بهروب العقل تحضر الغريزة ويختل التوازن:
إياك والغضب فإنه "مفتاح كل شر"
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
مجاهدة النفس
في منهج التربية الإسلامية، يؤكد الإسلام في كتاب الله تعالى وسنّة رسوله(ص) على أن يربي الإنسان نفسه، وذلك بأن يدرس كل الأمور من خلال عقله، ولا يتحرك بها من خلال غريزته أو عاطفته، بحيث لا يصدر عنه أيّ شيء – حتى في حالات الشدة – إلا بعد أن يفكر في بداياته ونهاياته وعواقبه، لأن الإنسان مسؤول عن عمله، سواء كان هذا العمل كلاماً أو فعلاً، لأن الله تعالى يقول: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}، فعندما تقف بين يدي الله تعالى لا بد من أن تدافع عن نفسك دفاعاً مسؤولاً، تقدّم فيه لله تعالى حسابك عن ذلك كله.
ولذلك، فإن الإسلام تحدث عن الغضب، وهو حالة الانفعال النفسي التي تتحرك من خلال التوتر الشعوري الذي يصيب الإنسان، وما أكثر ما يواجه الإنسان في حياته ما يغضبه في بيته ومحل عمله، وفي ساحة الصراع في المجتمعات، سواء كان الصراع اجتماعياً أو سياسياً أو دينياً أو مذهبياً، فإذا ما واجه الإنسان شيئاً لا ينسجم مع مزاجه ومشاعره أو مع مصالحه، فإنه يتوتر وينفعل وتثور غريزته، وعندما يتوتر وينفعل فإنه يفقد توازنه فيتكلم بطريقة غير مسؤولة، أو يضرب أو يقاطع أو يطلّق زوجته أو ما أشبه ذلك.
لذلك، يريد الله تعالى للإنسان أن يجاهد نفسه، بحيث إذا ثارت أعصابه فإن عليه أن يبرّدها، أو أن يملك – قبل ذلك – في نفسه الإرادة القوية التي تجعله بارد الأعصاب، بحيث يواجه أيّ قضية من القضايا التي لا تتفق مع مزاجه كأية مشكلة لا بدّ له أن يدرسها ويدرس اتجاهات حلولها، لأن الانفعال لا يحلّ له مشكلته، بل إنه يضيف بذلك مشكلة إلى مشكلته. لذلك، الإسلام يريد من الإنسان أن يكون بارد الطبع، ويدرس كل الأشياء التي تثيره كمشاكل تواجهه في الحياة، ليعالجها كما يعالج الإنسان أي مشكلة حتى يخفف الخسائر..
الغضب يفسد الإيمان
ونحن في هذا اللقاء، نريد أن نستعرض بعض كلمات رسول الله (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) حول الغضب، ففي الحديث عن أبي عبد الله الصادق (ع): "قال رسول الله (ص): الغضب يُفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل"، والإيمان لا بدّ أن يكون صافياً لكي يحقق للإنسان التوازن في كلماته وأفعاله، بحيث تصدر الكلمة أو الفعل من خلال عنصر الاتزان والتفكير والتخطيط، فإذا غضب الإنسان اختلّ توازنه وفقد القوة العاقلة، وإذا فَقَد الإنسان العقل فَقَد قوّة التوازن.. وتحكمت به غريزته، والغريزة عادة لا تنطلق من القضايا الجوهرية، بل تنطلق من القضايا السطحية.
وفي الحديث عن النبي (ص) وقد جاءه شخص يطلب منه أن يوصيه، فعن الإمام الصادق(ع) أنه قال: "قال رجل للنبي (ص): يا رسول الله علّمني، قال (ص): اذهب ولا تغضب، فقال الرجل: قد اكتفيت بذلك، فمضى إلى أهله، فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلما رأى ذلك لبس سلاحه وقام معهم، ثم ذكر قول رسول الله(ص) فرمى السلاح – وبدأ يفكر بالأمر – ثم جاء يمشي إلى القوم الذين ينازعون قومه، فقال: يا هؤلاء، ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعليّ في مالي أنا أوفيكموه، فقال القوم: ـ وقد شعروا أن الرجل لا يتكلم من موقع ضعف بل من موقع محكوم بالتعقل، يحب أن يشيع السلام بين قومه ـ فما كان فهو لكم ونحن أولى بذلك منكم، فاصطلح القوم وذهب الغضب".. وهذا الأسلوب هو الذي يمكن أن نستخدمه في البيت أو العمل أو في الواقع السياسي والاجتماعي، لكي نتفادى المشكلة الأكبر.
نتائج الغضب
وفي بعض الأحاديث ذُكر الغضب عند الإمام الباقر(ع)، فوصف النتائج السلبية للغضب فقال: "إن الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتى يدخل النار - بحيث يمتدّ به غضبه فيدفعه إلى بعض الأعمال التي يمارسها عند غضبه حتى يدخل النار – فأيّما رجل غضب على قوم وهو قائم فليجلس من فوره فإنه سيذهب عنه رجز الشيطان، وأيما رجل غضب على ذي رحم فليدنُ منه فليمسّه فإن الرحم إذا مُسّت سكنت". وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "الغضب مفتاح كل شر"، وهذا ما نشاهده في الكثير من التوترات والانفعالات الشخصية أو العائلية أو السياسية، ما يدفع الناس إلى الكثير من الأعمال والأقوال والممارسات التي قد تفتح المجتمع على الشر الكبير، ومشكلة هذا المجتمع أنه يتربى على العصبيات..
وفي بعض الأحاديث يقول الإمام الباقر (ع): "أيّ شيء أشدّ من الغضب، إن الرجل – والمرأة أيضاً – ليغضب فيقتل النفس التي حرّم الله، ويقذف المحصنة"، وكم هناك من الجرائم التي ارتكبت نتيجة الانفعال والتوتر، وكم من الرجال الذين يقذفون المرأة المحصنة فينسب إلى زوجته أو أية امرأة أخرى الزنى؟ ويقول الإمام الصادق (ع): "من كفّ غضبه ستر الله عورته"،والعورة كناية عن معايبه وسيئاته، لأن الإنسان إذا غضب فإنه يفقد كل أساس للتوازن، وقد عبّر أحد الشعراء عن هذه الحالة فقال:
للسرّ نافذتان السكرُ والغضبُ |
أغضِب صديقكَ تستطلعْ سريرتهُ |
من راسبِ الطينِ إلاّ وهو مضطربُ |
ما صرّحَ الحوضُ عن قرارته |
الجنة مصير الممسكين عن الغضب
وعن أبي جعفر محمد الباقر(ع) أنه قال: "مكتوب في التوراة فيما ناجى الله عزّ وجل به موسى(ع): يا موسى أمسك غضبك عمّن ملّكتك عليه – كل من هو تحت سلطتك في البيت أو العمل أو المجتمع إذا كنت صاحب موقع اجتماعي أو سياسي - أكفّ عنك غضبي".. وعن الإمام الصادق (ع): "أوحى الله عزّ وجلّ إلى بعض أنبيائه: يابن آدم، اذكرني في غضبك – راقب الله عند حالة الغضب – اذكرك في غضبي حتى لا أمحقك فيمن أمحق، وارضَ بي منتصراً، فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك"..
وقد تعهّد الله تعالى للذين يكظمون غيظهم بالجنة، ومَن منا لا يريد الجنة: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أُعدّت للمتقين* الذين ينفقون في السرّاء والضرّاء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}، لذلك الجنة ليست بالمجان، بل تحتاج إلى جهد وجهاد وعقل ووعي، وقد قال عليّ (ع) في بعض كلماته: "أفبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، هيهات لا يُخدع الله عن جنته"، فلا بدّ أن نفتح عيون عقولنا عندما نعيش مع المجتمع، لأنك قد تتحمّل ما يصدر عن المجتمع، ولكن المجتمع ليس قادراً على أن يتحمّل غضبك وانفعالاتك.. وهذه الكلمات هي حجة الله عليكم، فانظر كيف تجيب ربك عندما ينطلق النداء: {وقفوهم إنهم مسؤولون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا كل مسؤوليتكم بعقل وتخطيط ووعي لكل ما حولكم ومن حولكم، ولا تجعلوا خطواتكم في هوى انفعالاتكم حتى في القضايا السياسية والعسكرية في ساحات الصراع بيننا وبين المستكبرين الصغار أو الكبار، علينا أن لا نتحرك على أساس الانفعال، لأن القوم يخططون من أجل أن يهزمونا ويضعفونا ويسيطروا علينا بالأساليب التي تثير انفعالاتنا، لذلك لا بدّ أن يكون حماسنا مدروساً ليكون منطلقاً من موقع التخطيط، حتى لا يغلب حماسك على موقفك.. وهناك قضايا لا بدّ أن نواجهها، فماذا هناك؟
حروب التحرير: فقدان الخطة
يحتفل اليهود في هذه الأيام بذكرى احتلالهم لفلسطين وإقامة كيانهم على أرضها، ولا بدّ أن نتذكر قيام الدول الكبرى بتهيئة كل الظروف السياسية والأمنية لذلك، وبالاعتراف بها، مقارناً بالعجز العربي الذي كان خاضعاً لأكثر من سيطرة سياسية..
