كنت موظَّفاً في دائرة الثقافة في منظَّمة التحرير الفلسطينية في تونس، عندما وقّعت المنظَّمة اتفاقيات أوسلو الَّتي أعلنْتُ موفقاً رافضاً لها لأسباب كثيرة. اضطربت علاقتي مع بعضهم بسبب موقفي، واتُّهمت بعدم الاعتراف بفلسطين! لم أكترث لكلِّ هذا الهراء. وهكذا بقيت في تونس وانتقلت إلى العمل في دائرة شؤون العائدين، فقد ذهب موظّفو دائرة الثقافة جميعاً إلى فلسطين.
في فبراير/ شباط 1999، وصل إلى تونس فاكس يحمل أسماء تسعة عشر موظَّفاً من كوادر المنظَّمة في عدد من الدول العربيَّة، مُنحوا أرقاماً وطنيَّة تؤهّلهم للدخول إلى فلسطين، ليصيروا مواطنين في الأراضي الخاضعة للسّلطة الوطنيَّة. كان اسمي من بينهم، فوجئت، فأنا رفضت التسجيل في قائمة العائدين لرفضي "أوسلو". تسلَّمت القائمة، وتأكَّدت من وجود اسمي. أصبت بارتعاش واضطراب وحزن وفوضى حسيَّة وكآبة وحنين لمجهول وفيضان عاطفة وصلت إلى حدِّ البكاء، ودخلت فيما يشبه الغيبوبة، سببها رفضي اتفاقيات أوسلو، ورغبتي الدفينة في إمكانية رؤية بلادي.
هطلت دموعي كما هطلت، وأنا أستعيد تلك اللّحظة الآن، وأنا أكتب أوّل مرَّة عمّا أصابني عندما قرأت اسمي في قائمة الممنوحين حقَّ الدخول إلى فلسطين، أنا اللاجئ في لبنان الَّذي ولد في مخيَّم للاجئين قبل 48 عاماً آنذاك. تلك اللَّحظة القاسية التي تصطدم بالرغبة في رؤية الوطن، بكلِّ الأفكار والإسقاطات الأيديولوجيَّة والبنيان الفولاذي للشعارات الثوريَّة الذي تصدّعه، في ثوانٍ معدودة، مشاعرُ الحنين للقاء بالمكان الذي شكَّل الوعي والحياة والعاطفة والحاضر والمستقبل والحبّ والشَّغف. كانت فلسطين المستحيلة تبدو في تلك اللّحظة قريبة، ولا يعود مهمّاً في ذروة إمكانيَّة الالتحام بها، كيف ومن أيّ طريقٍ يكون هذا الالتحام. هناك حلم تشكَّل منذ اليوم الأوَّل لولادتي في خيمة اللجوء، وها قد أصبح هذا الحلم وأنا في عمر الكهولة قاب قوسين.
ومع ذلك، كان المثقَّف الهشّ المتردّد في داخلي يقاوم الرغبة الصَّادقة البسيطة لصالح الموقف الأيديولوجي والسياسي.
كان أمامي ستّة شهور لأقرّر استخدام هذا القرار، وإلَّا ستضيع الفرصة للدخول إلى الوطن المستحيل.
