إنَّ مصطلح الإلحاد وما تبعه من مغالطات، يتجاوز الإسلام والمسيحيَّة في بعده الزّمنيّ، فهناك من ينفي وجود إله، وهناك من لا يعتقد بوجود إله، والفرق بينهما هو أنَّ الأوَّل ينفي فكرة وجود إله بتقديم الأدلّة والبراهين، بينما يكتفي الثّاني بعدم الاعتقاد بوجود إلهٍ لعدم قناعته بذلك.
وقد ذكر القرآن الكريم هذا الأمر، حيث عبّر عنهم بالدّهريّين في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}[1]، وتشير هذه الآية إلى أنَّ هذا النَّمط من الاعتقاد مبنيّ على الظّنّ وليس على علم، ما يعطي المسألة جدلاً مستمراً، لأنّ القاعدة عندما تبنى على أسس ظنيّة بعيدة عن العلميّة والموضوعيّة، فلن يغيّر الحوار في هذا الواقع على المستوى المطلوب، لأنّ الظّنّ لا يولّد حقيقة، وموضوع بهذا الحجم لا بدَّ من أن يكون على أساس متين، وتكون أدلّته وبراهينه حاضرة.
سنتعرّف إلى رأي المرجع الدّيني السيّد محمّد حسين فضل الله حول ظاهرة الإلحاد، وذلك من خلال ما بيّنه في هذا المجال، من خلال ما تضمَّنه كتابه تحت عنوان "في آفاق الحوار الإسلامي المسيحيّ".
الإلحاد.. الخطر والمواجهة!
ربما يتبادر إلى البعض في الوهلة الأولى، أنَّ ظاهرة الإلحاد هل هي خطر على المسلمين وحدهم، أو أنّ خطر الإلحاد عابر للمذاهب والأديان؟ فهي خطر حتى على الإيمان المسيحيّ أيضاً، وخطر على التوحيد بشكل عام. إذاً من عليه مواجهته؟
هنا يقول السيّد فضل الله: "إذا كان الواقع المعاصر قد بدأ ينفض يديه من الدين من ناحية المبدأ، بفعل الحضارة الماديّة وحركة الاستكبار العالميّ الّتي تثير في ذهنيّة العامّة للإنسان الكثير من المفاهيم المادّية البعيدة عن عالم الله وأجواء الغيب وروحيّة الإيمان، فإنَّ ذلك لن يكون مبرّراً للابتعاد عن التّلاقي والحوار بين الدّينَين والجماعتَين، بل إنّه يؤكِّد ذلك باعتبار أنَّ هذا الوضع الجديد يمثّل الخطر عليهما معاً، من خلال وسائله المتنوّعة في إبعاد الإنسان عن عمق معنى الإيمان في الدّين، وإشغاله بالاستغراق في مفرداته اليومية ومشاكله الذاتية والغريزية، الأمر الَّذي يفرض عليهما الاستعداد لمواجهته بالأساليب الحضاريّة والوسائل المعقولة الحاسمة، من أجل إعادة الإنسان إلى الله، بقطع النّظر عن الصّورة التفصيليّة التي تتمثّل فيها صورة الله في الوجدان الدّيني، مما يختلف فيه الإسلام عن المسيحيّة".
وهذا يعني أنَّ الإلحاد ليس خطراً على دينٍ دون آخر، بل هو خطر مشترك يهدِّد روحيّة الإيمان الإسلامي والمسيحي. وما يحدِثه من مشاكل فكريّة تشغل الإنسان المؤمن بالله عزّ وجلّ، فمواجهة ظاهرة الإلحاد تكمن في أنها واجب على عاتق كلّ مؤمن بوجود خالق ومصوّر ومدبّر لهذا الكون، أياً كانت ديانته، لأنّ خطره ليس موجَّهاً إلى دين أو طائفة، إنما إلى التوحيد كلّه، وأما مواجهته، فتكون بالأساليب الحضارية وبالوسائل العقلائيّة، بعيداً عن ردود الفعل المؤقّتة والفرديّة، لكي نخلق حصانة دائمة للإنسان المؤمن، ونعيد من ابتعد عن التّوحيد إلى روح الإيمان.
معاً لمواجهة الإلحاد
"إنَّ هناك أكثر من قضيَّة مشتركة يلتقي فيها المسلمون والمسيحيّون في كلّ السّاحات، وهي الكلمة السّواء في التّوحيد، ورفض الشّرك، ووحدة الإنسانيّة، ورفض الاستكبار والاستعباد الإنسانيّ، وهو الّذي يطرحه القرآن الكريم على أهل الكتاب في قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ}[2]، فيتحرّك الجميع لمواجهة المادّيّة الملحدة والشِّرك العباديّ والاستكبار العالميّ، لينطلق الإيمان بالدّين بشكل عامّ قويّاً في ساحة الفكر".
يؤكّد السيّد فضل الله أهميّة المواجهة المشتركة بين الإسلام والمسيحيّة ضدّ الفكر الإلحاديّ، من خلال القواعد المشتركة الّتي تجمع بينهما، وهي أنّنا جميعاً عباد الله، نعبد إلهاً واحداً ولا نشرك به شيئاً، وأن لا نجعل أحداً منّا ربّاً يُعبَد من دون الله عزّ وجلّ، فلماذا لا نلتقي ونواجه هذا الخطر الإلحادي جميعاً، وهو خطر موجَّه إلى معتقد مشترك، وهو الربوبيَّة في معناها الواسع؟
قاعدة أساس
ينطلق السيّد فضل الله من قاعدة أساس، وهي أنَّ الإنسان لا يصل إلى الإيمان إلا من خلال العقل "حوار العقل"، حيث يقول: "لا إيمان في عمق الفكر وامتداده بدون حوار.. يبدأ في حديث الإنسان مع ذاته في حركة الفكر الداخليّ"، ويرى أن القناعات هي نتاجات الحوار وتجاذباته بين منطق العقل ومنطق العاطفة، لأنّ "الإيمان حركة في العقل وليس فوقه، حتى القضايا الغيبيّة يتمّ رصدها من خلال العقل، ومن ثم تنطلق رحلته نحو المجهول، لأنّ الوجود لا بدّ من أن يكون عقلانياً.. فنحن ندرك الله بالعقل، ولكنَّنا لا نملك الوسيلة للبحث في ذات الله"، إذاً "الإنسان مؤمن بما يعقل وعلى هذا الأساس، كان لا بدّ من خوض تجربة الشّكّ من أجل الوصول إلى اليقين، وذلك يتطلّب رحلة في عالم الصّراع الفكريّ الداخليّ".
الشّكّ ليس كفراً
حركة الإنسان الداخليّة والاهتزازات الفكريّة لا بدّ لها من أن تتحرّك في دائرة النفي والإثبات، والشّكّ واليقين. يقول السيّد فضل الله: "ربما يعتبر بعض النّاس ـ وخصوصاً المؤمنين منهم ـ أنّ الإنسان الذي يشكّ في الله والرسول أو الرّسالة، كافر في مصطلح الكفر، ولكنّ الإمام جعفر الصّادق(ع) يوضح هذا الأمر في ردّه على سؤال: رجل شكّ في الله؟ قال: "كافر".. قال: شكّ في رسول الله؟ قال: "كافر".. ثم استدرك(ع) فقال: "إنَّما يكفر إذا جحد". فما دام الإنسان يعيش الشّكّ الذي يزحف بالبحث نحو اليقين فهو ليس بكافر، وإنما هو باحث عن الحقيقة، ويؤكِّد ذلك قول آخر للإمام الصَّادق(ع): "لو أنَّ النّاس إذا جهلوا وقفوا، لم يجحدوا ولم يكفروا". فالمسألة إذاً، هي أن لا تجحد لمجرّد الشّكّ، لأنّ الجحود يحتاج إلى برهان، تماماً كما هو الإثبات يحتاج إلى برهان أيضاً، ولهذا يقول بعض الفلاسفة، إنّه لا وجود لملحدين في العالم بالمعنى العملي للإلحاد، إذ لم يستطع أحد إقامة دليل واحد ينفي وجود الله، إذا لم يستطع هذا على إقامة دليل على وجوده...
وهذا ما يتفق معه موريس بلوندل، حيث يقول: "ليس هناك ملحدون بمعنى الكلمة"، لأنّ وسيلة نفي إله لهذا الكون مستحيلة، وإن ادّعى بعض الملحدين ذلك، لأنَّ ما يرتكزون عليه ليس علمياً، ولا يصمد أمام الواقع والبرهان والدّليل الَّذي يثبت وجود إله لهذا الكون وما فيه.
بين الإيمان والشّكّ
"إنّ النفي يفرض شموليّةً في كل آفاق التصور للعالم المحسوس وغير المحسوس، ولما كان هناك استحالة في إدراك هذه الشموليَّة في حركة الفكر والواقع، فكيف يمكن لأحدٍ أن يتجرّأ ويجحد وجود الله تعالى؟!... لذلك نستطيع القول: إنَّ الناس منقسمون بين مؤمنين وشاكّين، ولا وجود لملحدين في هذا العالم، إذا أراد هؤلاء احترام انتمائهم إلى الإلحاد الّذي يفتقر إلى الحجّة والبرهان".
يؤكّد السيّد فضل الله نقطة جوهريّة في هذا المجال، ألا وهي أنّه لا وجود لشيء اسمه إلحاد في حقيقته ووجوده، وعلى أرض الواقع، إنما هو شكّ في مقابل الإيمان، لأنّه يفتقر إلى الحجّة والبرهان، فالشّاكّ عليه أن يتحرّك في حركة بحثه عن خالقٍ لهذا الكون لا على أسس ظنيّة، بل عليه أن ينطلق في بحثه ليجد أجوبةً عن كلّ ما يدور حول هذه الإثارات في دائرة التّوحيد على أسس علميَّة، إن كان يحترم العقل المتجرّد من أيّ عصبيّة وترسّبات فكريّة سابقة أو ردود فعل تجاه واقع ما.
الشّكّ ورحلة اليقين
يرى السيّد فضل الله أنّ من أهمّ العوامل المؤثّرة في رحلة الشّكّ والوصول إلى اليقين، هي الدّعوة القرآنيّة الجميلة الّتي ترى أهميّة الحوار الدّاخليّ والتّفكير الذّاتيّ المنفتح على ظواهر الكون والإنسان والحياة.
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[3]. {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ الله يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [4].
يقول السيّد فضل الله: "فالمطلوب هنا هو إثارة التّفكير في امتداد الأرض وأسرار النّفس التي تحمل في أعماقها الآيات الدالّة على وجود الله بمفرداتها الموحية بالقدرة والحكمة والدقّة والإتقان. الله تعالى عندما أعطى الإنسان العقل، لم يمنحه إياه كي يمنعه من أن يستخدمه في بحثه عنه، بل هو يدعوه لذلك ويطلب منه ذلك، لأنّ الله حقيقة مطلقة لا تخاف الشّكّ، وكلّما تحرّك العقل باتجاه صحيح، زاد العلم والوعي في دائرة الفكر والعقل".
هنا يؤكِّد السيِّد فضل الله أمراً مهمّاً، وهو أنّه لا يخاف من الشّكّ ورحلة البحث عن الله إلا من يفقتر إلى الحقيقة، ومن يملك الحقيقة، تكون رحلة البحث حوله مؤكِّدة على وجوده لا نافية له. فالعقل دائم البحث في عالم الفكر، لا يستطيع أحد أن يمنعه، لأنّ طبيعته هي أن يعمل على إيجاد إجابةٍ لكلّ سؤال يدور حوله، فبالعقل يهتدي الإنسان إلى خالقه، ولربما استطاع نبيّ الله إبراهيم(ع) من خلال تجربته مع من يعبد آلةً من دون الله عزّ وجلّ مما يصبّ في هذا الجانب، أن يحرّك عقولهم، ومضى معهم في رحلة بحث عن وجود إله حقيقيّ، فالإله لا يأفل ولا يغيب. فحركة العقل مهمّة في اكتشاف الحقيقة.
لا تقليد في العقيدة
إنَّ الإيمان بوجود الله عزَّ وجلَّ هو عقيدة غير قابلة للتّقليد، "يلاحظ علماء الكلام من خلال ما يستفيدونه من القرآن الكريم، أنَّ الاجتهاد لا يخضع للتّقليد كما هو الحال في الأحكام الشرعيّة، بل يجب أن ينبع من فكر اجتهادي ينطلق بالإيمان من موقع التفكير في مفرداته، بالدّرجة التي يحصل فيها الانسان على القناعة الوجدانيّة في علاقة الفكرة بالدّليل، فلا يعذر المقلِّد في العقيدة بحال الخطأ، بما يعذر به في تفاصيل الشّريعة إذا أخطأ مجتهده في الاجتهاد".
إذاً، هي دعوة لكلّ إنسان أن يبحث عن وجود الله عزّ وجلّ، فالدين يدعو للبحث عن الخالق والمدبِّر، وليس أفيوناً مخدّراً للعقل مخافة اكتشاف الحقيقة، بل من حقّك أن تشكّ عندما لا تصل إلى قناعة تامّة، ولكن ينبغي أن تكون عمليّة البحث مستمرّة لاكتشاف الحقيقة، وفي طريقها الصّحيح.
الحوار مبدأ ديني
لا يرى السيّد فضل الله أيّ حرج للتحاور مع أيّ كان، وإن كان لا يؤمن بالله وبالرسالة، لأنه يرى أنّ ذلك "هو جوهر ما طرحه الأنبياء في دعوتهم الرّسالية للحوار الفردي والجماعي"، ويرى أنّ "كلّ شيء قابل للحوار، فلا مقدّسات ولا محرّمات في الحوار، حتى في وجود الله وشخصيّة النّبيّ".
لا يشكّل عدم الإيمان بالله وبالرّسالة أيّ حاجز بيننا وبين من نحاورهم، لأنّ "الحقيقة بنت الحوار"، لا حقيقة ولا اكتشاف للحقيقة من دون حوار، وعندما نخلق الحواجز ونقدّس المساحات، فإن حركة الحوار ستصاب بالشّلل، ولن نستطيع أن نتحرّك نحو اكتشاف الحقيقة، بل لن يولّد الحوار أي حقيقة طالما أنّنا نعمل على خنقها.
التفكّر أولى درجات اكتشاف الحقيقة
لا يمكن لأيّ إنسان أن يكتشف الحقيقة وهو يغلق عقله، لأنّ التفكّر يعمل على تفكيك المعلومات داخل العقل وإعادة ترتيبها، وعندما نسلّم عقولنا للآخرين ونخضع لما يفكّر به الآخرون، وهو ما يسمّى بالعقل الجمعيّ، فإنّ اكتشاف الحقيقة لن يكون من صناعة عقولنا، بل من صناعة الآخرين. يقول السيّد فضل الله معقّباً على الآية القرآنيّة: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}[5]، "إنّه يقول لهم ـ أي رسول الله ـ انعزلوا عن هذا الجوّ الصّاخب بالضجّة الّذي يعزل الإنسان عن نفسه، إرجعوا الى أنفسكم، لأنّ العقل الجماعيّ يمنع الإنسان من التّفكير الحياديّ المستقلّ".
الحريّة في الحوار
يرى السيّد فضل الله أنَّ الحوار "يرتكز على حماية حريّة المحاور في طرح فكره المضادّ بطريقته الخاصَّة، حتى لو خالف العقيدة العامّة للنّاس، وليس لأحدٍ الحقّ في اعتراضه ومقابلته بعناصر الإثارة والانفعاليّة، كأن يتَّهم بالكفر والضلال والزندقة والمروق عن الدّين، وما إلى ذلك من الكلمات المثيرة الّتي تدفع الغوغاء إلى الإساءة إلى الفكر، وهذا ما نعرفه من سيرة أئمّة أهل البيت(ع)، حيث كان الإمام الصّادق(ع) يحاور المشكّكين، أمثال ابن المقفّع وابن أبي العوجاء وغيرهما، وكانت ردود فعل الإمام بعيدةً عن العدوانيّة وغيرها".
"إنَّ الحوار يرتكز على الحريّة الفكريّة في السّاحة الحواريّة، لأنَّ الإنسان الّذي لا يملك حرّيته في طرح ما يريد من سؤالٍ أو اعتراضٍ أو نقاشٍ، لا يستطيع مقاربة الحقّ ومعايشته".
إذاً فعندما نريد أن نتحاور مع الملحد، فإنّ أهمّ مرتكز يرتكز عليه هذا الحوار، هو أن نعطيه الأمان والحريّة فيما يقوله ويعتقد به، والتّعامل معه كمشكّك باحث عن الحقيقة، بعيداً عن الانفعالات الّتي تبعد ولا تقرّب.
الجدل الباطل
متى يكون الجدل باطلاً؟! "عندما يفتقر إلى قوّة العلم وسلطان الحجّة، ويكون بطريقة انفعاليّة ناشئة من عقدة الكبر الكامنة في النّفس".
"لا يريد الإسلام أن يتحوَّل الحوار إلى ما يشبه اللّعب بالألفاظ أو القفز على المشاعر، أو تسجيل النِّقاط على الآخر، وهذا ما يطلق عليه القرآن الكريم اسم الجدل الباطل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً}"[6].
عندما يكون الحوار مجرّد جدل باطل، فلا مخرجات حقيقيّة له أبداً. يركّز السيّد فضل الله على قوّة العلم وسلطان الحجّة والجديّة والتّواضع، وهذا من أهمّ قواعد الحوار الموضوعي العلمي، أن نتحاور "بعقل بارد"، بعيداً من الانفعالات والاتهامات ورمي الألفاظ وتسجيل النقاط.
وهذا ما نريد أن نضيء عليه بشكلٍ عامّ، فالحوار مع أيّ كان لا بدّ من أن يكون ضمن هذه الدائرة، أن لا نطلق مثل هذه الكلمات الّتي تجعل من الجوّ الحواريّ مفتقراً لأيّ احترام للآخر، فمن يطلق كلمات الكفر والضّلال بوجه الآخر، فهو في الحقيقة لا يملك الحجّة الّتي تفرض نفسها، فمن يملك الحجّة، ينطلق في حواره على هذه الأسس التي ذكرها السيّد فضل الله؛ يملك القوّة في العلم، وسلطان الحجّة، والجديّة في إيجاد الحقيقة، وأن يتواضع في حواره مع الآخرين، هذا رسول الله (ص) وهو يقول للمشركين: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[7].
حوار الفكر وقتال الكلمة
يعقّب السيّد فضل الله حول الآية القرآنيّة: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ الله وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[8]، "إنّ القوم لا يخوضون معركة البحث عن الحقيقة، بل يتحركون في معركة الغلبة والموقف، أيّاً كان المضمون في صدقه وكذبه، في حقّه وباطله، ما يجعل الأمر أمر قتال الكلمة، لا حواراً بالفكر أو جدالاً بالحقّ، وهذا ما يؤدّي إلى مزيدٍ من العبث والضّياع".
"ما نستوحيه من الآية، هو أنها تؤكّد عنوان الجدل الباطل كعنوانٍ عامٍّ مرفوضٍ في ساحة الصّراع، وأنّ استعمال الباطل لإثبات حقّ هو إقرار للباطل واعتراف بشرعيّته"، وهذا المبدأ القرآنيّ هو مبدأ أهل البيت(ع)، فالامام الصّادق(ع) عندما حضر جلسة حوار بين أحد أصحابه ومن يخالفه في المذهب، وكان صاحبه قد تغلّب على محاوره بحديثٍ ربما كان بعيداً عن الحقّ، قال له الإمام(ع): "لا تمزج الحقّ بالباطل، وقليل من الحقّ يكفي عن كثير من الباطل".
فالإسلام "يرفض الأساليب الجدليّة التي تبتعد عن الحقّ وتعتمد التلاعب بالحقائق، في محاولةٍ لإخفاء ضعف المجادل على ممارسة الموقف القويّ ضدّ الباطل".
الخلاصة: أنّ هناك نقاطاً مشتركة بين الدّيانتين الإسلاميّة والمسيحيّة، يمكن من خلالها مواجهة الإلحاد بطريقة حضاريّة وعلميّة، ومن خلالها نسعى لإسقاط هذه الفكرة الباطلة الّتي تقول إنّ هذا الكون ليس له خالق، حتى نحمي الرّوح الإيمانيّة في عمق إيمان المؤمنين، وأن ندخل من لا يملكون هذا الإيمان في دائرة الايمان بالله عزَّ وجلّ، ولا ننشغل في الخلاف الدّيني أو المذهبيّ، بل ليكن الهدف هو الرّجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.
[1] [الجاثية: 24].
[2] [آل عمران: 64].
[3] [آل عمران: 191].
[4] [العنكبوت: 20].
[5] [سبأ: 46].
[6] [الكهف: 56].
[7] [سبأ: 24].
[8] [آل عمران: 78].