اطردوا صنّاع الفتـنة فإنهم خُدّام المستكبرين

اطردوا صنّاع الفتـنة فإنهم خُدّام المستكبرين

لأن وحدة المسلمين قوة في الدين وضمان لمستقبل الأمة:
اطردوا صنّاع الفتـنة فإنهم خُدّام المستكبرين


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

وحدة الرسل والرسالة:

من بين القضايا المهمة التي أكد عليها القرآن الكريم هي مسألة الوحدة وعدم التفرقة، لأنَّ الله تعالى أراد للإسلام أن يقوى، وأراد للمسلمين أن يكونوا قوة، ولن يقوى الإسلام إلا إذا التقى المسلمون عليه، ولن يكون المسلمون قوة إلا إذا توحّدوا في الخط العريض، حتى لو اختلفوا في بعض الجزئيات، لأن الاتحاد قوة والتفرق ضعف.

وقد عالج الله تعالى هذا الخط في أكثر من آية، ففي البداية عالجها في خطابه للرسل: {يا أيها الرسل اعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، حيث أراد للرسل في مسيرتهم الرسالية أن يتوحدوا على أساس عبادة الله وتقوى الله، وهو ما عبّر عنه بالعمل الصالح. ومن خلال ذلك نفهم أن الله أراد لأتباع الرسل ـ من خلال وحدة الرسل ـ أن يكتشفوا وحدة الرسالات، والرسل لا يختلفون في رسالاتهم، فلا فرق ما بين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، ولكن الفرق بين رسالة ورسالة هو في الإجمال والتفصيل، فقد يعطي الله تعالى بعض الرسل العناوين العامة لأنَّ الحاجات الاجتماعية في مرحلتهم محدودة، بحيث لا يشعر الناس بضرورة الدخول في كثير من التفاصيل، وربما تتطور الحاجات في حياة الناس فتتطور الخصوصيات في الشرائع والمفاهيم.

 

الحوار مسألة حيوية:

ومن هنا، فإنَّ مسألة الحوار ما بين الديانات كانت من المسائل الحيوية التي أكد عليها القرآن الكريم، عندما أمر رسول الله(ص) ـ وأمر المسلمين من خلاله ـ أن يدعو أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى ـ إلى الكلمة السواء بيننا وبينهم، على أساس وحدة الله ووحدة الإنسان، لنلتقي على القواسم المشتركة، وأراد الله للمسلمين عندما يدخلون في جدل مع أهل الكتاب أن يقدموا الطرح الإسلامي للآخرين على أساس الاعتراف بما لديهم، واعترافهم بما لدينا، {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن وقولوا آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد}.

فالطرح الإسلامي في المجتمعات المختلطة هو طرح توحيدي مع التنوع، لأن وحدة المجتمع مع تنوع الخطوط فيه قد توصل إلى وحدة الخط، ولعلنا نستوحي ذلك من سيرة النبي (ص) عندما جاء إلى المدينة، حيث كان اليهود يمثلون قسماً كبيراً من مجتمعها ويعيشون إلى جانب "الأوس" و"الخزرج" الذين دخلوا في الإسلام، وعندما أراد النبي(ص) أن ينظِّم مجتمع المدينة حتى ينطلق منه إلى العالم الخارجي ويواجه التحدي الذي يفرضه المشركون عليه، باعتبار أن اليهود من خلال التزامهم بالتوراة وبشريعة موسى (ع) يلتقون مع المسلمين في أكثر من موقع مشترك في الجانب العقيدي وربما في الجانب الشرعي، وكلاهما ـ بحسب العنوان الكبير للعقيدة ـ يقفان ضد الشرك، عقد النبي (ص) معاهدة بين كل أفراد المجتمع المدني وأدخل اليهود في هذه المعاهدة، بحيث أصبحوا شركاء في هذه الوثيقة ـ المعاهدة، وهي أول معاهدة معروفة في تلك المنطقة، وأراد النبي(ص) من خلال ذلك لهذا المجتمع المختلط أن يتقارب، لعل هذا الجو التوحيدي ـ ولو في بداية الخط ـ يؤدي إلى نتائج توحيدية في النهاية.

الاعتصام بحبل الله:

فالإسلام يبحث عن مواقع اللقاء مع الآخرين، حتى تقربنا مواقع اللقاء فكرياً ونفسياً، ومن خلال هذا القرب النفسي يمكن أن نصل إلى مواقع اللقاء حتى في نهاية المطاف. وقد تحدث القرآن الكريم في أكثر من حديث حول مجتمع المسلمين، حيث دعا المسلمين إلى اللقاء على القضايا المشتركة، وأن لا يسمحوا لأي امرىء خارج نطاق الإسلام أن يفرّق بينهم، قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، وحبل الله هو القرآن كما ورد في بعض التفاسير، ويؤيده ما ورد في حديث النبي (ص) وهو حديث الثقلين: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي"، فهو الذي يربط الدنيا بالآخرة ويربط الحياة بالله. ومن الطبيعي أنَّ الاعتصام بحبل الله يمثل التمسك بكل خطوط القرآن الفكرية والشرعية والمنهجية والحركية، بحيث نلتزم بكل ما جاء به القرآن، فلا نبتعد عنه في أيّ شيء في حياتنا الخاصة والعامة، بحيث نشعر أنَّ هذا الحبل الذي نلتزم به جميعاً هو الذي يربطنا ببعضنا البعض، ولا تفرقوا على أساس الاتجاهات الأخرى، فنحن مسلمون نؤمن بالقرآن ونتمسك به، باعتبار أنه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع ذلك فالمسلمون يختلفون في قومياتهم، ومن خلال تعدد هذه القوميات تتعدد مواقع العالم الإسلامي الجغرافية وأعراقه وألوانه ولغاته، وهنا ربما يطرح بعض الناس أن علينا أن نلتزم الوحدة القومية أو الوحدة الإقليمية أو العرقية، بحيث يشعر الإنسان الذي يكون من عرق معين بوجود حاجزٍ بينه وبين من ينتمي إلى عرقٍ آخر وما إلى ذلك..

