من أهان وليّاً من أولياء الله فقد أرصد لحرب الله

من أهان وليّاً من أولياء الله فقد أرصد لحرب الله

لأن الإسلام أراد لنا أن نحترم الإنسان فينا : من أهان وليّاً من أولياء الله فقد أرصد لحرب الله


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

العلاقة مع الآخر

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}. من مبادئ الإسلام التي أراد لها أن تحكم كل علاقة اجتماعية بين إنسان وإنسان آخر، في البيت بين الزوج والزوجة والأب والأم والأبناء، في المحلة بين الجيران، في المجتمعات الصغيرة والكبيرة، في مجتمعات المؤمنين مع بعضهم البعض والمؤمنين مع الآخرين، هو أن يحترم الإنسان الإنسان الآخر في إنسانيته، وأن يكون واقعياً في نظرته إلى نفسه أو عرقه أو قوميته أو إلى أيّ موقع من مواقعه التي تحمل بعض المميزات، بأن يفكر بأنه ليس هناك إنسان يجمع كل الصفات المميزة بشكل مطلق، بل إن الناس تتفاضل في مميزاتها، فقد يملك إنسان ميزة لا يملكها الآخر، وقد يملك الآخر ميزة لا يملكها هذا الإنسان.

التأكيد على الخصوصيات

وهكذا، تنطلق الحياة، حيث أودع الله تعالى في الإنسان تنوعات في الصفات والخصوصيات والعناصر، وهذا هو الذي جعل كل إنسان بحاجة إلى الإنسان الآخر، لأن ما عند الآخر ليس عندك وما عندك قد لا يكون لدى الإنسان الآخر، فأنت بحاجة إليه فيما عنده، وهو بحاجة إليك فيما عندك، وبذلك يكون التعارف، وهو ما عبّر الله تعالى عنه بقوله: {إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا – فالله تعالى أكد للناس خصوصياتهم ولم يلغها على أساس قومياتهم وأعراقهم وعشائريتهم، ولكنه أراد لهذه الخصوصيات أن تكون مصدراً للتفاعل والتعارف، لأن حاجتي إليك وحاجتك إليّ هما اللتان تفتحان لنا الدائرة الواسعة التي نتعارف فيها من خلال تفاعل الحاجات - إن أكرمكم عند الله أتقاكم}..

من خلال ذلك، يريد الله تعالى للإنسان أن يحترم الإنسان الآخر، أن لا يسخر من قبح صورته إذا كان هو جميلاَ، وأن لا يسخر من وضاعة نسبه إذا كان هو صاحب النسب الرفيع، وأن لا يسخر من جهله إذا كان صاحب علم، وأن لا يسخر من موقعه الاجتماعي أو السياسي، إن عليك أن لا تستغرق في ذاتك، بحيث تفكر دائماً في ما أعطاك الله تعالى من صفات، بل ادخل في مقارنة بينك وبين الآخرين، فعسى أن يكون لأولئك الذين تسخر منهم صفاتٌ مميزةٌ في جانب آخر أفضل من الصفات التي تملكها أنت، عليكم أن تدرسوا أنفسكم في الآخرين وتدرسوا الآخرين في أنفسكم، والتربية الإسلامية تقول: إن على الإنسان إذا رأى في نفسه ميزة فإن عليه أن يحمد الله تعالى ويشكره على ذلك، وأن لا يستغل هذه النعمة في احتقار الناس الآخرين، حتى أن من التربية الإسلامية أنك إذا رأيت إنساناً مبتلى بعاهة أو ما إلى ذلك، عليك أن تخشع لله وتقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به غيري ولو شاء لفعل..

{ولا تنابزوا بالألقاب - قد يغلب على بعض الناس لقب سيىء يوحي بالذم، والناس تخاطبه بهذا اللقب، إن الله تعالى لا يريد للإنسان أن يحتقر الإنسان الآخر أو أن يخاطبه بما يكون عيباً وإهانة لكرامته في الحياة – بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان – إنكم لو صليتم وصمتم وحججتم ثم سخرتم بالمؤمنين والمؤمنات فإنكم تستحقون على ذلك لقب الفاسق بعد أن كان لكم لقب المؤمن – ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}، أولئك الذين ظلموا أنفسهم بالمعصية وظلموا الناس بالاعتداء عليهم.

