يقول الله تعالى في سورة يوسف: {يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، ويقول الله تعالى في حديثه عن إبراهيم(ع) عندما بشّره الملائكة بإسماعيل(ع) بعد أن بلغ من الكبر عتياً: {أبشرتموني بعد أن مسّني الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}. ويحدثنا الله تعالى عن الطبيعة الإنسانية في مسألة اليأس والأمل فيقول سبحانه: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسّته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير}.
الانفتاح بالمعرفة على النظام الكوني
وهكذا تتوالى الآيات القرآنية الكريمة التي تريد للإنسان المسلم أن يعيش الوعي للنظام الكوني والإنساني، فينفتح بالمعرفة على الله تعالى الذي لا حدّ لقدرته، ليتحرك في نظام متقن متنوع، حيث لا يوجد شيء ثابت في الواقع الذي يتحرك فيه الناس ـ فيما عدا الظواهر الكونية الثابتة –، بل إن الأمور تتغيّر، فالحضارات تقوم ثم تسقط، والله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزّ من يشاء ويذل من يشاء.
مداولة الأيام بين الناس
وهكذا، نجد أن الله تعالى يقول لنا: أيها الناس عندما تعيشون حياتكم وتواجهون حالة من حالات الحياة، سواء كانت هذه الحالة حالة غنى أو فقر، حالة فرح أو حزن، حالة نجاح أو فشل، لا تستسلموا لهذه الحالة لتعيشوا الفرح كله عندما تأتيكم الحياة بما تشتهون، أو لتعيشوا الحزن كله عندما تواجهكم الحياة بما لا تحبون، لا تيأسوا عندما تُسدّ أمامكم السبل في مرحلة معينة، ولكن اعرفوا الحقيقة الكونية التي ركّزها الله تعالى في حياة الإنسان: {وتلك الأيام نداولها بين الناس}، فالله تعالى قد يفسح المجال لفئة من الناس أن تملك مفاصل الحياة لتكون لها السلطة والقوة، ولكن ليست هناك قوة خالدة. وربما يعيش فريق من الناس في الجوانب الخلفية من الحياة، فيعيشون الاضطهاد والضعف ولكن ليس هناك ضعف خالد، الأقوياء في التاريخ تحوّلوا إلى ضعفاء، والضعفاء في التاريخ تحوّلوا إلى أقوياء، لأن للحياة أسبابها، حيث لا يوجد شيء في الحياة بدون سبب أو خارج الظروف الموضوعية والقوانين التي أودعها الله تعالى في الكون، فإذا جاءت الأسباب وتوفرت الظروف كانت النتائج، سلبية عندما تفرض الأسباب السلب، أو إيجابية عندما تفرض الأسباب الإيجاب.
لقد عاش الكثيرون منا، ورافقوا تطورات العالم السياسي، فماذا رأينا؟ لقد رأينا دولاً كانت تملك العالم وأصبحت في الدرجة الرابعة أو الخامسة أو السادسة، وفي المقابل كانت بعض الدول تعيش في خلفيات الواقع فأصبحت تمثل الواجهة الكبرى في العالم، كيف كانت بريطانيا في الأربعينات؟ كانت "سيدة البحار" وأصبحت الآن دولة من الدرجة الرابعة أو الخامسة تتحرك على هامش أمريكا، وكانت أمريكا مستعمرة لبريطانيا فأين أصبحت أمريكا الآن؟ كان المسلمون يمسكون بقيادة الكثير من مواقع العالم، وأصبحوا الآن مزقاً متناثرة، {وتلك الأيام نداولها بين الناس}، فيوم لنا ويوم علينا، ويوم نُساء ويوم نُسر..
التغيير من الداخل
وعلى ضوء هذا، فإن علينا كمسلمين في العالم أن لا نسقط أمام الظروف السلبية التي تواجهنا، بل أن ندرس لماذا تحاصرنا هذه الظروف السلبية؟ قد نكون نحن السبب: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}، {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}. لذلك، علينا أن نعمل عندما ندرك أن هذه السلبيات السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية كانت ناتجة من نقاط الضعف المزروعة في عقولنا أو قلوبنا أو حياتنا، أن نعمل على تغييرها، وإذا غيّرنا فسوف يتغيّر الواقع من حولنا. وإن كانت الظروف ناتجة عن قوة الآخرين فعلينا أن ندرس نقاط ضعف الآخرين لنعمل على تحريكها من أجل إضعاف نقاط قوتهم، ولنحرك نقاط قوتنا في مواجهة نقاط ضعفهم، أن لا نتجمّد أمام الرخاء والقوة لنحسب أننا سوف نخلد فيها، وأن لا نتجمّد أمام الشدة والضعف لنحسب أننا نخلد فيها، بل إن الله تعالى يغيّر الأمور من حال إلى حال.