هنا، الإسلام لم يمنعنا من أن ننفتح على قومياتنا وأعراقنا وألواننا، ولكنه قال لا تكن خصوصياتكم مبادئكم: {يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}، هذه الخصوصيات المتنوعة هي الطريق إلى التعارف، وتبقى المسألة مسألة رابطة الإسلام. فالله تعالى لا يريد للمسلمين أن يتفرقوا على أساس هذه الخصوصيات، بل يقول لنا أيها المسلمون حاولوا أن تجدوا في الإسلام ما يجمعكم ويوحِّدكم.

انقسامات حادّة تولّدها العصبيات:

وهكذا إذا دخلنا إلى خصوصيات المجتمع الإسلامي، فقد حدثت داخل هذا المجتمع ـ بحسب التيارات السياسية أو الخطوط الفقهية ـ اختلافات، فهناك الخطان الكبيران السنّة والشيعة، عندما انطلقت مسألة الخلافة أخذ بعض المسلمين بمدرسة الخلافة وأخذ بعضهم الآخر بمدرسة الإمامة، ولم يبق أهل السنّة مدرسةً واحدة، فتعددت مدارسهم. وكذلك انقسم الشيعة إلى عدة مذاهب، فانقسموا بين اثني عشرية وزيدية وإسماعيلية وما إلى ذلك، فالمسلمون صارت لديهم شخصيات متعددة بفعل التعقيدات وحركة التخلّف والأيدي الخارجية التي دخلت في مجتمع المسلمين، ففرّقت أوّلاً بين السنّة والشيعة، حتى اعتبروا أن التمذهب دينٌ كبقية الأديان، حتى وصلت المسألة إلى أن أصبح هناك مساجد للسنّة لا يصلي فيها الشيعة ومساجد للشيعة لا يصلي فها السنّة، ووصلت المسألة إلى حدّ التكفير!!

الله تعالى حلّ لنا هذه المشكلة، وقال لنا: إذا اختلفتم على أساس السنّة والشيعة من خلال أن الشيعة يقولون إن الخلافة لعليّ(ع) والآخرون يقولون إن الخلافة لأبي بكر، وأنتم مسلمون تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالله تعالى أراد للمسلمين أن يُرجعوا أيَّ خلاف بينهم إلى الله ورسوله، على أساس أن هناك قاعدة مشتركة يقف عليها الجميع وهي كتاب الله ورسالة رسول الله، فعليكم أن تدرسوا الأمور بعقلية علمية موضوعية لتلتقوا على ما قاله الله ورسوله ، وهكذا في كل المجالات، حتى بين السنّة أنفسهم والشيعة أنفسهم، فلا تتحول المسألة إلى نزاعٍ وعصبيةٍ وتعقيدات بين الناس.

وهذه المسألة لم تنحصر في المذاهب، بل دخلت إلى خصوصيات كل مذهب، مثلاً في داخل الجسم الإمامي هناك بعض الاختلافات في بعض الآراء الفقهية أو الكلامية، والواقع الموجود عندنا أننا نتراشق بالكلمات الحادّة لتسجيل النقاط ضد بعضنا البعض، وما دامت القضية قضية كتاب وسنّة وتاريخ، فيمكن للعلماء أن يبحثوا القضايا بينهم بطريقة علمية، أما غير العلماء فليس من حقهم أن يدخلوا في ما ليس لهم به علم، العالم يسأل ما هو الدليل وغير العالم يتعلّم أو يسكت. ما الذي يجعل الناس من فريق واحد يحاربون بعضهم البعض ويخططون للإيقاع ببعضهم البعض، حتى أصبحنا نعيش كل هذه التمزقات في الوسط الديني والسياسي؟! ما هو إلا العصبية والعصبية من الشيطان، وقد جاء في الحديث: "من تعصَّب أو تُعصِّبَ له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"..