ثم كانت الانقلابات المتتابعة والحروب الداخلية والإقليمية والفوضى السياسية التي أشعلت المنطقة باسم تحرير فلسطين، من دون خطة مدروسة أو حتى على مستوى التنسيق في الموقف، في الوقت الذي كان العدو ينتقل من نصر إلى نصر ومن قوة إلى قوة.. وسقطت كل "اللاءات" العربية، واستبدل العرب شعار الحرب بالسلام من دون أن يهيئوا الظروف للمستقبل، وأصبح هذا الشعار عنواناً للضعف العربي الذي استغله العدو الذي كان - ولا يزال - يحرّك الحرب باسم الأمن، في الوقت الذي كانت فيه أمريكا – ولا تزال – تضع الأمن المطلق لإسرائيل عنواناً لسياستها في التسوية، وذلك على حساب كل الأمن العربي، حتى باتت إسرائيل - بالتحالف مع أمريكا - تمثّل القوة التي تهدد المنطقة العربية كلها، حتى أن بعض قادتها هدد بقصف السد العالي في مصر بالرغم من الصلح معها.
الاستفادة من التجربة اللبنانية
إن علينا أن نواجه هذه الذكرى بالدراسة الدقيقة الشاملة التي تلاحق نقاط الضعف والقوة، وتقارن بين الماضي والحاضر، وتحدد حاجات المستقبل، وتدرس المواقف على أساس تحديات المصالح التي تخضع لها علاقات الدول، بعيداً عن الصراخ واللعنات التي نطلقها ضد الظلام..
وفي هذا الجو، لا بد لنا من أن ندرس التجربة اللبنانية في عملية المقاومة، وانتصارها على العدو، وإلحاق الهزيمة به، لنتعرّف أفضل الوسائل للاستفادة من ذلك كله في ساحة الصراع كلها .
الصمود سر قوة الانتفاضة
وتبقى الانتفاضة تمثل التحدي الكبير للكيان الصهيوني، لتحتفل على طريقتها بإطلاق حركة التخطيط لتهديده كخطوة أولية لإرباكه وهزّ مواقعه وإسقاط احتلاله، وهي تعمل على تطوير وسائلها في المقاومة، من الحجارة إلى رصاص البنادق وقذائف الهاون والعمليات الاستشهادية، ما أربك كل واقع الأمن في المستوطنات وغيرها، إلى المستوى الذي لم يعد يشعر معه العدو بأي أمن في كل مناطقه، لأن الشعب الفلسطيني أصبح يحيط به من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، بالرغم من الجراحات العميقة التي أثقلته، ومن الشهداء الذين يسقطون يومياً في ساحة الجهاد، ومن الدمار الوحشي اليومي في مناطقه.
إن الصمود الذي تتميّز به الانتفاضة هو سرّ القوة في المعركة، ما جعل العدو - ومعه أمريكا والدول السائرة في ركابها - يسارعون في البحث عنالخروج من هذا المأزق الأمني الصعب،في مبادرة عربية لإيقاف الانتفاضة باسم إيقاف العدوان، ولكنها سوف تسقط بفضل صمود الانتفاضة من جهة، وعدم قدرة العدو على الاستمرار في هذه الوتيرة من جهة أخرى.
نحو مزيد من التخطيط
إن المشكلة التي تواجه الواقع العربي على المستوى الرسمي - في أكثر مواقعه - هي أن الخطوط الأمريكية السياسية هي التي تحرك مبادراته ومواقفه، ولذلك فإننا لا نجد هناك أية خطوات عملية لدعم صمود الشعب الفلسطيني، وأية خطة للتلويح بالضغط على الواقع الدولي – ولا سيما الأمريكي – بلغة المصالح الاقتصادية، لأنهم يختزنون الخوف من العصا الأمريكية في أكثر من موقع .
إننا، في الوقت الذي ندعو فيه إلى رفع الصوت عالياً على مستوى الشعوب الضاغطة على الأنظمة لدعم الانتفاضة، نرى بأن القضية بحاجة إلى المزيد من التخطيط في الأبحاث السياسية والاقتصادية والأمنية في حاجات الانتفاضة، بالعقل الذي يفكر بعمق ولا يتحرك بانفعال.. إن للكلمة تأثيرها في إثارة الشعور، ولكن للفعل أهمية في تغيير الواقع، لتتزاوج الكلمة مع الواقع بدلاً من أن تطير في الهواء.
تحويل مقررات مؤتمر طهران إلى واقع
ونحن في الوقت نفسه، نقدّر مؤتمر القدس الذي عقد في "طهران" لدعم الانتفاضة، ونرجو أن تكون الاتصالات بين المؤتمرين قد استطاعت أن تعطي شيئاً واقعياً عملياً، بدلاً من أن تبقى المسألة في دائرة الخطابات التي لا نشك بصدق أصحابها، ولكن ماذا يمكن أن يحصل من خلال ذلك إذا لم تتحول هذه المواقف إلى واقع..
ونحن بهذه المناسبة، قرأنا في البيان الختامي للمؤتمر "ضرورة مقاطعة البضائع الأمريكية من قِبَل الشعوب العربية والإسلامية"، ونحن نعتقد أن أول خطوة يجب أن تتخذ لتأكيد هذه المقاطعة عملياً هي إصدار المراجع ـ كل المراجع ـ الفتوى بمقاطعة البضائع الأمريكية، حتى لا تبقى القضية مجرد مادة في بيان ختامي، بل أن تتحول إلى تكليف شرعي. إننا نريد من القائمين على هذا المؤتمر أن يحوّلوا ما يمكن تحويله إلى واقع، وذلك بالسعي لدى علماء المسلمين في إيران والعراق وفي كل مكان يملك فيه المؤتمرون موقعاً إسلامياً، لإصدار فتوى بمقاطعة البضائع الأمريكية حسب الإمكان، وقد أصدرنا فتوى بذلك، كما أصدر بعض علماء المسلمين فتوى مماثلة، لأننا لا نريد بيانات للاستهلاك بل نريد مواقف للعمل.
كلام أمريكي معسول
وأخيراً، لقد سمعنا كلاماً أمريكياً جديداً عنوانه "أن لبنان القوي هو قوة للاستقرار في المنطقة"؟! إننا نسأل: هل هناك جديّة في هذا الكلام، أم أنه يمثل جوّاً احتفالياً للمجاملة؟ ثم، لماذا لم نجد أي أثر لمؤتمر أصدقاء لبنان في أمريكا، أو الدول المانحة، أو المساعدات العربية التي تحتاج بأجمعها إلى توقيع أمريكي لم يحصل؟ ثم، ما هي الشروط الأمريكية لتحقيق ذلك – إن كانت هناك جديّة في الوعود – هل هي شروط إيقاف المقاومة كإيقاف الانتفاضة، وتحقيق الأمن الإسرائيلي بحراسة الجيش اللبناني في الجنوب، بالإضافة إلى قوات الأمم المتحدة، وتحريك الضغوط السياسية لتغيير قواعد الخط السياسي العربي في لبنان؟؟
لقد جرّب العرب الوعود الأمريكية المعسولة التي أدمنت الكذب والخداع والنفاق، ولا سيما الدول التي صالحت العدو، فهل يمكن أن تصدق مع لبنان الذي دمّرته السياسة الأمريكية بالحرب اللبنانية، وبكل الضغوط المتحركة ضده في الداخل والخارج؟! إن الأزمة على مستوى لبنان والمنطقة طويلة طويلة، ومعقّدة وصعبة، وعلى الجميع أن يعدّوا أنفسهم للحركة في مستوى المرحلة، للثبات والصمود أمام كل ضغوط الأزمات في الداخل والخارج. |