المرجع فضل الله: حذارِ من البهتان فإنّه أبشع الظلم
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور حشدٍ من الشخصيات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وجمع غفير من المؤمنين.. ومما جاء في خطبته الأولى:
البهتان: معصية كبيرة
من بين الكبائر في الإسلام الَّتي يستحقّ عليها الإنسان دخول النّار، البهتان، والبهتان هو أن تذكر أخاك بما ليس فيه، أو تتصرَّف معه بما ليس لك فيه حقّ؛ هو الكذب في القول والفعل، وهو أعظم من الغيبة، لأنَّ الغيبة هي ذكرك أخاك بما فيه من عيب مستور، أمّا البهتان، فهو أن تذكر أخاك بما ليس فيه، فيجمع الغيبة والكذب وهتك حرمة المؤمن، وقد تحدَّث الله تعالى في القرآن عن البهتان، تارةً بشكلٍ صريح، وأخرى بعنوانٍ عام في القرآن الكريم.
وعلينا أن نتابع هذه الآيات القرآنيَّة حتى نتجنَّب هذه المعصية الكبيرة في حياتنا الخاصَّة أو العامَّة، لأنَّ مشكلتنا هي أنَّ مجتمعنا أصبح المجتمع العدوانيّ في علاقاته الاجتماعيَّة، حيث أضحى من الصَّعب جدّاً أن يأمن فيه إنسانٌ على نفسه من أن يُغتاب أو يُكذَب عليه، حتى إنَّ هذه الآفة الأخلاقيَّة وصلت إلى مجتمع المؤمنين، وربما زحفت إلى بعض مجتمعات المشايخ، لأنَّ المسألة أصبحت مسألة العصبيات، سواء كان هذا التعصّب مذهبياً أو حزبياً أو عائليّاً. وهناك نوعٌ جديد من التعصّب، وهو التعصّب المرجعي، الَّذي استحلّ فيه المتعصّب أن يتحدَّث عمّن تعصّب ضدَّه في كلّ شيء، فيكذب عليه، وينسب إليه ما لم يقله وما لم يفعله.
وقد واجه الكثيرون من العلماء الكبار والمصلحين هذا النّوع من التعصّب الَّذي استحلَّ الكثير من الكذب وتحريف الكلام عن موضعه، وقد ابتلينا بمثل ذلك من كثير من الناس، سواء ممن يتزيّون بزيّ الدّين أو غيرهم، ونسبوا إلينا الكثير مما لا يُكذَب فيه، في إنكار شأن الأنبياء والأئمّة(ع) والزّهراء(ع)، ممن لم يخافوا الله تعالى في كذبهم، وما زالوا يكذبون ويكذبون.
لنفهم حدود الله
لذلك، نحن بحاجة إلى أن نفهم حدود الله، لأنّنا في الدنيا يمكن أن يغشّ بعضنا بعضاً، ولكن ماذا نفعل إذا وقفنا أمام الله تعالى؟ في العنوان العامّ الّذي أراد الله للناس أن يسيروا عليه في كلّ أمورهم، يقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ـ لا تتّبع في فعلك وانتمائك وعلاقاتك شيئاً لا تملك علمه، وما لا حجَّة لك عليه، بحيث لا تستطيع أن تدافع عنه أمام الله سبحانه ـ إِنَّ السَّمْعَ ـ فيما يُسمع؛ كيف سمعت؟ وممن سمعت؟ ـ وَالْبَصَرَ ـ فيما يُبصَر؛ هل أبصرت؟ وكيف رأيت؟ ـ وَالْفُؤَادَ ـ هل درست الأمر وفكَّرت فيه أو لم تفكّر؟ ـ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[الإسراء: 36]، سيسأل الله تعالى سمعك عما تحدَّثت به مما يُسمَع، وبصرك عما تحدَّثت به مما يُبصَر، وسيسأل الله عقلك عما تحدَّثت به مما يُعقَل، فإذا كان الشَّيء لا حقيقة له، أو كان تحريفاً للكلام، فكيف يمكن لك أن تواجه المسؤوليَّة أمام الله تعالى؟
لنأتِ إلى الآيات الكريمة التي تحدَّثت عن مختلف أنواع البهتان، ففي آيةٍ من القرآن الكريم، تحدَّث الله تعالى عن البهتان في أخذ مهر الزّوجة منها عندما يريد الزّوج أن يطلّقها، من خلال تعسّفه عليها وظلمه لها، ليأخذ منها تنازلاً عن مهرها، يقول تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً ـ وهو المال الكثير ـ فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ـ بالضَّغط والتعسّف والقسوة ـ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ـ أن تأخذه بالباطل وبغير حقّ ـ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ـ عشتم حياةً واحدةً مشتركةً تداخلت فيها أجسادكم وظروفكم وحياتكم ـ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً}[النساء: 20، 21]، عبّر عن الزّواج بالميثاق المؤكَّد. وفي بعض الأحاديث عن أئمَّة أهل البيت(ع) في تفسير الميثاق الغليظ، أنّه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة: 229].
مظاهر البهتان
وفي آيةٍ ثانيةٍ وردت فيها كلمة البهتان، وهي أنَّ بعض النّاس قد يقوم بجريمة قتلٍ أو سرقةٍ أو خيانة، ولكنَّ هذا الشَّخص عنده عشيرة أو حزب، لأنَّ الأحزاب ـ عادةً ـ تتعصَّب لجماعتها، حتى ولو بالباطل، فيحاول أن يأتي بشهود ويرتّب بعض الأوضاع حتى يتَّهم شخصاً بريئاً ضعيفاً، فيركِّب التّهمة عليه ويُبرّئ نفسه منها. وقد حصلت في أيّام النبيّ(ص)، أنَّ مسلماً في المدينة سرق مالاً، وقد ظهرت علامات السَّرقة على السّارق، فاجتمعت عشيرته، ورتّبوا وضعاً معيَّناً لإقناع النبيّ(ص) بأنّ يهوديّاً قد سرق، والنبيّ(ص) لا يحكم بالغيب، وإنما بالبيّنات والأيمان، فأنزل الله أربع عشرة آية حتى يبرّئ اليهوديّ ويتَّهم المسلم، ومن بين هذه الآيات، هذه الآية الكريمة: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}[النساء: 112]. وهذه مسألة حسَّاسة، ونحن مجتمع العصبيَّات، بحيث نبرّئ المجرمين إذا كانوا من العائلة أو الحزب أو الحركة أو المنظَّمة أو الطَّائفة، ونرمي هذه الجريمة على الآخرين، وهذا لا يجوز، حتى لو كان البريء الَّذي تُحمّله الجريمة من أعدى أعداء الله، لأنّه في عالم العدل، ليس هناك مسلم وغير مسلم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[النّساء: 135].
الآية الثالثة التي تحدَّث فيها القرآن الكريم عن البهتان، كانت في حديثه عن اليهود الَّذين وقفوا ضدَّ السيِّد المسيح(ع)، وضدَّ والدته السيِّدة الطّاهرة العذراء مريم(ع)، ونسبوا إليها الفاحشة: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً}[النساء: 156]، فالله تعالى يؤنِّبهم بهذا الإثم، لأنَّه من أشنع الكذب.. وعلينا أن نحرّك هذه المسألة في مجتمعاتنا، لأنَّنا نبتلى بسهولة اتهام العفيفات بالزّنا من دون حقّ، ولو على أساس الإشاعة أو التّهمة أو الشّبهة، فلو فرضنا أنّك وأنت تتكلَّم بهذه التّهمة، وجاءك الموت وأنت على هذه الحالة، ووقفت أمام الله، وسألك عن برهانك ودليلك على هذه التّهمة، فهل تقول لله: إنّني سمعت الناس يقولون مثل هذا القول؟! عندما تتلفَّظ بهذا الكلام ـ والكلام عليه رقابة ـ {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18]، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس: 65].
إنَّ حمَّى العصبيّات والإشاعات تحطِّم لنا ديننا، فيتحوّل ديننا إلى مجرّد صلاةٍ وصومٍ، من دون أن نصل إلى مستوى التَّقوى. لنفكِّر في هذا الكلام، لأنَّنا لسنا في مقام الخطابة فقط، بل نريد أن نسمع قول الله لكي نكون من الَّذين {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزمر: 18].
وهناك آية رابعة تتحدَّث عن هذا الجوّ، عندما أُثيرت الإشاعة ضدّ إحدى زوجات النّبيّ(ص)، البعض يقول إنّها عائشة، وهو المشهور، والبعض يقول إنَّها ماريّا القبطية، وعاش المسلمون حالةً من أصعب الحالات، لأنّ التّهمة تمسّ إحدى زوجات النبيّ(ص)، فأنزل الله هذه الآيات للّذين ينشرون الإشاعة والتّهمة من دون أن يتثبتوا منها: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا ـ ليس عندنا حجّة، ولا شهود، ولا دليل ـ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور: 16].
وهناك آية أخرى تتحدَّث عن الَّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات عندما يثيرون الإشاعات ضدَّهم بغير ما قالوا واكتسبوا، نتيجة حالة عصبيَّة وحزبيَّة وطائفيَّة: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}[الأحزاب: 58]، لأنَّ هذا ظلم لهم عندما تؤذيهم بإثارة الإشاعات الَّتي تدمّر سمعتهم وتهتك حرمتهم، بل هو أبشع الظّلم.
هذه حدود الله الّتي يجب أن نقف عندها، ولا سيَّما أنَّ هذه المسألة تتَّصل بالأمن الاجتماعيّ، لأنَّ الله تعالى يريد للمجتمع المسلم أن يأمن النَّاس فيه على كراماتهم وأعراضهم وأموالهم، هذا هو المجتمع الَّذي ينتج الخير ويحقِّق التعاون، هو مجتمع المحبّة والإنتاج، لذلك، تعالوا لنتعاون، ولو بنسبة معيَّنة، في سبيل أن نتّقي الله، ونركّز أساس هذا النوع من التّعاون والتقوى في المجتمع، {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: 2].
الخطبة الثانية
بسم الله الرّحمن الرّحيم
حذارِ من الوسواس الخنّاس
عباد الله، اتّقوا الله، وواجهوا حياتكم بالحقّ، فإنّ الله هو الحقّ، وإنَّ الحقّ هو الَّذي ينطلق بالإنسان إلى رضوان الله وجنّته، ولا تأخذوا بالباطل، لأنَّه يؤدّي بصاحبه إلى النّار، ولا تركنوا إلى أهل الباطل، ممن يعملون على اهتزاز المجتمع وتمكين أعداء الله من هدمه، وإذا كان هناك بهتانٌ يتحرّك بشكلٍ فرديٍّ أو جماعيٍّ محدودٍ في المجتمع، فإنَّ علينا أن نعرف أنَّ هناك مواقع في العالم يتحرّك فيها البهتان بشكلٍ واسع، وهي مواقع المخابرات الدوليَّة التي ترتبط بها المخابرات الإقليميَّة والمحليَّة، والّتي تعمل من خلال كلّ وسائلها الإعلاميَّة ومواقعها المخابراتيَّة على إثارة الفتنة، من خلال البهتان الّذي توزِّعه في إعلامها ضدَّ أمَّة معيَّنة وقيادات معيَّنة، وقد لاحظنا ذلك، عندما انطلقت المخابرات الأميركيَّة والأوروبيَّة، وربما بعض المخابرات العربيّة، لتتحدَّث عن الإسلام بأنّه دين العنف.
وعلى ضوء هذا، استطاعوا أن يعقّدوا الرأي العام العالمي ضدَّ الإسلام والمسلمين، وانطلقوا من أجل أن يركّزوا قواعد لهم في الواقع الإسلاميّ، من أجل أن يحطّموا الشَّخصيات الواعية التي تقف ضدّ الاستكبار العالمي والصّهيونية والظّلم كلّه، وهذا ما لاحظناه عندما انطلق الإعلام المستكبر ليشوّه صورة الإمام الخميني(قده)، بحيث تحركت كلّ هذه الأجهزة من أجل إسقاط موقعه، وما زالت المخابرات الأميركيَّة والأوروبيَّة والعربيَّة والمحليَّة ترصد كلّ الَّذين يقفون في مواجهة استكبارها ومصالحها وسياساتها، من أجل أن يشوّهوا صورتهم. ومن المؤسف أنَّ هذه الخدعة المخابراتيَّة أصبحت تتحرك في أكثر من موقع، حتى في داخل بعض الحوزات الدينيَّة، باعتبار أنهم لا يلتفتون إلى طبيعة هذه اللّعبة المخابراتيّة، بل يواجهونها بطريقةٍ ساذجةٍ بسيطة.
لذلك، ونحن نخوض حرباً ضدَّ الاستكبار العالميّ والصّهيونيّة كأشرس ما يكون، بحاجةٍ إلى أن نحفظ قياداتنا ومصلحينا وساحتنا، لنقف ضدَّ كلِّ هؤلاء الَّذين يثيرون الشكَّ والقلق والفتنة ليعزلونا عن المجاهدين والمصلحين، لأنَّ هذا هو الَّذي يسمح للعدوّ بأن يفرّقنا. قلتها لكم وأقولها دائماً: احذروا من الوسواس الخنَّاس، مهما كان شكله وموقعه، لأنَّه يتحرّك من أجل أن يثير الفرقة والفتنة فيكم، ومن أجل أن يمزّقكم باسم الدّين والوطنيَّة، كونوا الحذرين والواعين لتعرفوا ما هي خلفيَّة الكلمات. فتعالوا لنرى ماذا هناك؟
التَّصميم على المواجهة
لا تزال الانتفاضة مستمرَّة، والاعتداءات الإسرائيليَّة تتواصل ضدَّ المواقع الشعبيَّة والرسميَّة الفلسطينيَّة، والضّغوط السياسيّة الصّهيونيّة تتنوَّع، بما فيها احتلال "بيت الشّرق" في القدس، ومركز الاتصال في "أبو ديس"، والتَّهديدات تتوالى في إعلام العدوّ، واغتيال الكوادر المجاهدة يتواصل.. كلّ ذلك من أجل إسقاط الإرادة الجهاديّة الفلسطينيَّة في حركة الانتفاضة، ولكنَّ الشَّعب الفلسطينيّ في تظاهراته الجنائزيّة، وفي صيحاته الجهاديَّة، وفي شعاراته السياسيَّة، يقوى أكثر، ويتصلّب بشكل أقوى، ويصبح أكثر تصميماً على مواصلة حرب التّحرير، ويعمل على توسيع المأزق الأمني للعدوّ، وإضعاف الاقتصاد الصهيوني الّذي بدأ يتراجع أمام استمرار الانتفاضة وتصاعدها.
إنَّ الشَّعب الفلسطينيّ ـ من خلال حركته الجهاديّة ـ يعمل على إرباك السّاحة السياسيّة عند العدوّ، وإحراج أميركا التي يصرخ رئيسها مطالباً الفلسطينيّين بإيقاف الانتفاضة، تحت شعار "إيقاف العنف"، ولكن دون جدوى، لأنَّ الرئيس الأميركي لا يزال يرى إسرائيل في موقع الضّحيّة الَّتي يطالبها بضبط النفس أمام ما يعتبره عدواناً فلسطينياً، ما يجعل أميركا ـ "بوش"، أكثر إسرائيليّةً من العدوّ، ليرضى عنه أصدقاء إسرائيل في الكونغرس الأميركي، للتصويت على مشاريعه.. إنّه ينتظر سقوط الانتفاضة ليتدخَّل سياسيّاً لحساب إسرائيل ـ في عمليّة إنقاذٍ لها ـ باسم مشروع "ميتشل"، وسوف يطول انتظاره، لأنَّ الشَّعب الفلسطينيّ لن يسقط في انتفاضته.
مظهر النِّفاق السّياسيّ
لقد أدرك العرب والمسلمون والفلسطينيّون بالذَّات، أنَّ أميركا هي إسرائيل في سياستها، وأنها العدوّ الأكبر لهم، لأنها تسحق كلّ قضاياهم بأقدامها من دون رحمة، وها هي تمنع مجلس الأمن من مناقشة العدوان الصّهيونيّ على الشّعب الفلسطينيّ، تحت عنوان أنَّ الأمم المتحدة "تربك الحلّ المرحليّ لقضيَّة الصّراع الفلسطينيّ ـ الإسرائيليّ"، الَّذي يُراد له تأكيد إيقاف "العنف"، لا إدانة إسرائيل. وهي ـ أميركا ـ تهدِّد مؤتمر "دوربان" في جنوب أفريقيا بالمقاطعة إذا تضمَّن جدول الأعمال مساواة الصّهيونيّة بالعنصريَّة، في الوقت الَّذي تقصف العراق بين وقتٍ وآخر، بحجَّة حماية العراقيّين في الجنوب والشمال، وقد كانت ـ ولا تزال ـ هي السّرّ في مشاكلهم الدّاخليَّة والخارجيَّة، كما تحاصر إيران اقتصادياً لأنَّها تقف مع الشَّعب الفلسطينيّ في مساعدته للحصول على استقلاله.
