يومُ الغديرِ: تجديدُ البيعةِ لعليٍّ (ع) بالالتزامِ بنهجِه

يومُ الغديرِ: تجديدُ البيعةِ لعليٍّ (ع) بالالتزامِ بنهجِه

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67].
يومُ الولايةِ لعليٍّ (ع)
وكان النَّبيّ (ص) قد بلَّغ الرّسالة الَّتي أنزلها الله عليه كلّها؛ لم يبق هناك حكمٌ إلّا وبلَّغه، ولا مفهوم إلَّا وعرَّفه، ولا منهجٌ إلَّا وخطَّطه. ولكنَّ الله أرادَ له أن يبلِّغ شيئاً آخر هو من صلب الرّسالة، ولكنَّه يحمي الرِّسالة؛ يحميها من تحريف المحرِّفين، وتضليل المضلِّلين، وتشويه المشوِّهين، ولن يحمل هذه الرِّسالة بعد الرَّسول إلَّا الشَّخصُ الَّذي عاش كلَّ الرّسالة في عقله، وكلَّ أخلاقها في خُلُقه، وكلَّ روحانيَّتها في روحانيَّته، وكلَّ صلابتها في صلابته، وكلَّ زهدها في زهده، وكلَّ علمها في علمه.
مَنْ هناك؟ وليس هناك إلَّا شخص واحد: "عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ"، "أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها"، "أمَا ترضى أن تكونَ منِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى؟ غيرَ أنَّه لا نبيَّ بعدي".
وقال الله له إنَّ الناس من الكافرين والمنافقين سيتحدّثون أنَّك أعطيت الإمامة لابن عمِّك وصهرك، فلا تخف، ولا تحزن، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
ووقف، وكان الجوُّ محرقاً في حرارته في تلك الصَّحراء في وقت الظَّهيرة، ودعا بعليّ (ع)، ورفع يده بيده، حتَّى بان بياض إبطيهما للنَّاس، ثمَّ قال: "ألسْتُ أولى بالمؤمنينَ منْ أنفسِهِم؟ فقالوا: اللَّهمَّ بلى، قال (ص): فمن كنْتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه، وانصرْ مَنْ نصرَهُ، واخذلْ مَنْ خذلَهُ".
ومن هناك، انطلق الوحي من جديد، يوم الغدير، يوم الولاية، يوم الامتداد الإسلاميّ في الإنسان الَّذي كان وحده بعد رسول الله يجسِّد الإسلام كلَّه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ - أكملت النبوَّة بالولاية الّتي هي خطٌّ ومنهجٌ وحركةٌ وإخلاصٌ وموقفٌ في الحياة - وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، نقف مع عليّ (ع )، لا في يوم الغدير فحسب، ولكنَّنا نقف مع عليّ في كلِّ يوم؛ نقف معه لأنَّه كان الفكر الَّذي أشرق بالإسلام في صفائه ونقائه، لأنَّه الإنسان الَّذي باع نفسه لله، فلم يبق لنفسه من نفسه شيء، لأنَّه الإنسان الَّذي أعطى الإسلامَ من عقله عقلا،ً ومن روحه روحاً، ومن حركته حركة.
بدأ مع رسول الله في طفولته الأولى، وغذَّاه رسول الله من خُلُقه، ومن علمه، ومن روحه، ومن كلِّ ابتهالاته، ما جعله يعيش روح رسول الله، ويعيش عقله وروحانيَّته وحركته.
وهكذا كان مع رسول الله في بيته، وكان مع رسول الله في مسجده، وكان مع رسول الله عندما ينزل عليه جبرائيل، وكان يقول له: "يا عليّ، إنَّكَ تسمعُ ما أسمعُ، وترى ما أرى، إلَّا أنَّكَ لسْتَ بنبيٍّ"، وكان مع رسول الله في حربه وسلمه، لأنَّه كان مع الله، ولأنَّه كان للإسلام كلّه.
مسؤوليَّةُ الالتزامِ بالولاية
أيُّها الأحبَّة، إنَّ التزامنا بولاية عليٍّ (ع) وولاية الأئمَّة من أهل بيته (ع)، هو التزامٌ بالإسلام كلِّه، والتزامٌ بالقرآن كلِّه، والتزامٌ بالسنَّة كلِّها، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أرادنا أن ننطلق معهم، لأنَّهم حملوا الكتاب بعدَ رسول الله (ص) كما لم يحمله أحد، ولأنَّهم حملوا السنَّة كما لم يحملها أحد.
ولهذا، فإنَّ الالتزام بعليٍّ (ع) يكلِّفنا كثيراً، لأنَّ عليّاً ليس عاطفةً تنبض بها قلوبنا، ولكنَّه خطٌّ يحكم كلَّ حياتنا، ومنهجٌ يحكم كلَّ حركتنا. إنَّ عليّاً يمثِّل الحقَّ كلَّه، فمن لم يلتزم الحقَّ في حياته، فلا علاقة له بعليّ، حتَّى لو هتف باسم عليّ، ولأنَّ عليّاً كان العدل كلَّه، فمن لم يلتزم العدل في حياته، فليس له علاقة بعليّ، حتَّى لو كان يهتف باسم عليّ. لقد كان عليّ مع الله، فمن لم يكن مع الله، فكيف يمكن أن يكون مع عليٍّ؟!
كان يقول للنَّاس من حوله: "لَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً؛ إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُم"، إنَّني أريدكم أن تعرفوا الله. ولذلك، عاش كلَّ حياته يثقِّف النَّاس بمعرفة الله، لأنَّه عرف الله حتَّى قال: "لوْ كُشِفَ ليَ الغطاءُ ما ازددْتُ يقيناً"، وكان يعمل على أن يثقِّف النَّاس بتقوى الله وبمنهجه وأحكامه.
مصلحةُ الإسلامِ أوّلاً
أيُّها الأحبَّة، إنَّ عليّاً (ع) عاش للإسلام كلّه، حتى إنَّه وقف أمام حقِّه، عندما جاءت التَّعقيدات التي أبعدته عن حقّه الَّذي هو الحقّ الحقّ، ولكنَّه لم يضعف، ولم يتزلزل، ولم يعش العقدة ضدَّ المسلمين، لأنَّ عليّاً لا يحمل العقدة لأحد، كان قلبه مفتوحاً للنَّاس كلِّهم، كان قلبه مفتوحاً لأعدائه ولأوليائه، وقد أوصانا (ع): "احصدِ الشَّرَّ من صدرِ غيرِكَ بقلعِهِ من صدرِكَ".
لذلك، لم يكن في صدر عليّ شرٌّ حتى للَّذين اضطهدوه، وحتى للذين أبعدوه، كان الخير كلّه، لأنَّ عليّاً كان مع الله، ومَنْ كان مع الله، لا يمكن إلَّا أن يعيش الخيرُ في عقلِهِ وقلبِهِ وحياتِهِ.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، تعالوا نغرف من بحرِ عليّ (ع)، تعالوا نتعلَّم من عليٍّ كيف نحفظ الإسلامَ والمسلمينَ من كلِّ عصبيَّاتنا، فقد كانَ عليٌّ (ع)، وهو صاحب الحقّ، لا يعيش العصبيَّة في نفسه لينغلق عن النَّاس، ونحنُ نعرفُ أنَّه عندما رأى أنَّ الواقع الإسلاميَّ قد وصل إلى حدٍّ لا يتحمَّل أيّ فتنة، جمَّد موقفه ولم يلغه، جمَّد المطالبة بحقِّه، ولم يتنازل عن حقِّه، وقال: "لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إلَّا عليَّ خاصَّة"، فإذا كنت أنا المظلوم فلا مشكلة، المهمّ أن لا يُظلَمَ الإسلامُ ولا يُظلَمَ المسلمون.
