ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
في كلام أمير المؤمنين عليّ (ع) الفكر والحكمة والموعظة، وعندما نستمع إليه (ع) يتكلم، فإننا نستمع إلى الحقيقة الصافية النقية، لا سيما في مواعظه التي تمتلئ بالروحانية الفيّاضة المتصلة بالله تعالى من دون حواجز، وتنفتح عليه ـ سبحانه ـ من خلال المعرفة الكلية به، فقد قال عليّ (ع) وهو يتحدث عن معرفته بالله: "لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"، لأنه (ع) عرف الله عزّ وجلّ معرفة، بحيث لو أزيلت كل الحواجز التي تتمثل في السماء والأرض، فإن يقينه يبقى في مستواه، ويُروى عن رسول الله (ص) أنه قال مخاطِباً أمير المؤمنين (ع): "يا عليّ، ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا".
الانفتاح على الحقيقة:
لذلك، لا بدّ لكم دائماً – أقولها للجيل الطالع من شبابنا ولكبار السن ولنسائنا – أن تعيشوا مع القرآن الكريم ومع رسول الله (ص) في كلماته، ومع أهل البيت (ع)، فإنكم بذلك تنفتحون على الحقيقة كل الحقيقة، وعلى الخير كل الخير، وعلى خط الاستقامة في كل مجالات الحياة.. فتعالوا نستمع إلى بعض كلمات عليّ (ع) التي يحدثنا فيها كيف نعيش الدنيا في استعدادنا للآخرة، حتى نليّن قلوبنا ونبعدها عن هذه القسوة التي تغلفها، وعن الاستغراق في الدنيا حتى كأننا خالدون فيها، ظناً أن سعادتها هي السعادة وشقاءها هو الشقاء، ولكن عليّاً (ع) يحدثنا بطريقة أخرى، فيقول:
"أفلا تائب من خطيئته قبل منَّيته":
"أما بعد، فإن الدنيا أدبرت – لأننا في كل يوم نستدبر يوماً آخر، أين الأمس وأين السنون الماضية من عمرنا؟ كانت مقبلة عندما وُلدنا ومع مرور الزمن أخذ عمرنا يُدبر – وآذنت بوداع – أنذرتنا بأنكم سوف تودعونني إن عاجلاً أو آجلاً، وقد أنذرت من كان قبلنا، فأين آباؤنا وأمهاتنا وأجدادنا؟ لقد أنذرتهم الدنيا وأكدت أنه لا بد من يوم أودعكم وتودعونني فيه، وسوف تودعنا ونودعها – وإن الآخرة قد أقبلت – لأن كل يوم يذهب من الدنيا فإننا نستقبل يوماً من الآخرة – وأشرفت باطّلاع ـ بحيث تأتينا بغتة، لأن الإنسان لا يعرف متى يأتيه الموت – ألا وإن اليوم المضمار – أي ساحة السباق التي تُدرّب فيها الخيول – وغداً السباق – إلى رحمة الله والجنة – والسبقة الجنة ـ لمن عمل للجنة – والغاية النار ـ لأن الذي لا يعمل للجنة فإن آخر مصيره إلى النار – أفلا تائب من خطيئته قبل منيَّته – فالله تعالى فتح باب التوبة فتُب إلى الله، وهو الذي أعطى الوعد بأن يقبل منك – ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه"، فاعمل لنفسك قبل أن يأتي اليوم الذي تُلحد فيه في قبرك وتقف في حشرك..
"ألا وإنه من لا ينفعه الحق يضرّه الباطل":
ويتابع أمير المؤمنين (ع) النداء: "ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل – لأن لكل أمل نهاية - فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله، ولم يضره أجله - فمن عمل في أيام الفرصة فأدى واجباته ولم يؤجلها، فإن عمله سوف ينفعه، وعندما يأتيه الأجل فإنه يكون مستعداً لهذه اللحظة - ومن قصّر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله – لأنه لم يشارك في السوق في أيام الموسم - وضرّه أجله، ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة، ألا وإني لم أرَ كالجنة نام طالبها ـ الله يحدثنا عن الجنة وما فيها من سعادة ورخاء، ولكن الإنسان يتغافل عنها، مع أنه في الدنيا يحارب من أجل متر واحد من قطعة أرض، فيبيع الجنة بشربة خمر وبشهوة محرّمة وبكلمة سباب وشتائم وحقد وكلمة تأييد لظالم - ولا كالنار نام هاربها – فعجباً لبعض الناس الذين يحذرونهم من الحريق وهم غارقون بالأحلام - ألا وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل – لأن البعض يزعم أن الحق لا يطعمه خبزاً ولا يعطيه ما يريد، ظناً منه أن الباطل ينفعه بينما فيه كل الضرر – ومن لا يستقيم به الهدى يجرّ به الضلال إلى الرَّدَى، ألا وإنكم قد أمرتم بالظَّعن – السَفَر – ودُللتم على الزاد –{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} – وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتّباع الهوى – بأن يعطي نفسه ما تريد وتشتهي – وطول الأمل، وتزوّدوا في الدنيا من الدنيا – من عملك وتقواك - ما تحرزون به أنفسكم غداً".
"اتباع الهوى يصد عن الحق":
وقد شرح الإمام عليّ (ع) هذا المقطع الأخير من ندائه بكلمة قالها في موضع آخر، جاء فيها: "أيها الناس، إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتّباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق – لأن هوى النفس وشهواتها تبعد الإنسان عن مواقع رضى الله تعالى وطاعته، وعن مواقع الحق في علاقتك مع الناس ومع الحياة كلها، وقد قال الله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} - وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد ولّت حذّاءً – سريعة - فلم يبقَ منها إلا صُبابة كصبابة الإناء اصطبّها صابّها – ونحن نصب من عمرنا ولم يبقَ منه إلا القليل - ألا وإن الآخرة قد أقبلت، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل ولد سيُلحق بأمه يوم القيامة – فإن كنت من أبناء الدنيا فإن الدنيا قد ذهبت وليس لك شيء فيها، وإن كنت من أبناء الآخرة فإنها تضمك وتحتضنك ولا تزال بك حتى تدخلك الجنة - وإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل".
هذه موعظة عليّ (ع) التي لم تقتصر على المرحلة التي عاش فيها، وإنما هي للإنسان كله وللزمن كله، فتعالوا نأخذ من وعظ عليّ (ع) وروحانيته ومعرفته بالله، فإننا عندما نلتزم عليّاً (ع)، فإننا نلتزم النور والنبأ والحقيقة، وإذا التزمنا عليّاً (ع) التزمنا محمداً (ص) معه، وإذا التزمناهما، فإننا نلتزم الله تعالى، لأن محمداً رسول الله، ولأن علياً وليّ الله، ولأن الله ربنا وحده لا شريك له.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في كل هذا العمر الذي تعيشون فيه وتتحملون مسؤوليتكم أمام الله تعالى، فإنه سبحانه سيسأل كل واحد منا عما قال كيف قال، وعما عمل كيف عمل، وسيسأل العين عما رأت والأذن عما سمعت واليد كيف تحركت والرجل كيف انطلقت.. إن علينا أن نكون الواعين لأقوالنا وأعمالنا ومواقعنا ومواقفنا ولتأييدنا ورفضنا وما إلى ذلك، والواعين لمسؤوليتنا عن أنفسنا وعن الناس من حولنا وعن أمتنا، كل بحسب طاقته وإمكاناته وظروفه، فلا نكون الفرديين الذين يفكرون بأنفسهم، لأن الله حمّل كل واحد منا طاقة للأمة كما حمّله طاقة لنفسه، فتعالوا نتعرف على ما في عالمنا من مشاكل وتحديات، فماذا هناك؟
حرب الفقراء ومصالح أمريكا:
لقد هدأت الحرب في البلقان، ولكنها لم تنتهِ، فهناك ألغام كثيرة لا تزال مزروعة في المنطقة، كما أن تطورات الأحداث وخلفياتها توحي بأن هناك شيئاً ما يجري التخطيط له لمناطق أخرى يستهدف تعزيز مصالح أمريكا ونفوذها.. فالحرب التي تدور في أفريقيا، وآخرها حرب الفقراء بين "أريتريا" و"أثيوبيا"، تدمر طاقات الشعبين معاً، وفي السياق نفسه تشتعل قضية "كشمير"، حيث يتعرض المسلمون المطالبون بحق تقرير المصير لحرب طاحنة من قِبَل القوات الهندية التي قد تفكر بالدخول في حرب مع باكستان، بسبب اتهامها بأنها تقف وراء مسلمي "كشمير"، هذا كله والعالم يتفرّج..
ويواصل مجلس الأمن – بالضغط الأمريكي والبريطاني – فرض الحصار على الشعب العراقي، والعالم يتفرّج.. وتبقى أكثر من حرب في الصومال وفي أكثر من بلد أفريقي تهدأ تارة وتثور أخرى، والعالم يتفرّج، لأن أمريكا صاحبة المصلحة في هذه الحروب التي تصنعها تدخلاتها الخفية والمعلنة، وتحركات عملائها الذين ينتهكون حقوق الإنسان في بلدانهم، وهي تدافع عنهم سرّاً وتنتقدهم علناً، فيما الشعوب تصرخ وتجوع وتموت أمام سمع العالم المتحضّر وبصره، ويبقى الصوت صارخاً: "فتّش عن أمريكا في ذلك كله"، في الشرق الأوسط وفي آسيا وأفريقيا.. والسؤال: متى يستريح العالم الإسلامي والعالم الثالث من جبروت هذا المستكبر الوحشي؟؟
عن أية تسوية يبحثون؟
وفي المنطقة يلهث الفلسطينيون ومعهم العالم العربي وراء "باراك"، ويتابعون تطورات تأليف حكومته، منتظرين الحلّ السحري للتسوية الذي يحلمون به من خلال الوعود الأمريكية.. ولكن السؤال: عن أية تسوية يبحثون؟! وأين العصا السحرية لتحقيق الحلم؟! قد يكون من الواقعية ومن الاحترام لأنفسهم أن يدرسوا الواقع الإسرائيلي الذي رفع فيه "باراك" لاءاته في القدس والمستوطنات وعودة الفلسطينيين إلى ديارهم، أما الباقي فيترك للمفاوضات، وفي ظل هذه التوجهات الصهيونية قد يبحث الفلسطينيون عن قرية صغيرة قريبة من القدس أو ضاحية من ضواحيها كـ"أبي ديس" ليقيموا عليها عاصمتهم، بعد أن يلحقها الإسرائيليون بالقدس، ما فتيحقق حلم السلطة الفلسطينية في دولة عاصمتها القدس حتى لو كانت قدساً مزيّفة.. ثم، هناك الانتخابات الأمريكية القادمة، وحركة اللوبي اليهودي المتغلل والمؤثر في أوضاعها ومسارها..
العرب وشبح الهزيمة الضاغط
إن المرحلة تحمل أكثر من ضغط على العرب من خلال نقاط الضعف الكثيرة في صفوفهم، مما يفرض عليهم أن يفكروا – ولو مرّة واحدة – بأن وحدة الموقف العربي في نطاق التنسيق والتضامن والإحساس بالعزة والكرامة، من أجل تحقيق المزيد من الصلابة والصمود والتحدي وتحريك القوة، هي الأساس في الوصول إلى النتائج الكبرى.. إن اليهود يزدادون التحاماً وهم مختلفون، ولكن العرب يزدادون تمزقاً وهم ينفعلون.. إن المشكلة هي أن السياسة العربية في أكثر مواقعها تمثل الخط المنفعل لا الخط الفاعل، وكأن شبح الهزيمة هو الذي يُراد له أن يفرض نفسه قبل أن تأتي ساعة المواجهة!!
هل تمثل برلمانات الدول الإسلامية شعوبها؟
وفي هذا الجو، فقد عُقد في طهران المؤتمر التأسيسي لاتحاد برلمانات دول منظمة المؤتمر الإسلامي، لأن هذه الدول – من خلال وفودها – تلمس مدى جسامة ما تواجهه بلدان العالم الإسلامي من تحديات وقضايا خطيرة، في مقدمتها قضية القدس الشريفة، بالإضافة إلى ما تواجهه المجتمعات الإسلامية والعربية التي ترزح تحت السيطرة الأجنبية..
إننا في الوقـت الذي نؤكد فيه على أهمية المناسبات التي تجمع الدول الإسلامية – كهذه المناسبة – وعلى أهمية احتضان الجمهورية الإسلامية لهذه المؤتمرات، إلا أننا نتساءل عما إذا كانت أكثرية هذه المجالس تمثل شعوبها وتعبّر عن إرادتها، وعن مدى فاعليتها، وكذلك عن الخدمات التي قدّمها المؤتمر الإسلامي للقضايا الإسلامية، ولا سيما قضية فلسطين، والقدس بالذات؟ ثم، هل أن هذه المجالس تستهدي الشريعة الإسلامية في تشريعاتها أو أنها تعتبر شعار تطبيق الشريعة جريمة يعاقب عليها القانون؟ إن الاتحاد قوة، ولكن إذا كان يمثل ذلك مضموناً حقيقياً للأمة وللإسلام..
السجال الداخلي يشغل الناس عن الاحتلال
وختاماً، إن المرحلة التي يمر بها لبنان لا تسمح بالسجال الداخلي الذي يشغل المواطنين عن التحديات الصهيونية واعتداءات العدو على قرى الجنوب والبقاع، ويعكّر أجواء الانتصارات التي تسجّلها المقاومة على قوات الاحتلال في عملياتها المتواصلة والناجحة، ويبتعد بالمواطنين عن ملاحقة الأوضاع الأمنية التي لا بدّ لهم أن يراقبوها بشكل دقيق في الداخل والخارج، حتى لا تتكرر المجازر الوحشية كمجزرة صيدا..
إن على الجميع تحمل مسؤولية حراسة البلد من كل اهتزاز أمني أو سياسي، والارتفاع إلى المستوى الذي يتكامل فيه الشعب والدولة في البحث عن الحلول الناجعة للمشاكل الاقتصادية، والتوجه نحو إخراج المحتل من الأرض، والوقوف مع المجاهدين للوصول إلى هدف التحرير.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
في كلام أمير المؤمنين عليّ (ع) الفكر والحكمة والموعظة، وعندما نستمع إليه (ع) يتكلم، فإننا نستمع إلى الحقيقة الصافية النقية، لا سيما في مواعظه التي تمتلئ بالروحانية الفيّاضة المتصلة بالله تعالى من دون حواجز، وتنفتح عليه ـ سبحانه ـ من خلال المعرفة الكلية به، فقد قال عليّ (ع) وهو يتحدث عن معرفته بالله: "لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"، لأنه (ع) عرف الله عزّ وجلّ معرفة، بحيث لو أزيلت كل الحواجز التي تتمثل في السماء والأرض، فإن يقينه يبقى في مستواه، ويُروى عن رسول الله (ص) أنه قال مخاطِباً أمير المؤمنين (ع): "يا عليّ، ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا".
الانفتاح على الحقيقة:
لذلك، لا بدّ لكم دائماً – أقولها للجيل الطالع من شبابنا ولكبار السن ولنسائنا – أن تعيشوا مع القرآن الكريم ومع رسول الله (ص) في كلماته، ومع أهل البيت (ع)، فإنكم بذلك تنفتحون على الحقيقة كل الحقيقة، وعلى الخير كل الخير، وعلى خط الاستقامة في كل مجالات الحياة.. فتعالوا نستمع إلى بعض كلمات عليّ (ع) التي يحدثنا فيها كيف نعيش الدنيا في استعدادنا للآخرة، حتى نليّن قلوبنا ونبعدها عن هذه القسوة التي تغلفها، وعن الاستغراق في الدنيا حتى كأننا خالدون فيها، ظناً أن سعادتها هي السعادة وشقاءها هو الشقاء، ولكن عليّاً (ع) يحدثنا بطريقة أخرى، فيقول:
"أفلا تائب من خطيئته قبل منَّيته":
"أما بعد، فإن الدنيا أدبرت – لأننا في كل يوم نستدبر يوماً آخر، أين الأمس وأين السنون الماضية من عمرنا؟ كانت مقبلة عندما وُلدنا ومع مرور الزمن أخذ عمرنا يُدبر – وآذنت بوداع – أنذرتنا بأنكم سوف تودعونني إن عاجلاً أو آجلاً، وقد أنذرت من كان قبلنا، فأين آباؤنا وأمهاتنا وأجدادنا؟ لقد أنذرتهم الدنيا وأكدت أنه لا بد من يوم أودعكم وتودعونني فيه، وسوف تودعنا ونودعها – وإن الآخرة قد أقبلت – لأن كل يوم يذهب من الدنيا فإننا نستقبل يوماً من الآخرة – وأشرفت باطّلاع ـ بحيث تأتينا بغتة، لأن الإنسان لا يعرف متى يأتيه الموت – ألا وإن اليوم المضمار – أي ساحة السباق التي تُدرّب فيها الخيول – وغداً السباق – إلى رحمة الله والجنة – والسبقة الجنة ـ لمن عمل للجنة – والغاية النار ـ لأن الذي لا يعمل للجنة فإن آخر مصيره إلى النار – أفلا تائب من خطيئته قبل منيَّته – فالله تعالى فتح باب التوبة فتُب إلى الله، وهو الذي أعطى الوعد بأن يقبل منك – ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه"، فاعمل لنفسك قبل أن يأتي اليوم الذي تُلحد فيه في قبرك وتقف في حشرك..
"ألا وإنه من لا ينفعه الحق يضرّه الباطل":
ويتابع أمير المؤمنين (ع) النداء: "ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل – لأن لكل أمل نهاية - فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله، ولم يضره أجله - فمن عمل في أيام الفرصة فأدى واجباته ولم يؤجلها، فإن عمله سوف ينفعه، وعندما يأتيه الأجل فإنه يكون مستعداً لهذه اللحظة - ومن قصّر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله – لأنه لم يشارك في السوق في أيام الموسم - وضرّه أجله، ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة، ألا وإني لم أرَ كالجنة نام طالبها ـ الله يحدثنا عن الجنة وما فيها من سعادة ورخاء، ولكن الإنسان يتغافل عنها، مع أنه في الدنيا يحارب من أجل متر واحد من قطعة أرض، فيبيع الجنة بشربة خمر وبشهوة محرّمة وبكلمة سباب وشتائم وحقد وكلمة تأييد لظالم - ولا كالنار نام هاربها – فعجباً لبعض الناس الذين يحذرونهم من الحريق وهم غارقون بالأحلام - ألا وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل – لأن البعض يزعم أن الحق لا يطعمه خبزاً ولا يعطيه ما يريد، ظناً منه أن الباطل ينفعه بينما فيه كل الضرر – ومن لا يستقيم به الهدى يجرّ به الضلال إلى الرَّدَى، ألا وإنكم قد أمرتم بالظَّعن – السَفَر – ودُللتم على الزاد –{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} – وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتّباع الهوى – بأن يعطي نفسه ما تريد وتشتهي – وطول الأمل، وتزوّدوا في الدنيا من الدنيا – من عملك وتقواك - ما تحرزون به أنفسكم غداً".
"اتباع الهوى يصد عن الحق":
وقد شرح الإمام عليّ (ع) هذا المقطع الأخير من ندائه بكلمة قالها في موضع آخر، جاء فيها: "أيها الناس، إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتّباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق – لأن هوى النفس وشهواتها تبعد الإنسان عن مواقع رضى الله تعالى وطاعته، وعن مواقع الحق في علاقتك مع الناس ومع الحياة كلها، وقد قال الله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} - وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة، ألا وإن الدنيا قد ولّت حذّاءً – سريعة - فلم يبقَ منها إلا صُبابة كصبابة الإناء اصطبّها صابّها – ونحن نصب من عمرنا ولم يبقَ منه إلا القليل - ألا وإن الآخرة قد أقبلت، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل ولد سيُلحق بأمه يوم القيامة – فإن كنت من أبناء الدنيا فإن الدنيا قد ذهبت وليس لك شيء فيها، وإن كنت من أبناء الآخرة فإنها تضمك وتحتضنك ولا تزال بك حتى تدخلك الجنة - وإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل".
هذه موعظة عليّ (ع) التي لم تقتصر على المرحلة التي عاش فيها، وإنما هي للإنسان كله وللزمن كله، فتعالوا نأخذ من وعظ عليّ (ع) وروحانيته ومعرفته بالله، فإننا عندما نلتزم عليّاً (ع)، فإننا نلتزم النور والنبأ والحقيقة، وإذا التزمنا عليّاً (ع) التزمنا محمداً (ص) معه، وإذا التزمناهما، فإننا نلتزم الله تعالى، لأن محمداً رسول الله، ولأن علياً وليّ الله، ولأن الله ربنا وحده لا شريك له.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في كل هذا العمر الذي تعيشون فيه وتتحملون مسؤوليتكم أمام الله تعالى، فإنه سبحانه سيسأل كل واحد منا عما قال كيف قال، وعما عمل كيف عمل، وسيسأل العين عما رأت والأذن عما سمعت واليد كيف تحركت والرجل كيف انطلقت.. إن علينا أن نكون الواعين لأقوالنا وأعمالنا ومواقعنا ومواقفنا ولتأييدنا ورفضنا وما إلى ذلك، والواعين لمسؤوليتنا عن أنفسنا وعن الناس من حولنا وعن أمتنا، كل بحسب طاقته وإمكاناته وظروفه، فلا نكون الفرديين الذين يفكرون بأنفسهم، لأن الله حمّل كل واحد منا طاقة للأمة كما حمّله طاقة لنفسه، فتعالوا نتعرف على ما في عالمنا من مشاكل وتحديات، فماذا هناك؟
حرب الفقراء ومصالح أمريكا:
لقد هدأت الحرب في البلقان، ولكنها لم تنتهِ، فهناك ألغام كثيرة لا تزال مزروعة في المنطقة، كما أن تطورات الأحداث وخلفياتها توحي بأن هناك شيئاً ما يجري التخطيط له لمناطق أخرى يستهدف تعزيز مصالح أمريكا ونفوذها.. فالحرب التي تدور في أفريقيا، وآخرها حرب الفقراء بين "أريتريا" و"أثيوبيا"، تدمر طاقات الشعبين معاً، وفي السياق نفسه تشتعل قضية "كشمير"، حيث يتعرض المسلمون المطالبون بحق تقرير المصير لحرب طاحنة من قِبَل القوات الهندية التي قد تفكر بالدخول في حرب مع باكستان، بسبب اتهامها بأنها تقف وراء مسلمي "كشمير"، هذا كله والعالم يتفرّج..
ويواصل مجلس الأمن – بالضغط الأمريكي والبريطاني – فرض الحصار على الشعب العراقي، والعالم يتفرّج.. وتبقى أكثر من حرب في الصومال وفي أكثر من بلد أفريقي تهدأ تارة وتثور أخرى، والعالم يتفرّج، لأن أمريكا صاحبة المصلحة في هذه الحروب التي تصنعها تدخلاتها الخفية والمعلنة، وتحركات عملائها الذين ينتهكون حقوق الإنسان في بلدانهم، وهي تدافع عنهم سرّاً وتنتقدهم علناً، فيما الشعوب تصرخ وتجوع وتموت أمام سمع العالم المتحضّر وبصره، ويبقى الصوت صارخاً: "فتّش عن أمريكا في ذلك كله"، في الشرق الأوسط وفي آسيا وأفريقيا.. والسؤال: متى يستريح العالم الإسلامي والعالم الثالث من جبروت هذا المستكبر الوحشي؟؟
عن أية تسوية يبحثون؟
وفي المنطقة يلهث الفلسطينيون ومعهم العالم العربي وراء "باراك"، ويتابعون تطورات تأليف حكومته، منتظرين الحلّ السحري للتسوية الذي يحلمون به من خلال الوعود الأمريكية.. ولكن السؤال: عن أية تسوية يبحثون؟! وأين العصا السحرية لتحقيق الحلم؟! قد يكون من الواقعية ومن الاحترام لأنفسهم أن يدرسوا الواقع الإسرائيلي الذي رفع فيه "باراك" لاءاته في القدس والمستوطنات وعودة الفلسطينيين إلى ديارهم، أما الباقي فيترك للمفاوضات، وفي ظل هذه التوجهات الصهيونية قد يبحث الفلسطينيون عن قرية صغيرة قريبة من القدس أو ضاحية من ضواحيها كـ"أبي ديس" ليقيموا عليها عاصمتهم، بعد أن يلحقها الإسرائيليون بالقدس، ما فتيحقق حلم السلطة الفلسطينية في دولة عاصمتها القدس حتى لو كانت قدساً مزيّفة.. ثم، هناك الانتخابات الأمريكية القادمة، وحركة اللوبي اليهودي المتغلل والمؤثر في أوضاعها ومسارها..
العرب وشبح الهزيمة الضاغط
إن المرحلة تحمل أكثر من ضغط على العرب من خلال نقاط الضعف الكثيرة في صفوفهم، مما يفرض عليهم أن يفكروا – ولو مرّة واحدة – بأن وحدة الموقف العربي في نطاق التنسيق والتضامن والإحساس بالعزة والكرامة، من أجل تحقيق المزيد من الصلابة والصمود والتحدي وتحريك القوة، هي الأساس في الوصول إلى النتائج الكبرى.. إن اليهود يزدادون التحاماً وهم مختلفون، ولكن العرب يزدادون تمزقاً وهم ينفعلون.. إن المشكلة هي أن السياسة العربية في أكثر مواقعها تمثل الخط المنفعل لا الخط الفاعل، وكأن شبح الهزيمة هو الذي يُراد له أن يفرض نفسه قبل أن تأتي ساعة المواجهة!!
هل تمثل برلمانات الدول الإسلامية شعوبها؟
وفي هذا الجو، فقد عُقد في طهران المؤتمر التأسيسي لاتحاد برلمانات دول منظمة المؤتمر الإسلامي، لأن هذه الدول – من خلال وفودها – تلمس مدى جسامة ما تواجهه بلدان العالم الإسلامي من تحديات وقضايا خطيرة، في مقدمتها قضية القدس الشريفة، بالإضافة إلى ما تواجهه المجتمعات الإسلامية والعربية التي ترزح تحت السيطرة الأجنبية..
إننا في الوقـت الذي نؤكد فيه على أهمية المناسبات التي تجمع الدول الإسلامية – كهذه المناسبة – وعلى أهمية احتضان الجمهورية الإسلامية لهذه المؤتمرات، إلا أننا نتساءل عما إذا كانت أكثرية هذه المجالس تمثل شعوبها وتعبّر عن إرادتها، وعن مدى فاعليتها، وكذلك عن الخدمات التي قدّمها المؤتمر الإسلامي للقضايا الإسلامية، ولا سيما قضية فلسطين، والقدس بالذات؟ ثم، هل أن هذه المجالس تستهدي الشريعة الإسلامية في تشريعاتها أو أنها تعتبر شعار تطبيق الشريعة جريمة يعاقب عليها القانون؟ إن الاتحاد قوة، ولكن إذا كان يمثل ذلك مضموناً حقيقياً للأمة وللإسلام..
السجال الداخلي يشغل الناس عن الاحتلال
وختاماً، إن المرحلة التي يمر بها لبنان لا تسمح بالسجال الداخلي الذي يشغل المواطنين عن التحديات الصهيونية واعتداءات العدو على قرى الجنوب والبقاع، ويعكّر أجواء الانتصارات التي تسجّلها المقاومة على قوات الاحتلال في عملياتها المتواصلة والناجحة، ويبتعد بالمواطنين عن ملاحقة الأوضاع الأمنية التي لا بدّ لهم أن يراقبوها بشكل دقيق في الداخل والخارج، حتى لا تتكرر المجازر الوحشية كمجزرة صيدا..
إن على الجميع تحمل مسؤولية حراسة البلد من كل اهتزاز أمني أو سياسي، والارتفاع إلى المستوى الذي يتكامل فيه الشعب والدولة في البحث عن الحلول الناجعة للمشاكل الاقتصادية، والتوجه نحو إخراج المحتل من الأرض، والوقوف مع المجاهدين للوصول إلى هدف التحرير.