لا تيأسوا من روح الله
في حياتك الشخصية، عندما يواجهك العسر قد تسقط أمامه، قد تسقط في دينك فتعطيه لمن يعطيك شيئاً من يسرك، وقد تسقط في عزتك فتذل نفسك لمن يملك شيئاً مما يلبي حاجاتك أو ما أشبه ذلك، والله تعالى يقول لك: انفتح على ربك والله على كل شيء قدير، لا تيأسوا من روح الله، أتعلم ما معنى أن تيأس؟ معناه أنك تقول – والعياذ بالله – إن الله ليس بقادر، وهذا كفر، لأن الله تعالى هو كلي القدرة.. الله تعالى يقول لك: سيجعل لك من بعد عسر يسراً، ليكن أملك بالله كبيراً، وليكبّر أملك بالله ثقتك بنفسك، وثقتك بما أعطاك الله مما يمكن أن يحل مشكلتك، {إن مع العسر يسراً}.
ويقول الله تعالى للمتقين الذين يرفضون أن يذلوا أنفسهم أمام حاجاتهم، والذين يرفضون أن يتنازلوا عن دينهم لمن يريد أن يشتري منهم دينهم لحساب الكفر، أو الذين يرفضون أن يبيعوا أمتهم ووطنهم لمن يريدون أن يشتروا منهم مواقف تسيء إلى أمتهم ووطنهم: لماذا تحاصرون أنفسكم في دائرة اليأس، {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب}، {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً}..
لنعش الأمل بالله
لذلك، كن الإنسان الذي يعيش الأمل ويدرس طاقاته ليحركها في هذا الخط، كن الإنسان الذي يعيش الأمل بالنصر وبالنجاح ويحضّر للنصر وللنجاح أسبابه، إن الله تعالى وضع بين أيدينا أسباب كل ما نحتاجه في الحياة، ولكن بعضنا لا يأخذ بها ويعيش في الخيال. هذا ما ينبغي لنا أن نعيشه حتى لا نسقط ولا ننتحر، بعض الناس إذا ضاقت بهم الحياة فإنهم يحاولون الانتحار، لأنهم لا يعيشون رحابة قدرة الله في إيمانهم، وبعض الناس قد لا ينتحر جسدياً بل ينتحر سياسياً ودينياً واجتماعياً.
ليبقَ الأمل بالله كبيراً في نفوسكم، حتى وأنتم تعيشون المعصية، كالكثيرين من الناس الذين تفرض عليهم ظروفهم البيئية أو الذين يسيطر عليهم شيطانهم، أن يعصوا الله فينحرفون وييأسون، والله يقول لكل واحد من هؤلاء: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}، {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون} و{يحب التوّابين}، لا تيأس من رحمة الله، فإن الله يناديك: تعالَ إليّ، لماذا تهرب مني وتبتعد عني؟ {وإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني * فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}، وورد في الحديث عن عليّ(ع) في النهج: "لا تيأسن لشر هذه الأمة من روح الله لقوله تعالى: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.."
لذلك، عندما يواجهكم البلاء في أشد حاجاته ارفعوا رؤوسكم لله وافتحوا قلوبكم له، ليزرع الله في قلوبكم الأمل بكل خضرته، لا تقل إن الأمر قد فرغ منه، فالله تعالى يعطي ويمنع ويوسّع ويضيّق، انفتح على الله وتحمّل، لأن الله أعطاك قوة التحمّل حتى تستطيع أن تسير في الحياة من موقع القوة عندما تواجهك التحديات.. لنكن الأقوياء بالله، لنصنع القوة في كل مواقع الضعف، ولنصنع العزة في مواقع الذل، ولنكن مع الله دائماً، فإن الله تعالى عند حسن ظن عبده المؤمن، وبذلك لن يستطيع أحد أن يهوّل علينا أو يحبطنا ويضعفنا، لأن الذي ينطلق من خلال الله فلن يأتيه أيّ ضعف، ويحدثنا الله تعالى عن أصحاب النبي(ص) الذين جاهدوا معه وأخلصوا له واتّبعوه:{الذين قال لهم الناس – والناس في هذه الأيام يقولون لنا كما كانوا يقولون للمسلمين من قبل – إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً – لماذا نخاف ونسقط؟ نحن الأقوياء – وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل – والله هو القوي العزيز، والقوة والعز لله جميعاً – فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان – شيطان الجن والإنس، شيطان السياسة والأمن والاقتصاد – يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}، فوحده الذي يُخاف ويُتوكَّل عليه؛ لا يأس من روح الله، لا يأس من فرج الله، لا يأس من النصر، لا يأس من النجاح، {قل اعملوا – لا تتجمدوا وتتراجعوا، حرّكوا طاقاتكم في سبيل أهدافكم – فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله ووحّدوا مواقعكم حتى لا ينفذ الاستكبار إلى هذه المواقع من ثغرة هنا أو ثغرة هناك، من خلال موقف سلبي هنا وموقف سلبي هناك، ووحّدوا مواقفكم أمام القضايا المصيرية التي تمثل قوة المسلمين وعزتهم وكرامتهم، وثقوا بالله وتحركوا من خلال هذه الثقة بما أعطاكم الله من الطاقات التي أراد لكم أن تحركوها من أجل العزة والكرامة، لينطلق المسلمون في العالم ليكونوا القوة الرائدة، ولتعيش في اهتمامات كل واحد منا اهتمامات المسلمين في قضاياهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا ما نريد معرفته في اجتماعنا بين يدي الله، فماذا هناك؟
شارون..الوحشية الصهيونية
لقد انتهت الانتخابات الصهيونية بفوز المجرم الجزّار "شارون" وسقوط "باراك"، كتعبير عن وجهة المجتمع الصهيوني الذي يتميّز بسيطرة العنصرية على أفراده ضد العرب، ويخضع لحالة عصبية بفعل الاهتزاز الأمني الذي فرضته الانتفاضة الفلسطينية على كل مواقعه، ما جعله يلجأ إلى مواجهتها بالرمز الوحشي للعنف القاتل، في محاولة للضغط على الانتفاضة، من خلال ما يمثّله هذا المجرم من فزّاعة عسكرية..
ويلتقي ذلك كله بالإعلان الأمريكي بالالتزام المطلق بأمن إسرائيل، للإيحاء بأن أمريكا سوف تقف مع هذه الحكومة باسم المحافظة على أمن اليهود، بينما لا تتحدث عن أمن الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين الذي لا يزال العدو يخترقه من أكثر من جهة، لا سيّما في استمرار احتلاله لفلسطين والجولان وأجزاء من لبنان، بل تتحدث مع كل العرب عن ضبط النفس ومنح هذا الجزّار فرصة لتشكيل حكومته، من دون ممارسة أيّ ضغط عليه، لأن مسألة الضغط على إسرائيل ليست واردة في حساب أية إدارة أمريكية، لأن الذين يجب ممارسة الضغط عليهم بالنسبة إلى أمريكا هم العرب..
تماسك الموقف الفلسطيني
بالرغم من ذلك كله، فإننا ربحنا موقفاً فلسطينياً موحَّداً ومهماً يعبّر عن وعي كبير لدى أهلنا في فلسطين المحتلة منذ العام 1948، الذين لم يخيّبوا آمالنا في استجابتهم والتزامهم بالفتوى الشرعية بمقاطعة انتخابات العدو، فقد أظهروا تماسكاً قوياً في الموقف أكد للعالم أنهم ليسوا تبعاً للعدو وسياسته.. إننا نقدّر للفلسطينيين في مناطق ما تسمى الـ48 أنهم عاقبوا "باراك" على جريمته، وتوحّدوا مع أهلهم في الضفة الغربية وغزة، كما نقدّر للشعب الفلسطيني وحدته الوطنية السياسية الجهادية أمام هذه التطورات، فقد أظهروا أنهم أصحاب الأرض الحقيقيون الذين يتمتّعون بشخصية أصيلة..
الالتزام بالقضية الفلسطينية
ونريد للعالم العربي – والإسلامي معه – أن لا يصاب بالإحباط والاهتزاز، وأن لا تنطلي عليه الخديعة الأمريكية التي تتحرك لتجميد الانتفاضة، وإرجاع الأمور إلى الدوّامة السياسية في لعبة المفاوضات التي تقف فيها أمريكا إلى جانب إسرائيل بشكل وبآخر، تحت مظلة الوساطة "النزيهة" التي لم تثبت نزاهتها في أيّ عهد من العهود..
إن التحدي الكبير يواجه العرب أجمعين، لا سيما عندما هدّد ساسة "الليكود" بنسف السدّ العالي وغيره، ولذلك لا بدّ من أن يكون الموقف موحَّداً وصلباً في خط المواجهة، بعيداً عن الميوعة السياسية التي تمثّلت في القمة العربية السابقة، ولتنطلق القمة المقبلة بخطة ضاغطة على الواقع الجديد في فلسطين، بالوقوف مع الانتفاضة ومع الشعب الفلسطيني في قضيته الكبرى على أساس الاستراتيجية التحريرية، ودعم صموده بكل الوسائل، فالمعركة معركة الأمة كلها وليست معركة الشعب الفلسطيني وحده، لأن الخطر الصهيوني هو مشكلة الواقع كله.. إن القدس المسجد الأقصى، والقدس المدينة، والقدس فلسطين تقف في الواجهة في ساحة التحدي، وعلى الأمة العربية والإسلامية – على مستوى الحكومات والشعوب – أن تتحرك بانتفاضة سياسية في مستوى هذا التحدي.
التوحد لمواجهة الخطر الصهيوني
ولا بدّ لنا – أمام الزهو الصهيوني في هذه المرحلة – أن نواجه الموقف الجديد بدقة، لأن ذلك قد يدفع العدو إلى تكثيف اعتداءاته، ومحاولة عرض عضلاته العسكرية في لبنان لتخويف من يُراد تخويفه..
إن الموقف يفرض علينا – في لبنان – الاستنفار في أقصى الدرجات، بالتنسيق الكامل بين الجيش اللبناني الرسمي والمقاومة التي هي الجيش الشعبي الاحتياطي، لمواجهة كل التطورات والتهديدات، من أجل إلحاق الهزيمة بالعدو في المستقبل إذا قام بأيّ عدوان، على طريقة هزيمته في الماضي.. وعلى الشعب كله أن يقف صفاً واحداً في مواقع التحدي الكبير، وأن يتوحد المساران اللبناني والسوري ويتكاملا أمام الخطر المرتقب، في الوقت الذي نتصوّر فيه أن العدو يقوم بدعاية تهويلية استعراضية للضغط النفسي، لأنه لا يملك أيّ ظرف للعدوان الفعلي، ولكن لا بدّ من الحذر أمام هذا الجنون الوحشي الذي يتميّز به هذا المجنون الصهيوني "شارون"..
بالتكامل والتخطيط ننقذ البلد
إن هذا الواقع يفرض علينا أن نظل على استعداد لمواجهة الاحتلال واعتداءاته وأطماعه بما يشبه حالة الطوارئ، من دون أن نتناسى قضايانا الداخلية، لأننا نحتاج إلى ما يشبه حركة طوارئ أيضاً في المسألة الاقتصادية الداخلية.. إننا نناشد الجميع – ولا سيما المسؤولين – أن يتوحّدوا ويتكاملوا من أجل دراسة أفضل الحلول لمواجهة الكارثة الاقتصادية التي تتجه بالبلد إلى حافة الانهيار، من خلال المديونية التي تأكل فوائدها كل الناتج الوطني، ومن خلال الهدر والسرقة والفوضى الإدارية..
إن في البلد الكثير من الخبرات الاقتصادية، فعلى الجميع أن يتكاملوا ويقوموا بعملية استنفار شامل لدراسة خطة الإنقاذ قبل أن يسقط البلد، لتُقدِّم لنا الحلول الواقعية لحركة الصناعة والزراعة وحماية المصنوعات والمزروعات وحركة السوق، بعيداً عن السطحية والارتجال.
يقول الله تعالى في سورة يوسف: {يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، ويقول الله تعالى في حديثه عن إبراهيم(ع) عندما بشّره الملائكة بإسماعيل(ع) بعد أن بلغ من الكبر عتياً: {أبشرتموني بعد أن مسّني الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}. ويحدثنا الله تعالى عن الطبيعة الإنسانية في مسألة اليأس والأمل فيقول سبحانه: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسّته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير}.
الانفتاح بالمعرفة على النظام الكوني
وهكذا تتوالى الآيات القرآنية الكريمة التي تريد للإنسان المسلم أن يعيش الوعي للنظام الكوني والإنساني، فينفتح بالمعرفة على الله تعالى الذي لا حدّ لقدرته، ليتحرك في نظام متقن متنوع، حيث لا يوجد شيء ثابت في الواقع الذي يتحرك فيه الناس ـ فيما عدا الظواهر الكونية الثابتة –، بل إن الأمور تتغيّر، فالحضارات تقوم ثم تسقط، والله يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعزّ من يشاء ويذل من يشاء.
مداولة الأيام بين الناس
وهكذا، نجد أن الله تعالى يقول لنا: أيها الناس عندما تعيشون حياتكم وتواجهون حالة من حالات الحياة، سواء كانت هذه الحالة حالة غنى أو فقر، حالة فرح أو حزن، حالة نجاح أو فشل، لا تستسلموا لهذه الحالة لتعيشوا الفرح كله عندما تأتيكم الحياة بما تشتهون، أو لتعيشوا الحزن كله عندما تواجهكم الحياة بما لا تحبون، لا تيأسوا عندما تُسدّ أمامكم السبل في مرحلة معينة، ولكن اعرفوا الحقيقة الكونية التي ركّزها الله تعالى في حياة الإنسان: {وتلك الأيام نداولها بين الناس}، فالله تعالى قد يفسح المجال لفئة من الناس أن تملك مفاصل الحياة لتكون لها السلطة والقوة، ولكن ليست هناك قوة خالدة. وربما يعيش فريق من الناس في الجوانب الخلفية من الحياة، فيعيشون الاضطهاد والضعف ولكن ليس هناك ضعف خالد، الأقوياء في التاريخ تحوّلوا إلى ضعفاء، والضعفاء في التاريخ تحوّلوا إلى أقوياء، لأن للحياة أسبابها، حيث لا يوجد شيء في الحياة بدون سبب أو خارج الظروف الموضوعية والقوانين التي أودعها الله تعالى في الكون، فإذا جاءت الأسباب وتوفرت الظروف كانت النتائج، سلبية عندما تفرض الأسباب السلب، أو إيجابية عندما تفرض الأسباب الإيجاب.
لقد عاش الكثيرون منا، ورافقوا تطورات العالم السياسي، فماذا رأينا؟ لقد رأينا دولاً كانت تملك العالم وأصبحت في الدرجة الرابعة أو الخامسة أو السادسة، وفي المقابل كانت بعض الدول تعيش في خلفيات الواقع فأصبحت تمثل الواجهة الكبرى في العالم، كيف كانت بريطانيا في الأربعينات؟ كانت "سيدة البحار" وأصبحت الآن دولة من الدرجة الرابعة أو الخامسة تتحرك على هامش أمريكا، وكانت أمريكا مستعمرة لبريطانيا فأين أصبحت أمريكا الآن؟ كان المسلمون يمسكون بقيادة الكثير من مواقع العالم، وأصبحوا الآن مزقاً متناثرة، {وتلك الأيام نداولها بين الناس}، فيوم لنا ويوم علينا، ويوم نُساء ويوم نُسر..
التغيير من الداخل
وعلى ضوء هذا، فإن علينا كمسلمين في العالم أن لا نسقط أمام الظروف السلبية التي تواجهنا، بل أن ندرس لماذا تحاصرنا هذه الظروف السلبية؟ قد نكون نحن السبب: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}، {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}. لذلك، علينا أن نعمل عندما ندرك أن هذه السلبيات السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية كانت ناتجة من نقاط الضعف المزروعة في عقولنا أو قلوبنا أو حياتنا، أن نعمل على تغييرها، وإذا غيّرنا فسوف يتغيّر الواقع من حولنا. وإن كانت الظروف ناتجة عن قوة الآخرين فعلينا أن ندرس نقاط ضعف الآخرين لنعمل على تحريكها من أجل إضعاف نقاط قوتهم، ولنحرك نقاط قوتنا في مواجهة نقاط ضعفهم، أن لا نتجمّد أمام الرخاء والقوة لنحسب أننا سوف نخلد فيها، وأن لا نتجمّد أمام الشدة والضعف لنحسب أننا نخلد فيها، بل إن الله تعالى يغيّر الأمور من حال إلى حال.
لا تيأسوا من روح الله
في حياتك الشخصية، عندما يواجهك العسر قد تسقط أمامه، قد تسقط في دينك فتعطيه لمن يعطيك شيئاً من يسرك، وقد تسقط في عزتك فتذل نفسك لمن يملك شيئاً مما يلبي حاجاتك أو ما أشبه ذلك، والله تعالى يقول لك: انفتح على ربك والله على كل شيء قدير، لا تيأسوا من روح الله، أتعلم ما معنى أن تيأس؟ معناه أنك تقول – والعياذ بالله – إن الله ليس بقادر، وهذا كفر، لأن الله تعالى هو كلي القدرة.. الله تعالى يقول لك: سيجعل لك من بعد عسر يسراً، ليكن أملك بالله كبيراً، وليكبّر أملك بالله ثقتك بنفسك، وثقتك بما أعطاك الله مما يمكن أن يحل مشكلتك، {إن مع العسر يسراً}.
ويقول الله تعالى للمتقين الذين يرفضون أن يذلوا أنفسهم أمام حاجاتهم، والذين يرفضون أن يتنازلوا عن دينهم لمن يريد أن يشتري منهم دينهم لحساب الكفر، أو الذين يرفضون أن يبيعوا أمتهم ووطنهم لمن يريدون أن يشتروا منهم مواقف تسيء إلى أمتهم ووطنهم: لماذا تحاصرون أنفسكم في دائرة اليأس، {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب}، {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً}..
لنعش الأمل بالله
لذلك، كن الإنسان الذي يعيش الأمل ويدرس طاقاته ليحركها في هذا الخط، كن الإنسان الذي يعيش الأمل بالنصر وبالنجاح ويحضّر للنصر وللنجاح أسبابه، إن الله تعالى وضع بين أيدينا أسباب كل ما نحتاجه في الحياة، ولكن بعضنا لا يأخذ بها ويعيش في الخيال. هذا ما ينبغي لنا أن نعيشه حتى لا نسقط ولا ننتحر، بعض الناس إذا ضاقت بهم الحياة فإنهم يحاولون الانتحار، لأنهم لا يعيشون رحابة قدرة الله في إيمانهم، وبعض الناس قد لا ينتحر جسدياً بل ينتحر سياسياً ودينياً واجتماعياً.
ليبقَ الأمل بالله كبيراً في نفوسكم، حتى وأنتم تعيشون المعصية، كالكثيرين من الناس الذين تفرض عليهم ظروفهم البيئية أو الذين يسيطر عليهم شيطانهم، أن يعصوا الله فينحرفون وييأسون، والله يقول لكل واحد من هؤلاء: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}، {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون} و{يحب التوّابين}، لا تيأس من رحمة الله، فإن الله يناديك: تعالَ إليّ، لماذا تهرب مني وتبتعد عني؟ {وإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني * فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}، وورد في الحديث عن عليّ(ع) في النهج: "لا تيأسن لشر هذه الأمة من روح الله لقوله تعالى: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.."
لذلك، عندما يواجهكم البلاء في أشد حاجاته ارفعوا رؤوسكم لله وافتحوا قلوبكم له، ليزرع الله في قلوبكم الأمل بكل خضرته، لا تقل إن الأمر قد فرغ منه، فالله تعالى يعطي ويمنع ويوسّع ويضيّق، انفتح على الله وتحمّل، لأن الله أعطاك قوة التحمّل حتى تستطيع أن تسير في الحياة من موقع القوة عندما تواجهك التحديات.. لنكن الأقوياء بالله، لنصنع القوة في كل مواقع الضعف، ولنصنع العزة في مواقع الذل، ولنكن مع الله دائماً، فإن الله تعالى عند حسن ظن عبده المؤمن، وبذلك لن يستطيع أحد أن يهوّل علينا أو يحبطنا ويضعفنا، لأن الذي ينطلق من خلال الله فلن يأتيه أيّ ضعف، ويحدثنا الله تعالى عن أصحاب النبي(ص) الذين جاهدوا معه وأخلصوا له واتّبعوه:{الذين قال لهم الناس – والناس في هذه الأيام يقولون لنا كما كانوا يقولون للمسلمين من قبل – إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً – لماذا نخاف ونسقط؟ نحن الأقوياء – وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل – والله هو القوي العزيز، والقوة والعز لله جميعاً – فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان – شيطان الجن والإنس، شيطان السياسة والأمن والاقتصاد – يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين}، فوحده الذي يُخاف ويُتوكَّل عليه؛ لا يأس من روح الله، لا يأس من فرج الله، لا يأس من النصر، لا يأس من النجاح، {قل اعملوا – لا تتجمدوا وتتراجعوا، حرّكوا طاقاتكم في سبيل أهدافكم – فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله ووحّدوا مواقعكم حتى لا ينفذ الاستكبار إلى هذه المواقع من ثغرة هنا أو ثغرة هناك، من خلال موقف سلبي هنا وموقف سلبي هناك، ووحّدوا مواقفكم أمام القضايا المصيرية التي تمثل قوة المسلمين وعزتهم وكرامتهم، وثقوا بالله وتحركوا من خلال هذه الثقة بما أعطاكم الله من الطاقات التي أراد لكم أن تحركوها من أجل العزة والكرامة، لينطلق المسلمون في العالم ليكونوا القوة الرائدة، ولتعيش في اهتمامات كل واحد منا اهتمامات المسلمين في قضاياهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا ما نريد معرفته في اجتماعنا بين يدي الله، فماذا هناك؟
شارون..الوحشية الصهيونية
لقد انتهت الانتخابات الصهيونية بفوز المجرم الجزّار "شارون" وسقوط "باراك"، كتعبير عن وجهة المجتمع الصهيوني الذي يتميّز بسيطرة العنصرية على أفراده ضد العرب، ويخضع لحالة عصبية بفعل الاهتزاز الأمني الذي فرضته الانتفاضة الفلسطينية على كل مواقعه، ما جعله يلجأ إلى مواجهتها بالرمز الوحشي للعنف القاتل، في محاولة للضغط على الانتفاضة، من خلال ما يمثّله هذا المجرم من فزّاعة عسكرية..
ويلتقي ذلك كله بالإعلان الأمريكي بالالتزام المطلق بأمن إسرائيل، للإيحاء بأن أمريكا سوف تقف مع هذه الحكومة باسم المحافظة على أمن اليهود، بينما لا تتحدث عن أمن الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين الذي لا يزال العدو يخترقه من أكثر من جهة، لا سيّما في استمرار احتلاله لفلسطين والجولان وأجزاء من لبنان، بل تتحدث مع كل العرب عن ضبط النفس ومنح هذا الجزّار فرصة لتشكيل حكومته، من دون ممارسة أيّ ضغط عليه، لأن مسألة الضغط على إسرائيل ليست واردة في حساب أية إدارة أمريكية، لأن الذين يجب ممارسة الضغط عليهم بالنسبة إلى أمريكا هم العرب..
تماسك الموقف الفلسطيني
بالرغم من ذلك كله، فإننا ربحنا موقفاً فلسطينياً موحَّداً ومهماً يعبّر عن وعي كبير لدى أهلنا في فلسطين المحتلة منذ العام 1948، الذين لم يخيّبوا آمالنا في استجابتهم والتزامهم بالفتوى الشرعية بمقاطعة انتخابات العدو، فقد أظهروا تماسكاً قوياً في الموقف أكد للعالم أنهم ليسوا تبعاً للعدو وسياسته.. إننا نقدّر للفلسطينيين في مناطق ما تسمى الـ48 أنهم عاقبوا "باراك" على جريمته، وتوحّدوا مع أهلهم في الضفة الغربية وغزة، كما نقدّر للشعب الفلسطيني وحدته الوطنية السياسية الجهادية أمام هذه التطورات، فقد أظهروا أنهم أصحاب الأرض الحقيقيون الذين يتمتّعون بشخصية أصيلة..
الالتزام بالقضية الفلسطينية
ونريد للعالم العربي – والإسلامي معه – أن لا يصاب بالإحباط والاهتزاز، وأن لا تنطلي عليه الخديعة الأمريكية التي تتحرك لتجميد الانتفاضة، وإرجاع الأمور إلى الدوّامة السياسية في لعبة المفاوضات التي تقف فيها أمريكا إلى جانب إسرائيل بشكل وبآخر، تحت مظلة الوساطة "النزيهة" التي لم تثبت نزاهتها في أيّ عهد من العهود..
إن التحدي الكبير يواجه العرب أجمعين، لا سيما عندما هدّد ساسة "الليكود" بنسف السدّ العالي وغيره، ولذلك لا بدّ من أن يكون الموقف موحَّداً وصلباً في خط المواجهة، بعيداً عن الميوعة السياسية التي تمثّلت في القمة العربية السابقة، ولتنطلق القمة المقبلة بخطة ضاغطة على الواقع الجديد في فلسطين، بالوقوف مع الانتفاضة ومع الشعب الفلسطيني في قضيته الكبرى على أساس الاستراتيجية التحريرية، ودعم صموده بكل الوسائل، فالمعركة معركة الأمة كلها وليست معركة الشعب الفلسطيني وحده، لأن الخطر الصهيوني هو مشكلة الواقع كله.. إن القدس المسجد الأقصى، والقدس المدينة، والقدس فلسطين تقف في الواجهة في ساحة التحدي، وعلى الأمة العربية والإسلامية – على مستوى الحكومات والشعوب – أن تتحرك بانتفاضة سياسية في مستوى هذا التحدي.
التوحد لمواجهة الخطر الصهيوني
ولا بدّ لنا – أمام الزهو الصهيوني في هذه المرحلة – أن نواجه الموقف الجديد بدقة، لأن ذلك قد يدفع العدو إلى تكثيف اعتداءاته، ومحاولة عرض عضلاته العسكرية في لبنان لتخويف من يُراد تخويفه..
إن الموقف يفرض علينا – في لبنان – الاستنفار في أقصى الدرجات، بالتنسيق الكامل بين الجيش اللبناني الرسمي والمقاومة التي هي الجيش الشعبي الاحتياطي، لمواجهة كل التطورات والتهديدات، من أجل إلحاق الهزيمة بالعدو في المستقبل إذا قام بأيّ عدوان، على طريقة هزيمته في الماضي.. وعلى الشعب كله أن يقف صفاً واحداً في مواقع التحدي الكبير، وأن يتوحد المساران اللبناني والسوري ويتكاملا أمام الخطر المرتقب، في الوقت الذي نتصوّر فيه أن العدو يقوم بدعاية تهويلية استعراضية للضغط النفسي، لأنه لا يملك أيّ ظرف للعدوان الفعلي، ولكن لا بدّ من الحذر أمام هذا الجنون الوحشي الذي يتميّز به هذا المجنون الصهيوني "شارون"..
بالتكامل والتخطيط ننقذ البلد
إن هذا الواقع يفرض علينا أن نظل على استعداد لمواجهة الاحتلال واعتداءاته وأطماعه بما يشبه حالة الطوارئ، من دون أن نتناسى قضايانا الداخلية، لأننا نحتاج إلى ما يشبه حركة طوارئ أيضاً في المسألة الاقتصادية الداخلية.. إننا نناشد الجميع – ولا سيما المسؤولين – أن يتوحّدوا ويتكاملوا من أجل دراسة أفضل الحلول لمواجهة الكارثة الاقتصادية التي تتجه بالبلد إلى حافة الانهيار، من خلال المديونية التي تأكل فوائدها كل الناتج الوطني، ومن خلال الهدر والسرقة والفوضى الإدارية..
إن في البلد الكثير من الخبرات الاقتصادية، فعلى الجميع أن يتكاملوا ويقوموا بعملية استنفار شامل لدراسة خطة الإنقاذ قبل أن يسقط البلد، لتُقدِّم لنا الحلول الواقعية لحركة الصناعة والزراعة وحماية المصنوعات والمزروعات وحركة السوق، بعيداً عن السطحية والارتجال.