وهكذا، أعطى النَّصيحة لمن تقدَّمه، وأعطى الرَّأي لمن أبعده، وعاش فترة خمسٍ وعشرين سنة، وهو يحلُّ المشكلات الجديدة الَّتي واجهت المسلمين بعد الفتوحات، وهو يعالج القضايا الصَّعبة، وهو الَّذي يتحمَّل ما تحمَّل، وهذا ما عبَّر عنه في الخطبة الشَّقشقيَّة الَّتي نفث فيها ما في نفسه من آلامٍ وهموم، ولكنَّه بقي للحقِّ كلِّه، حتَّى قال عنه عمر بن الخطّاب آنذاك: "لولا عليٌّ لهلكَ عمر"، "معضلةٌ ولا أبا حسنٍ لها"، وحتّى قال (ع)، وهو يعالج مسألة الشّورى: "حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ، فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا...".
كان (ع) يقول: "لوْ وليَها عَليٌّ لحَمَلَهُم عَلَى المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ"، فلو وليَ عليٌّ (ع) الخلافة، لحملَ النَّاسَ على الطَّريقِ الأبيضِ الَّذي لا ظلمةَ فيه ولا اعوجاج.
خطُّ الحاكمِ عندَ عليٍّ (ع)
وعندما عاش (ع) تجربة الخلافة بعد أن صارت الخلافة الفعليَّة إليه، كان يتحدَّث مع أصحابه هؤلاء الَّذين خرَّبوا عليه خطَّته، وكان ينفتح على الله، ويبيِّن لنا خطَّ الحاكم في الإسلام.
استمعوا إليه في هذه الخطبة القصيرة الّتي تتحرَّك في أكثر من موقع.
يقول (ع)، وهو يتحدَّث مع أصحابه الَّذين أثاروا الكثير من الخلافات حوله: "أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الْمُخْتَلِفَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ - الَّتي يتحرَّك كلّ واحد فيها في طريق يختلف عن الآخر - الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ! – يعني إني أراكم في أبدان صحيحة، ولكنَّ مشكلتكم أنّكم لا تعيشون مع عقولكم، بل تعيشون مع غرائزكم، كالكثرين من النَّاس الذين يتحركون بفعل غرائزهم ولا يتحركون بفعل عقولهم - أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الْأَسَدِ – وأظأركم يعني أدعوكم إلى الحقّ، ولكنّكم تنفرون عنه كما تنفر المعزى عندما يقبل عليها الأسد - هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ الْعَدْلِ - يعني أن أؤكِّد العدل من خلالكم – أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ".
ثمَّ صرف نظره عنهم، وبدأ يناجي ربَّه، وهو يتحدَّث مع النَّاس، أراد أن يشهد ربَّه على خلفيَّات مطالبته بالحكم، وأنَّ مطالبته بالحكم ليسَتْ شهوةً وليسَتْ طموحاً، وليسَتْ طمعاً، ولكنَّها رسالة، أراد أن يشهد ربَّه على ذلك، ويشكو لربِّه ذلك، وكأنَّه يقول: يا ربّ، إنَّك تعلم ما في نفسي، ولكنَّ مشكلتي أني أعيش في مجتمعٍ لا يفهمني جيّداً، وفي مجتمعٍ لا يعرف عمق عليٍّ وصفاءه، ولا يعرف الأفق الواسع الرَّحب الَّذي يعيش فيه عليّ:
"اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا – من المطالبة بحقّنا - مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ – كما يتنافس السّلاطين، ليعمل هذا أو ذاك على أن يزيل الآخر ليجلس مكانه - وَلَا الْتِمَاسَ شَيْ‏ءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ - حتَّى نحصل على مالٍ أو متاعٍ من حطام الدّنيا - وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ – نحن نطلب الحكم من أجل أن نؤكِّد معالم الدّين وخطوطه وكلَّ مواقعه وكلّ مفاصله - وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ – لأنَّنا نجد هناك فساداً في الفكر، وفي العمل، وفي المنهج، وفي الذهنيَّة، ونحن نعمل على أن نظهر الإصلاح من خلال الحكم الَّذي نتطلّبه، والّذي نخطِّط له أن يجري في الخطِّ المستقيم - فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ – إنَّنا نريد أن نظهر الإصلاح، أن نرد المعالم من دينك، من أجل أن يأمن المظلومون من عبادك أنَّ حقَّهم لا بدَّ أن يصل إليهم، وأنَّ ظلامتهم لا تبقى من دون حلّ ومن دون عدل.
- وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ – وينفَّذ القانون الَّذي يعطي لكلِّ حقٍّ حقَّه، ويقف بالنَّاس عندَ النِّظام العام الَّذي يشملهم جميعاً.
- اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ – أوَّل من رجع إليك عندما دعا رسول الله النَّاس - وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ (ص) بِالصَّلَاةِ – كان رسول الله هو أوَّل من صلَّى لك، وكنْتُ الثَّاني الَّذي صلَّى لك. لذلك، إنَّ علاقتي بك، يا ربّ، هي علاقتي بالصَّلاة الّتي تمثِّل هذا العروجَ الرُّوحيَّ للإنسان أمام الله سبحانه وتعالى.
المُؤْتَمَنُ عَلَى الحُكْمِ
ثمَّ بدأ يبيِّن للنَّاس مَنْ هو المؤتمن على الحكم، والمؤتمن على إمامةِ النَّاس:
- وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ – إذا كان الحاكم من البخلاء، والبخيل عادةً يجمع المال ويحرص عليه، فيأخذ أموال النَّاس، ولكنّه لا يعطيهم منها - وَلَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ – لا بدَّ أن يكون الوالي على المسلمين إنساناً عالماً، يستطيع أن يعطي المسلمين من علمه، حتَّى يهديهم بعلمه، كما يتحرَّك بهم بعدله - وَلَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ - الإنسان الّذي يعيش حالة الجفاء والقسوة - وَلَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ – الإنسان الَّذي يجور على النَّاس - فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ - فيفضِّل قوماً دونَ قوم - وَلَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ، فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ – لأنَّه يعطي الحكم لمن يعطيه الرَّشوة أكثر- وَيَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ، وَلَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّةَ".
وهكذا كان عليّ (ع) في كلِّ حياته.
تجديدُ البيعةِ لعليّ (ع)
أيُّها الأحبَّة، إنَّ عليَّاً كان مع الحقّ في كلّ مواقعه، وكان مع الحقّ في كلِّ خطواته، وكان مع الحقّ في كلِّ كلماته. فإذا أردنا أن نجدِّد البيعة لعليّ (ع) في يوم الولاية، فعلينا أن نقول له: يا أمير المؤمنين، لقد كنْتَ أوَّلَ القوم إسلاماً، وأقدمَهم إيماناً، وها نحن نبايعك على أن نكون المسلمين كما هو الإسلام الَّذي جاء به رسول الله، ونبايعك على الإيمان الَّذي جاء به رسول الله. يا عليّ، لقد كانت حياتك كلّها مع الحقّ، ونحن نعاهدك على أن نكون مع الحقّ كلّه؛ في العقيدة، وفي الشَّريعة وفي المنهج، ومع الحقّ في السياسة، وفي الحياة الاجتماعيَّة العامَّة. يا عليّ، انظر إلينا من عليائك، واطلب لنا من ربِّك أن يثبِّتنا على الإيمان.
إنَّ عليّاً يكلِّف الَّذين يوالونه كثيراً، إنَّ عليّاً (ع ) لا يمكن أن يستقبلنا إذا كان بعضنا يظلم بعضاً، وإذا كان بعضنا يمزِّق بعضاً، لا يمكن أن يستقبلنا عنده غداً يوم القيامة، وهو قسيم الجنَّة والنَّار، عندما يجدنا وقد مزَّقنا واقع المسلمين بعصبيَّاتنا وحزبيَّاتنا وكلِّ غرائزنا، عندما يجدنا نقف مع الظَّالمين والمستكبرين، ونترك العادلين والمتواضعين.