الله ينصر أولياءه

وقد ورد في الأحاديث المأثورة عن رسول الله (ص) مما رواه الإمام الصادق (ع) قال: "قال رسول الله (ص): قال الله تبارك وتعالى: من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي - إذا أهنت وليّاً من أولياء الله واحتقرته وسخرت منه وهتكت حرمته وهوّنت من شأنه، فإنك تفتح حرباً مع الله تعالى – وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي". وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الصَدود لأوليائي، فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم، فيقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنّفوهم في دينهم، ثم يؤمر بهم إلى جهنم". وورد في الحديث عن الإمام الباقر(ع): "لما أُسري بالنبي(ص) قال: يا ربّ ما حال المؤمن عندك، فقال: يا محمد من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي - ثم يبيّن بنحو الكناية عن رحمة الله بالمؤمن ومحبته له وعطفه عليه – وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن وفاة المؤمن – والله تعالى لا يتردد ولكنه يصوّر على نحو الكناية طبيعة الحالة - يكره المؤمن وأكره مساءته، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وما يتقرّب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت أنا سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته".

الخروج من الذهنية الجاهلية

فإذا كانت هذه محبة الله للمؤمن وهو الذي خلقه، وتعظيمه له وهو الذي أبدعه وأعطاه، فكيف حال الذي يذلّ المؤمن ويحتقره؟ وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع): "من استذل مؤمناً واستحقره لقلة ذات يده ولفقره شهّره الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق". إن الإسلام كما عرضنا يريد لنا أن نحترم الإنسان في معنى إنسانيته، وأن نحترمه في معنى عناصر الخير في شخصيته، وأن يكون مجتمعنا مجتمع احترام الإنسان للإنسان، أن نعيش هذه الإنسانية في حياتنا العائلية والاجتماعية والسياسية، أن نعيشها في مجتمع الرجل والمرأة لنخرج من الذهنية الجاهلية في احتقار الرجل للمرأة والنظر إليها كإنسان من الدرجة الثانية، إن علي الرجال أن يحترموا النساء وأن تحترم النساء الرجال، {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة}.

لنحترم إنسانيتنا في حياتنا الاجتماعية، حتى ينشأ منا جيل يحترم فيه الإنسان الإنسان الآخر، فيسري ذلك إلى حياتنا السياسية، وإذا قامت الحياة السياسية على أساس احترام الإنسان للإنسان، فلن يكون هناك ظلم وغصب حق لأي إنسان آخر، إن الله تعالى خلقنا من نفس واحدة و{إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، هذا هو الإسلام وكل ما عدا ذلك مما صنعناه من حساسيات وعصبيات هو من شأن الجاهلية، ولا يمكن أن نجمع بين إسلام وبين جاهلية، لأن الجاهلية من الشيطان والإسلام من الله، ولا يمكن أن نجمع بين الله وبين الشيطان في موقع واحد.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على إنسانيتكم التي أبدعها الله وأراد لها أن تكون إنسانية تتحرك في حركة القيم الروحية والأخلاقية التي يتعاون فيها الإنسان مع الإنسان في بناء الحياة كلها على الصورة التي يحبها الله تعالى ويرضاها، وقفوا في مواجهة الذين يعملون على إسقاط إنسانية الإنسان وتحقيره وإذلاله، ولا سيما هؤلاء المستكبرين الذين عاشوا الاستعلاء في الأرض من أجل أن يستغلوا كل ثروات الإنسان، وعلينا أن نواجه الواقع كله حتى نعرف مسؤوليتنا أمامه، فماذا هناك؟

المعركة الآن: معركة المستقبل..

الانتفاضة في شهرها العاشر، والشهداء يتساقطون كل يوم، والمجاهدون يواصلون السير في خط التحرير، والعدو يتحرك داخل المأزق، ورئيس حكومته يستغيث بالمجتمع الدولي لممارسة ضغوطاته لإيقاف الانتفاضة، هذا في الوقت الذي يصدر قراراته في اغتيال الكوادر الفلسطينية لتخويف المجاهدين، ويعتقل في كل يوم عشرات الفلسطينيين.. وتستمر الانتفاضة الشعبية في قراراتها التحريرية الجهادية، وتتأكد الوحدة الوطنية كل يوم بين كل الفصائل المجاهدة، بالرغم من كل التعقيدات التي تحيط بالساحة، على أساس شعار "وحدة العدو ووحدة الهدف"..

والعالم العربي لا يزال يتفرّج من دون أن يتخذ موقفاً قوياً ضاغطاً، أما أمريكا فإنها لا تزال تقف إلى جانب العدوّ لتشريع مجازره دولياً بحجة التحرك لإيقاف "العنف" – كما تعبّر – ليلتقط العدو أنفاسه، وليندفع الفلسطينيون إلى حافة اليأس، في الوقت الذي تحمّل فيه السلطة الفلسطينية مسؤولية "العنف"، ولا تحمّل الإسرائيليين مسؤولية الاحتلال والحصار والقصف وجرف الحقول وتدمير البيوت، وقتل النساء والشيوخ والأطفال في بيوتهم ومخيماتهم، بل ترى في ذلك دفاعاً عن النفس وحفظاً للأمن؟!