لقد أعطت أميركا الضَّوء الأخضر للعدوّ، وتحركت لتبرير ما يقوم به من قتلٍ وتدمير، مع التحفّظ عن بعضها، حفاظاً على ماء الوجه العربي للدّول السائرة في ركابها، كمظهر للنفاق السياسي.. ولذلك، فإنَّ هذه الإدارة هي شريكة في كلّ العنف الوحشي الصهيوني ضدّ الفلسطينيين، ولا سيَّما أنَّ إسرائيل تحارب بالسّلاح الأميركي، الذي لم تجد أميركا أن إسرائيل قد تجاوزت شروطها في استخدامه في قتل الفلسطينيّين؟!
وفي هذا الاتجاه، فإنّنا نقدِّر للجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، الحركة الدبلوماسيَّة للرئيس السيِّد محمد خاتمي، في اتّصالاته الدوليَّة لتوفير السّبل الآيلة لدعم الانتفاضة الفلسطينيَّة، ونريد للحركة العربيَّة والإسلاميَّة ـ إلى جانب حركة الشعب الفلسطيني ـ أن تتحوَّل من الجانب الإعلاميّ إلى الجانب السّياسيّ والميدانيّ، بما يرفع عن الفلسطينيّين الضغوط الكبيرة من قِبَل الصّهيونيّة والاستكبار العالميّ.
وندعو الدّول العربيّة والإسلاميّة إلى التّخطيط لمواجهة إسرائيل في مؤتمر "دوربان"، لإدانة العنصريّة الصهيونيّة، والعمل على فضح أساليبها الموجّهة ضد العرب، ولا سيما ما صدر عن كبير حاخاماتهم من مواقف عدوانيَّة داعية إلى إبادة العرب والمسلمين، وما صدر عن زعيم حزب "شاس"، الذي قال إن العرب "يتكاثرون كالنّمل في القدس القديمة. تبّاً لهم، فليذهبوا إلى الجحيم"، كما وصفهم بأنهم "أسوأ من الثّعابين"، وأنهم "أفاعٍ سامّة"، إضافةً إلى كلّ الممارسات الإسرائيليَّة الإجراميَّة المنافية للحقوق الإنسانية في كلّ المجالات.
خطاب سياسيّ متوتّر
أمّا على المستوى اللبناني الداخلي، فإنّنا نريد للعقل الموضوعي الهادئ المنفتح على مصلحة البلد، وعلى التّحدّيات الكبرى التي تواجهنا في المنطقة في حجم المرحلة، نريد لهذا العقل أن يتدخَّل من أجل معالجة المشاكل السابقة واللاحقة، التي تتواصل فيها الملفات القلقة بين ملفّ يُفتح وملفّ يُغلق، ما يؤدي إلى إبقاء المواطن الجائع المشرّد الباحث عن لقمته ومدرسته وحريّته، في قبضة القلق الضبابي، بالمستوى الذي يفقد الثقة بوطنه وبمستقبله، لأنَّ التوتّر هو الّذي يحكم الخطاب السياسيّ بين من ينعى الدّولة، ومن ينذر بانفجار الحكومة ويبشّر بسقوط المؤسَّسات، ومن يتحدَّث عن حركة الأشباح، من دون تحديدٍ للخطوط التفصيليّة؟!
والسؤال: كيف يمكن للمواطن أن يحصل على الاستقرار، ولا سيما أنَّ البعض ينطلق من الأوضاع القلقة للحديث عن عسكرة النظام، وبالتّالي، للتّبشير بانهيار الاقتصاد؟ إنَّ هذا كلّه هو الَّذي يشجِّع الشباب على الهجرة، من خلال كلّ هذا الضّباب السياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، وليست القضيَّة مجرّد مشاكل داخل لبنان مما اعتاده في كلّ عهوده.
إنَّ الخطاب السّياسيّ أصبح يمثّل عنصراً من عناصر الخطر على توازن الإنسان في البلد، ولذلك، فإنّنا بحاجةٍ إلى خطابٍ واقعيّ موضوعيّ منفتح على الرّغبة في الخروج من المشاكل، لا في تعقيدها من جديد.. ثم إنَّ المرحلة تحتاج إلى حركةٍ عاجلةٍ سريعةٍ لتدارك المعطيات الاقتصاديَّة، قبل أن نستيقظ جميعاً لنجد الوطن بين ركام الخلافات والمشاحنات، ونجد أنَّ المستقبل يهرب ويبتعد من أمام شبابنا وأجيالنا.
أيّها النّاس: إنَّ الشعب بحاجةٍ إلى مَن يرحمه، فمن هو الّذي يبادر إلى أن يرحم جوعه وقلقه واهتزاز مستقبله؟