أيُّها الأحبَّة، من جديد، إنَّ علينا أن نقترب من عليّ (ع)، وأن لا نضيِّعه كما ضيَّعه الَّذين عاشوا معه، وأن نعمل على نقرأه جيِّداً، وأن نفهمه جيِّداً، وأن نتَّبعه جيِّداً. وتذكَّروا ما قاله الإمام محمَّد الباقر (ع) مما روي عنه: "حسب الرَّجلِ أنْ يقولَ أحبُّ عليّاً وأتولَّاه ثمَّ لا يكون مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً؟ فَلَوْ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اَللَّهِ، وَرَسُولُ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، ثُمَّ لَا يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ، وَلَا يَتَّبِعُ سُنَّتَهُ، مَا نَفَعَهُ حُبُّهُ إِيَّاهُ شَيْئاً... مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، وَمَاْ تُنَالُ ولاَيَتُنَا إِلَّا بِالْوَرَعِ وَاَلْعَمَلِ".
هذا هو خطُّ الولاية؛ أن تفعل ما أمرك الله به، وأن تترك ما نهاك الله عنه، إنَّك بهذا تسير في خطِّ الولاية، وتجسِّد الولاية، الولاية ليست كلمة، ولكنَّها فكر وقلب وموقف وحركة وحياة.
                          يَاْ سَمَاءُ اشْهَدِي ويَاْ أَرْضُ قرِّي               واخْشَعِي إِنَّني ذكرْتُ عَلِيّا
                                                             بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                                    الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله، وانفتحوا على الحقِّ في طريقِ الله، وفي طريقِ أنبيائِهِ ورسلِهِ، وواجهوا الحقَّ بالموقفِ الصّلبِ الَّذي يقف أمام الباطل بكلِّ قوَّة، حتَّى يصرع الباطل، وحتّى يبعد الباطل عن الواقع كلِّه.
مأساةُ كوسوفو
نحن، أيُّها الأحبَّة، في مرحلة من المراحل القاسية الَّتي يعيش فيها المسلمون أكثر من مشكلة أمام الكفر والاستكبار، وهذا ما عشناه في هذه الأيَّام، في مأساة كوسوفو الَّتي لا يزال العالم يضجُّ منْ آلامِها ومن جراحاتها، ومن مجازرها ومشاكلها، ومن المؤامرات الَّتي يتحرَّك فيها العالم المستكبر ليرفع الشِّعار الدّفاعي عنها، ولكنَّه يساهم بطريقة وبأخرى في تعميق مأساتها أكثر.
فها نحن نجد أنَّ ما تحرَّك به الحلف الأطلسي في هذه المسألة، ساهم في تهجير مئات الألوف من هؤلاء النَّاس من بيوتهم، وبذلك رأينا هناك تعاوناً بطريقة سلبيَّة بين الصّرب والحلف الأطلسي؛ فهذا يهجِّر بمجازره، وذاك يهجِّر بسياسته، حتَّى أصبحت المسألة مسألة إنسانيَّة يتحدَّث فيها العالم كيف يمكن أن يمنح اللّجوء لآلافٍ في هذا البلد أو ذاك البلد، وكيف يمكن أن يستوعب هؤلاء المهاجرين، وكيف يمكن أن يهيِّئ لهم الغذاء والمسكن وما إلى ذلك.
تماماً كما هي القضيَّة الفلسطينيَّة، عندما شُرِّد الفلسطينيّون من فلسطين بفعل المؤامرة الدوليَّة الَّتي وقف فيها العالم المستكبر مع إسرائيل، وكان الفلسطينيّون يأملون من خلال تصريحات هنا وتمنّيات هناك، وقرارات للأمم المتحدة هنا وهناك، أن يرجعوا إلى فلسطين، وابتعدت عنهم فلسطين، حتَّى أصبح الحديث عن عودة الفلسطينيّين الَّذين هم خارج فلسطين، مجرَّد كلامٍ لا معنى له في المسألة السياسيَّة في العالم، وحتّى إنَّ الفلسطينيّين الَّذين يعيشون في داخل فلسطين، لا يأمنون على أنفسهم أن يهجَّروا طواعيةً أو إكراهاً، بفعل عمليّات الاستيطان، وبفعل التعسّف الَّذي تقوم به إسرائيل، دون أن تعترض أمريكا أو غير أمريكا في هذا المجال.
إنَّ المشكلة الَّتي تتحرَّك الآن في كوسوفو هي مشكلة إسلاميَّة تدلِّل كيف أنَّ هذا العالم المستكبر يعمل على اضطهاد المسلمين، حتَّى لو كانوا في منطقة أوروبيَّة، لأنَّ الأوروبّيين، ومعهم الأمريكيّون، لا يريدون للمسلمين أن يكون له وجود مستقلّ فاعل في منطقة أوروبَّا، انطلاقاً من العقدة ضدَّ الإسلام والمسلمين.
ضعفُ الموقفِ الإسلاميّ
ومن اللَّافت، أيُّها الأحبَّة، أنَّ المسلمين، أو ما يسمَّى الدول الإسلاميَّة المنضمَّة إلى منظَّمة المؤتمر الإسلامي، لم تتَّخذ أيّ موقف فاعل أمام هذه القضيَّة، لم تقدِّم أيّ مشروع لحلّ هذه المشكلة، لم تقم بأيّ ضغط على الواقع الدولي في هذا المجال، بل إنها اكتفت بكلمات الاستنكار، وبالإغاثة الإنسانيَّة هنا وهناك. والسؤال الآن: ما معنى أن يكون للدّول الإسلاميّة منظَّمة المؤتمر الإسلامي الّتي لا تحرِّك ساكناً في رعاية شوؤن المسلمين؟ إنها مجرّد منظَّمة تجتمع وتصدر القرارات وتنسى القرارات في اليوم الثَّاني.
إنَّنا نخشى من هذا الواقع الإسلامي الَّذي يعيش ما يشبه حالة انعدام الوزن، تحت تأثير الهيمنة الأمريكيّة الَّتي تسيطر على أغلب مواقع السياسة في العالم الإسلامي. إنّنا نخشى أن تتحرَّك بين يومٍ وآخر مشكلةٌ كمشكلة المسلمين في كوسوفو، أو المسلمين في أيّ مكان آخر.
إنَّنا نجد أنَّ أمريكا تعمل على حماية مصالحها، لا حماية المسلمين هنا وهناك. ولو كانت أمريكا تعمل على أساس مراعاة الجوانب الإنسانيَّة والجوانب السياسيَّة في الحالة الإنسانيَّة، ما وقفت هذا الموقف من الفلسطينيّين، حيث تدعم إسرائيل بكلِّ قوَّة، ولما وقفت هذا الموقف في استمرارها في إبقاء الحصار على الشَّعب العراقيّ الَّذي كاد يموت جوعاً بأطفاله ونسائه وشيوخه، لأنَّ المسألة هي أنَّ أمريكا تعمل على أساس أن ترعى مصالحها هنا وهناك. ولا تصدِّقوا أنَّ أمريكا يمكن أن تكون داعمة لأيِّ موقع إسلاميّ، كما يحاول بعض النَّاس أن يقدِّر موقف أمريكا في يوغوسلافيا، لأنَّ أمريكا لا تقصف يوغوسلافيا لمصلحة المسلمين، ولكن لمصالحها السياسيَّة هنا وهناك، لأنَّ الذّئب، أيُّها الأحبَّة، حتَّى لو أراد أن يعيش مع الحمل، فلا تصدِّقوا أنَّه يمكن أن يفكِّر بطريقة إنسانيَّة، أو بطريقة معقولة.
إنَّنا نريد أن نركِّز على نقطة، وهي أنَّ هناك محاولةً في بعض مواقع الإعلام، بإثارة المشكلة بينَ المسيحيِّين والمسلمين، على أساس أنَّ الصّرب يمثّلون الحالة المسيحيّة الأرثوذكسيّة، وأنَّ الكوسوفيّين من أصل ألباني هم مسلمون. والواقع أنَّ المسألة ليست مسألة الشَّعب هناك، ولكنّها مسألة السياسة الدوليَّة الّتي تتحرَّك مع تعقيدات السياسة الإقليميّة، ولذلك لا ينبغي أن نثير المسألة على أساس أنَّها صراع بين الإسلام والمسيحيَّة، لنخلق عقدة جديدة أو مشكلة جديدة في هذا الاتجاه. هذه نقطة.
إنذارٌ لفرنسا وكندا
ونقطة ثانية، نحن نقرأ في الأخبار أنَّ أمريكا عملت على أن توجِّه إلى فرنسا وكندا إنذاراً، لأنَّ شركتين فرنسيَّة وكنديَّة، دخلتا في عقد نفطيّ مع الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، باعتبار أنَّ أمريكا تريد أن تضيِّق الحصار على الجمهوريَّة الإسلاميَّة، حتَّى لا تعيش حالة من حالات الانفتاح الاقتصادي الَّذي يمكن أن يمنحها القوَّة.
إنَّ أمريكا عملت على أساس تقديم الاحتجاج على أعلى المستويات، كما ذكروا، ولكنَّنا نلاحظ أنَّ إيران تجاوزت هذا الحصار، واستطاعت أن تستفيد من الصِّراع الاقتصادي داخل دول الغرب، لتحصل على أكثر من فرصة اقتصاديَّة لخدمة قضاياها ومصالحها، باعتبار أنَّ الغرب، وإن اتَّفقت سياسته في كثير من الحالات، لا يزال يعيش حالةً من الصِّراع الاقتصادي.
وقد لاحظنا أيضاً قبل مدَّة، أنَّ أمريكا فرضت على ثلاث شركات روسيَّة بعض العقوبات الاقتصاديَّة، لأنَّها باعت سوريا بعض الصَّواريخ المضادَّة للدبَّابات، باعتبار أنَّ ذلك سوف يسيء إلى أمن إسرائيل، لأنَّ أمريكا لا تريد لسوريا وللدّول المحيطة بفلسطين، أن تملك حتَّى حقّ الدّفاع عن نفسها، وأن تملك الأسلحة الَّتي تدافع بها عن نفسها إزاء العدوان الإسرائيلي. وهي في الوقت نفسه، تعمل بكلِّ قوَّة على أن تزوِّد إسرائيل بكلِّ الطَّائرات المتطوّرة من طراز 16F، لأنها تريد أن تعطيها القوَّة التي تتفوّق بها على كلّ دول المنطقة، سواء كانت عربيّة أو إسلاميَّة.
إنّ علينا، أيّها الأحبّة، كشعوب عربيَّة وإسلاميَّة، أن نفهم ما معنى أمريكا في سياستها الَّتي تعمل على أساس إسقاط شعوبنا العربيَّة والإسلاميَّة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، لتكون إسرائيل هي الأقوى، ومصالحها هي المصالح الأساسيَّة في هذه المنطقة على حساب مصالحنا.
عدوانٌ صهيونيٌّ على الجنوب
ثمَّ نصل بعد ذلك إلى لبنان، لنلاحظ أنَّ العدوان الإسرائيلي على الجنوب، لا يزال يحصد الأطفال الأبرياء، كما لاحظناه فيما جرى من قصف حبوش وعربصاليم، الَّذي حصد كثيراً من الأطفال الجرحى. ونحن نتساءل: لو أنَّ المقاومة هي الَّتي قصفت مناطق الجليل، وسقط هناك بعض أطفال اليهود، فماذا تكون النّتيجة؟ ستجد الإعلام الأمريكي والأوروبي يتحدَّث عن هذه الوحشيَّة للمقاومة، وعن هؤلاء الأطفال الأبرياء وما إلى ذلك. ولكنَّ أطفالنا لا يحملون صفة إنسانيَّة عند هذا العالم المستكبر، ولذلك لم ينطلق هناك أيّ صوت، لا من أمريكا ولا من أوروبّا، وحتى إنّنا لم نسمع أيّ صوت عربيّ يندِّد بهذه الجريمة الوحشيَّة.
وعلينا أن نتساءل: أيّ عالم هو هذا العالم؟ وأيّ ظلم هو هذا الظّلم الَّذي يعيشه الناس في هذا العصر؟!
إنَّنا نتصوَّر أنَّ إسرائيل تعيش المأزق الكبير الَّذي يضطرّها إلى القيام بمثل هذه الجرائم وبمثل هذه المجازر، لأنَّ المقاومة استطاعت أن تحاصرها، وأن تخلق أكثر من مأزق لها. وفي الوقت نفسه، نقدِّر الموقف الشَّعبي الرافض للاحتلال الَّذي أبداه أهالي بلدة شبعا، فيما يشبه الانتفاضة الَّتي نأمل أن تتوسَّع وتمتدّ لتواكب المواقفُ الشعبيَّةُ في المنطقة المحتلَّة، ما تقوم به المقاومة من إرهاقٍ مستمرٍّ للاحتلال، ليعرفَ العالم أنَّ العملاء ليسوا إلَّا حفنةً حقيرةً من الشَّعب، ولا يمثّلون الشَّعبَ اللّبنانيَّ في أصالته الوطنيَّة. ولعلَّ هذا هو الَّذي دفع العدوَّ إلى التَّعبير عن مأزقه بالتَّضييق على إبل السَّقي وأهالي حاصبيا وبعض الرموز الدينيَّة فيها، واعتقال عددٍ من أبناء شبعا، وإبعاد عددٍ آخر منهم.
إنَّ الاحتلال بدأ يلفظ أنفاسه بفعل الامتداد الشَّعبي الرَّافض له، وبفعل حركة المقاومة في مواجهته، وسيزول بإذنِ الله إنْ عاجلاً أو آجلاً.
أهميَّةُ المعالجةِ الاقتصاديَّة
وأخيراً، إنَّنا نؤكِّد أهميَّة الجهود المبذولة من قبل الحكومة اللّبنانيّة على صعيد عصر النّفقات، وتخفيض العجز في الموازنة، وصولاً إلى إعادة الإنعاش الاقتصادي الَّذي يمرّ بحالة من الركود نتجت من أسباب كثيرة، أبرزها الدّيون والرشاوى والهدر الَّذي رافق بعض الصَّفقات السَّابقة، كما يشير إلى ذلك حجم الخلل والسَّرقات الَّتي تُكشَف يوماً بعد يوم.
وإذا كنّا نؤكِّد ضرورة استعادة الأموال التي تشير الملفَّات المفتوحة إليها، إلَّا أنَّ ذلك يستدعي دقّة في المعالجة، وهدوءاً في الخطاب السياسي من جانب الدَّولة والمعارضين على السّواء، لأنَّ بعض القفزات السّريعة تعطي مفعولاً معاكساً، ولذلك قد يكون من الأفضل الانطلاق في المعالجة بطريقة الخطوة الأولى في مسافة الألف ميل، في طريق الإصلاح الشَّاقّ والطّويل.
ومن هنا، فإنَّ السجال السياسي يؤدِّي إلى الضَّرر بمسيرة إعادة البناء الاقتصادي، كما يعيد الحياة السياسيَّة إلى مرحلة اللااستقرار الَّذي لا يفيد البلد، بل يضرُّ بصورته أمام الآخرين.
إنَّنا في الوقت الَّذي نعلم حجم الأزمة الاقتصاديَّة، كنا نأمل أن تستمرّ الدَّولة في الابتعاد عن فرض الضَّرائب على بعض الأمور الحيويَّة، كالبنزين، نظراً إلى الوضع الصَّعب الَّذي تعيشه الطَّبقات الفقيرة، ونريد للدَّولة أن تقدِّم إلى الشَّعب خطّة اقتصاديَّة متكاملة، يشعر فيها الجميع بأنَّ هناك وضعاً جديداً لحلِّ الأزمة الاقتصاديَّة، فإنَّ المواطن يستطيع الصَّبر، بشرط أن يجد بصيصاً من الأمل في النَّتائج. نحن نتطلَّع إلى هذا البصيص من الأمل، على طريقة قول الشَّاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 09/04/ 1999م.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67].