تركت تونس في إجازة طويلة إلى لبنان، وأحسست لأوَّل مرة أني بحاجة إلى استشارة من أثق بهم، لمساعدتي على حسم الصِّراع الداخلي بين رغبتي في الدّخول إلى بلادي، وموقفي السياسي من "أوسلو". كانت أمّي أوَّل من شرحت لها الأمر، فوجدتها في حيرة تشبه حيرتي. ولكنّها سألتني: هل سيسمح لك بزيارة النَّاعمة، قرية أبي في الجليل، حيث عاشت قبل أن يهجَّروا إلى لبنان في العام 1948؟
الشَّخص الوحيد الَّذي ساعدني في حسم قراري النّهائيّ للدخول إلى فلسطين، كان العلَّامة السيِّد محمَّد حسين فضل الله. ذهبت إليه في مكتبه في الضاحية الجنوبيَّة، أستفتيه روحياً، فقد كنت دائماً أؤمن بروحه النقيَّة في بهائها الإنساني، ولطالما لجأت إليه أحاوره في القضايا الشَّائكة والملتبسة حول فلسطين والفلسطينيّين. بعد حديث طويل، قلت له إنَّني حصلت على ما يسمَّى الرقم الوطني الَّذي يؤهّلني للدخول إلى فلسطين، وقد أصير مواطناً، ولكنَّني، كما تعلم، لست مع اتّفاقات أوسلو. وقبل أن أُكمل كلامي، قاطعني السيِّد فضل الله: اذهب إلى فلسطين يا نصري.. حتى ونحن لا نوافق على "أوسلو"، على كلِّ فلسطيني يحصل على فرصة الدخول إلى فلسطين أن يفعل بلا تردّد. فلسطين بحاجة إلى شعبها، فلا تتردّد.
وهكذا دخلت إلى فلسطين في الثَّالث من أغسطس/ آب من العام 1999. وحين وطأت قدماي فلسطين، صارت فلسطينيَّتي أقلَّ ثقلاً وأسىً، وكأنَّ دخولي بلادي أزاح عن كاهلي وطأة الصفات الفلسطينيَّة المُهلكة كلّها في الشّتات. لأوّل مرة، أكون في مكانٍ خارج المخيَّم، يكون كلّ من فيه حولي فلسطينيّين. الشرطي، وسائق التاكسي، وصاحب المطعم، والغرسون، والمتسوّل، والطبيب، والجوامع، والكنائس، والدكاكين. لأوّل مرة، اتَّسع الغيتو حولي، وكثر فيه الناس المحاصرون.
* مقال منشور على موقع العربي الجديد الإلكتروني، بتاريخ: 22 أيلول/ سبتمبر 2017م.
كنت موظَّفاً في دائرة الثقافة في منظَّمة التحرير الفلسطينية في تونس، عندما وقّعت المنظَّمة اتفاقيات أوسلو الَّتي أعلنْتُ موفقاً رافضاً لها لأسباب كثيرة. اضطربت علاقتي مع بعضهم بسبب موقفي، واتُّهمت بعدم الاعتراف بفلسطين! لم أكترث لكلِّ هذا الهراء. وهكذا بقيت في تونس وانتقلت إلى العمل في دائرة شؤون العائدين، فقد ذهب موظّفو دائرة الثقافة جميعاً إلى فلسطين.
في فبراير/ شباط 1999، وصل إلى تونس فاكس يحمل أسماء تسعة عشر موظَّفاً من كوادر المنظَّمة في عدد من الدول العربيَّة، مُنحوا أرقاماً وطنيَّة تؤهّلهم للدخول إلى فلسطين، ليصيروا مواطنين في الأراضي الخاضعة للسّلطة الوطنيَّة. كان اسمي من بينهم، فوجئت، فأنا رفضت التسجيل في قائمة العائدين لرفضي "أوسلو". تسلَّمت القائمة، وتأكَّدت من وجود اسمي. أصبت بارتعاش واضطراب وحزن وفوضى حسيَّة وكآبة وحنين لمجهول وفيضان عاطفة وصلت إلى حدِّ البكاء، ودخلت فيما يشبه الغيبوبة، سببها رفضي اتفاقيات أوسلو، ورغبتي الدفينة في إمكانية رؤية بلادي.