وبعض الناس مكلَّفون بإثارة العصبيات المذهبية والطائفية، فمثلاً قد يأتي شخص ليسبّ الخلفاء فيثير السنّة، وقد يأتي شخصٌ ليسبّ أهل البيت (ع) فيثير الشيعة، في سبيل أن يتنازع المسلمون فيما بينهم، والذي ينقذنا من هذه التمزقات هو أن نتحرك بوحي الإيمان ونشعر بالأخوّة الإيمانية، فعندما نختلف في بعض الفروع الفقهية أو في بعض النظريات التاريخية أو في بعض السياسات والشخصيات فعلينا أن نُرجع الأمر إلى الله ورسوله، ونرجع إلى قوله تعالى: {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم}. إن الله يريدنا أن نلتقي عليه، على دينه، وأن نحل كل القضايا التي نختلف فيها، سواء اتّصلت بتفاصيل العقيدة أو الفقه أو السياسة أو الاجتماع، أن نحلها بالأسلوب العلمي على أساس التقوى والمحافظة على وحدة الإيمان والمؤمنين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وكونوا أخواناً في الدنيا، لأن الأخوان في الدنيا هم الأخوان في الآخرة، {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين}، لأن الصداقة إذا لم تقم على أساس التقوى فإنها تتحوّل إلى عداوة في اليوم الآخر، والله تعالى حدّثنا عن صورة مجتمع الجنة بأنه مجتمع الأخوّة.. لذلك علينا أن نعيش الأخوّة الإيمانية لنرتفع بمجتمعنا إلى المجتمع الذي يتعاون على البرِّ والتقوى، ولا سيما أن الآخرين يعملون على إسقاط قوة الإسلام وإضعاف المسلمين، بإثارة كل النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية، لتبقى سيطرة المستكبرين عليهم، كما سيطروا عليهم من قبل عندما توزعوا بلادهم وجاءوا باليهود إلى فلسطين ومكّنوهم منها، ونحن لا نزال نعاني من هذا التفرّق بين المسلمين والعرب في مواجهتنا للعدو الصهيوني والاستكبار العالمي. لذلك كل من يأتي إليكم من أجل أن يثير فتنة بينكم، سواء كانت فتنة اجتماعية أو سياسية أو دينية، فعليكم أن تطردوه من مجتمعكم وترسموا عليه علامات الاستفهام. إننا نعيش مرحلة صعبة في هذه المنطقة من خلال تمزقاتنا، وعلينا أن نتابع مجريات هذه المرحلة، فماذا هناك؟؟

العملية الاستشهادية..إسقاط الخطة الشارونية:

لا تزال الانتفاضة مستمرة بقوتها الجهادية، بالرغم من الآلة العسكرية الصهيونية الضخمة التي تغتال الكوادر، وتجرف المزارع، وتدمّر المنازل، وتقصف المدنيين.. وقد استطاعت العملية الاستشهادية الأخيرة في القدس الغربية أن تهزّ الأمن الإسرائيلي في العمق، وتُسقط الخطة "الشارونية" في حماية اليهود في مواقع قوتهم، وتثبت أن يد المجاهدين طويلة، من خلال روحية الشهادة وقوة الردّ العنيف على الغطرسة الصهيونية.

إن ردّ الاحتلال الإسرائيلي على العملية الاستشهادية بالاستيلاء على المراكز الفلسطينية في القدس، وقصف مواقع السلطة الأمنية في أكثر من مكان، واجتياح بعض الأراضي المحرّرة، بما يمثل من سعيٍ للتنفيس عن الحقد الصهيوني الأسود ضد الشعب الفلسطيني، ومحاولة النيل من صلابته وصموده، لن يؤثر في صلابة المجاهدين، ولن ينال من قوتهم في مواجهة العدو.

أمريكا شريكٌ في الجرائم الوحشية:

أما أمريكا فإنها تحتج وتستنكر لأن العملية أصابت العدو في الصميم، وقد كان مسؤول أمريكي قد أعلن قبل ذلك أن إسرائيل لم تنتهك نظام الأسلحة الأمريكية في استعمالها الوحشي ضد الفلسطينيين، ما جعل العدو يشعر بالحرية العدوانية في استخدامه لهذه الأسلحة في العدوان على الفلسطينيين، الأمر الذي يجعل أمريكا شريكة في كل الجرائم الوحشية التي تقوم بها إسرائيل ضد الشيوخ والنساء والأطفال والكوادر والسلطة الفلسطينية، في الوقت الذي تدفع للعرب من حساب نفاقها السياسي بعض الكلمات المستنكرة لما يقوم به الجيش الصهيوني من عمليات قتل وتدمير، بطريقة حيية خجولة؟!

إن أمريكا تبيع العرب كلمات، ولكنها تقدّم للعدو الأسلحة والمواقف السياسية الداعمة، والحماية الدولية من كل إدانة.. وقد تجاوزت في خطابها السياسي مسألة الاحتلال التي تفرض على الدول المتحضّرة استنكاره، وتوجيه الرفض لإسرائيل فيه، والطلب إليها القيام بإعطاء الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله، وتحوّل الموقف الأمريكي إلى شجب "للعنف"، تماماً كما لو كانت القضية قضية عدوان على اليهود من قِبَل الفلسطينيين وإساءة إلى أمنهم، واعتبار العدوان الإسرائيلي عليهم دفاعاً عن النفس، بالرغم من كل ما تفرضه شرعة حقوق الإنسان من حق الفلسطينيين في الحرية!!

الشعب الفلسطيني سيد الموقف:

أما العرب فقد استنكروا العملية الاستشهادية، مع بعض الإدانة لليهود في عدوانهم، ولكن من دون أن يقدّموا للفلسطينيين أيّ دعم فاعل، بل بقيت الكلمات المتطايرة في الهواء هي كل ما يمثّل موقفهم السياسي؟! أما أوروبا فإنها تتحرك على هامش السياسية الأمريكية، مع بعض المجاملات للعرب أو للفلسطينيين مما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ويبقى الشعب الفلسطيني سيد الموقف، وبطل المبادرة، في وحدته الجهادية، وانتفاضته المستمرة، فذلك هو الذي يحقق له أهدافه الكبرى في الحرية والاستقلال، مهما قدّم من التضحيات في حركية الشهداء، مما قد يثقل ضمير العالم، ويهزم الأمن الإسرائيلي، ويربك اقتصاد العدو، لأن تاريخ الحرية يؤكد أن الشعوب لا بد أن تصل إلى استقلالها بالرغم من اختلال موازين القوة لصالح المحتل.

وتبقى الحركة الشعبية العربية والإسلامية هي الضرورة السياسية، للوقوف مع الشعب الفلسطيني، ولمحاصرة الدور الأمريكي في المنطقة الذي يقف مع العدو، والذي يقوم بمحاصرة العراق وقصفه لمواقعه الحيوية، وتجويعه لشعبه بالحصار الاقتصادي والعقوبات المستمرة عليه، لأن أمريكا تعاقب العرب بما لا تعاقب به أيّ شعب من الشعوب، نتيجة التمزّق العربي والعجز السياسي للدول العربية.

معاقبة الحكومة التركية:

وفي هذا الجوّ، نتابع تطوّر العلاقات التركية ـ الإسرائيلية، من خلال الزيارة التي قام بها "شارون" الجزّار لتركيا، مستعرضاً عضلاته العدوانية ضد الفلسطينيين، وإعلانه ـ من تركيا ـ متابعة اغتيال كوادرهم، من دون أن تستنكر حكومة تركيا ذلك، بل اكتفت ـ لحفظ ماء الوجه ـ بتسجيل موقفها في طلب تخفيف الشروط الإسرائيلية بالنسبة للمفاوضات..

إننا نشعر بأن الحكومة التركية تتحرك ضد إرادة شعبها، في التحالف العسكري مع إسرائيل ضد الحكومات العربية والإسلامية المحيطة بها، بحيث تنقل إسرائيل إلى حدود هذه الدول، ولا سيما إيران والعراق وسوريا، بحجة مواجهة الخطر الأمني القادم منها.. إننا نعتقد أن على العالم العربي والإسلامي معاقبة الحكومة التركية على هذا الموقف المعادي للعرب وللإسلام معاً.

وإننا ـ من جانب آخر ـ نقدّر حيوية العلاقات الأخوية الإسلامية بين الجمهورية الإسلامية في إيران ودولة الإمارات، ونأمل أن تتطور إلى حوار جدّي موضوعي بينهما لحل المشاكل العالقة، والتي تستغلها أمريكا لإرباك العلاقات الإسلامية بين إيران وجيرانها، ولا سيما قضية الجزر الثلاث التي نرجو أن تصل إلى نتائج طيبة في مصلحة الطرفين، انطلاقاً من القاعدة الإسلامية التي تؤكد أن المسلمين أخوة، على هدى الآية الكريمة: {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم}.

بالحوار نحفظ مستقبل البلد:

أما في الساحة اللبنانية الداخلية، فإننا نؤكد ترحيبنا بكل المصالحات التي تنفض غبار الحروب بين الطوائف اللبنانية، لاستقبال عهد جديد يعود فيه المهجّرون إلى مدنهم وقراهم بكل أمن وحرية واستقرار، بعيداً عن اللعبة السياسية الباحثة عن التناقضات المتحرّكة في ساحة التعقيدات..

ونشير إلى الجدل السياسي الأمني حول الاعتقالات الأخيرة، فنلاحظ أن مسألة السلم الأهلي والمحافظة على استقرار البلد وأمنه، وحماية الجيش اللبناني من أية انقسامات طائفية، هو أمرٌ لا مجال للتساهل فيه من قِبَل الدولة والمواطنين، في الوقت الذي نؤكد فيه على العدالة القانونية التي لا تحاسب الناس على أفكارهم بل على مواقفهم السلبية من المصلحة العامة للبلد، ما يفرض على الدولة ـ بكل أجهزتها ـ أن لا تسيء إلى الحريات العامة في نطاق القانون، ولا تقوم بانتهاك حرمة المواطنين وكرامتهم، ليشعر المواطن أن الدولة تحميه من نفسه ومن الآخرين ولا تضطهده، لأنّ إضعاف الدولة ليس في مصلحة أحد، كما أن مصادرة الحريات في نطاق المسؤولية ليس من مصلحة الدولة..

إننا ننصح بالكف عن عنصر الإثارة التي قد تسيء إلى وجه لبنان الحضاري في الخارج، وندعو إلى الحوار ومتابعة المسألة في نطاق العدالة، كما نطلق النداء الصارخ بالعمل على استقلال القضاء، والمنع من إدخاله في اللعبة السياسية، ومن الإساءة إليه في لعبة التجاذب السياسي.. إن البلد يواجه الأزمة الخانقة في المشكلة الاقتصادية التي لا بد للجميع من التعاون حتى يخرجوا منها، وإن المنطقة تتحرك في أجواء الرياح العاصفة التي لا يعرف أحدٌ اتجاهها، في حركة اللعبة الدولية ـ ولا سيما الأمريكية ـ فهي تقف على كفّ عفريت.

إن علينا أن نتعرّف موقعنا من ذلك كله، لنحفظ المرحلة من كل الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية.. لنحدّق بتحرير البلد، وفي مواجهة العدو المحتل، وفي دعم المقاومة، وفي الوقوف مع الانتفاضة، وفي الحذر من لعبة الأمم المتحدة الخاضعة للضغوط الأمريكية والإسرائيلية.. ولنعد إلى الوحدة الوطنية التي لا تبتعد عن التنوّع في مواقع الحوار، من أجل أن لا يسقط المستقبل في صراعات الحاضر.

لأن وحدة المسلمين قوة في الدين وضمان لمستقبل الأمة:
اطردوا صنّاع الفتـنة فإنهم خُدّام المستكبرين


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

وحدة الرسل والرسالة:

من بين القضايا المهمة التي أكد عليها القرآن الكريم هي مسألة الوحدة وعدم التفرقة، لأنَّ الله تعالى أراد للإسلام أن يقوى، وأراد للمسلمين أن يكونوا قوة، ولن يقوى الإسلام إلا إذا التقى المسلمون عليه، ولن يكون المسلمون قوة إلا إذا توحّدوا في الخط العريض، حتى لو اختلفوا في بعض الجزئيات، لأن الاتحاد قوة والتفرق ضعف.

وقد عالج الله تعالى هذا الخط في أكثر من آية، ففي البداية عالجها في خطابه للرسل: {يا أيها الرسل اعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، حيث أراد للرسل في مسيرتهم الرسالية أن يتوحدوا على أساس عبادة الله وتقوى الله، وهو ما عبّر عنه بالعمل الصالح. ومن خلال ذلك نفهم أن الله أراد لأتباع الرسل ـ من خلال وحدة الرسل ـ أن يكتشفوا وحدة الرسالات، والرسل لا يختلفون في رسالاتهم، فلا فرق ما بين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، ولكن الفرق بين رسالة ورسالة هو في الإجمال والتفصيل، فقد يعطي الله تعالى بعض الرسل العناوين العامة لأنَّ الحاجات الاجتماعية في مرحلتهم محدودة، بحيث لا يشعر الناس بضرورة الدخول في كثير من التفاصيل، وربما تتطور الحاجات في حياة الناس فتتطور الخصوصيات في الشرائع والمفاهيم.

 

الحوار مسألة حيوية:

ومن هنا، فإنَّ مسألة الحوار ما بين الديانات كانت من المسائل الحيوية التي أكد عليها القرآن الكريم، عندما أمر رسول الله(ص) ـ وأمر المسلمين من خلاله ـ أن يدعو أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى ـ إلى الكلمة السواء بيننا وبينهم، على أساس وحدة الله ووحدة الإنسان، لنلتقي على القواسم المشتركة، وأراد الله للمسلمين عندما يدخلون في جدل مع أهل الكتاب أن يقدموا الطرح الإسلامي للآخرين على أساس الاعتراف بما لديهم، واعترافهم بما لدينا، {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن وقولوا آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد}.

فالطرح الإسلامي في المجتمعات المختلطة هو طرح توحيدي مع التنوع، لأن وحدة المجتمع مع تنوع الخطوط فيه قد توصل إلى وحدة الخط، ولعلنا نستوحي ذلك من سيرة النبي (ص) عندما جاء إلى المدينة، حيث كان اليهود يمثلون قسماً كبيراً من مجتمعها ويعيشون إلى جانب "الأوس" و"الخزرج" الذين دخلوا في الإسلام، وعندما أراد النبي(ص) أن ينظِّم مجتمع المدينة حتى ينطلق منه إلى العالم الخارجي ويواجه التحدي الذي يفرضه المشركون عليه، باعتبار أن اليهود من خلال التزامهم بالتوراة وبشريعة موسى (ع) يلتقون مع المسلمين في أكثر من موقع مشترك في الجانب العقيدي وربما في الجانب الشرعي، وكلاهما ـ بحسب العنوان الكبير للعقيدة ـ يقفان ضد الشرك، عقد النبي (ص) معاهدة بين كل أفراد المجتمع المدني وأدخل اليهود في هذه المعاهدة، بحيث أصبحوا شركاء في هذه الوثيقة ـ المعاهدة، وهي أول معاهدة معروفة في تلك المنطقة، وأراد النبي(ص) من خلال ذلك لهذا المجتمع المختلط أن يتقارب، لعل هذا الجو التوحيدي ـ ولو في بداية الخط ـ يؤدي إلى نتائج توحيدية في النهاية.

الاعتصام بحبل الله:

فالإسلام يبحث عن مواقع اللقاء مع الآخرين، حتى تقربنا مواقع اللقاء فكرياً ونفسياً، ومن خلال هذا القرب النفسي يمكن أن نصل إلى مواقع اللقاء حتى في نهاية المطاف. وقد تحدث القرآن الكريم في أكثر من حديث حول مجتمع المسلمين، حيث دعا المسلمين إلى اللقاء على القضايا المشتركة، وأن لا يسمحوا لأي امرىء خارج نطاق الإسلام أن يفرّق بينهم، قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، وحبل الله هو القرآن كما ورد في بعض التفاسير، ويؤيده ما ورد في حديث النبي (ص) وهو حديث الثقلين: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي"، فهو الذي يربط الدنيا بالآخرة ويربط الحياة بالله. ومن الطبيعي أنَّ الاعتصام بحبل الله يمثل التمسك بكل خطوط القرآن الفكرية والشرعية والمنهجية والحركية، بحيث نلتزم بكل ما جاء به القرآن، فلا نبتعد عنه في أيّ شيء في حياتنا الخاصة والعامة، بحيث نشعر أنَّ هذا الحبل الذي نلتزم به جميعاً هو الذي يربطنا ببعضنا البعض، ولا تفرقوا على أساس الاتجاهات الأخرى، فنحن مسلمون نؤمن بالقرآن ونتمسك به، باعتبار أنه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومع ذلك فالمسلمون يختلفون في قومياتهم، ومن خلال تعدد هذه القوميات تتعدد مواقع العالم الإسلامي الجغرافية وأعراقه وألوانه ولغاته، وهنا ربما يطرح بعض الناس أن علينا أن نلتزم الوحدة القومية أو الوحدة الإقليمية أو العرقية، بحيث يشعر الإنسان الذي يكون من عرق معين بوجود حاجزٍ بينه وبين من ينتمي إلى عرقٍ آخر وما إلى ذلك..

هنا، الإسلام لم يمنعنا من أن ننفتح على قومياتنا وأعراقنا وألواننا، ولكنه قال لا تكن خصوصياتكم مبادئكم: {يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}، هذه الخصوصيات المتنوعة هي الطريق إلى التعارف، وتبقى المسألة مسألة رابطة الإسلام. فالله تعالى لا يريد للمسلمين أن يتفرقوا على أساس هذه الخصوصيات، بل يقول لنا أيها المسلمون حاولوا أن تجدوا في الإسلام ما يجمعكم ويوحِّدكم.

انقسامات حادّة تولّدها العصبيات:

وهكذا إذا دخلنا إلى خصوصيات المجتمع الإسلامي، فقد حدثت داخل هذا المجتمع ـ بحسب التيارات السياسية أو الخطوط الفقهية ـ اختلافات، فهناك الخطان الكبيران السنّة والشيعة، عندما انطلقت مسألة الخلافة أخذ بعض المسلمين بمدرسة الخلافة وأخذ بعضهم الآخر بمدرسة الإمامة، ولم يبق أهل السنّة مدرسةً واحدة، فتعددت مدارسهم. وكذلك انقسم الشيعة إلى عدة مذاهب، فانقسموا بين اثني عشرية وزيدية وإسماعيلية وما إلى ذلك، فالمسلمون صارت لديهم شخصيات متعددة بفعل التعقيدات وحركة التخلّف والأيدي الخارجية التي دخلت في مجتمع المسلمين، ففرّقت أوّلاً بين السنّة والشيعة، حتى اعتبروا أن التمذهب دينٌ كبقية الأديان، حتى وصلت المسألة إلى أن أصبح هناك مساجد للسنّة لا يصلي فيها الشيعة ومساجد للشيعة لا يصلي فها السنّة، ووصلت المسألة إلى حدّ التكفير!!

الله تعالى حلّ لنا هذه المشكلة، وقال لنا: إذا اختلفتم على أساس السنّة والشيعة من خلال أن الشيعة يقولون إن الخلافة لعليّ(ع) والآخرون يقولون إن الخلافة لأبي بكر، وأنتم مسلمون تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالله تعالى أراد للمسلمين أن يُرجعوا أيَّ خلاف بينهم إلى الله ورسوله، على أساس أن هناك قاعدة مشتركة يقف عليها الجميع وهي كتاب الله ورسالة رسول الله، فعليكم أن تدرسوا الأمور بعقلية علمية موضوعية لتلتقوا على ما قاله الله ورسوله ، وهكذا في كل المجالات، حتى بين السنّة أنفسهم والشيعة أنفسهم، فلا تتحول المسألة إلى نزاعٍ وعصبيةٍ وتعقيدات بين الناس.

وهذه المسألة لم تنحصر في المذاهب، بل دخلت إلى خصوصيات كل مذهب، مثلاً في داخل الجسم الإمامي هناك بعض الاختلافات في بعض الآراء الفقهية أو الكلامية، والواقع الموجود عندنا أننا نتراشق بالكلمات الحادّة لتسجيل النقاط ضد بعضنا البعض، وما دامت القضية قضية كتاب وسنّة وتاريخ، فيمكن للعلماء أن يبحثوا القضايا بينهم بطريقة علمية، أما غير العلماء فليس من حقهم أن يدخلوا في ما ليس لهم به علم، العالم يسأل ما هو الدليل وغير العالم يتعلّم أو يسكت. ما الذي يجعل الناس من فريق واحد يحاربون بعضهم البعض ويخططون للإيقاع ببعضهم البعض، حتى أصبحنا نعيش كل هذه التمزقات في الوسط الديني والسياسي؟! ما هو إلا العصبية والعصبية من الشيطان، وقد جاء في الحديث: "من تعصَّب أو تُعصِّبَ له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"..

وبعض الناس مكلَّفون بإثارة العصبيات المذهبية والطائفية، فمثلاً قد يأتي شخص ليسبّ الخلفاء فيثير السنّة، وقد يأتي شخصٌ ليسبّ أهل البيت (ع) فيثير الشيعة، في سبيل أن يتنازع المسلمون فيما بينهم، والذي ينقذنا من هذه التمزقات هو أن نتحرك بوحي الإيمان ونشعر بالأخوّة الإيمانية، فعندما نختلف في بعض الفروع الفقهية أو في بعض النظريات التاريخية أو في بعض السياسات والشخصيات فعلينا أن نُرجع الأمر إلى الله ورسوله، ونرجع إلى قوله تعالى: {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم}. إن الله يريدنا أن نلتقي عليه، على دينه، وأن نحل كل القضايا التي نختلف فيها، سواء اتّصلت بتفاصيل العقيدة أو الفقه أو السياسة أو الاجتماع، أن نحلها بالأسلوب العلمي على أساس التقوى والمحافظة على وحدة الإيمان والمؤمنين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وكونوا أخواناً في الدنيا، لأن الأخوان في الدنيا هم الأخوان في الآخرة، {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين}، لأن الصداقة إذا لم تقم على أساس التقوى فإنها تتحوّل إلى عداوة في اليوم الآخر، والله تعالى حدّثنا عن صورة مجتمع الجنة بأنه مجتمع الأخوّة.. لذلك علينا أن نعيش الأخوّة الإيمانية لنرتفع بمجتمعنا إلى المجتمع الذي يتعاون على البرِّ والتقوى، ولا سيما أن الآخرين يعملون على إسقاط قوة الإسلام وإضعاف المسلمين، بإثارة كل النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية، لتبقى سيطرة المستكبرين عليهم، كما سيطروا عليهم من قبل عندما توزعوا بلادهم وجاءوا باليهود إلى فلسطين ومكّنوهم منها، ونحن لا نزال نعاني من هذا التفرّق بين المسلمين والعرب في مواجهتنا للعدو الصهيوني والاستكبار العالمي. لذلك كل من يأتي إليكم من أجل أن يثير فتنة بينكم، سواء كانت فتنة اجتماعية أو سياسية أو دينية، فعليكم أن تطردوه من مجتمعكم وترسموا عليه علامات الاستفهام. إننا نعيش مرحلة صعبة في هذه المنطقة من خلال تمزقاتنا، وعلينا أن نتابع مجريات هذه المرحلة، فماذا هناك؟؟

العملية الاستشهادية..إسقاط الخطة الشارونية:

لا تزال الانتفاضة مستمرة بقوتها الجهادية، بالرغم من الآلة العسكرية الصهيونية الضخمة التي تغتال الكوادر، وتجرف المزارع، وتدمّر المنازل، وتقصف المدنيين.. وقد استطاعت العملية الاستشهادية الأخيرة في القدس الغربية أن تهزّ الأمن الإسرائيلي في العمق، وتُسقط الخطة "الشارونية" في حماية اليهود في مواقع قوتهم، وتثبت أن يد المجاهدين طويلة، من خلال روحية الشهادة وقوة الردّ العنيف على الغطرسة الصهيونية.

إن ردّ الاحتلال الإسرائيلي على العملية الاستشهادية بالاستيلاء على المراكز الفلسطينية في القدس، وقصف مواقع السلطة الأمنية في أكثر من مكان، واجتياح بعض الأراضي المحرّرة، بما يمثل من سعيٍ للتنفيس عن الحقد الصهيوني الأسود ضد الشعب الفلسطيني، ومحاولة النيل من صلابته وصموده، لن يؤثر في صلابة المجاهدين، ولن ينال من قوتهم في مواجهة العدو.

أمريكا شريكٌ في الجرائم الوحشية:

أما أمريكا فإنها تحتج وتستنكر لأن العملية أصابت العدو في الصميم، وقد كان مسؤول أمريكي قد أعلن قبل ذلك أن إسرائيل لم تنتهك نظام الأسلحة الأمريكية في استعمالها الوحشي ضد الفلسطينيين، ما جعل العدو يشعر بالحرية العدوانية في استخدامه لهذه الأسلحة في العدوان على الفلسطينيين، الأمر الذي يجعل أمريكا شريكة في كل الجرائم الوحشية التي تقوم بها إسرائيل ضد الشيوخ والنساء والأطفال والكوادر والسلطة الفلسطينية، في الوقت الذي تدفع للعرب من حساب نفاقها السياسي بعض الكلمات المستنكرة لما يقوم به الجيش الصهيوني من عمليات قتل وتدمير، بطريقة حيية خجولة؟!

إن أمريكا تبيع العرب كلمات، ولكنها تقدّم للعدو الأسلحة والمواقف السياسية الداعمة، والحماية الدولية من كل إدانة.. وقد تجاوزت في خطابها السياسي مسألة الاحتلال التي تفرض على الدول المتحضّرة استنكاره، وتوجيه الرفض لإسرائيل فيه، والطلب إليها القيام بإعطاء الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله، وتحوّل الموقف الأمريكي إلى شجب "للعنف"، تماماً كما لو كانت القضية قضية عدوان على اليهود من قِبَل الفلسطينيين وإساءة إلى أمنهم، واعتبار العدوان الإسرائيلي عليهم دفاعاً عن النفس، بالرغم من كل ما تفرضه شرعة حقوق الإنسان من حق الفلسطينيين في الحرية!!

الشعب الفلسطيني سيد الموقف:

أما العرب فقد استنكروا العملية الاستشهادية، مع بعض الإدانة لليهود في عدوانهم، ولكن من دون أن يقدّموا للفلسطينيين أيّ دعم فاعل، بل بقيت الكلمات المتطايرة في الهواء هي كل ما يمثّل موقفهم السياسي؟! أما أوروبا فإنها تتحرك على هامش السياسية الأمريكية، مع بعض المجاملات للعرب أو للفلسطينيين مما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ويبقى الشعب الفلسطيني سيد الموقف، وبطل المبادرة، في وحدته الجهادية، وانتفاضته المستمرة، فذلك هو الذي يحقق له أهدافه الكبرى في الحرية والاستقلال، مهما قدّم من التضحيات في حركية الشهداء، مما قد يثقل ضمير العالم، ويهزم الأمن الإسرائيلي، ويربك اقتصاد العدو، لأن تاريخ الحرية يؤكد أن الشعوب لا بد أن تصل إلى استقلالها بالرغم من اختلال موازين القوة لصالح المحتل.

وتبقى الحركة الشعبية العربية والإسلامية هي الضرورة السياسية، للوقوف مع الشعب الفلسطيني، ولمحاصرة الدور الأمريكي في المنطقة الذي يقف مع العدو، والذي يقوم بمحاصرة العراق وقصفه لمواقعه الحيوية، وتجويعه لشعبه بالحصار الاقتصادي والعقوبات المستمرة عليه، لأن أمريكا تعاقب العرب بما لا تعاقب به أيّ شعب من الشعوب، نتيجة التمزّق العربي والعجز السياسي للدول العربية.

معاقبة الحكومة التركية:

وفي هذا الجوّ، نتابع تطوّر العلاقات التركية ـ الإسرائيلية، من خلال الزيارة التي قام بها "شارون" الجزّار لتركيا، مستعرضاً عضلاته العدوانية ضد الفلسطينيين، وإعلانه ـ من تركيا ـ متابعة اغتيال كوادرهم، من دون أن تستنكر حكومة تركيا ذلك، بل اكتفت ـ لحفظ ماء الوجه ـ بتسجيل موقفها في طلب تخفيف الشروط الإسرائيلية بالنسبة للمفاوضات..

إننا نشعر بأن الحكومة التركية تتحرك ضد إرادة شعبها، في التحالف العسكري مع إسرائيل ضد الحكومات العربية والإسلامية المحيطة بها، بحيث تنقل إسرائيل إلى حدود هذه الدول، ولا سيما إيران والعراق وسوريا، بحجة مواجهة الخطر الأمني القادم منها.. إننا نعتقد أن على العالم العربي والإسلامي معاقبة الحكومة التركية على هذا الموقف المعادي للعرب وللإسلام معاً.

وإننا ـ من جانب آخر ـ نقدّر حيوية العلاقات الأخوية الإسلامية بين الجمهورية الإسلامية في إيران ودولة الإمارات، ونأمل أن تتطور إلى حوار جدّي موضوعي بينهما لحل المشاكل العالقة، والتي تستغلها أمريكا لإرباك العلاقات الإسلامية بين إيران وجيرانها، ولا سيما قضية الجزر الثلاث التي نرجو أن تصل إلى نتائج طيبة في مصلحة الطرفين، انطلاقاً من القاعدة الإسلامية التي تؤكد أن المسلمين أخوة، على هدى الآية الكريمة: {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم}.

بالحوار نحفظ مستقبل البلد:

أما في الساحة اللبنانية الداخلية، فإننا نؤكد ترحيبنا بكل المصالحات التي تنفض غبار الحروب بين الطوائف اللبنانية، لاستقبال عهد جديد يعود فيه المهجّرون إلى مدنهم وقراهم بكل أمن وحرية واستقرار، بعيداً عن اللعبة السياسية الباحثة عن التناقضات المتحرّكة في ساحة التعقيدات..

ونشير إلى الجدل السياسي الأمني حول الاعتقالات الأخيرة، فنلاحظ أن مسألة السلم الأهلي والمحافظة على استقرار البلد وأمنه، وحماية الجيش اللبناني من أية انقسامات طائفية، هو أمرٌ لا مجال للتساهل فيه من قِبَل الدولة والمواطنين، في الوقت الذي نؤكد فيه على العدالة القانونية التي لا تحاسب الناس على أفكارهم بل على مواقفهم السلبية من المصلحة العامة للبلد، ما يفرض على الدولة ـ بكل أجهزتها ـ أن لا تسيء إلى الحريات العامة في نطاق القانون، ولا تقوم بانتهاك حرمة المواطنين وكرامتهم، ليشعر المواطن أن الدولة تحميه من نفسه ومن الآخرين ولا تضطهده، لأنّ إضعاف الدولة ليس في مصلحة أحد، كما أن مصادرة الحريات في نطاق المسؤولية ليس من مصلحة الدولة..

إننا ننصح بالكف عن عنصر الإثارة التي قد تسيء إلى وجه لبنان الحضاري في الخارج، وندعو إلى الحوار ومتابعة المسألة في نطاق العدالة، كما نطلق النداء الصارخ بالعمل على استقلال القضاء، والمنع من إدخاله في اللعبة السياسية، ومن الإساءة إليه في لعبة التجاذب السياسي.. إن البلد يواجه الأزمة الخانقة في المشكلة الاقتصادية التي لا بد للجميع من التعاون حتى يخرجوا منها، وإن المنطقة تتحرك في أجواء الرياح العاصفة التي لا يعرف أحدٌ اتجاهها، في حركة اللعبة الدولية ـ ولا سيما الأمريكية ـ فهي تقف على كفّ عفريت.

إن علينا أن نتعرّف موقعنا من ذلك كله، لنحفظ المرحلة من كل الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية.. لنحدّق بتحرير البلد، وفي مواجهة العدو المحتل، وفي دعم المقاومة، وفي الوقوف مع الانتفاضة، وفي الحذر من لعبة الأمم المتحدة الخاضعة للضغوط الأمريكية والإسرائيلية.. ولنعد إلى الوحدة الوطنية التي لا تبتعد عن التنوّع في مواقع الحوار، من أجل أن لا يسقط المستقبل في صراعات الحاضر.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية