ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
احترام إنسانية الإنسان
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه}. في القرآن الكريم نوعان من النداء، فهناك نوع ينادي به الله سبحانه الناس بعنوان "يا أيها الناس"، وهناك نداء بعنوان "يا أيها الذين آمنوا"، وفي هذا النداء الثاني، يريد الله تعالى أن يبيّن للإنسان أنه يخاطبه من خلال إيمانه، ليعرف أن ما يطلبه منه في هذا النداء هو من خصوصيات الإيمان التي لا بد للمؤمن أن يلتزم بها، بحيث إنه لو لم يلتزم بها لخرج عن خط الإيمان، لأن الإيمان ليس مجرد كلمة ولكنه التزامٌ وموقفٌ وعملٌ.
وعلى ضوء هذا، فإن هذه الآية تخاطب المؤمنين من موقع إيمانهم فيما تنهاهم عنه، وقد ركزت على نقاط ثلاث تتصل بعلاقة المجتمع ببعضه البعض، لأن الله تعالى يريد للمجتمع بكل أفراده أن يركّز علاقاته على أساس احترام الإنسان للإنسان الآخر؛ إذا كنت تحترم إنسانيتك وتريد من الآخرين أن يحترموها، فعليك أن تحترم إنسانية الآخر في كل المواقع في الحياة، لأن كل إنسان يريد أن يحمي نفسه من الآخر، وهذا أمر طبيعي، فإذا كنت تطلب من الناس الذين تعيش معهم أن لا يعتدوا عليك، فعليك أن لا تعتدي أنت عليهم أيضاً، لأنه لا بد أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك، وبهذا يمكن للمجتمع أن يجد توازنه وأمنه، لأن المجتمع إذا لم يحرز في أفراده عنصر الاحترام الاجتماعي والإنساني، فسوف يتحوّل إلى ساحة للحقد والبغضاء والتنازع، وبذلك يختل نظام المجتمع.
اجتناب الظن في الانطباعات والأحكام
تعالوا لنرى ما هي العناوين التي طرحها الله تعالى في هذه الآية الكريمة، فيما أراد للناس أن ينطلقوا به في العلاقة مع الإنسان الآخر: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم}. هذه الآية تعالج الانطباعات التي يحملها الإنسان تجاه الإنسان الآخر، هل هو طيب أم خبيث، خيّر أم شرير؟! ربما تواجه في تجربتك مع الإنسان الآخر بعض المظاهر السلبية بشكل جزئي، فتحمل انطباعاً عنه نتيجة هذه الجزئية السلبية أو هذا المظهر الطارئ، أنه خبيث أو فاسق أو عميل وما إلى ذلك من الكلمات التي نتداولها. الله تعالى يريد لك عندما تحمل انطباعاً عن شخص وتحكم عليه بحكم سلبي، في نفسك أو في المجتمع، أن تملك كل عناصر الحكم والحيثيات، لأن مسألة أن تحكم على شخص حكماً عادلاً، يعني أنه لا بدّ أن تجمّع كل الحيثيات والأدلة التي تدعم هذا الحكم، لأن الحكم هو تدخّل في كرامة إنسان وفي حياته..
فالله تعالى يريد لنا أن نجتنب كثيراً من الظن، فيما نحمله من انطباعات وأحكام، لأن بعض الظن إثم، لكي نحكم على أساس اليقين عندما تتجمّع كل عناصر الحكم، والإمام عليّ(ع) يقول: "ضع أمر أخيك على أحسنه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملا"، وهذا هو الذي يمثّل القاعدة الإنسانية الحضارية الموجودة في العالم: "المتهم بريء حتى تثبت إدانته".
وبذلك يشعر الإنسان بالأمن والطمأنينة، عندما يلتزم المجتمع بهذه القاعدة، فلا يحكم على إنسان إلا بعد أن تتوفّر كل حيثيات العدالة في الحكم، لأن المجتمع عند ذلك مجتمع مؤمن لا يحمّل ذمته، وبذلك يكون المجتمع عادلاً في تحقيق انطباعاته وحكمه على الناس.. أما إذا شعر كل واحد منا أن الآخرين يمكن أن يحكموا عليه على أساس الظن والتهمة، من دون أن تقدّم دفاعك، فإن الظلم سوف يتفشى في المجتمع. والله تعالى في آية ثانية يقول: {ولا تقفُ – تتّبع – ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}، فكّر عند ذلك بالموقف بين يدي الله، عندما يسألك عن حكمك على فلان على أيّ أساس كان وما هو دليلك؟!
وما أقوله لنفسي ولكم: كل شيء تجد فيه الدفاع والعذر أمام الله تعالى فتكلّم به، أما إذا كنت لا تستطيع أن تقدّم جوابك ودفاعك فوفّر على نفسك أمام الله تعالى هذا الموقف، وهذه هي علامة الإنسان المؤمن الذي لا يقدّم رِجلاً ولا يؤخر أخرى حتى يعلم أن في ذلك لله رضى.
اتقوا الله في التنصت
والعنوان الثاني: {ولا تجسسوا}، والتجسس هو أن تحاول أن تنفذ إلى خفايا علاقات الإنسان وأوضاعه وحياته، مما يخفيه عن الناس. وكل واحد منا عنده منطقة خاصة لا يحب أن يتطلع عليها أحد، في أيّ جانب من الجوانب. فالله تعالى يريد لك أن تحترم حرية الآخر في إخفاء أسراره وأوضاعه الخاصة في البيت ورسائله وعلاقاته ومصالحه وحاجاته، كما تريد للآخرين أن يحترموا المنطقة الخفية التي تخفيها أنت عن الناس.. وهذه المسألة تحتاج إلى أن تعيش إنسانيتك، فلا تكون وحشاً، بل إنساناً يحترم إنسانية الآخر.
وعلى هذا الأساس، فالأصل في التجسس هو الحرمة، ولكن قد تفرض المصلحة أن تتجسس لحفظ الأمة عندما نواجه العدو الذي يتجسس علينا، كما عشنا هذه الحالة ونعيشها مع إسرائيل وأمريكا وغيرهما، وذلك لكي نحمي الأمة مما يخططون لها، وهذه المسألة تحتاج إلى شروط دقيقة، وقد تطوّر التجسس حتى وصل إلى مستوى التنصت، فيتنصتون على مكالمات الإنسان ويسجّلونها لكي يبتزوه بها أو يهددوه، قد تفرض بعض الحالات أن يتنصت الإنسان لكي يحمي واقعه مما يكيد به الأعداء، ولكن هذا يحتاج إلى تقوى، والمشكلة في كثير من الناس أنهم لا يعيشون التقوى، حتى على مستوى الأجهزة الرسمية والحزبية والشخصية..
سلبيات الغيبة
العنوان الثالث: {ولا يغتب بعضكم بعضا}، والغيبة في هذه الأيام عملنا وشغلنا، من مشايخ وسياسيين وما إلى ذلك، والغيبة طعام كلاب أهل النار، والغيبة أشدّ من الزنى، لأن الإنسان إذا زنى واستغفر الله فقد يغفرها الله، أما الغيبة فإن الله تعالى لا يغفرها حتى يغفرها صاحبها. وفي الغيبة ثلاثة عناصر سلبية في المجتمع: أولاً أنها تُسقط كرامة الإنسان الذي تغتابه، ثانياً كثرة الغيبة تعطي انطباعاً سيئاً عن المجتمع المسلم بأنه مجتمع فاسد، وثالثاً أنها توجد العداوة مع الإنسان الذي تغتابه والذي تشهّر به وتسقط كرامته.
وقد أعطى الله تعالى تعريفاً للغيبة: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه}، والمؤمن أخوك وكرامة المؤمن كلحمه، والغائب كالميت لأنه لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ويذكر العلماء بعض المستثنيات للغيبة كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو النصيحة، ولكن المبدأ أن الغيبة حرام.
هذا نداء الله تعالى إلينا من موقع إيماننا، وهذه العناصر هي عناصر السلامة الاجتماعية، فتعالوا إلى أخلاقية الإسلام ونظامه، لنعيش في الدنيا بسلام، ولننطلق إلى رحاب الله وجنته عندما ينطلق النداء في اليوم الآخر: {ادخلوها بسلام آمنين}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا مسؤولياتكم في احترام بعضكم البعض، وحماية بعضكم البعسض، لا سيما في مجتمع المؤمنين، لأن الله تعالى أراد للمؤمنين أن يكونوا كالجسد الواحد، ومن حق المؤمن على المؤمن أن لا يظلمه أو يغشه أو يخدعه أو يفشي سره، وأن لا يضره في أيّ شأن من شؤون حياته الخاصة أو العامة.. ولا بدّ لنا من أن نواجه كل قضايانا التي تمس المسلمين في العالم كله، وتواجه المستضعفين الذين ترتبط مصالحهم بمصالح المسلمين، والانتفاضة الفلسطينية هي همنا الكبير، لأنها تمثل الموقع الذي يواجه الاستكبار العالمي من جهة، والغطرسة الصهيونية من جهة أخرى، ويترك تأثيره على أكثر من موقع من مواقعنا السياسية والاقتصادية والأمنية.
القضية الفلسطينية في دائرة الاستهداف
لا تزال الانتفاضة مستمرة بالرغم من المناورات الإسرائيلية في خداع الرأي العام الدولي، بإعلانها الالتزام بوقف إطلاق النار، في الوقت الذي تواصل فيه حصارها واعتداءاتها على الشعب الفلسطيني.. أما السلطة الفلسطينية، فإنها تعيش مأزقاً صعباً بين الضغط الدولي والعربي الذي يحمّلها المسؤولية في امتداد العنف - كما يعبّرون - ويطلب منها مواجهة الشعب الفلسطيني المتمرد على الاستسلام، وبين الضغط الشعبي الذي يرى في استمرار الانتفاضة السبيل الوحيد للانتصار والحصول على التحرير، لأنه يعلم أنَّ المفاوضات القادمة لن تمنحه أيّ حل لمشكلة الاحتلال، لأنَّ أمريكا التي تمسك بيدها أوراق اللعبة تخضع لكل الشروط الإسرائيلية، وتعمل على تحريك المداخلات الأمنية والسياسية في مصلحة إسرائيل، ابتداءً من مشروع "ميتشل" ومشروع "تينيت" مدير المخابرات الأمريكية، وانتهاء بالزيارة المقبلة لوزير الخارجية الأمريكي الذي يأتي بناءً على طلبٍ ملحٍّ وعاجل من إسرائيل، لممارسة ضغوط إضافية على "عرفات" من أجل الالتزام بخطة "تينيت" لوقف إطلاق النار الذي يخرقه الإسرائيليون يومياً، ويتابعون فرض حصار محكم على الأراضي الفلسطينية، حتى أنَّ الرئيس الأمريكي بوش حمّل الرئيس الفلسطيني – ضمناً – في اتصاله الهاتفي به، مسؤولية استمرار إطلاق النار.
إنَّ المشكلة - في هذه المرحلة التي تجتازها القضية الفلسطينية – هي أنَّ الجميع في الساحة الدولية – بما في ذلك أوروبا وروسيا – يتحركون على هامش الخطة الأمريكية التي تخضع في سياستها في المنطقة، ولا سيما في فلسطين، للضغط اليهودي في أمريكا والكيان الصهيوني، حتى أنَّ أمريكا فقدت استقلالها السياسي أمام سيطرة اليهود.. هذا كله بالإضافة إلى العجز الذاتي المتمثل في كل بلد عربي بذاته، ما يعني أنه لا يمكن أن يتحوّل في مجموعه إلى قوة فعل عربية تؤثر في ميزان القوى الذي يحكم – حالياً – الصراع العربي الإسرائيلي، الأمر الذي يؤدي إلى غلبة شبه مطلقة لإسرائيل، حسب المعطيات الحالية.. فإذا لم يتغيّر هذا الواقع العربي من دائرة العجز إلى دائرة القوة، فسوف يفرض السلام الإسرائيلي – بأبعاده السياسية والأمنية والاقتصادية – نفسه على المنطقة كلها.
إنَّ المطلوب الآن هو أن ترفض السلطة الفلسطينية – بقوة – أية ورقة أو مشروع اتفاق لتنازلات جديدة، لأنه لا بد أن تبقى القضية الفلسطينية حيّة قوية، فلا نسمح بتفتيتها وإسقاط عدالتها وتشويهها، لأنها قضية شعب في حقوقه في وطنه، وقضية أمة في مستقبلها الكبير.. لقد اغتصبت إسرائيل فلسطين الأرض منذ الـ48 وانتزعت الاعتراف الدولي بها، ما عدا اعتراف الشعب الفلسطيني، والذي تشعر أنَّه _ وحده _ الذي يمنحها الشرعية، فعلينا أن لا نسمح باغتصاب القرار الفلسطيني لتستكمل "استقلالها الوطني" في اغتصابها للأرض، لأنها تتحدث أنَّ المعركة الآن تمثل امتداداً لمعركة الاستقلال في الـ48، باعتباره لا يزال ناقصاً في معناه؟!
ليس هناك من يملك قرار التنازل عن القضية الفلسطينية في بعدها الوطني والعربي والإسلامي، فإذا لم تستطع القيادات الحالية أن تحفظ الحقوق الشرعية للشعب وللأمة، فليترك الأمر للأجيال القادمة لتقرر قرارها الحرّ في المستقبل، إذا ضاق الحاضر بالنصر – ولن يضيق بالنصر ما دامت الإرادة الحرّة في خط الانتفاضة – فإن المستقبل سوف يتسع للنصر، وستبقى القضية شعلة نار ولو تحت الرماد، وسوف تشتعل الأرض مجدداً بعد حين، لأنَّ المشكلة ليست الدولة – بأية صيغة كانت _ بل المشكلة هي القضية، والمطلوب هو أن تبقى القضية في وجدان الشعب والأمة، في حركية صناعة تاريخ الحرية والاستقلال.
لبنان: دولة الأشخاص والطوائف
أمّا في الداخل اللبناني، فلا نزال نواجه الانحطاط في مستوى الجدل السياسي الذي يتحرك في دائرة المحاور الخفية، والخلافات الشخصية، وتقاسم الحصص في المراكز والوظائف، بحيث تتجمد المرافق الحيوية في الدولة، ويتوقف ملء الفراغات في تعيين الموظفين من أجل تحديد هذا الرمز الطائفي أو ذاك، لا من أجل الخلاف على الكفاءة بل على طبيعة الحصة.. ثم نواجه الملفات التي تُفتح بين وقت وآخر، لا لتعالج المشاكل العالقة فيها، بل لتسجيل نقطة هنا أو هناك، أو لتعقّد موقفاً ضد هذا أو ذاك، ثم يُغلق الملف في نطاق التسويات..
ونحن نواجه الآن ملف التنصت الذي يخترق الحياة الخاصة للناس، لا للحفاظ على الأمن العام للدولة أو للناس، ولكن للاطلاع على أسرارهم انطلاقاً من تعقيدات شخصية أو حزبية أو طائفية، في عملية تسجيلية للابتزاز أو للتهديد أو ما إلى ذلك، ولم تقتصر المسألة على أجهزة الدولة، بل امتدت إلى بعض المواقع الحزبية أو الشخصية.. وهناك ملف الاتصالات الهاتفية التي تمثل الاعتداء على المال العام من قبل أشخاص أو جهات لا يملك أحد محاسبتهم، لأنهم يلجأون إلى ركن وثيق، وهناك الإثراء غير المشروع الذي يتمظهر بأكثر من موقع من مواقع الكبار الذين لا يستطيع أحد سؤالهم، لأنه تقف أمامهم الخطوط الحمراء، هذا إلى جانب الفساد الإداري والسياسي.. وينفتح الحديث عن الهدر في أكثر من مرفق من مرافق الدولة من دون رقيب أو حسيب، ويحدثونك - بعد ذلك - عن العجز الذي قد يبررونه بالحرب، ولكنهم لا يحدثونك عن السرقات الكبرى التي يهدرها الكبار والصغار في المحميات الطائفية والحزبية والإقليمية.. ويصرخ الشعب في المناطق المحرومة، ويسأل الجنوب عن وعود المساعدات الداخلية والخارجية وعن مشاريع التنمية الحياتية بعد التحرير، ولا من مجيب.. ويسأل البقاع – بكل مواقعه – عن الإنماء الزراعي والصناعي وعن الخدمات الحيوية الموعودة، ولا من مجيب، ولكنهم يعملون على التشهير به من خلال الزراعة المحرّمة، من دون أن يسهّلوا له الزراعة المحلّلة!؟
إننا أمام هذه الصورة نسأل: هل نفهم من ذلك أننا نفقد معنى الدولة في البلد، لأننا لا نجد دولة يعمل المسؤولون على تقويتها وتنميتها، بل نجد أشخاصاً يتحركون في مواقعهم كحركة الأشباح المخيفة لإسقاط الدولة، ليكون الشخص هو الدولة؟؟ ثم يحدثونك عن الحل للمشكلة الاقتصادية، ولكنها تصطدم بكل العصيّ الشخصانية والطائفية والحزبية التي توضع في دواليب الحل، فهل تبقى هناك فرصة للحل؟ سؤال يبحث عن جواب.. ولا جواب. |