وإذا كانت أمريكا تطلق بعض التصريحات الخفيفة ضد بعض ممارسات إسرائيل، فإنها تطلق ذلك من باب النفاق السياسي لتحقيق بعض التوازن في سياستها العربية، ولكن بدون نتيجة.. أما أوروبا فلا حول لها ولا قوة، بل إنها تتحرك على هامش أمريكا من دون أن تسمح لها بالتأثير في القضية.. ويبقى الشعار الأمريكي – الإسرائيلي في دوامة: "لا مفاوضات سياسية مع العنف"، ويبقى الشعار الفلسطيني: "لا وقف للانتفاضة من دون تحقيق الأهداف".. وهكذا، تصمد الانتفاضة – الثورة في حركة التحرير وعطاء الشهادة، وتقف المقاومة الإسلامية في لبنان معها في خط المواجهة للعدو في حركة فعل وردّ فعل، ليبقى العنفوان في وجدان الأمة من أجل عودة الروح، لتستمر المعادلة الجهادية "يقتلون ويُقتلون" في خط الصراع، خلافاً للمعادلة السابقة، وهي معادلة الهزيمة في ذهنية الضحية التي تُقتل ولا تقتل.

إننا نقول للعالم العربي والإسلامي: إن المعركة الآن هي معركة المستقبل في امتداداته السياسية، أمام الاستكبار الصهيوني المتحالف مع الاستكبار الأمريكي في تنفيذ خطته في إسقاط الأمة تحت ضغط القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية.. إنها معركة الوجود وليست معركة التفاصيل.

الواقع في الجنوب: إسقاط للدعايةالصهيونية

وفي هذا الجو، يتحدث العدو أن إيران تقيم "شبكة إرهابية دولية في لبنان"، وأنها تملك قواعد صواريخ موجَّهة إلى كيانه، يقوم بالإشراف عليها عسكريون من الجيش الإيراني، إلى غير ذلك من الاتهامات الإسرائيلية والأمريكية لتأليب الرأي العام الدولي ضد إيران، ولتصوير المعركة في الجنوب أنها معركة بين إيران وسوريا من جهة وبين إسرائيل من جهة أخرى، لا بين المجاهدين في المقاومة الإسلامية وبين العدو، وذلك من أجل إثارة مجلس الأمن من جهة، وإرباك الساحة اللبنانية الداخلية من جهة أخرى.. ثم، إيجاد مناخ دولي للعدوان على إيران، كما حدث في الماضي من العدوان على المفاعل النووي العراقي..

إن إسرائيل وأمريكا تعلمان بأن إيران ليس لها جندي واحد في الجنوب، وليست لها أية قواعد عسكرية هناك، وأن المجاهدين وحدهم هم الذين يواجهون العدو، حتى أنهم لا يوافقون – بفعل عدم الحاجة – على قبول المتطوعين من العالم العربي والإسلامي، الأمر الذي سوف يُسقط هذه الدعاية الإسرائيلية.

الشعب العراقي يعيش المأساة:

وفي جانب آخر، لا بدّ أن نقف عند مأساة الشعب العراقي الذي شرّده نظامه وهجّره إلى شرق الأرض وغربها، في ظروف قاسية تحت تأثير المعاناة الإنسانية والإرباك السياسي، بالإضافة إلى اللعبة الدولية، ولا سيما الأمريكية – البريطانية، التي تتحرك بين يوم وآخر باسم حماية الشيعة في الجنوب، والشيعة براء من ذلك كله، لأنهم مع وحدة إخوانهم في العراق، لأنهم لا يفكرون طائفياً ولا مذهبياً، بل يرون أن المشكلة هي مشكلة العراق كله لا الشيعة وحدهم..

وقد تناقلت الأخبار إضراب اللاجئين العراقيين في مخيم "رفحا" في السعودية عن الطعام، نظراً للظروف الصعبة التي يواجهونها هناك، وإهمال الأمم المتحدة لأوضاعهم، بحيث لم تنقلهم إلى مواقع أخرى أكثر ملاءمة، ولم توفر لهم ظروف العيش الكريم.. إننا نطالب الدول المعنية بإنقاذ هؤلاء المشرّدين، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق، من الواقع السيئ الذي يعيشون فيه، كما نطالب بإنقاذ العراق كله من اللعبة الدولية الظالمة والمحلية الطاغية.

لبنان.. صناعة القوة الجهادية

ويبقى الجنوب اللبناني ساحة متحركة في خط المواجهة، ليصنع المجاهدون فيه واقعاً جديداً لتغيير قواعد اللعبة التي حاول العدو أن يفرضها على الساحة، وليؤكدوا وحدة المعركة في المسار السوري واللبناني، لأن القضية واحدة، ولأن التحرير إما أن يكون كاملاً أو لا يكون، وليسقطوا الوهم السياسي الذي يتوهمه بعض السياسيين بأن إيقاف المقاومة سوف ينعش الاقتصاد بفعل المساعدات الدولية – ولا سيما الأمريكية والأوروبية – وذلك بنزع سلاح المقاومة وإدخال الجيش إلى الجنوب، لأن الحقيقة السياسية هي أنه لا اقتصاد للمنطقة – ومنها لبنان – إلا بالتسوية على هامش الأمن الإسرائيلي، لأن القضية هي أن أمريكا الضاغطة على حركة المساعدات الدولية – حتى العربية – لا تنظر إلى هذا البلد أو ذاك، بل تنظر إلى المنطقة كلها في خطة واحدة، ولذلك فإنها لم تحقق أيّ إنعاش للاقتصاد الأردني بعد صلحه مع العدو، بالرغم من كل الوعود الكبيرة في ذلك..

إن قيمة لبنان أنه أصبح الساحة العربية الوحيدة لصناعة القوة الجهادية التي تمنح الواقع العربي كله – ومعه الواقع الإسلامي – القوة السياسية في ساحة الصراع مع العدو، وتحقق التوازن في لعبة التجاذب العسكري.. إن المرحلة الآن هي مَن هو الأقوى في الموقف والصمود، وقد أثبت المجاهدون في لبنان وفلسطين أننا الأقوى، بالرغم من قوة الآلة العسكرية للعدو.

إهمال مستمر للوضع في الجنوب

وإذا كنا نتحدث عن الجنوب المقاوم، فإن الحديث لا بدّ أن ينطلق عن الجنوب الظامئ والجائع والمدمَّر والمُهمَل، بفعل الإهمال المستمر من قِبَل الدولة، حتى على مستوى معالجة الضرورات الحياتية، هذا بالإضافة إلى التعقيدات الداخلية التي يحركها اللاعبون في السياسة الداخلية في إثقال الواقع بمشاكل جديدة، وإثارة أكثر من عصبية ضيّقة في ساحته.

أضف إلى ذلك أن المجاهدين من الأسرى المحررين، الذين أضاع العدو أعمارهم في سجونه، لا يزالون يعانون من إهمال الدولة، وقلق المستقبل، بالرغم من كل الوعود المعسولة، ومن الأموال الكثيرة التي تُعطى للمتقاعدين الذين لم يقاتلوا ولم يسجنوا، وللهدر الذي يمارسه النافذون الذين يهدرون المال العام ويحبسونه عن أهله.

الحاجة إلى دولة الشعب..

وأخيراً، إننا نريد للسجال المستمر على المستوى الداخلي، حول حقوق المناطق أو الطوائف أو العمّال أو الموظفين، أن يتحوّل إلى المجرى الطبيعي لبحث هذه القضايا داخل الغرف المغلقة، من خلال جلسة حوار مفتوحة بين المعارضة والموالاة، وبين الحكومة والمعارضين، لنخلص إلى نتيجة حاسمة فيما هي الأولويات في الوضع الاقتصادي والسياسي، بعيداً عن التراشق من بعيد، لأن ذلك يضرّ بالمصلحة العامة للبلد، ويزيد الأمور سوءاً.. ولا بد من الالتفات إلى أن عودة لعبة المحاصصة في الدولة سوف تعطّل مرافق الدولة، ولا سيما الجامعة اللبنانية..

إننا بحاجة إلى دولة تخطط للمستقبل اقتصادياً وسياسياً، وتتحرك ضمن الخطة التي تراعي حاجات البلد، فلا تواجه الواقع بالحالات الطارئة، ولا تسقط تحت تأثير مراعاة اللاعبين الكبار في حصصهم الطائفية ومواقعهم السياسية.. ونحن بحاجة إلى مجلس نيابي يمنح الثقة أو يحجبها على أساس خطة علمية مدروسة، لا على أساس انفعالات أو خلفيات سياسية معقّدة، وأن لا تكون معارضته خطابية وثقته إيحائية.. كما نحن بحاجة إلى شعب ينزع الثقة ممن لا يحترمون وعودهم الانتخابية، ولا يدرسون حاجاته على أساس مواقعه، بل على أساس مواقعهم الخاصة.. إننا بحاجة إلى دولة الشعب، فقد قتلتنا دولة المزارع.

لأن الإسلام أراد لنا أن نحترم الإنسان فينا : من أهان وليّاً من أولياء الله فقد أرصد لحرب الله


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

العلاقة مع الآخر

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}. من مبادئ الإسلام التي أراد لها أن تحكم كل علاقة اجتماعية بين إنسان وإنسان آخر، في البيت بين الزوج والزوجة والأب والأم والأبناء، في المحلة بين الجيران، في المجتمعات الصغيرة والكبيرة، في مجتمعات المؤمنين مع بعضهم البعض والمؤمنين مع الآخرين، هو أن يحترم الإنسان الإنسان الآخر في إنسانيته، وأن يكون واقعياً في نظرته إلى نفسه أو عرقه أو قوميته أو إلى أيّ موقع من مواقعه التي تحمل بعض المميزات، بأن يفكر بأنه ليس هناك إنسان يجمع كل الصفات المميزة بشكل مطلق، بل إن الناس تتفاضل في مميزاتها، فقد يملك إنسان ميزة لا يملكها الآخر، وقد يملك الآخر ميزة لا يملكها هذا الإنسان.

التأكيد على الخصوصيات

وهكذا، تنطلق الحياة، حيث أودع الله تعالى في الإنسان تنوعات في الصفات والخصوصيات والعناصر، وهذا هو الذي جعل كل إنسان بحاجة إلى الإنسان الآخر، لأن ما عند الآخر ليس عندك وما عندك قد لا يكون لدى الإنسان الآخر، فأنت بحاجة إليه فيما عنده، وهو بحاجة إليك فيما عندك، وبذلك يكون التعارف، وهو ما عبّر الله تعالى عنه بقوله: {إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا – فالله تعالى أكد للناس خصوصياتهم ولم يلغها على أساس قومياتهم وأعراقهم وعشائريتهم، ولكنه أراد لهذه الخصوصيات أن تكون مصدراً للتفاعل والتعارف، لأن حاجتي إليك وحاجتك إليّ هما اللتان تفتحان لنا الدائرة الواسعة التي نتعارف فيها من خلال تفاعل الحاجات - إن أكرمكم عند الله أتقاكم}..

من خلال ذلك، يريد الله تعالى للإنسان أن يحترم الإنسان الآخر، أن لا يسخر من قبح صورته إذا كان هو جميلاَ، وأن لا يسخر من وضاعة نسبه إذا كان هو صاحب النسب الرفيع، وأن لا يسخر من جهله إذا كان صاحب علم، وأن لا يسخر من موقعه الاجتماعي أو السياسي، إن عليك أن لا تستغرق في ذاتك، بحيث تفكر دائماً في ما أعطاك الله تعالى من صفات، بل ادخل في مقارنة بينك وبين الآخرين، فعسى أن يكون لأولئك الذين تسخر منهم صفاتٌ مميزةٌ في جانب آخر أفضل من الصفات التي تملكها أنت، عليكم أن تدرسوا أنفسكم في الآخرين وتدرسوا الآخرين في أنفسكم، والتربية الإسلامية تقول: إن على الإنسان إذا رأى في نفسه ميزة فإن عليه أن يحمد الله تعالى ويشكره على ذلك، وأن لا يستغل هذه النعمة في احتقار الناس الآخرين، حتى أن من التربية الإسلامية أنك إذا رأيت إنساناً مبتلى بعاهة أو ما إلى ذلك، عليك أن تخشع لله وتقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به غيري ولو شاء لفعل..

{ولا تنابزوا بالألقاب - قد يغلب على بعض الناس لقب سيىء يوحي بالذم، والناس تخاطبه بهذا اللقب، إن الله تعالى لا يريد للإنسان أن يحتقر الإنسان الآخر أو أن يخاطبه بما يكون عيباً وإهانة لكرامته في الحياة – بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان – إنكم لو صليتم وصمتم وحججتم ثم سخرتم بالمؤمنين والمؤمنات فإنكم تستحقون على ذلك لقب الفاسق بعد أن كان لكم لقب المؤمن – ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}، أولئك الذين ظلموا أنفسهم بالمعصية وظلموا الناس بالاعتداء عليهم.

الله ينصر أولياءه

وقد ورد في الأحاديث المأثورة عن رسول الله (ص) مما رواه الإمام الصادق (ع) قال: "قال رسول الله (ص): قال الله تبارك وتعالى: من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي - إذا أهنت وليّاً من أولياء الله واحتقرته وسخرت منه وهتكت حرمته وهوّنت من شأنه، فإنك تفتح حرباً مع الله تعالى – وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي". وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الصَدود لأوليائي، فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم، فيقال: هؤلاء الذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنّفوهم في دينهم، ثم يؤمر بهم إلى جهنم". وورد في الحديث عن الإمام الباقر(ع): "لما أُسري بالنبي(ص) قال: يا ربّ ما حال المؤمن عندك، فقال: يا محمد من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي - ثم يبيّن بنحو الكناية عن رحمة الله بالمؤمن ومحبته له وعطفه عليه – وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن وفاة المؤمن – والله تعالى لا يتردد ولكنه يصوّر على نحو الكناية طبيعة الحالة - يكره المؤمن وأكره مساءته، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وما يتقرّب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت أنا سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته".

الخروج من الذهنية الجاهلية

فإذا كانت هذه محبة الله للمؤمن وهو الذي خلقه، وتعظيمه له وهو الذي أبدعه وأعطاه، فكيف حال الذي يذلّ المؤمن ويحتقره؟ وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع): "من استذل مؤمناً واستحقره لقلة ذات يده ولفقره شهّره الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق". إن الإسلام كما عرضنا يريد لنا أن نحترم الإنسان في معنى إنسانيته، وأن نحترمه في معنى عناصر الخير في شخصيته، وأن يكون مجتمعنا مجتمع احترام الإنسان للإنسان، أن نعيش هذه الإنسانية في حياتنا العائلية والاجتماعية والسياسية، أن نعيشها في مجتمع الرجل والمرأة لنخرج من الذهنية الجاهلية في احتقار الرجل للمرأة والنظر إليها كإنسان من الدرجة الثانية، إن علي الرجال أن يحترموا النساء وأن تحترم النساء الرجال، {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة}.

لنحترم إنسانيتنا في حياتنا الاجتماعية، حتى ينشأ منا جيل يحترم فيه الإنسان الإنسان الآخر، فيسري ذلك إلى حياتنا السياسية، وإذا قامت الحياة السياسية على أساس احترام الإنسان للإنسان، فلن يكون هناك ظلم وغصب حق لأي إنسان آخر، إن الله تعالى خلقنا من نفس واحدة و{إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، هذا هو الإسلام وكل ما عدا ذلك مما صنعناه من حساسيات وعصبيات هو من شأن الجاهلية، ولا يمكن أن نجمع بين إسلام وبين جاهلية، لأن الجاهلية من الشيطان والإسلام من الله، ولا يمكن أن نجمع بين الله وبين الشيطان في موقع واحد.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وانفتحوا على إنسانيتكم التي أبدعها الله وأراد لها أن تكون إنسانية تتحرك في حركة القيم الروحية والأخلاقية التي يتعاون فيها الإنسان مع الإنسان في بناء الحياة كلها على الصورة التي يحبها الله تعالى ويرضاها، وقفوا في مواجهة الذين يعملون على إسقاط إنسانية الإنسان وتحقيره وإذلاله، ولا سيما هؤلاء المستكبرين الذين عاشوا الاستعلاء في الأرض من أجل أن يستغلوا كل ثروات الإنسان، وعلينا أن نواجه الواقع كله حتى نعرف مسؤوليتنا أمامه، فماذا هناك؟

المعركة الآن: معركة المستقبل..

الانتفاضة في شهرها العاشر، والشهداء يتساقطون كل يوم، والمجاهدون يواصلون السير في خط التحرير، والعدو يتحرك داخل المأزق، ورئيس حكومته يستغيث بالمجتمع الدولي لممارسة ضغوطاته لإيقاف الانتفاضة، هذا في الوقت الذي يصدر قراراته في اغتيال الكوادر الفلسطينية لتخويف المجاهدين، ويعتقل في كل يوم عشرات الفلسطينيين.. وتستمر الانتفاضة الشعبية في قراراتها التحريرية الجهادية، وتتأكد الوحدة الوطنية كل يوم بين كل الفصائل المجاهدة، بالرغم من كل التعقيدات التي تحيط بالساحة، على أساس شعار "وحدة العدو ووحدة الهدف"..

والعالم العربي لا يزال يتفرّج من دون أن يتخذ موقفاً قوياً ضاغطاً، أما أمريكا فإنها لا تزال تقف إلى جانب العدوّ لتشريع مجازره دولياً بحجة التحرك لإيقاف "العنف" – كما تعبّر – ليلتقط العدو أنفاسه، وليندفع الفلسطينيون إلى حافة اليأس، في الوقت الذي تحمّل فيه السلطة الفلسطينية مسؤولية "العنف"، ولا تحمّل الإسرائيليين مسؤولية الاحتلال والحصار والقصف وجرف الحقول وتدمير البيوت، وقتل النساء والشيوخ والأطفال في بيوتهم ومخيماتهم، بل ترى في ذلك دفاعاً عن النفس وحفظاً للأمن؟!

وإذا كانت أمريكا تطلق بعض التصريحات الخفيفة ضد بعض ممارسات إسرائيل، فإنها تطلق ذلك من باب النفاق السياسي لتحقيق بعض التوازن في سياستها العربية، ولكن بدون نتيجة.. أما أوروبا فلا حول لها ولا قوة، بل إنها تتحرك على هامش أمريكا من دون أن تسمح لها بالتأثير في القضية.. ويبقى الشعار الأمريكي – الإسرائيلي في دوامة: "لا مفاوضات سياسية مع العنف"، ويبقى الشعار الفلسطيني: "لا وقف للانتفاضة من دون تحقيق الأهداف".. وهكذا، تصمد الانتفاضة – الثورة في حركة التحرير وعطاء الشهادة، وتقف المقاومة الإسلامية في لبنان معها في خط المواجهة للعدو في حركة فعل وردّ فعل، ليبقى العنفوان في وجدان الأمة من أجل عودة الروح، لتستمر المعادلة الجهادية "يقتلون ويُقتلون" في خط الصراع، خلافاً للمعادلة السابقة، وهي معادلة الهزيمة في ذهنية الضحية التي تُقتل ولا تقتل.

إننا نقول للعالم العربي والإسلامي: إن المعركة الآن هي معركة المستقبل في امتداداته السياسية، أمام الاستكبار الصهيوني المتحالف مع الاستكبار الأمريكي في تنفيذ خطته في إسقاط الأمة تحت ضغط القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية.. إنها معركة الوجود وليست معركة التفاصيل.

الواقع في الجنوب: إسقاط للدعايةالصهيونية

وفي هذا الجو، يتحدث العدو أن إيران تقيم "شبكة إرهابية دولية في لبنان"، وأنها تملك قواعد صواريخ موجَّهة إلى كيانه، يقوم بالإشراف عليها عسكريون من الجيش الإيراني، إلى غير ذلك من الاتهامات الإسرائيلية والأمريكية لتأليب الرأي العام الدولي ضد إيران، ولتصوير المعركة في الجنوب أنها معركة بين إيران وسوريا من جهة وبين إسرائيل من جهة أخرى، لا بين المجاهدين في المقاومة الإسلامية وبين العدو، وذلك من أجل إثارة مجلس الأمن من جهة، وإرباك الساحة اللبنانية الداخلية من جهة أخرى.. ثم، إيجاد مناخ دولي للعدوان على إيران، كما حدث في الماضي من العدوان على المفاعل النووي العراقي..

إن إسرائيل وأمريكا تعلمان بأن إيران ليس لها جندي واحد في الجنوب، وليست لها أية قواعد عسكرية هناك، وأن المجاهدين وحدهم هم الذين يواجهون العدو، حتى أنهم لا يوافقون – بفعل عدم الحاجة – على قبول المتطوعين من العالم العربي والإسلامي، الأمر الذي سوف يُسقط هذه الدعاية الإسرائيلية.

الشعب العراقي يعيش المأساة:

وفي جانب آخر، لا بدّ أن نقف عند مأساة الشعب العراقي الذي شرّده نظامه وهجّره إلى شرق الأرض وغربها، في ظروف قاسية تحت تأثير المعاناة الإنسانية والإرباك السياسي، بالإضافة إلى اللعبة الدولية، ولا سيما الأمريكية – البريطانية، التي تتحرك بين يوم وآخر باسم حماية الشيعة في الجنوب، والشيعة براء من ذلك كله، لأنهم مع وحدة إخوانهم في العراق، لأنهم لا يفكرون طائفياً ولا مذهبياً، بل يرون أن المشكلة هي مشكلة العراق كله لا الشيعة وحدهم..

وقد تناقلت الأخبار إضراب اللاجئين العراقيين في مخيم "رفحا" في السعودية عن الطعام، نظراً للظروف الصعبة التي يواجهونها هناك، وإهمال الأمم المتحدة لأوضاعهم، بحيث لم تنقلهم إلى مواقع أخرى أكثر ملاءمة، ولم توفر لهم ظروف العيش الكريم.. إننا نطالب الدول المعنية بإنقاذ هؤلاء المشرّدين، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق، من الواقع السيئ الذي يعيشون فيه، كما نطالب بإنقاذ العراق كله من اللعبة الدولية الظالمة والمحلية الطاغية.

لبنان.. صناعة القوة الجهادية

ويبقى الجنوب اللبناني ساحة متحركة في خط المواجهة، ليصنع المجاهدون فيه واقعاً جديداً لتغيير قواعد اللعبة التي حاول العدو أن يفرضها على الساحة، وليؤكدوا وحدة المعركة في المسار السوري واللبناني، لأن القضية واحدة، ولأن التحرير إما أن يكون كاملاً أو لا يكون، وليسقطوا الوهم السياسي الذي يتوهمه بعض السياسيين بأن إيقاف المقاومة سوف ينعش الاقتصاد بفعل المساعدات الدولية – ولا سيما الأمريكية والأوروبية – وذلك بنزع سلاح المقاومة وإدخال الجيش إلى الجنوب، لأن الحقيقة السياسية هي أنه لا اقتصاد للمنطقة – ومنها لبنان – إلا بالتسوية على هامش الأمن الإسرائيلي، لأن القضية هي أن أمريكا الضاغطة على حركة المساعدات الدولية – حتى العربية – لا تنظر إلى هذا البلد أو ذاك، بل تنظر إلى المنطقة كلها في خطة واحدة، ولذلك فإنها لم تحقق أيّ إنعاش للاقتصاد الأردني بعد صلحه مع العدو، بالرغم من كل الوعود الكبيرة في ذلك..

إن قيمة لبنان أنه أصبح الساحة العربية الوحيدة لصناعة القوة الجهادية التي تمنح الواقع العربي كله – ومعه الواقع الإسلامي – القوة السياسية في ساحة الصراع مع العدو، وتحقق التوازن في لعبة التجاذب العسكري.. إن المرحلة الآن هي مَن هو الأقوى في الموقف والصمود، وقد أثبت المجاهدون في لبنان وفلسطين أننا الأقوى، بالرغم من قوة الآلة العسكرية للعدو.

إهمال مستمر للوضع في الجنوب

وإذا كنا نتحدث عن الجنوب المقاوم، فإن الحديث لا بدّ أن ينطلق عن الجنوب الظامئ والجائع والمدمَّر والمُهمَل، بفعل الإهمال المستمر من قِبَل الدولة، حتى على مستوى معالجة الضرورات الحياتية، هذا بالإضافة إلى التعقيدات الداخلية التي يحركها اللاعبون في السياسة الداخلية في إثقال الواقع بمشاكل جديدة، وإثارة أكثر من عصبية ضيّقة في ساحته.

أضف إلى ذلك أن المجاهدين من الأسرى المحررين، الذين أضاع العدو أعمارهم في سجونه، لا يزالون يعانون من إهمال الدولة، وقلق المستقبل، بالرغم من كل الوعود المعسولة، ومن الأموال الكثيرة التي تُعطى للمتقاعدين الذين لم يقاتلوا ولم يسجنوا، وللهدر الذي يمارسه النافذون الذين يهدرون المال العام ويحبسونه عن أهله.

الحاجة إلى دولة الشعب..

وأخيراً، إننا نريد للسجال المستمر على المستوى الداخلي، حول حقوق المناطق أو الطوائف أو العمّال أو الموظفين، أن يتحوّل إلى المجرى الطبيعي لبحث هذه القضايا داخل الغرف المغلقة، من خلال جلسة حوار مفتوحة بين المعارضة والموالاة، وبين الحكومة والمعارضين، لنخلص إلى نتيجة حاسمة فيما هي الأولويات في الوضع الاقتصادي والسياسي، بعيداً عن التراشق من بعيد، لأن ذلك يضرّ بالمصلحة العامة للبلد، ويزيد الأمور سوءاً.. ولا بد من الالتفات إلى أن عودة لعبة المحاصصة في الدولة سوف تعطّل مرافق الدولة، ولا سيما الجامعة اللبنانية..

إننا بحاجة إلى دولة تخطط للمستقبل اقتصادياً وسياسياً، وتتحرك ضمن الخطة التي تراعي حاجات البلد، فلا تواجه الواقع بالحالات الطارئة، ولا تسقط تحت تأثير مراعاة اللاعبين الكبار في حصصهم الطائفية ومواقعهم السياسية.. ونحن بحاجة إلى مجلس نيابي يمنح الثقة أو يحجبها على أساس خطة علمية مدروسة، لا على أساس انفعالات أو خلفيات سياسية معقّدة، وأن لا تكون معارضته خطابية وثقته إيحائية.. كما نحن بحاجة إلى شعب ينزع الثقة ممن لا يحترمون وعودهم الانتخابية، ولا يدرسون حاجاته على أساس مواقعه، بل على أساس مواقعهم الخاصة.. إننا بحاجة إلى دولة الشعب، فقد قتلتنا دولة المزارع.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية