ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
شخصية المؤمن:
لا نزال في أجواء رسول الله(ص) والإمام الصادق(ع)، ونريد في هذه الأجواء أن نقف مع بعض كلمات رسول الله(ص) وبعض كلمات الإمام جعفر الصادق(ع)، لنحدد من خلال ذلك شخصية المؤمن، وشخصية المسلم، لأن الناس قد يفهمون مثل هذه الكلمات فهماً سطحياً يرتبط بالكلمة ولا يرتبط بعمق المعنى، فقد يكتفون بصفة المؤمن أن يشهد الشهادتين وأن يقوم ببعض العبادات، ثم يأخذ حريته في الجانب الأخلاقي والاجتماعي في حياته، فلا يقف عند حدود الله تعالى في ذلك كله، وبذلك تحجّم معنى هذه الكلمات. فقد ترى إنساناً يطلق عليه الناس صفة المؤمن لأنه يؤدي الصلوات الخمس ونوافلها ويذهب إلى الحج والعمرة ويصوم الشهر الواجب والمستحب، ولكنه إنسان سيىء الخلق ولا أمانة له ولا صدق له، ومع ذلك يقول الناس عنه إنه مؤمن، فتعالوا إلى هذه الكلمات النورانية من رسول الله (ص) ومن الأئمة من أهل البيت (ع):
عن أبي جعفر محمد الباقر (ع) قال: "قال رسول الله (ص): ألا أنبئكم بالمؤمن؟ من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم – بحيث لا يعرض للمؤمن منه أي سوء يتصل بكرامته وحياته في كل المجالات، فلا يخون الأمانة؛ أمانة العرض والمال والعمل وغير ذلك من الالتزامات التي للناس عليه – والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ومن يده – الذي إذا عاش مع المسلمين فإنه لا يمكن أن يحرّك لسانه أو يده بأي سوء لأي مسلم، فلا يغتابهم ويفتن بينهم أو يسبهم ويتهمهم أو يشهّر بهم، ولا يضرب مسلماً أو مسلمة أو يجرحه من دون حق، فمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، سواء كان ذلك في حياته العائلية أو الاجتماعية أو السياسية، فإنه ليس بمسلم – والمهاجر من هجر السيئات – المهاجر الذي يستحق موقع كرامة الله له فهو من يهجر السيئات إلى الحسنات، والانحراف إلى الاستقامةـ وترك ما حرّم الله".
خصال المؤمن:
ثم يحدّثنا رسول الله (ص) ما هو موقفنا من المؤمن وما هي ممارساتنا وتعاملنا معه: "المؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة "، يوجهه وجهة يكون فيها هلاكه أو فساده أو ضلاله ـ أو يوقعه في المشقة والعنت. وفي بعض الكلمات عن الإمام الصادق (ع) في صفة المؤمن يقول: "ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثلاث خصال: وقور عند الهزائز – لا يخرج عن وقاره في حالات التحديات الاجتماعية والسياسية، فيبقى صلباً وثابتاً – صبور عند البلاء – فلا يسقط أمامه – شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء – إذا كان لعدوّه حق عليه فإنه يعطيه حقه ولا يظلمه هذا الحق – ولا يتحامل للأصدقاء – لا يحاول أن يحابي الأصدقاء، فيعمل على أساس أن يعطيهم غير الحق أو يجاملهم في الحق – بدنه منه في تعب – هو في حالة جهاد للنفس بشكل دائم – والناس منه في راحة"، لأنه لا يأتي منه للناس إلا الخير.
ويقول(ع): "العلم خليل المؤمن – العلم هو صديق وفيّ لا يخذلك ولا يخونك – والحلم وزيره – إذا أردت من يساعدك ويعينك في علاقاتك فكن الحليم الذي لا يتشنج ويتعقّد – والصبر أمير جنوده – والمراد من جنوده على كل شؤونه وما يتصل به – والرفق أخوه – أن يؤاخي الرفق فيكون الرفيق في أسلوبه ومعاملاته وعلاقاته – واللين والده". وفي كلمات الإمام علي بن الحسين (ع) قال: "المؤمن يصمت ليسلم – على المؤمن أن يفكر في الكلمة قبل أن يتحدث بها لأنها قد تخلق مشكلة فيكون فيها هلاكه أو إرباك حياته – وينطق ليغنم - إذا كانت الكلمة تؤدي إلى ربح ديني أو مادي أو اجتماعي فإنه ينطق بها ليحصل على غنيمة هذه الكلمة وربحها – لا يحدّث أمانته الأصدقاء، ولا يكتم شهادته من الأعداء، ولا يعمل شيئاً من الخير رياءً، ولا يتركه حياءً، إن زُكيّ خاف مما يقولون – إذا مُدح لا ينتفخ بل يخاف لأنه يدرس نفسه، فلعل هذا المدح لا يتناسب مع ما يختزنه من خلائق – ويستغفر الله مما لا يعلمون، لا يغره قول من جهله ويخاف من إحصاء ما عمله".
سمته رضا الله
وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) قال: "من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن"، بأن يفرح من الحسنة لأنها قرّبته من الله، وإن فعل سيئة ساءته لأنها أبعدته عن الله. ويتحدث الإمام الصادق (ع) عن صفات الإنسان المسلم الشيعي فيقول: "شيعتنا أهل الهدى وأهل التقى وأهل الخير، وأهل الإيمان، وأهل الفتح والظفر – الذين يواجهون التحديات بالقوة التي يملكونها، فيواجهون تحديات الفكر بقوة الفكر – ليسوا الجبناء وليسوا الجهلة". وعن الإمام الصادق (ع): "إياك والسفلة، فإنما شيعة عليّ من عفّ بطنه وفرجه واشتدّ جهاده، وعمل لخالقه – لا للناس – ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر".
وعن الإمام الصادق (ع) في صفة المؤمن: "المؤمن من طاب مكسبه وحسنت خليقته – كان حسن الأخلاق مع أهله وكل من يعاشره – وصحّت سريرته – كانت نيّته نيّة صحيحة ليس فيها غش أو خبث للناس – وأنفق الفضل من ماله – لأن المؤمن يعيش روحية العطاء للآخرين – وأمسك الفضل من كلامه – مما لا يحتاج إليه في دين ولا دنيا ومما لا يتصل بمسؤولياته في كل الأمور – وكفى الناس شره، وأنصف الناس من نفسه".
هذه هي بعض صفات المؤمن الذي يريده الله ورسوله أن يكون الإنسان المؤمن الطيب الذي يعيش في المجتمع ليكون إنسان الخير والمحبة والسلام، لأن الإيمان هو الذي يرتفع بالإنسان ليشعر أن عليه أن يكون قريباً من الله في كل أعماله وأقواله وعلاقاته، ولن يكون الإنسان قريباً من الله تعالى إلا إذا كان قريباً من الناس في أخلاقه ومعاملاته، "الدين النصيحة"، "الدين المعاملة"، "الخلق كلهم عيال الله فأحبّهم إلى الله من نفع عياله وأدخل على قلب سروراً"، فمن أراد أن يحصل على القرب من الله فليأخذ بهذه الصفات فإنها تقوده إلى الجنة وترفعه إلى مواقع القرب من الله تعالى.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في كل ما يواجهكم من تحديات المستقبل، مما يكيد به الكائدون ويخطط له المستكبرون، ومما يراد فيه لكم أن تتحوّلوا إلى مزق متناثرة يحقد بعضكم على بعض ويعادي بعضكم بعضاً، لأن الآخرين من كل المستكبرين يخافون من قوّتكم ووحدتكم، لكنكم عندما تتوحدون في الموقف أمام الذين يريدون أن يهزّوا مواقفكم فإنهم لا يستطيعون أن يهزموكم ويصادروا سياستكم، ولكنكم عندما تتنازعون في القضايا الصغيرة، وتتعادون ويحمل بعضكم الحقد على البعض الآخر بالرغم من إيمانه وإسلامه، عندما تنشغلون بخلافاتكم الشخصية أو العائلية أو الحزبية أو الطائفية أو المذهبية، فإن الآخرين سوف يجدونكم لقمة سائغة يأكلونها.. ونحن في هذه المرحلة من الزمن وفي هذه المنطقة من العالم نعيش أمام كل هجمات الاستكبار العالمي والصهيوني علينا، القوم مستيقظون ونحن نيام حتى في النهار، قد تكون عيوننا مفتوحة ولكن قلوبنا عمياء، فتعالوا لنحدد الموقف من خلال قلوب واعية وعقل مفتوح، ولنرصد ماذا هناك؟
مستقبل الانتفاضة:
ما هو مستقبل الانتفاضة الفلسطينية في ظل ضغط اتفاق وقف إطلاق النار الذي فرضته ضغوط أمريكية وأوروبية وعربية هائلة على الفلسطينيين، لإنقاذ "شارون" من مأزقه الأمني الذي كاد يطيح بحكومته إزاء فشله في إنهاء الانتفاضة، فجاء هذا الاتفاق ليحقق شعاره "الأمن قبل المفاوضات"، في الوقت الذي لا يملك فيه الجانب الفلسطيني أيّ أفق لهذه المفاوضات، لأنه لا يملك أوراقاً كثيرة لتحقيق مطالبه في الحرية والاستقلال، بما يحقق مطالب الشعب الفلسطيني، لأن إسرائيل – ومعها أمريكا – تملك أكثر أوراق اللعبة التفاوضية السياسية في غياب الانتفاضة، لا سيما أن الدول الأوروبية – ومعها روسيا – لا تتحرك إلا على الهامش الأمريكي، أما الأمم المتحدة فلا تملك من أمرها شيئاً إلا بما تسمح به أمريكا..
وتبقى للدول العربية فرصة التخبّط السياسي في حيرة الموقف بين الضغط الأمريكي ومشاعر شعوبها، لأن هذه الدول فقدت وحدة الموقف العربي على صعيد دعم القضية الفلسطينية في مواجهة إسرائيل، من خلال العجز السياسي الذي فرضته على نفسها منذ أن أسقطت خيار الحرب مع العدو.
لقد أصبحنا نخشى على الانتفاضة المباركة من هذه الهجمة الدولية التي لا تمنح الفلسطينيين إلا القليل القليل من فرص حرية الحركة باتجاه التوازن مع إسرائيل، ولكننا - من خلال بدايات تنفيذ وقف إطلاق النار – نلاحظ أن الشعب الفلسطيني المجاهد لم يستسلم للقرار المفروض عليه الذي ربما وُلد ميتاً، فهو لا يزال يمارس بعض نشاطه الجهادي بطريقة وبأخرى، لا سيما أن العدو لا يزال يواصل عدوانه – بالرغم من إعلانه وقف إطلاق النار – حتى أن الرئيس الأمريكي وصف الاتفاق بأنه "هشّ"، مستبعداً العودة إلى محادثات "سلام" قبل وقف "العنف"، حسب تعبيره.
الانتفاضة ترسم المستقبل العربي:
إن المسألة المطروحة الآن هي كيف يحافظ الشعب الفلسطيني على وحدة موقفه مع هذا الاتفاق في قراره لمواصلة انتفاضته؟ إننا نؤمن بعبقرية هذا الشعب على إيجاد المخارج التي يملك فيها إبقاء وحدته في خط انتفاضته، من دون أيّ اصطدام بالسلطة الفلسطينية، إذا صحّ أنها ترزح تحت تأثير الضغوط الدولية والعربية، ونعتقد أن من واجب الدول العربية الانسجام مع إرادة شعوبها في الوقوف مع فلسطين المتحركة في خط التحرير في درب الانتفاضة، بالمزيد من الدعم السياسي والأمني والاقتصادي بكل الوسائل الممكنة، لأن الموقف هو موقف المستقبل العربي كله أمام التحديات الاستكبارية الكبرى، فإذا لم يستطع العرب أن يصلوا إلى مستوى الوحدة العربية في الواقع فليحافظوا على هذه الوحدة في الموقف.
ومن جانب آخر، لا بدّ للدول الإسلامية أن تتحمّل مسؤولية الموقف، لتواجه هذا الضغط الدولي على الفلسطينيين بضغط قوي على مصالح هذه الدول، لأن ذلك – وحده – هو الذي يمثل معنى العنفوان الإسلامي السياسي الذي تمثّله "منظمة المؤتمر الإسلامي" في عنوانها الكبير، إذا أرادت أن تبتعد عن موقع الواجهة الإسلامية للسياسة الأمريكية.
الجمهورية الإسلامية نموذج إسلامي حضاري:
وفي هذا الجو، فإن مجلس النواب الأمريكي قد يتبنى مشروع قرار تمديد العقوبات الأمريكية على إيران – ومعها ليبيا – لمدة خمس سنوات، تحت تأثير اللوبي الصهيوني في أمريكا، ما يوحي بأن السياسة الأمريكية – ومعها الاقتصاد الأمريكي – خاضع للتخطيط اليهودي في علاقات أمريكا بالعالم الخارجي، وذلك من أجل الضغط على إيران لتغيير سياستها الرافضة للهيمنة الأمريكية عليها وعلى شعوب المنطقة، والرافضة للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وجزء من لبنان والجولان، والداعمة للمقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين..
ولكننا نعتقد أن الجمهورية الإسلامية سوف تصمد أمام هذا الضغط الاقتصادي في المستقبل كما صمدت في الماضي، وأثبتت أنها قادرة على بناء اقتصادها بقوة، بالرغم من الحصار الأمريكي الاقتصادي، لتعطي النموذج الحيّ للشعوب المستضعفة بقدرتها على الثبات أمام كل الضغوط السياسية والاقتصادية، بالاعتماد على مقدّراتها الخاصة وعلى الفرص المتحركة للنفاذ إلى الثغرات الدولية في الصراع الاقتصادي الدولي.
وإننا – بهذه المناسبة – ندعو الشعب الإيراني إلى المزيد من الوحدة والبقاء في خط المواجهة للاستكبار الأمريكي مع قيادته الرشيدة، لا سيما بعد نجاحه في إعطاء المثل الصارخ لكل العالم بأن النظام الإسلامي قادر على الانفتاح على حركة التغيير في توفير الحريات العامة، وتأكيد الإرادة الشعبية في خط الوعي من دون التنازل عن القاعدة الإسلامية للدولة.. إننا نرجو أن يتضافر الجميع على بناء الدولة الحديثة على أساس دعوة الإصلاح الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي، لأن مسؤولية إيران الإسلام هي في تقديم النموذج الإسلامي الحضاري للدولة الحديثة القائمة على الالتزام في نطاق الحريات المسؤولة.
لبنان: لدراسة الأولويات
ويبقى لنا – في لبنان – أن ندعو الدولة إلى الارتفاع إلى مستوى حاجات الشعب، في موازنة مالية تلحظ الأولويات في قضايا الناس، لا سيما المناطق المحرومة، وفي حلّ مشكلة الخدمات الحيوية الضرورية كالماء والكهرباء، وفي معالجة الكارثة الاقتصادية بطريقة واقعية يتكامل فيها الجميع في تقديم مقترحاتهم للحلول الناجعة، لأن الواقع الآن ليس في تسجيل النقاط على الحكومة أو على المعارضة بل في تجميع كل النقاط الرابحة لمصلحة الشعب كله.
وتبقى وحدة اللبنانيين في مواجهة التحديات الإسرائيلية التي تخترق الأجواء اللبنانية كل يوم، وتهدد المدنيين على الحدود، وتطلق تهديداتها الأمنية في حربها النفسية السياسية بين وقت وآخر، ليبقى الجميع مع المقاومة الإسلامية التي استطاعت تحقيق الانتصار الكبير من خلال وحدة الشعب والدولة والمقاومة، لتحقق الانتصار المستقبلي في خط الوحدة والجهاد، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}، {ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}. |