يومُ الولايةِ لعليٍّ (ع)
وكان النَّبيّ (ص) قد بلَّغ الرّسالة الَّتي أنزلها الله عليه كلّها؛ لم يبق هناك حكمٌ إلّا وبلَّغه، ولا مفهوم إلَّا وعرَّفه، ولا منهجٌ إلَّا وخطَّطه. ولكنَّ الله أرادَ له أن يبلِّغ شيئاً آخر هو من صلب الرّسالة، ولكنَّه يحمي الرِّسالة؛ يحميها من تحريف المحرِّفين، وتضليل المضلِّلين، وتشويه المشوِّهين، ولن يحمل هذه الرِّسالة بعد الرَّسول إلَّا الشَّخصُ الَّذي عاش كلَّ الرّسالة في عقله، وكلَّ أخلاقها في خُلُقه، وكلَّ روحانيَّتها في روحانيَّته، وكلَّ صلابتها في صلابته، وكلَّ زهدها في زهده، وكلَّ علمها في علمه.
مَنْ هناك؟ وليس هناك إلَّا شخص واحد: "عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ"، "أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها"، "أمَا ترضى أن تكونَ منِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى؟ غيرَ أنَّه لا نبيَّ بعدي".
وقال الله له إنَّ الناس من الكافرين والمنافقين سيتحدّثون أنَّك أعطيت الإمامة لابن عمِّك وصهرك، فلا تخف، ولا تحزن، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
ووقف، وكان الجوُّ محرقاً في حرارته في تلك الصَّحراء في وقت الظَّهيرة، ودعا بعليّ (ع)، ورفع يده بيده، حتَّى بان بياض إبطيهما للنَّاس، ثمَّ قال: "ألسْتُ أولى بالمؤمنينَ منْ أنفسِهِم؟ فقالوا: اللَّهمَّ بلى، قال (ص): فمن كنْتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه، وانصرْ مَنْ نصرَهُ، واخذلْ مَنْ خذلَهُ".
ومن هناك، انطلق الوحي من جديد، يوم الغدير، يوم الولاية، يوم الامتداد الإسلاميّ في الإنسان الَّذي كان وحده بعد رسول الله يجسِّد الإسلام كلَّه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ - أكملت النبوَّة بالولاية الّتي هي خطٌّ ومنهجٌ وحركةٌ وإخلاصٌ وموقفٌ في الحياة - وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، نقف مع عليّ (ع )، لا في يوم الغدير فحسب، ولكنَّنا نقف مع عليّ في كلِّ يوم؛ نقف معه لأنَّه كان الفكر الَّذي أشرق بالإسلام في صفائه ونقائه، لأنَّه الإنسان الَّذي باع نفسه لله، فلم يبق لنفسه من نفسه شيء، لأنَّه الإنسان الَّذي أعطى الإسلامَ من عقله عقلا،ً ومن روحه روحاً، ومن حركته حركة.
بدأ مع رسول الله في طفولته الأولى، وغذَّاه رسول الله من خُلُقه، ومن علمه، ومن روحه، ومن كلِّ ابتهالاته، ما جعله يعيش روح رسول الله، ويعيش عقله وروحانيَّته وحركته.
وهكذا كان مع رسول الله في بيته، وكان مع رسول الله في مسجده، وكان مع رسول الله عندما ينزل عليه جبرائيل، وكان يقول له: "يا عليّ، إنَّكَ تسمعُ ما أسمعُ، وترى ما أرى، إلَّا أنَّكَ لسْتَ بنبيٍّ"، وكان مع رسول الله في حربه وسلمه، لأنَّه كان مع الله، ولأنَّه كان للإسلام كلّه.
مسؤوليَّةُ الالتزامِ بالولاية
أيُّها الأحبَّة، إنَّ التزامنا بولاية عليٍّ (ع) وولاية الأئمَّة من أهل بيته (ع)، هو التزامٌ بالإسلام كلِّه، والتزامٌ بالقرآن كلِّه، والتزامٌ بالسنَّة كلِّها، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أرادنا أن ننطلق معهم، لأنَّهم حملوا الكتاب بعدَ رسول الله (ص) كما لم يحمله أحد، ولأنَّهم حملوا السنَّة كما لم يحملها أحد.
ولهذا، فإنَّ الالتزام بعليٍّ (ع) يكلِّفنا كثيراً، لأنَّ عليّاً ليس عاطفةً تنبض بها قلوبنا، ولكنَّه خطٌّ يحكم كلَّ حياتنا، ومنهجٌ يحكم كلَّ حركتنا. إنَّ عليّاً يمثِّل الحقَّ كلَّه، فمن لم يلتزم الحقَّ في حياته، فلا علاقة له بعليّ، حتَّى لو هتف باسم عليّ، ولأنَّ عليّاً كان العدل كلَّه، فمن لم يلتزم العدل في حياته، فليس له علاقة بعليّ، حتَّى لو كان يهتف باسم عليّ. لقد كان عليّ مع الله، فمن لم يكن مع الله، فكيف يمكن أن يكون مع عليٍّ؟!
كان يقول للنَّاس من حوله: "لَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً؛ إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُم"، إنَّني أريدكم أن تعرفوا الله. ولذلك، عاش كلَّ حياته يثقِّف النَّاس بمعرفة الله، لأنَّه عرف الله حتَّى قال: "لوْ كُشِفَ ليَ الغطاءُ ما ازددْتُ يقيناً"، وكان يعمل على أن يثقِّف النَّاس بتقوى الله وبمنهجه وأحكامه.
مصلحةُ الإسلامِ أوّلاً
أيُّها الأحبَّة، إنَّ عليّاً (ع) عاش للإسلام كلّه، حتى إنَّه وقف أمام حقِّه، عندما جاءت التَّعقيدات التي أبعدته عن حقّه الَّذي هو الحقّ الحقّ، ولكنَّه لم يضعف، ولم يتزلزل، ولم يعش العقدة ضدَّ المسلمين، لأنَّ عليّاً لا يحمل العقدة لأحد، كان قلبه مفتوحاً للنَّاس كلِّهم، كان قلبه مفتوحاً لأعدائه ولأوليائه، وقد أوصانا (ع): "احصدِ الشَّرَّ من صدرِ غيرِكَ بقلعِهِ من صدرِكَ".
لذلك، لم يكن في صدر عليّ شرٌّ حتى للَّذين اضطهدوه، وحتى للذين أبعدوه، كان الخير كلّه، لأنَّ عليّاً كان مع الله، ومَنْ كان مع الله، لا يمكن إلَّا أن يعيش الخيرُ في عقلِهِ وقلبِهِ وحياتِهِ.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، تعالوا نغرف من بحرِ عليّ (ع)، تعالوا نتعلَّم من عليٍّ كيف نحفظ الإسلامَ والمسلمينَ من كلِّ عصبيَّاتنا، فقد كانَ عليٌّ (ع)، وهو صاحب الحقّ، لا يعيش العصبيَّة في نفسه لينغلق عن النَّاس، ونحنُ نعرفُ أنَّه عندما رأى أنَّ الواقع الإسلاميَّ قد وصل إلى حدٍّ لا يتحمَّل أيّ فتنة، جمَّد موقفه ولم يلغه، جمَّد المطالبة بحقِّه، ولم يتنازل عن حقِّه، وقال: "لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إلَّا عليَّ خاصَّة"، فإذا كنت أنا المظلوم فلا مشكلة، المهمّ أن لا يُظلَمَ الإسلامُ ولا يُظلَمَ المسلمون.
