لا تدخل عندهم في دائرة النسيان، ولرفض القبول بالأمر الواقع، فإذا لم يستطع هذا الجيل استعادتها فتحاول الأجيال اللاحقة تحريرها.
الالتزام بقضية القدس
الالتزام بالمقدسات الإسلامية هو التزام بالإسلام الواقعي الجغرافي الروحي، ولا بد أن يبقى التزامنا بالقدس التزاماً تاريخياً ينقله كل جيل إلى الأجيال التي ستأتي من بعده، وفي الوقت نفسه، لا بد أن نعتصم بحبل الله ونواجه كل التحديات التي يحاول المستكبرون إقامتها في وجهنا مع حلفائهم الكافرين، والذين يريدون أن يشوّهوا صورة الإسلام في وجدان العالم، وحتى في وجدان المسلمين، كما في طرح صفة الإرهاب على الإسلام والمسلمين، ويستخدمون قوتهم ليمنعوا من إقامة أي حوار أو تفكير في معنى الإرهاب، وقد طرحت أوروبا فكرة عقد مؤتمر لتحديد معنى الإرهاب، هل هو الاعتداء على الأبرياء في حال السلم وفي حال الحرب؟؟ هل هو سقوط المدنيين بفعل الضرورة العسكرية في الحرب المشروعة؟؟ هل هو غير ذلك.. ولكن أمريكا منعت طرح هذه القضية وادّعت أنها فكرة واضحة لديها، وليست بحاجة إلى نقاش، وعلى الناس أن يلتزموا بهذا الفهم.
إنهم لا يسمحون بالتفريق بين المقاومة والإرهاب، أو بالتفريق بين الانتفاضة والإرهاب، وبدأوا يفرضون اعتبار الانتفاضة والمقاومة الإسلامية إرهاباً، واعتبار أن كل من يقف ضد الاستكبار العالمي هم إرهابيون، ومن المؤسف أن الكثير من الحكام المسلمين تقبلوا هذا الفهم الأمريكي، وأصبحت القضية المطروحة كيف يمكن إسقاط المجاهدين الذين يقفون ضد الإسرائيليين لمجرد أنهم يقومون بعمليات قد تطال بعض المدنيين الإسرائيليين، وقد تبرع الكثير من علماء المسلمين لإصدار الفتاوى في هذا المجال.
علينا، أيها الأحبة، أن نتحمل جميعاً رجالاً ونساءً، مثقفين وغير مثقفين، مسؤولية الإسلام، وأن تكون لدينا صورة واضحة عن الإسلام لنقدمه وفق صورته الحقيقية، بحيث لا يستطيع الآخرون أن يفرضوا علينا فهمهم للإسلام، وأن نعمل على أن يكون سلوكنا الصورة الحقيقية للإسلام، ولنكن الأمة التي تستطيع أن تتابع مسيرتها التي بدأت مع رسول الله(ص) في الدعوة إلى الإسلام: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}، {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم}.
أن نعيش ـ أيها الأحبة ـ من أجل أن يكون إسلامنا هو القوة التي تحرص على بقاء كل عناصرها، وهو الدعوة التي على الجميع القيام بها، سواء كنا في بلادنا أو في غير بلادنا، أن ندعو أهلنا إلى الله وإلى الإسلام {وأنذر عشيرتك الأقربين}، وأن ندعو الناس جميعاً، ليكون كل واحد منّا داعية للإسلام، لأن مسؤوليتنا كمسلمين تتّسع باتّساع مواقعنا، وبتطور إمكاناتنا. علينا أن نعمل على إدخال الناس في الإسلام، لأن الله قال لرسوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً}.
لذلك، لا بد أن نعمل ليكون الإسلام دين العالم كله، لنؤسلم العالم بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالجدال بالتي هي أحسن، حتى إذا جاء حجة الله ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، رآنا وقد مهّدنا له الساحة واستطعنا أن ننقل الإسلام بجهودنا وبدعوتنا وبوحدتنا الإسلامية إلى كل مكان في الغرب والشرق {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله، اتقوا الله، وتذكروا قول الله: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، ونحن نعيش حرباً مجنونة في كل أنحاء العالم، تستهدف الإسلام في عقيدته وفي كل قضاياه ولا بد لنا أن نعيش الوحدة الإسلامية، فلا نفسح في المجال لأي شخص أو جهة أن تقوم بتفرقة المسلمين وإثارة حالات الحقد والعداوة والبغضاء بينهم، والانطلاق باللعبة الجهنمية الشيطانية، في تكفير وتضليل بعضنا البعض، والبحث عن نقاط الضعف هنا وهناك، لا من أجل أن نتجاوزها، بل ليسجل بعضنا على البعض الآخر نقطة سلبية هنا وهناك لإثارة الفتنة بين المسلمين، والعالم كله يتوحد ضد المسلمين باسم التحالف الدولي ضد التطرف أو الإرهاب كما يدّعي.
ولذلك حقّ علينا أن نتوحد لمواجهة هذا الاستكبار، وهذا ما نستوحيه من كلمة النبي(ص) عندما برز علي(ع) الذي يمثل الإيمان في معركة الأحزاب إلى عمرو بن عبد ود العامري الذي كان يمثل الشرك، قال: "ظهر الإيمان كله إلى الشرك كله"، ونحن نقول برز الكفر كله إلى الإيمان كله، فعلى الإيمان كله أن يبرز إلى الشرك كله. علينا أن ننسى في هذه المرحلة الصعبة كل خلافاتنا، وكل حساسيات مذهبياتنا، وكل ما يفرقنا، لأنه لا معنى لخلافاتنا في ساحة الحرب الصعبة التي تنطلق فيها قوة الاستكبار من أجل أن تضعف موقعاً إسلامياً هنا أو تصادر موقعاً إسلامياً هناك، في اللحظة التي ينطلق فيها هؤلاء لمناقشة أمور هامشية، بل علينا أن نلتفت إلى قضايانا الكبرى، تعالوا لنر ماذا هناك:
وجهان إرهابيان لعملة واحدة
الأرض الفلسطينية مستباحة بكل آلة الحرب الإسرائيلية الأمريكية، والرئيس الأمريكي(بوش) يصرّح لكبار اليهود في أمريكا: "لو كنت مكان أرييل شارون لفعلت بالفلسطينيين الشيء ذاته كما يفعل". إن ذلك يدل على أن الحرب ضد الفلسطينيين هي الحرب التي منحتها أمريكا الشرعية على الطريقة التي خاضتها في الحرب الأفغانية، ليدمر كما تدمّر، وليقتل المدنيين كما تقتلهم، وليقصف المجاهدين كما قصفت الأسرى في سجنهم.. إن معنى ذلك أن بوش لو كان مكان شارون لجرف بساتين الفلسطينيين، ولقتل الأطفال ولدمّر كل البنية التحتية للشعب الفلسطيني بحجة الدفاع عن النفس كما هي حربه ضد الأفغانيين.
إنه يصرّح بأن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ولكن لا ندري أية ديمقراطية في إطار حقوق الإنسان تحتل شعباً آخر وتحرمه من تقرير مصيره، وتفرض عليه القبول بكل شروطها التي تصادر إنسانيته وحريته ومستقبله، ليكون مجرد هامش من هوامشها، وليحصل على الدولة المسخ لا الدولة الإنسان.
إن أمريكا لا تعترف بإنسانية الشعب الفلسطيني، ولا ترى له حقوقاً ولا تعتبر جهاده في سبيل تحرير أرضه حركة تحرير واستقلال، ولا ترى في قتل مدنيّيه إرهاباً بل الإرهاب هو قتل المدنيين الإسرائيليين الذين صادروا أرض فلسطين وسكنوا بيوتهم. ويؤكد بوش مهدداً أن سوريا ولبنان مثل طالبان إذا دعما حزب الله، والسؤال هو: هل يخطط ليخوض حربه الثالثة بعد فلسطين في هذين البلدين..؟؟
هذا هو الوجه الأمريكي البشع الذي يواجه العرب والمسلمين في هذه المرحلة، ويتحدث بطريقة سلبية حتى عن حلفائه من العرب، في مقارنة بينهم وبين شارون بأنه يمثل شعبه في الوقت الذي لا يمثلون شعوبهم..
حرب عالمية جديدة ضد العرب
والسؤال: ما هو ردّ الفعل العربي والإسلامي في اجتماعاتهم السياسية..؟؟! إنها الكلمات التي تتطاير في الهواء من دون معنى، والحقيقة التي لا بد أن يفهمها هؤلاء، أنهم كلما تنازلوا أو تخاذلوا أكثر كلما أطبقت عليهم الضغوط أكثر بتقديم التنازلات أو بإلقاء الرعب في صفوفهم أن يبادروا لإسقاط الانتفاضة وإلاّ، أو لمحاربة المجاهدين في أي موقع عربي أو إسلامي وإلا. إن العنوان الكبير هو أن عليكم أن ترتبوا كل أموركم في أوضاعكم السياسية والأمنية، وفي كل علاقاتكم بالمسألة الفلسطينية على أساس أن بوش من أمامكم وأن شارون من خلفكم.. هذا هو الأمر الواقع في خط السياسة الواقعية الأمريكية الجديدة، التي التقى بها الاتحاد الأوروبي بطريقته الخاصة، وتحركت بها روسيا بطريقة أخرى في نداءٍ واحدٍ لسلطة الحكم الذاتي: اقتل المجاهدين في الانتفاضة، انزع أسلحتهم أو دعهم في السجون لتقصفهم إسرائيل بشكل جماعي، فذلك وحده هو الذي يجعل السلطة مقبولة في المجتمع الدولي.. إنها الحرب العالمية الجديدة بقيادة أمريكا ضد الشعب الفلسطيني.. لتحقق الحلم الصهيوني في الأمن المطلق ضد أمن الفلسطينيين..
أخطار جديدة تحدق بالقضية الفلسطينية
إننا نقول للشعب الفلسطيني إن المرحلة الجديدة تنفتح على أخطار جديدة تتحدى صمودكم، لأنكم تحديتم السياسة الأمريكية التي التزمت الأمن الإسرائيلي في استراتيجيتها في المنطقة، وهو الذي عملتم ـ بجهادكم ـ في إدخاله في المأزق.. ولذلك فإن أمريكا ترى أن الحرب ضدكم هي حربها كما هي حرب إسرائيل، ولذلك فلا بد لكم من مواجهة هذه التطورات بتخطيط دقيق للصمود ولتطوير الانتفاضة، لتحاصروهم كما يحاصرونكم، ولتنفذوا إليهم من كل مواقعكم في اقتحام مواقعهم كمثل الكابوس.. فلن يستطيع الاستكبار أن يُسقط شعباً إذا قرّر أن ينال حريته {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين* إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس}.
القدس عنوان حركة الرسالات
وفي مناسبة يوم القدس، لا بد لكم، ولكل الشعوب العربية والإسلامية، أن تأخذوا من القدس روحيتها التي تحدت الجيوش الصليبية واستطاعت أن تهزمهم وعنفوانها، الكبير في حركة الرسالات في مواجهة الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقتلون النبيين بغير حق.. لتكن العنوان الكبير، الرمز للمقدسات وللمدينة وللمنطقة كلها ولكل مواقع المستضعفين في الصراع مع المستكبرين {ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقويٌ عزيز}.
أفغانستان في دوامة اللعبة الأمريكية
أما أفغانستان، فإنها لا تزال تتخبط في دوّامة اللعبة الأمريكية التي أدخلتها في إطار اللعبة الدولية باسم البحث عن مستقبلها الذي سوف يدخل في متاهات المصالح المتناقضة لأكثر من دولة هنا وهناك، وفي خطة المصالح الأمريكية في تحقيق الكثير من مكاسبها في تلك المنطقة.. ومن اللافت أننا لم نلاحظ حتى في بعض المواقع الدينية بشكل عام استنكاراً للمذابح التي ارتكبت ضد الشعب الأفغاني، ولا سيما المجزرة الفظيعة البشعة في قتل المئات من الأسرى من طالبان والقاعدة، لأن القضية المطروحة ـ كما يقول بعض المحللين ـ أن الشعب الأمريكي وفي معرض بحثه عن استعادة العنفوان بعد أحداث (11 أيلول) يحتاج إلى رؤية المزيد من الجثث الممزقة والأجساد المحترقة..
وفي هذا الاتجاه، فإنهم يواصلون إطلاق التهديدات لأكثر من بلد عربي أو إسلامي بالقصف الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري، في عملية إثارة للقلق والرعب في خطة خبيثة لإسقاط الشعوب.
لبنان: دوامة السياسة الاستهلاكية
وفي الداخل، هل تبقى دوامة السياسة الاستهلاكية في لعبة التصريحات المتداولة التي تنطلق بعناوين كبيرة في العلن، ولكنها تسحب كل تواقيعها في السرّ في عملية السياسة الباطنية، كما جاء في قوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنما نحن مستهزئون}، الأمر الذي يوحي بأن التأييد هنا والرفض هناك لا ينطلق من موقف جدي، بل من لعبة سياسية حسب البازار.
ثم.. ماذا عن التعيينات التي حلّت بعض المشاكل في ملء الشواغر في الإدارة، ولكن لا يزال الجدل التقليدي حولها دائراً في أكثر من علامة استفهام عن الكفاءة وعن نظام المحاصصة وعن التعقيدات الطائفية والمذهبية.. مما يجعلنا ندمن هذا المرض اللبناني الذي يبقي البلد في دائرة الاهتزاز كلما برزت فرصة للاستقرار.. هذا كله والعواصف السياسية والأمنية تملأ الأجواء لتخلط كل الأوراق، فكيف نواجه ذلك كله؟! |