هطلت دموعي كما هطلت، وأنا أستعيد تلك اللّحظة الآن، وأنا أكتب أوّل مرَّة عمّا أصابني عندما قرأت اسمي في قائمة الممنوحين حقَّ الدخول إلى فلسطين، أنا اللاجئ في لبنان الَّذي ولد في مخيَّم للاجئين قبل 48 عاماً آنذاك. تلك اللَّحظة القاسية التي تصطدم بالرغبة في رؤية الوطن، بكلِّ الأفكار والإسقاطات الأيديولوجيَّة والبنيان الفولاذي للشعارات الثوريَّة الذي تصدّعه، في ثوانٍ معدودة، مشاعرُ الحنين للقاء بالمكان الذي شكَّل الوعي والحياة والعاطفة والحاضر والمستقبل والحبّ والشَّغف. كانت فلسطين المستحيلة تبدو في تلك اللّحظة قريبة، ولا يعود مهمّاً في ذروة إمكانيَّة الالتحام بها، كيف ومن أيّ طريقٍ يكون هذا الالتحام. هناك حلم تشكَّل منذ اليوم الأوَّل لولادتي في خيمة اللجوء، وها قد أصبح هذا الحلم وأنا في عمر الكهولة قاب قوسين.
ومع ذلك، كان المثقَّف الهشّ المتردّد في داخلي يقاوم الرغبة الصَّادقة البسيطة لصالح الموقف الأيديولوجي والسياسي.
كان أمامي ستّة شهور لأقرّر استخدام هذا القرار، وإلَّا ستضيع الفرصة للدخول إلى الوطن المستحيل.
تركت تونس في إجازة طويلة إلى لبنان، وأحسست لأوَّل مرة أني بحاجة إلى استشارة من أثق بهم، لمساعدتي على حسم الصِّراع الداخلي بين رغبتي في الدّخول إلى بلادي، وموقفي السياسي من "أوسلو". كانت أمّي أوَّل من شرحت لها الأمر، فوجدتها في حيرة تشبه حيرتي. ولكنّها سألتني: هل سيسمح لك بزيارة النَّاعمة، قرية أبي في الجليل، حيث عاشت قبل أن يهجَّروا إلى لبنان في العام 1948؟
الشَّخص الوحيد الَّذي ساعدني في حسم قراري النّهائيّ للدخول إلى فلسطين، كان العلَّامة السيِّد محمَّد حسين فضل الله. ذهبت إليه في مكتبه في الضاحية الجنوبيَّة، أستفتيه روحياً، فقد كنت دائماً أؤمن بروحه النقيَّة في بهائها الإنساني، ولطالما لجأت إليه أحاوره في القضايا الشَّائكة والملتبسة حول فلسطين والفلسطينيّين. بعد حديث طويل، قلت له إنَّني حصلت على ما يسمَّى الرقم الوطني الَّذي يؤهّلني للدخول إلى فلسطين، وقد أصير مواطناً، ولكنَّني، كما تعلم، لست مع اتّفاقات أوسلو. وقبل أن أُكمل كلامي، قاطعني السيِّد فضل الله: اذهب إلى فلسطين يا نصري.. حتى ونحن لا نوافق على "أوسلو"، على كلِّ فلسطيني يحصل على فرصة الدخول إلى فلسطين أن يفعل بلا تردّد. فلسطين بحاجة إلى شعبها، فلا تتردّد.
وهكذا دخلت إلى فلسطين في الثَّالث من أغسطس/ آب من العام 1999. وحين وطأت قدماي فلسطين، صارت فلسطينيَّتي أقلَّ ثقلاً وأسىً، وكأنَّ دخولي بلادي أزاح عن كاهلي وطأة الصفات الفلسطينيَّة المُهلكة كلّها في الشّتات. لأوّل مرة، أكون في مكانٍ خارج المخيَّم، يكون كلّ من فيه حولي فلسطينيّين. الشرطي، وسائق التاكسي، وصاحب المطعم، والغرسون، والمتسوّل، والطبيب، والجوامع، والكنائس، والدكاكين. لأوّل مرة، اتَّسع الغيتو حولي، وكثر فيه الناس المحاصرون.
* مقال منشور على موقع العربي الجديد الإلكتروني، بتاريخ: 22 أيلول/ سبتمبر 2017م.