وهكذا، أعطى النَّصيحة لمن تقدَّمه، وأعطى الرَّأي لمن أبعده، وعاش فترة خمسٍ وعشرين سنة، وهو يحلُّ المشكلات الجديدة الَّتي واجهت المسلمين بعد الفتوحات، وهو يعالج القضايا الصَّعبة، وهو الَّذي يتحمَّل ما تحمَّل، وهذا ما عبَّر عنه في الخطبة الشَّقشقيَّة الَّتي نفث فيها ما في نفسه من آلامٍ وهموم، ولكنَّه بقي للحقِّ كلِّه، حتَّى قال عنه عمر بن الخطّاب آنذاك: "لولا عليٌّ لهلكَ عمر"، "معضلةٌ ولا أبا حسنٍ لها"، وحتّى قال (ع)، وهو يعالج مسألة الشّورى: "حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ، فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا...".
كان (ع) يقول: "لوْ وليَها عَليٌّ لحَمَلَهُم عَلَى المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ"، فلو وليَ عليٌّ (ع) الخلافة، لحملَ النَّاسَ على الطَّريقِ الأبيضِ الَّذي لا ظلمةَ فيه ولا اعوجاج.
خطُّ الحاكمِ عندَ عليٍّ (ع)
وعندما عاش (ع) تجربة الخلافة بعد أن صارت الخلافة الفعليَّة إليه، كان يتحدَّث مع أصحابه هؤلاء الَّذين خرَّبوا عليه خطَّته، وكان ينفتح على الله، ويبيِّن لنا خطَّ الحاكم في الإسلام.
استمعوا إليه في هذه الخطبة القصيرة الّتي تتحرَّك في أكثر من موقع.
يقول (ع)، وهو يتحدَّث مع أصحابه الَّذين أثاروا الكثير من الخلافات حوله: "أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الْمُخْتَلِفَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ - الَّتي يتحرَّك كلّ واحد فيها في طريق يختلف عن الآخر - الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ! – يعني إني أراكم في أبدان صحيحة، ولكنَّ مشكلتكم أنّكم لا تعيشون مع عقولكم، بل تعيشون مع غرائزكم، كالكثرين من النَّاس الذين يتحركون بفعل غرائزهم ولا يتحركون بفعل عقولهم - أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الْأَسَدِ – وأظأركم يعني أدعوكم إلى الحقّ، ولكنّكم تنفرون عنه كما تنفر المعزى عندما يقبل عليها الأسد - هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ الْعَدْلِ - يعني أن أؤكِّد العدل من خلالكم – أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ".
ثمَّ صرف نظره عنهم، وبدأ يناجي ربَّه، وهو يتحدَّث مع النَّاس، أراد أن يشهد ربَّه على خلفيَّات مطالبته بالحكم، وأنَّ مطالبته بالحكم ليسَتْ شهوةً وليسَتْ طموحاً، وليسَتْ طمعاً، ولكنَّها رسالة، أراد أن يشهد ربَّه على ذلك، ويشكو لربِّه ذلك، وكأنَّه يقول: يا ربّ، إنَّك تعلم ما في نفسي، ولكنَّ مشكلتي أني أعيش في مجتمعٍ لا يفهمني جيّداً، وفي مجتمعٍ لا يعرف عمق عليٍّ وصفاءه، ولا يعرف الأفق الواسع الرَّحب الَّذي يعيش فيه عليّ:
"اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا – من المطالبة بحقّنا - مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ – كما يتنافس السّلاطين، ليعمل هذا أو ذاك على أن يزيل الآخر ليجلس مكانه - وَلَا الْتِمَاسَ شَيْ‏ءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ - حتَّى نحصل على مالٍ أو متاعٍ من حطام الدّنيا - وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ – نحن نطلب الحكم من أجل أن نؤكِّد معالم الدّين وخطوطه وكلَّ مواقعه وكلّ مفاصله - وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ – لأنَّنا نجد هناك فساداً في الفكر، وفي العمل، وفي المنهج، وفي الذهنيَّة، ونحن نعمل على أن نظهر الإصلاح من خلال الحكم الَّذي نتطلّبه، والّذي نخطِّط له أن يجري في الخطِّ المستقيم - فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ – إنَّنا نريد أن نظهر الإصلاح، أن نرد المعالم من دينك، من أجل أن يأمن المظلومون من عبادك أنَّ حقَّهم لا بدَّ أن يصل إليهم، وأنَّ ظلامتهم لا تبقى من دون حلّ ومن دون عدل.
- وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ – وينفَّذ القانون الَّذي يعطي لكلِّ حقٍّ حقَّه، ويقف بالنَّاس عندَ النِّظام العام الَّذي يشملهم جميعاً.
- اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ – أوَّل من رجع إليك عندما دعا رسول الله النَّاس - وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ (ص) بِالصَّلَاةِ – كان رسول الله هو أوَّل من صلَّى لك، وكنْتُ الثَّاني الَّذي صلَّى لك. لذلك، إنَّ علاقتي بك، يا ربّ، هي علاقتي بالصَّلاة الّتي تمثِّل هذا العروجَ الرُّوحيَّ للإنسان أمام الله سبحانه وتعالى.
المُؤْتَمَنُ عَلَى الحُكْمِ
ثمَّ بدأ يبيِّن للنَّاس مَنْ هو المؤتمن على الحكم، والمؤتمن على إمامةِ النَّاس:
- وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ – إذا كان الحاكم من البخلاء، والبخيل عادةً يجمع المال ويحرص عليه، فيأخذ أموال النَّاس، ولكنّه لا يعطيهم منها - وَلَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ – لا بدَّ أن يكون الوالي على المسلمين إنساناً عالماً، يستطيع أن يعطي المسلمين من علمه، حتَّى يهديهم بعلمه، كما يتحرَّك بهم بعدله - وَلَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ - الإنسان الّذي يعيش حالة الجفاء والقسوة - وَلَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ – الإنسان الَّذي يجور على النَّاس - فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ - فيفضِّل قوماً دونَ قوم - وَلَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ، فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ – لأنَّه يعطي الحكم لمن يعطيه الرَّشوة أكثر- وَيَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ، وَلَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّةَ".
وهكذا كان عليّ (ع) في كلِّ حياته.
تجديدُ البيعةِ لعليّ (ع)
أيُّها الأحبَّة، إنَّ عليَّاً كان مع الحقّ في كلّ مواقعه، وكان مع الحقّ في كلِّ خطواته، وكان مع الحقّ في كلِّ كلماته. فإذا أردنا أن نجدِّد البيعة لعليّ (ع) في يوم الولاية، فعلينا أن نقول له: يا أمير المؤمنين، لقد كنْتَ أوَّلَ القوم إسلاماً، وأقدمَهم إيماناً، وها نحن نبايعك على أن نكون المسلمين كما هو الإسلام الَّذي جاء به رسول الله، ونبايعك على الإيمان الَّذي جاء به رسول الله. يا عليّ، لقد كانت حياتك كلّها مع الحقّ، ونحن نعاهدك على أن نكون مع الحقّ كلّه؛ في العقيدة، وفي الشَّريعة وفي المنهج، ومع الحقّ في السياسة، وفي الحياة الاجتماعيَّة العامَّة. يا عليّ، انظر إلينا من عليائك، واطلب لنا من ربِّك أن يثبِّتنا على الإيمان.
إنَّ عليّاً يكلِّف الَّذين يوالونه كثيراً، إنَّ عليّاً (ع ) لا يمكن أن يستقبلنا إذا كان بعضنا يظلم بعضاً، وإذا كان بعضنا يمزِّق بعضاً، لا يمكن أن يستقبلنا عنده غداً يوم القيامة، وهو قسيم الجنَّة والنَّار، عندما يجدنا وقد مزَّقنا واقع المسلمين بعصبيَّاتنا وحزبيَّاتنا وكلِّ غرائزنا، عندما يجدنا نقف مع الظَّالمين والمستكبرين، ونترك العادلين والمتواضعين.
أيُّها الأحبَّة، من جديد، إنَّ علينا أن نقترب من عليّ (ع)، وأن لا نضيِّعه كما ضيَّعه الَّذين عاشوا معه، وأن نعمل على نقرأه جيِّداً، وأن نفهمه جيِّداً، وأن نتَّبعه جيِّداً. وتذكَّروا ما قاله الإمام محمَّد الباقر (ع) مما روي عنه: "حسب الرَّجلِ أنْ يقولَ أحبُّ عليّاً وأتولَّاه ثمَّ لا يكون مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً؟ فَلَوْ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اَللَّهِ، وَرَسُولُ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، ثُمَّ لَا يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ، وَلَا يَتَّبِعُ سُنَّتَهُ، مَا نَفَعَهُ حُبُّهُ إِيَّاهُ شَيْئاً... مَنْ كَانَ لِلَّهِ مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، وَمَاْ تُنَالُ ولاَيَتُنَا إِلَّا بِالْوَرَعِ وَاَلْعَمَلِ".
هذا هو خطُّ الولاية؛ أن تفعل ما أمرك الله به، وأن تترك ما نهاك الله عنه، إنَّك بهذا تسير في خطِّ الولاية، وتجسِّد الولاية، الولاية ليست كلمة، ولكنَّها فكر وقلب وموقف وحركة وحياة.
                          يَاْ سَمَاءُ اشْهَدِي ويَاْ أَرْضُ قرِّي               واخْشَعِي إِنَّني ذكرْتُ عَلِيّا
                                                             بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                                    الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله، وانفتحوا على الحقِّ في طريقِ الله، وفي طريقِ أنبيائِهِ ورسلِهِ، وواجهوا الحقَّ بالموقفِ الصّلبِ الَّذي يقف أمام الباطل بكلِّ قوَّة، حتَّى يصرع الباطل، وحتّى يبعد الباطل عن الواقع كلِّه.
مأساةُ كوسوفو
نحن، أيُّها الأحبَّة، في مرحلة من المراحل القاسية الَّتي يعيش فيها المسلمون أكثر من مشكلة أمام الكفر والاستكبار، وهذا ما عشناه في هذه الأيَّام، في مأساة كوسوفو الَّتي لا يزال العالم يضجُّ منْ آلامِها ومن جراحاتها، ومن مجازرها ومشاكلها، ومن المؤامرات الَّتي يتحرَّك فيها العالم المستكبر ليرفع الشِّعار الدّفاعي عنها، ولكنَّه يساهم بطريقة وبأخرى في تعميق مأساتها أكثر.
فها نحن نجد أنَّ ما تحرَّك به الحلف الأطلسي في هذه المسألة، ساهم في تهجير مئات الألوف من هؤلاء النَّاس من بيوتهم، وبذلك رأينا هناك تعاوناً بطريقة سلبيَّة بين الصّرب والحلف الأطلسي؛ فهذا يهجِّر بمجازره، وذاك يهجِّر بسياسته، حتَّى أصبحت المسألة مسألة إنسانيَّة يتحدَّث فيها العالم كيف يمكن أن يمنح اللّجوء لآلافٍ في هذا البلد أو ذاك البلد، وكيف يمكن أن يستوعب هؤلاء المهاجرين، وكيف يمكن أن يهيِّئ لهم الغذاء والمسكن وما إلى ذلك.
تماماً كما هي القضيَّة الفلسطينيَّة، عندما شُرِّد الفلسطينيّون من فلسطين بفعل المؤامرة الدوليَّة الَّتي وقف فيها العالم المستكبر مع إسرائيل، وكان الفلسطينيّون يأملون من خلال تصريحات هنا وتمنّيات هناك، وقرارات للأمم المتحدة هنا وهناك، أن يرجعوا إلى فلسطين، وابتعدت عنهم فلسطين، حتَّى أصبح الحديث عن عودة الفلسطينيّين الَّذين هم خارج فلسطين، مجرَّد كلامٍ لا معنى له في المسألة السياسيَّة في العالم، وحتّى إنَّ الفلسطينيّين الَّذين يعيشون في داخل فلسطين، لا يأمنون على أنفسهم أن يهجَّروا طواعيةً أو إكراهاً، بفعل عمليّات الاستيطان، وبفعل التعسّف الَّذي تقوم به إسرائيل، دون أن تعترض أمريكا أو غير أمريكا في هذا المجال.
إنَّ المشكلة الَّتي تتحرَّك الآن في كوسوفو هي مشكلة إسلاميَّة تدلِّل كيف أنَّ هذا العالم المستكبر يعمل على اضطهاد المسلمين، حتَّى لو كانوا في منطقة أوروبيَّة، لأنَّ الأوروبّيين، ومعهم الأمريكيّون، لا يريدون للمسلمين أن يكون له وجود مستقلّ فاعل في منطقة أوروبَّا، انطلاقاً من العقدة ضدَّ الإسلام والمسلمين.
ضعفُ الموقفِ الإسلاميّ
ومن اللَّافت، أيُّها الأحبَّة، أنَّ المسلمين، أو ما يسمَّى الدول الإسلاميَّة المنضمَّة إلى منظَّمة المؤتمر الإسلامي، لم تتَّخذ أيّ موقف فاعل أمام هذه القضيَّة، لم تقدِّم أيّ مشروع لحلّ هذه المشكلة، لم تقم بأيّ ضغط على الواقع الدولي في هذا المجال، بل إنها اكتفت بكلمات الاستنكار، وبالإغاثة الإنسانيَّة هنا وهناك. والسؤال الآن: ما معنى أن يكون للدّول الإسلاميّة منظَّمة المؤتمر الإسلامي الّتي لا تحرِّك ساكناً في رعاية شوؤن المسلمين؟ إنها مجرّد منظَّمة تجتمع وتصدر القرارات وتنسى القرارات في اليوم الثَّاني.
إنَّنا نخشى من هذا الواقع الإسلامي الَّذي يعيش ما يشبه حالة انعدام الوزن، تحت تأثير الهيمنة الأمريكيّة الَّتي تسيطر على أغلب مواقع السياسة في العالم الإسلامي. إنّنا نخشى أن تتحرَّك بين يومٍ وآخر مشكلةٌ كمشكلة المسلمين في كوسوفو، أو المسلمين في أيّ مكان آخر.
إنَّنا نجد أنَّ أمريكا تعمل على حماية مصالحها، لا حماية المسلمين هنا وهناك. ولو كانت أمريكا تعمل على أساس مراعاة الجوانب الإنسانيَّة والجوانب السياسيَّة في الحالة الإنسانيَّة، ما وقفت هذا الموقف من الفلسطينيّين، حيث تدعم إسرائيل بكلِّ قوَّة، ولما وقفت هذا الموقف في استمرارها في إبقاء الحصار على الشَّعب العراقيّ الَّذي كاد يموت جوعاً بأطفاله ونسائه وشيوخه، لأنَّ المسألة هي أنَّ أمريكا تعمل على أساس أن ترعى مصالحها هنا وهناك. ولا تصدِّقوا أنَّ أمريكا يمكن أن تكون داعمة لأيِّ موقع إسلاميّ، كما يحاول بعض النَّاس أن يقدِّر موقف أمريكا في يوغوسلافيا، لأنَّ أمريكا لا تقصف يوغوسلافيا لمصلحة المسلمين، ولكن لمصالحها السياسيَّة هنا وهناك، لأنَّ الذّئب، أيُّها الأحبَّة، حتَّى لو أراد أن يعيش مع الحمل، فلا تصدِّقوا أنَّه يمكن أن يفكِّر بطريقة إنسانيَّة، أو بطريقة معقولة.
إنَّنا نريد أن نركِّز على نقطة، وهي أنَّ هناك محاولةً في بعض مواقع الإعلام، بإثارة المشكلة بينَ المسيحيِّين والمسلمين، على أساس أنَّ الصّرب يمثّلون الحالة المسيحيّة الأرثوذكسيّة، وأنَّ الكوسوفيّين من أصل ألباني هم مسلمون. والواقع أنَّ المسألة ليست مسألة الشَّعب هناك، ولكنّها مسألة السياسة الدوليَّة الّتي تتحرَّك مع تعقيدات السياسة الإقليميّة، ولذلك لا ينبغي أن نثير المسألة على أساس أنَّها صراع بين الإسلام والمسيحيَّة، لنخلق عقدة جديدة أو مشكلة جديدة في هذا الاتجاه. هذه نقطة.
إنذارٌ لفرنسا وكندا
ونقطة ثانية، نحن نقرأ في الأخبار أنَّ أمريكا عملت على أن توجِّه إلى فرنسا وكندا إنذاراً، لأنَّ شركتين فرنسيَّة وكنديَّة، دخلتا في عقد نفطيّ مع الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، باعتبار أنَّ أمريكا تريد أن تضيِّق الحصار على الجمهوريَّة الإسلاميَّة، حتَّى لا تعيش حالة من حالات الانفتاح الاقتصادي الَّذي يمكن أن يمنحها القوَّة.
إنَّ أمريكا عملت على أساس تقديم الاحتجاج على أعلى المستويات، كما ذكروا، ولكنَّنا نلاحظ أنَّ إيران تجاوزت هذا الحصار، واستطاعت أن تستفيد من الصِّراع الاقتصادي داخل دول الغرب، لتحصل على أكثر من فرصة اقتصاديَّة لخدمة قضاياها ومصالحها، باعتبار أنَّ الغرب، وإن اتَّفقت سياسته في كثير من الحالات، لا يزال يعيش حالةً من الصِّراع الاقتصادي.
وقد لاحظنا أيضاً قبل مدَّة، أنَّ أمريكا فرضت على ثلاث شركات روسيَّة بعض العقوبات الاقتصاديَّة، لأنَّها باعت سوريا بعض الصَّواريخ المضادَّة للدبَّابات، باعتبار أنَّ ذلك سوف يسيء إلى أمن إسرائيل، لأنَّ أمريكا لا تريد لسوريا وللدّول المحيطة بفلسطين، أن تملك حتَّى حقّ الدّفاع عن نفسها، وأن تملك الأسلحة الَّتي تدافع بها عن نفسها إزاء العدوان الإسرائيلي. وهي في الوقت نفسه، تعمل بكلِّ قوَّة على أن تزوِّد إسرائيل بكلِّ الطَّائرات المتطوّرة من طراز 16F، لأنها تريد أن تعطيها القوَّة التي تتفوّق بها على كلّ دول المنطقة، سواء كانت عربيّة أو إسلاميَّة.
إنّ علينا، أيّها الأحبّة، كشعوب عربيَّة وإسلاميَّة، أن نفهم ما معنى أمريكا في سياستها الَّتي تعمل على أساس إسقاط شعوبنا العربيَّة والإسلاميَّة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، لتكون إسرائيل هي الأقوى، ومصالحها هي المصالح الأساسيَّة في هذه المنطقة على حساب مصالحنا.
عدوانٌ صهيونيٌّ على الجنوب
ثمَّ نصل بعد ذلك إلى لبنان، لنلاحظ أنَّ العدوان الإسرائيلي على الجنوب، لا يزال يحصد الأطفال الأبرياء، كما لاحظناه فيما جرى من قصف حبوش وعربصاليم، الَّذي حصد كثيراً من الأطفال الجرحى. ونحن نتساءل: لو أنَّ المقاومة هي الَّتي قصفت مناطق الجليل، وسقط هناك بعض أطفال اليهود، فماذا تكون النّتيجة؟ ستجد الإعلام الأمريكي والأوروبي يتحدَّث عن هذه الوحشيَّة للمقاومة، وعن هؤلاء الأطفال الأبرياء وما إلى ذلك. ولكنَّ أطفالنا لا يحملون صفة إنسانيَّة عند هذا العالم المستكبر، ولذلك لم ينطلق هناك أيّ صوت، لا من أمريكا ولا من أوروبّا، وحتى إنّنا لم نسمع أيّ صوت عربيّ يندِّد بهذه الجريمة الوحشيَّة.
وعلينا أن نتساءل: أيّ عالم هو هذا العالم؟ وأيّ ظلم هو هذا الظّلم الَّذي يعيشه الناس في هذا العصر؟!
إنَّنا نتصوَّر أنَّ إسرائيل تعيش المأزق الكبير الَّذي يضطرّها إلى القيام بمثل هذه الجرائم وبمثل هذه المجازر، لأنَّ المقاومة استطاعت أن تحاصرها، وأن تخلق أكثر من مأزق لها. وفي الوقت نفسه، نقدِّر الموقف الشَّعبي الرافض للاحتلال الَّذي أبداه أهالي بلدة شبعا، فيما يشبه الانتفاضة الَّتي نأمل أن تتوسَّع وتمتدّ لتواكب المواقفُ الشعبيَّةُ في المنطقة المحتلَّة، ما تقوم به المقاومة من إرهاقٍ مستمرٍّ للاحتلال، ليعرفَ العالم أنَّ العملاء ليسوا إلَّا حفنةً حقيرةً من الشَّعب، ولا يمثّلون الشَّعبَ اللّبنانيَّ في أصالته الوطنيَّة. ولعلَّ هذا هو الَّذي دفع العدوَّ إلى التَّعبير عن مأزقه بالتَّضييق على إبل السَّقي وأهالي حاصبيا وبعض الرموز الدينيَّة فيها، واعتقال عددٍ من أبناء شبعا، وإبعاد عددٍ آخر منهم.
إنَّ الاحتلال بدأ يلفظ أنفاسه بفعل الامتداد الشَّعبي الرَّافض له، وبفعل حركة المقاومة في مواجهته، وسيزول بإذنِ الله إنْ عاجلاً أو آجلاً.
أهميَّةُ المعالجةِ الاقتصاديَّة
وأخيراً، إنَّنا نؤكِّد أهميَّة الجهود المبذولة من قبل الحكومة اللّبنانيّة على صعيد عصر النّفقات، وتخفيض العجز في الموازنة، وصولاً إلى إعادة الإنعاش الاقتصادي الَّذي يمرّ بحالة من الركود نتجت من أسباب كثيرة، أبرزها الدّيون والرشاوى والهدر الَّذي رافق بعض الصَّفقات السَّابقة، كما يشير إلى ذلك حجم الخلل والسَّرقات الَّتي تُكشَف يوماً بعد يوم.
وإذا كنّا نؤكِّد ضرورة استعادة الأموال التي تشير الملفَّات المفتوحة إليها، إلَّا أنَّ ذلك يستدعي دقّة في المعالجة، وهدوءاً في الخطاب السياسي من جانب الدَّولة والمعارضين على السّواء، لأنَّ بعض القفزات السّريعة تعطي مفعولاً معاكساً، ولذلك قد يكون من الأفضل الانطلاق في المعالجة بطريقة الخطوة الأولى في مسافة الألف ميل، في طريق الإصلاح الشَّاقّ والطّويل.
ومن هنا، فإنَّ السجال السياسي يؤدِّي إلى الضَّرر بمسيرة إعادة البناء الاقتصادي، كما يعيد الحياة السياسيَّة إلى مرحلة اللااستقرار الَّذي لا يفيد البلد، بل يضرُّ بصورته أمام الآخرين.
إنَّنا في الوقت الَّذي نعلم حجم الأزمة الاقتصاديَّة، كنا نأمل أن تستمرّ الدَّولة في الابتعاد عن فرض الضَّرائب على بعض الأمور الحيويَّة، كالبنزين، نظراً إلى الوضع الصَّعب الَّذي تعيشه الطَّبقات الفقيرة، ونريد للدَّولة أن تقدِّم إلى الشَّعب خطّة اقتصاديَّة متكاملة، يشعر فيها الجميع بأنَّ هناك وضعاً جديداً لحلِّ الأزمة الاقتصاديَّة، فإنَّ المواطن يستطيع الصَّبر، بشرط أن يجد بصيصاً من الأمل في النَّتائج. نحن نتطلَّع إلى هذا البصيص من الأمل، على طريقة قول الشَّاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 09/04/ 1999م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية