في القرآن الكريم فصلٌ يؤكِّد الجوانب الحيويَّة في علاقة الإنسان بربِّه وبوالديه وبالنَّاس من حوله، وهذا الفصل يتضمَّن الوصايا العشر الَّتي جاء بها النبيَّان موسى وعيسى (عليهما السَّلام)، لأنَّها تمثِّل مجمل القضايا الَّتي تحفظ للمجتمع توازنَهُ وسلامتَه، وتجعلُ الإنسانَ إنساناً أميناً على علاقتِهِ بربِّهِ وعلاقتِهِ بوالديْهِ، وعلاقته بالنَّاس في تعاملِهِ معهم، من حيثُ الحفاظ على دمائِهم وعلى أموالِهم، ومن حيثُ الحياة الطَّبيعيَّة معهم.
ونحن نعرف أنَّ القرآن الكريم أكَّد الجانب الأخلاقيَّ في حياة النَّاس، بل إنَّ الإسلام كلَّه يمثِّل المنهج الأخلاقيَّ في كلِّ سلوك الإنسان الفرديّ والاجتماعيّ، حتَّى إنَّ النَّبيَّ (ص) قال: "إنَّما بُعثْتُ لأتـمِّمَ مكارمَ الأخلاق"، فالإسلام كلّه أخلاق.
ومن ذلك، فإنَّ الالتزامات الشَّرعيَّة الإٍسلاميَّة فيما أحلَّ الله، وفيما حرَّم، وفيما استحبَّ، تمثِّل البرنامج الأخلاقيَّ للإنسان، وبذلك يرتفع الإنسان المطيع لله، في كلِّ ما أمر الله به أو نهى عنه، إلى الدَّرجة العليا من الأخلاق الإنسانيَّة.
تعالوا نقرأ هذه الآيات بشيءٍ من الاختصار مما يتَّسع له المقام:
التَّوحيدُ في العبادةِ
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ - هذه هي الوصيَّة الأولى؛ أن توحِّد الله في العبادة. وإذا فهمنا أنَّ العبادة تتَّسع لكلِّ أعمال الإنسان في الحياة مما يحبُّه الله ويرضاه، ومما يعطي للحياة قيمتها ويحقِّق مسؤوليَّة الإنسان فيها، فمعنى ذلك، أنَّ الله يقول للإنسان إنَّ عليك في كلِّ حياتك أن تعبدَ اللهَ في كلِّ مفردات حياتك، أن تطيعه في كلِّ ذلك، وأن لا تطيعَ غيره.
وهذا هو التَّوحيد في العبادة الَّذي ينفتحُ على التَّوحيد في الطَّاعة، لأنَّ عبادة الله هي الخضوع له في إطاعة أوامره ونواهيه.
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، فكلُّ إنسانٍ، مهما بلغ من الدَّرجة في المال والسياسة والسّلطة، إذا أرادَ منك أن تفعل شيئاً لم يأمرك الله به، بل أمرَكَ الله بخلافه، أو أن تترك شيئاً لم ينهك الله عنه، أو أراد لك الله أن تفعله، فإنَّ عليك إذا كنت موحِّداً لله في العبادة، أن لا تطيعه، لأنَّ الطَّاعةَ هي عبادة، فكلُّ إنسان تطيعه وتستغرق في ذاته، فإنَّ طاعتك له هي نوعٌ من العبادة: "مَنْ أَصْغَى إِلَى ناطقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطقُ يَنطقُ عنِ اللهِ فقدَ عبدَ اللهَ، وإنْ كانَ النَّاطقُ ينطقُ عن لسانِ إبليسَ فقدْ عبدَ إبليسَ".
الإحسانُ إلى الوالدين
- وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانًا - هذه هي الوصيَّة الثَّانية؛ أن تحسن إلى والديْك وترعاهما وتعطف عليهما، أن تخدمهما، وأن تحيطهما بكلِّ ما لديك من الحياطة الَّتي تجعلهما يرتاحان وينعمان بالطَّمأنينة، ولا يشعران بالخوف على مستقبلهما إذا كبرا، لأنَّهما أحسنا إليك في وجودك، وأحسنا إليك في تربيتك، وأحسنا إليك في كلِّ حياتك و{هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ}[الرَّحمن: 60].
ونلاحظ، أيُّها الأحبَّة، أنَّ الله جعل مسألة الإحسان إلى الوالدين إلى جانب توحيده في العبادة، وهذا ما عبَّر عنه في آية أخرى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان: 14]، فجعل شكر الوالدين إلى جانب شكر الله، لأنَّ الله هو السَّبب الأوَّل في الوجود، والوالدان هما السَّبب الثَّاني فيه.
ولكن إذا أمرك الوالدان بمعصية الله، وأرادا أن ينحرفا بكَ عمَّا يريده الله، فعليكَ أن تطيعَ الله وتتركهما، ومع ذلك، عليك أن تصاحبَهما في الدّنيا معروفاً {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا - فلو كانا ضالَّين أو فاسقين أو كافرين، فلا تطعهما، بل أطع الله، ولكن حتَّى في هذه الحالة - وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان: 15].
لاحظوا في هذه الآية الَّتي نقرأها، كيف ركَّز الله سبحانه وتعالى على الجانب العاطفيّ، يعني يا أيُّها الإنسان، تذكَّر كيف رعاك والداك، وتنبَّه إلى أنَّه ليس بينك وبين والديك مسألة كرامة، فلا تقلْ، مثلاً، أبي يذلُّني، أو أمِّي تذلُّني.. تكلَّمت أمِّي معي بطريقةٍ لا أتحمُّلها، أو قال لي أبي كلمةً ولا أتحمَّل هذه الكلمة... مع والديك ليست هناك كلمة "عزّة"، فعندما كنت صغيراً، وكنت تمنعهم من النَّوم وتعذِّبهم، لم يكونوا يقولون نحن غير مستعدّين لنذلَّ أنفسنا لهذا الطّفل الصَّغير الَّذي يعذِّبنا، أو عندما كنت تدخل في مشاكل مع الجيران وغيرهم، لم يكونوا يقولون هذا...
- إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا – يعني صار أحدهما كبيراً في العمر، وصار ضعيفاً ومحتاجاً إليك - أَوْ كِلَاهُمَا – كبر كلاهما في العمر - فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء: 23]. الكبير في العمر، ابن السَّبعين والثَّمانين، يصبح ضيِّق الخلق ومطالبه ثقيلة، ويصبح مثل الطّفل الصَّغير {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}[النَّحل: 70]. فكما تتحمَّل طفلك الصَّغير، عليك أن تتحمَّل والديك عندما يكبران، باعتبار أنَّهما يعيشان هذا الضِّيق الَّذي ينشأ من كبر العمر وينعكس على أخلاقهما معك.
لذلك {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ - وكلمة "أفّ" الّتي هي أقلُّ الأشياء الّتي يمكن أن تؤذيهما، عليك أن لا تقولها لهما - وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.
- واخفضْ لهما جَنَاْحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمةِ - تواضعْ لهما، ولو صاح والدك في وجهك، أو صاحت أمُّك في وجهك، أو أذاك أحدهما، فقل لا بأس فهما "يمونان" عليَّ. إذا جاءك الشَّيطان تذكَّر {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء: 24].
هذا هو التَّوجيه الإلهيّ في التَّعاطي مع الوالدين، يعني إذا ضاقت بك الأمور في معاشرتهما، فانظر كيف كانا يعاشرانك عندما كنت تزعجهما، فكما صبرا عليك اصبر عليهما، وكما رحماك ارحمهما، واطلب من الله أن يرحمهما.
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ - فاللهُ يطَّلع على ما في نفسك - إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ - فإذا اطَّلع على ما في نفسك ورأى الصَّلاح فيها - فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء: 25]، فسيغفر لك سيِّئاتك، لأنَّه يرى أنّك صالح وأنَّك ترجع إليه.
حقُّ القربى والمساكين
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ – فللأرحام حقٌّ عليك، فحاول أن تعطي أرحامك حقَّهم، مما فرضه الله عليك، ومما استحبَّه لك - وَالْمِسْكِينَ – وهو الفقير - وَابْنَ السَّبِيلِ- وهو الإنسان الَّذي ينقطع به سفره، وتنتهي ميزانيَّته، فلا يكون عنده مال، فأعطه ما يبلغ به بلدَه، حتّى لا يمدَّ يده إلى أحد.
- وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}[الإسراء: 26] وهذه من الوصايا؛ أن تكون لك ذهنيَّة حفظ مالك، أن لا تبذِّر مالك لتصرفه في غير ما هي مصلحتك، ولتصرفه في غير الموارد الَّتي يرضى الله لك بها، لأنَّ المال يمثِّل الوسيلةَ الَّتي تغطِّي بها حاجاتك، فإذا صرفته في غير حاجاتك، وفي غير ما ينبغي أن تصرفه فيه، فإنَّك بذلك سوف {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}[الإسراء: 29].
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ – لأنَّ التَّبذير في المال هو حالة شيطانيَّة، فالشَّيطان يريد لك أن تنحرف عن الخطِّ المستقيم في أن تكون متوازناً في صرف مالك، باعتبار أنَّ مالك طاقة، فإذا بذَّرت مالك، فقد أطعْتَ الشَّيطانَ في ذلك، لأنَّ الله سبحانه وتعالى، كما سيأتي في الآية الثَّانية، يريد لك أن تحقِّق التَّوازن في حياتك، حتَّى إنَّ الله يريد لك أن تُخضِعَ حاجاتك لإمكاناتك، على طريقة المثل القائل: "على قدر بساطك مدَّ رجليك"، لأنَّك تستطيع أن تصبر على نفسك، ولكنَّ النَّاس لا يستطيعون الصَّبر عليك عندما تستقرض منهم ما لا تستطيع أن تفيه لهم.
- وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[الإسراء: 27] جاحداً لنعمة ربِّه. ومن الجحود لنعمة الله، أن تصرف المال الَّذي أعطاك الله إيَّاه في غير ما يريد لك أن تصرفه.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ – عن هؤلاء المبذِّرين - ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا}[الإسراء: 28]، حتَّى عندما تريد أن تبتعد عنهم، حاول أن تتكلَّم معهم الكلام الطيِّب.
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ - فإذا رزقك الله مالاً، فلا تربط يدك في رقبتك بنحوٍ لا تعطي بها شيئاً، ولا يستفيد أحدٌ منك شيئاً - وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ - بحيث تعطي كلَّ ما عندك. فلا هذه ولا هذه، لأنَّ الله يريد من الإنسان أن يسير في خطِّ التَّوازن - فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}[الإسراء: 29] يلومك النَّاس؛ لماذا صرفت كلَّ مالك، وتركت نفسك من دون مال، ومن دون أن تكون قادراً على تلبية حاجاتك؟!
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ - فالله ينزل الرِّزق بحكمة، فلربّما من مصلحة بعض النّاس أن يرزقهم الله، أو أن يبتليهم بالغنى، وربَّما من مصلحة بعض النَّاس أن يقدِّر الله عليه رزقه أو يضِّيق عليه، أو أن يبتليه بذلك - إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء: 30]، فالله هو الَّذي يعرف مصلحة النَّاس.
النَّهيُ عن الإجهاض
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ - بعض النَّاس في الجاهليَّة، كان إذا أتاه ولد، وعنده أربعة أولاد أو خمسة، يقول إنَّ ميزانيَّتي لا تتحمَّل ولداً آخر، فيقتله.
وهذا ما يشبه ما يحدث للبعض في وقتنا الحاليّ، فقد يرى الزَّوجان أنّهما لا يريدان ولداً إضافيّاً، فيكون قرارهما اللّجوء إلى الإجهاض. حتّى إنّنا نرى بعض المؤمنين يقوم بهذا، وهذا ليس من الإيمان، لأنَّ الإجهاض من المحرَّمات، فمن أوَّل يومٍ تحمل فيه المرأة، أي بمجرَّد انعقاد النُّطفة، يحرم الإجهاض، إلَّا في الحالات الَّتي يلزم من الحمل مرضٌ فوق العادة، أو خطرٌ على حياة الأمّ.. أمَّا أن يكون الولد مشوَّهاً، أو عنده قصور عقليّ، فلا يجوز الإجهاض في هذه الحالات. بعض النَّاس يقولون إنَّ الطَّبيب قال لهم إنَّ هذا الولد سيولَدُ مشوَّهاً، فلا يجوز الإجهاض في هذه الحالة، وإلَّا لو جوَّزنا ذلك، فلماذا ننشئ جمعيَّات للمعوَّقين؟! فلنرتح منهم، وإذا كنَّا نقتل الأطفال الَّذين سيولدون مشوَّهين أو معوَّقين، فلماذا لا نفعل ذلك مع العجزة، حتّى لا يربكونا ويربكوا الحياة؟! لذلك، التَّشويه لا يبرِّر الإجهاض.
فالله في هذه الآية يقول للإنسان إنَّ الَّذي يريد أن يقتل ولده، سواء بالإجهاض أو بغيره، من جهة أنَّه يخاف من قلَّة الرّزق، عليه أن لا يفكِّر بهذه الطَّريقة، قد تكون أحوال الإنسان ضيّقة، لكنَّ الولد الّذي سيأتي أنت لست مسؤولاً عن رزقه، فكما رزقك الله، وكما رزق بقيَّة أولادك، سيرزق الولد القادم أيضًا.
لربّما يكون هناك بعض النَّاس في وقتٍ ما لا يريد أولاداً، فيلجأ إلى موانع الحمل، فلا مانع، ما عدا حالتي الإجهاض والتَّعقيم، وقد يفعل ذلك لأنَّه يريد أن يربّي أولاده الموجودين، أو أن يرتاح، فلا مشكلة، أمَّا أن يفعل ذلك لأنَّه يخاف من قلَّة الرّزق، فهذا خلاف الإيمان. لا نقول حرام، ولكنَّه يدلُّ على إيمانٍ ضعيفٍ وعلى عدم الثِّقة بالله.
من الأمور الَّتي لا بدَّ أن نفهمها: "لا يَصدُقُ إيمانُ عبدٍ، حتَّى يكونَ بما في يدِ اللهِ سبحانَهُ أوثقُ منه بما في يدِهِ". فإذا كنت تملك، مثلاً، عشرين ألف دولار، فلا تعتبر أنَّك أمَّنت على نفسك، لأنَّ هذا المال قد يحترق، وقد يضيع... ولكن ما عند الله أوثق، لأنَّ خزائنَ اللهِ لا تنفد {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}[الذَّاريات: 22].
- نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}[الإسراء: 31] فكما رزقناهم نرزقكم. قد تضيق حالك، ولكنَّ الله قادر على أن يوسِّع عليك {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشّرح: 5].
الزِّنا تدميرٌ للمجتمع
{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}[الإسراء: 32]. فالزّنا من الأعمال الَّتي تجاوزت الحدَّ في غضب الله، وهو الطَّريق السيِّئ، لأنَّه يؤدِّي إلى نتائجَ سيِّئةِ على مستوى المجتمع، ويؤدِّي إلى اختلاط الأنساب وضياع الأسرة، وما إلى ذلك من الأمور الَّتي تترتَّب على هذه المسألة.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، إذا كان الله قد حرَّم علينا الزِّنا، فعلينا أن لا نقوم بالأعمال الَّتي تجذب النَّاس إلى ذلك، يعني إذا كنَّا نريد حالة انضباط، فعلينا أن ندرس طريقتنا في الحياة الاجتماعيَّة؛ في اختلاط الرّجال والنِّساء، في خروج النِّساء، مثلاً، بالشَّكل الفاضح، في مسألة الأفلام الجنسيَّة الموجودة، والأفلام الخليعة الَّتي تعرض على القنوات الفضائيَّة... هذه كلُّها أمور تشجِّع على الزِّنا.
في كثيرٍ من حالات الاختلاط بين الرِّجال والنِّساء، كما يحدث بين الجيران، تحدث حالات سيِّئة، والأفظع من ذلك، أنَّ هناك حالةً بدأ يشهدها المجتمع، وهي حالة الزِّنا بالمحارم، وهذا أمر نقرأه كلّ يوم في الجريدة، عن شخصٍ زنا بأخته، وآخر بابنته... ونحن يأتينا الكثير من البنات اللَّاتي يستغثن، من جهة أنَّ آباءهنَّ بلغوا من الوحشيَّة بنحوٍ أنَّهم يعتدون على بناتهم، أو ما أشبه ذلك.
الحمد لله أنَّ هذه الحالات ليست كثيرة في المجتمع، ولكن عندما تكثر، فمعى ذلك أنَّ المجتمع يسير نحو الانهيار. وهذا الأمر دخل في حياتنا من خلال الأفلام الخلاعيَّة والأفلام الجنسيَّة، وهذه الأفلام تباع في المحلات وتؤجَّر، ويجلس الأب ومعه بناته وأولاده ويشاهدون هذه الأفلام، وهذا أكثر فظاعةً مما يُعرَض على التّلفزيونات، وإن كان ما يُعرَض فظيعاً.
نحن نريد أخلاقاً، نريد أن نهيِّئ جوّاً للأخلاق، أن نؤمِّن لأولادنا هذه الأرضيَّة، أمَّا إنَّنا نريد أن يكون أولادنا أصحاب أخلاق وأعفّاء، وفي الوقت نفسه نعطيهم كلَّ هذا المجال، فعندها نصبح كما قال ذاك الشَّاعر:
ألقاهُ في اليمِّ مكتوفاً وقال له إيَّاك إيَّاك أنْ تبتلَّ بالماءِ
لذلك، علينا - أيُّها الأحبَّة - أن نحارب كلَّ المحلَّات، وأنا أتحمَّل المسؤوليَّة في هذا المجال، كلُّ شخص يبيع أفلاماً جنسيَّة خلاعيَّة أو يؤجِّرها، قاطعوه أوَّلاً، وأخبروا السّلطات عنه، لأنَّ هذا الرَّجل ممن يحبُّ أن تشيع الفاحشة في الَّذين آمنوا. وهكذا الشَّخص الَّذي عنده تلفزيون، عليه أن يحفظ نفسه وأهله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا...}[التَّحريم: 6]. فعندما نخلق كلَّ الأجواء الَّتي تؤدّي إلى الزّنا وإلى الانحراف الجنسيّ، إلى الشّذوذ المذكَّر كاللّواط، أو الشَّذوذ المؤنَّت كالسّحاق، وما إلى ذلك، فهذه الأمور تدمِّر المجتمع كلَّه، وتدمِّر أخلاقيَّتنا وديننا، وعلى المجتمع كلِّه أن يعمل في سبيل مواجهة هذه الأمور.
تحريمُ القتلِ إلَّا بالحقّ
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ - لا بدَّ للإنسان أن يحترم دماء النَّاس، فلا يجوز لك أن تقتل أيَّ نفس حرَّمها الله، سواء كانت نفسَ كافرٍ مسالم، أو نفسَ مسلم، لأنَّ الله يريد للنَّاس أن يعيشوا آمنين على أنفسهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم.
- إِلَّا بِالْحَقِّ – ففي مقام القصاص، لوليِّ الدَّم الحقّ في أن يقتل القاتل، وفي مقام الدِّفاع عن النّفس أيضاً، إذا لم يكن هناك طريقة لأن تدفع عن نفسك إلَّا بذلك.
- وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}[الإسراء: 33]، لا أن يَقتلَ كيفما كان، أو أن يقول سنقتل الآلاف لأنَّ من قُتِلَ لنا لا يعادله أحد. هذا غيرُ مقبول، فمهما كان فلان، فلن يكون بمستوى عليّ بن أبي طالب (ع) الَّذي قال: "ألَا لَا تقتلنَّ بي إلَّا قاتلي"، فليس هناك طبقيَّة في عالم القصاص.
وتبقى بعض الوصايا الأخرى سنتعرَّفها، إن شاء الله، في موقف آخر.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا مسؤولون أن نحمي مجتمعنا من كلِّ هذه الانحرافات، ليعيش المجتمع آمناً في أخلاقه، آمناً على حياته، وليكون المجتمع منفتحاً بعضه على بعض بكلِّ رعاية وبكلّ خير، ولينطلق المجتمع كلّه موحِّداً لله في العقيدة وفي العبادة وفي الطَّاعة.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في كلِّ سلوككم في القضايا الفرديَّة والاجتماعيَّة، اتَّقوا الله وراقبوه عندما تضرى شهواتكم، وعندما تتحرَّك عصبيَّاتكم، وعندما يوسوسُ لكم الشَّيطانُ أن تنحرفوا عن اللهِ سبحانَهُ وتعالى في أوامرِهِ ونواهيه، وأن تبتعدوا عن خطِّهِ المستقيم. اتَّقوا الله، فإنَّ التَّقوى حصنٌ حصين، وهي المدخل إلى الجنَّة.
ولتكن تقواكم لله هي القاعدة الَّتي ترتكز عليها علاقاتكم بمجتمعكم، وحركتكم في مسؤوليَّتكم أمام قضايا أمَّتكم، لأنَّ الله جعل كلَّ إنسان مسؤولاً عن أمَّته بحجم قدراته وبحجم ظروفه.
ولذلك، فإنَّ علينا دائماً، أيُّها الأحبَّة، أن نفكِّر في الأمَّة، وأن نرفدَها في كلِّ مواقعِ ضعفِها، وفي كلِّ مواقعِ قوَّتِها، من أجلِ أن نحوّلَ نقاطَ الضّعف إلى نقاط قوَّة، ومن أجل أن نستزيد من نقاط القوَّة، لأنَّ كلَّ أمَّة لا بدَّ أن تكون قويّةً في ساحة الصِّراع، ولا سيَّما الأمَّة الإسلاميَّة الَّتي أراد الله لكلِّ مجتمعٍ فيها أن يعدَّ ما استطاع من القوَّة، لأنَّ الله يريد العزَّة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين، ولا عزَّة إلَّا بالأخذ بأسباب القوَّة، وإلَّا بمواجهة الَّذين يريدون أن يضعفونا في كلِّ مواقعنا الاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة.
فتعالوا لندرس ماذا عندنا، وما حولنا ومن حولنا، في كلِّ ما يتَّصل بحاضرنا ومستقبلنا.
تحذيرٌ من لعبةٍ جديدة
لا يزال الوسط السياسي العربيّ مشغولاً بنتائج الانتخابات الإسرائيليَّة، باعتبارها - كما يقولون - التطوّرَ الكبيرَ في قضيَّة التَّسوية، وقد بدأ البعض يهرول وراء هذا القادمِ الجديد، ويدعو إلى تقديم التَّنازلات إليه، بفعل الضَّغط الأمريكيّ الَّذي يعمل لتسهيل نجاح مشروعه الإسرائيليّ، في احتواء التَّعقيدات الدَّاخليَّة المتحركة في ساحة الأحزاب المختلفة هناك، ولا سيَّما في مسألة تأكيد الاستراتيجيَّة الصهيونيَّة في القدس والمستوطنات، ورفض العودة إلى حدود ما قبل 67.
إنَّنا نحذِّر من هذه اللّعبة الجديدة الَّتي قد تلوِّح بغصن الزَّيتون، وبتحريك التَّسوية، وبالحديث عن الانسحاب من لبنان بعد عام، أو الانسحاب من جزِّين قريباً، لأنَّ اليهود يتحركون في التَّكتيك الجديد في خطِّ استراتيجيَّتهم القائمة على أنَّ الأمن الإسرائيلي فوق كلِّ اعتبار، وعلى أنَّ المصالح الإسرائيليَّة - هكذا يفكِّرون - لا بدَّ أن تكون فوق المصالح العربيَّة والإسلاميَّة، ولا سيَّما الفلسطينيَّة، وأنَّ إسرائيل لن تنسحب من أيِّ شبر من فلسطين إلَّا بعد أن تحوِّله إلى سجن تحيط به المستوطنات من كلِّ جهة.
إنَّ اللُّعبة الجديدة تعمل على إرباك السَّاحة العربيَّة، من أجل إضعافها بتعقيدات جديدة. ولنا أن نتساءل، وقد طُرحَتْ في هذا السِّجال السياسيّ فكرة قمَّة عربيَّة خماسيَّة تضمُّ مصر وسوريا ولبنان والأردن وسلطة الحكم الذَّاتي في فلسطين، ولا تضمّ غير هؤلاء، باعتبار أنَّهم يمثِّلون دول الطّوق.. لنا أن نتساءل عن جدوى القمَّة العربيَّة الخماسيَّة الَّتي تتقدَّمها دولتان دخلتا في الصّلح مع إسرائيل، وهما مصر والأردن، وسلطة الحكم الذاتي قدَّمت التنازلات لليهود قبل أن تحصل على أيِّ شيء حيويّ من خلال اتّفاق أوسلو، وهل هي مشروع أمريكي لاحتواء الواقع العربي في هذه الدائرة، وترتيب أوضاعه على صورة المشروع الصهيوني؟! لأنَّ أمريكا وظَّفت بعض الدّول العربيَّة، على أساس أن تكون - كما يعبّرون - العرَّاب للمشروع الأمريكي الصهيوني، ولو على حساب المشروع العربي الحيويّ.
إنَّنا ندعو إلى الحذر من الاتّصالات الدبلوماسيَّة الَّتي تتحرَّك من خلال اتّصالات السَّفير الأمريكي في لبنان، والتَّصريحات الضبابيَّة، والمشاريع الانسحابيّة الغامضة، وإطلاق الأحلام العربيَّة من دون أفق واضح، ونقول للجميع: لا تستعجلوا الاحتفال، فقد يصدق قول القائل: "رُبَّ يَومٍ بَكَيتُ مِنهُ، فَلَّما صرْتُ في غَيرِهِ بَكَيتُ عَلَيهِ".
والعرب عندما ينتقلون من مرحلةٍ إلى مرحلة، عند رئيس أمريكيٍّ ذاهبٍ ورئيسٍ أمريكيّ قادم، أو رئيس صهيونيّ ذاهب ورئيس صهيونيّ قادم، إنّهم يحلمون ويحتفلون ويهلِّلون، ولكنَّهم يكتشفون بعد ذلك أنَّ الجديد أقسى من القديم، وربما يترحمَّون على القديم. ولكنَّنا، أيُّها الأحبَّة، بفعل الضّعف الَّذي نعيشه، أصبحنا ندمن البكاء، بالقوَّة نفسها الَّتي ندمن بها الأحلام الخياليَّة.
إنَّ اليهود فريق واحد في الاستراتيجيَّة، وإن اختلفوا في بعض التَّفاصيل التكتيكيَّة، وإنَّ العرب هم فرقاء متعدّدون في الاستراتيجيَّة، وإن خيِّل إلينا أنَّهم موحَّدون بالشّعار {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}[الحشر: 14]، كما كان اليهود في السَّابق.
ذلك هو الَّذي يختصر كلَّ تاريخ الصِّراع العربي الإسرائيلي، فهل تتغيَّر المعادلة؟ وهل يعود التَّضامن العربي بالعودة إلى قمَّة عربيَّة موسَّعة تخطِّط للمستقبل على أساس النَّصر، أو أنَّنا سنتحدَّث كما تحدَّث بعض المسؤولين العرب، عندما قال سنقف مع أصدقائنا الإسرائيليِّين لنحميهم، ونؤكِّد لهم أنَّنا سنكون إلى جانبهم في السّرّاء والضَّراء؟! هذا كلامُ مسؤولٍ عربيٍّ يرأسُ دولةً عربيَّة... إنَّهم يقفون مع إسرائيل في السرّاء والضَّرَّاء، ويقفون ضدَّ هذا الشَّعب العربيّ، وضدَّ ذاك الشَّعب العربيّ، في السرَّاء والضّرّاء، والعرب كرماء أصحاب ضيافة، ويقولون دائماً:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضّيوف وأنت ربُّ المنزل
وقد صدَّق كلُّ الضيوف هذا، فأصبح كلُّ ضيوفنا من الأمريكيّين والبريطانيّين والفرنسيّين، وأخيراً الإسرائيليّين، أصبحوا يعتبرون أنفسهم من أهل البيت، ونحن الطَّارئون على البيت. أليس كذلك؟!
المقاومةُ تستنزفُ العدوّ
إنَّ علينا أن ندرس خلفيَّات الكلمات والوعود وحجم المطلوب من التَّنازلات، وعلى الجميع أن يعرفوا أنَّ العدوَّ إذا قرَّر الانسحاب، فليس ذلك منحةً منه ولا هبة، ولكنَّ أبطال المقاومة هم الَّذين فرضوا عليه ذلك، فإنَّما يُقدِم على ذلك بفعل ضربات المقاومة، ولا سيَّما المقاومة الإسلاميَّة الَّتي هي العمود الفقري للمقاومة، وليس بفعل أيِّ دعوة أخرى من الدَّاخل والخارج. ولذلك ينبغي تصاعد الرّهان على هذه المقاومة ودعمها حتّى تستمرّ، لتفرض على العدوّ الهزيمة، بدلاً من أن يفرض العدوّ الهزيمة على العرب.
إنَّنا نكرِّر دعوتنا إلى جيش العملاء للتَّوبة والفرار قبل فوات الأوان، لأنَّ الشَّعب اللُّبناني، ولأنَّ العرب جميعاً والمسلمين جميعاً، الأحرار منهم، لن يرحموا أحداً من هؤلاء إذا أصرّوا على الخيانة ولم يعلنوا التَّوبة. وعلى الَّذين يثيرون الضّباب حول مسألة جزين بالتَّخويف من فتنة طائفيَّة، أن يتأكَّدوا أنَّه ليس هناك أيّ معطيات لذلك، إذا وعى الجميع حركة الأجهزة لدى العدوّ ومخابراته، فإنَّ جزّين جزء من هذا الوطن، وأهلها جزء من أهله، وإنَّ المقاومة أمينة على أمن شعبها، كما هي أمينة على تحريره من الاحتلال.. وفي مسألة انسحاب إسرائيل أو عملائها من هذه البلدة أو تلك، ينبغي أن لا يفكِّر أحدٌ في تعطيل عمل المقاومة وإرباكها، بفعل اللُّعبة السياسيَّة الدَّاخليَّة، بل لا بدَّ من مساعدتها من قبل الجميع للاستمرار في عمليَّة التَّحرير حتَّى زوال الاحتلال.
وإذا كان رئيس أركان العدوِّ يتحدَّث بأنَّ الانسحاب من لبنان من مصلحة إسرائيل، فإنَّنا نعلم أنَّ المقاومة هي الَّتي استطاعت أن ترهق جيش العدوّ ومجتمعه بعمليَّة الاستنزاف الطَّويلة. وعلى العرب أن يستفيدوا من هذه التجربة التحريريَّة الرائدة في الحاضر والمستقبل، وليتعلَّموا أنَّ الصَّبر والصّمود والمقاومة ضدَّ المحتلّ هو الَّذي يحقِّق النَّصر أخيراً.
جرائمُ تستدعي الاستنفار
وأخيراً، إنَّنا نقف أمام الجرائم الوحشيَّة التي بدأت تتكرَّر في لبنان بشكلٍ مخيف؛ من اغتصاب القاصرين وقتلهم، كما حدث في الاعتداء على الطّفل في الشّمال بشكلٍ وحشيّ، إلى القتل من أجل السَّرقة، إلى الأمّ الَّتي ترمي وليدَها من الطَّبقات العليا، إلى الأب الَّذي يعتدي على بناته... إنَّ ذلك يستدعي أن لا نكتفي بمعاقبة المجرم، بل أن نبحث في واقعنا عن الأسباب الدَّافعة إلى ذلك، لنعمل على معالجتها، سواء كانت فقراً لندعو إلى التَّكافل الاجتماعي، أو إعلاماً للإباحيَّة أو للعنف أو للجريمة، لنقف جميعاً، ونرفع الصَّوت عالياً، للرَّقابة على وسائل الإعلام، ولا سيَّما المحطات الفضائيَّة الَّتي تتحرَّك في برامجها من خلال عناصر الإثارة الغرائزيَّة، لاجتذاب المشاهدين، من أجل الحصول على الإعلانات، على أساس أنَّ البرامج كلَّما كانت مثيرة، أقبل النَّاس على مشاهدتها أكثر، وبذلك ينطلق المعلنون عندما يرون كثرة المشاهدين لهذا البرنامج أو ذاك، ليتعاملوا مع هذا التّلفزيون أو مع هذه الإذاعة أو تلك. إنَّنا مع حريِّة الإعلام، ولكن الحريَّة المسؤولة عن سلامة المستقبل من خلال سلامة الأخلاق.
إنَّنا نطلق الصَّوت تحذيراً من الانهيار الأخلاقيِّ الَّذي يقود إلى تعاظم الجريمة، وعلى المجتمع والدَّولة أن يتحمَّلا المسؤوليَّة الكبرى في مواجهة ذلك كلِّه، فإنَّ الكارثة الاقتصاديَّة الَّتي أوصلت النَّاس إلى أكبر مستوى من خطِّ الفقر من جهة، والفساد الأخلاقيّ والإعلاميّ والاجتماعيّ من جهةٍ ثانية، سوف يسبِّبان ضياعاً وانهياراً وتدميراً لطاقات الشَّباب الَّتي هي طاقات الوطن كلِّه.
إنَّنا نضمُّ صوتنا إلى الأصوات الَّتي تدعو الحكومة اللّبنانيَّة وسائر الفعاليَّات الدينيَّة والسياسيَّة والجمعيَّات الأهليَّة، إلى لقاءٍ أو مؤتمرٍ وطنيٍّ لتدارسِ هذه الأخطار الَّتي تتفشَّى في جسمنا المثقل بالأمراض بطريقة خطيرة تهدِّد كياننا ونسيجنا الاجتماعي من الأساس، في الحاضر والمستقبل.
أيُّها النَّاس، اتَّقوا الله في عباده وبلاده، فإنَّكم مسؤولون حتَّى عن البقاع والبهائم.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[سورة العصر].
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 28/ 05/ 1999.
في القرآن الكريم فصلٌ يؤكِّد الجوانب الحيويَّة في علاقة الإنسان بربِّه وبوالديه وبالنَّاس من حوله، وهذا الفصل يتضمَّن الوصايا العشر الَّتي جاء بها النبيَّان موسى وعيسى (عليهما السَّلام)، لأنَّها تمثِّل مجمل القضايا الَّتي تحفظ للمجتمع توازنَهُ وسلامتَه، وتجعلُ الإنسانَ إنساناً أميناً على علاقتِهِ بربِّهِ وعلاقتِهِ بوالديْهِ، وعلاقته بالنَّاس في تعاملِهِ معهم، من حيثُ الحفاظ على دمائِهم وعلى أموالِهم، ومن حيثُ الحياة الطَّبيعيَّة معهم.
ونحن نعرف أنَّ القرآن الكريم أكَّد الجانب الأخلاقيَّ في حياة النَّاس، بل إنَّ الإسلام كلَّه يمثِّل المنهج الأخلاقيَّ في كلِّ سلوك الإنسان الفرديّ والاجتماعيّ، حتَّى إنَّ النَّبيَّ (ص) قال: "إنَّما بُعثْتُ لأتـمِّمَ مكارمَ الأخلاق"، فالإسلام كلّه أخلاق.
ومن ذلك، فإنَّ الالتزامات الشَّرعيَّة الإٍسلاميَّة فيما أحلَّ الله، وفيما حرَّم، وفيما استحبَّ، تمثِّل البرنامج الأخلاقيَّ للإنسان، وبذلك يرتفع الإنسان المطيع لله، في كلِّ ما أمر الله به أو نهى عنه، إلى الدَّرجة العليا من الأخلاق الإنسانيَّة.
تعالوا نقرأ هذه الآيات بشيءٍ من الاختصار مما يتَّسع له المقام:
التَّوحيدُ في العبادةِ
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ - هذه هي الوصيَّة الأولى؛ أن توحِّد الله في العبادة. وإذا فهمنا أنَّ العبادة تتَّسع لكلِّ أعمال الإنسان في الحياة مما يحبُّه الله ويرضاه، ومما يعطي للحياة قيمتها ويحقِّق مسؤوليَّة الإنسان فيها، فمعنى ذلك، أنَّ الله يقول للإنسان إنَّ عليك في كلِّ حياتك أن تعبدَ اللهَ في كلِّ مفردات حياتك، أن تطيعه في كلِّ ذلك، وأن لا تطيعَ غيره.
وهذا هو التَّوحيد في العبادة الَّذي ينفتحُ على التَّوحيد في الطَّاعة، لأنَّ عبادة الله هي الخضوع له في إطاعة أوامره ونواهيه.
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، فكلُّ إنسانٍ، مهما بلغ من الدَّرجة في المال والسياسة والسّلطة، إذا أرادَ منك أن تفعل شيئاً لم يأمرك الله به، بل أمرَكَ الله بخلافه، أو أن تترك شيئاً لم ينهك الله عنه، أو أراد لك الله أن تفعله، فإنَّ عليك إذا كنت موحِّداً لله في العبادة، أن لا تطيعه، لأنَّ الطَّاعةَ هي عبادة، فكلُّ إنسان تطيعه وتستغرق في ذاته، فإنَّ طاعتك له هي نوعٌ من العبادة: "مَنْ أَصْغَى إِلَى ناطقٍ فَقَدْ عَبَدَهُ، فَإِنْ كَانَ النَّاطقُ يَنطقُ عنِ اللهِ فقدَ عبدَ اللهَ، وإنْ كانَ النَّاطقُ ينطقُ عن لسانِ إبليسَ فقدْ عبدَ إبليسَ".
الإحسانُ إلى الوالدين
- وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانًا - هذه هي الوصيَّة الثَّانية؛ أن تحسن إلى والديْك وترعاهما وتعطف عليهما، أن تخدمهما، وأن تحيطهما بكلِّ ما لديك من الحياطة الَّتي تجعلهما يرتاحان وينعمان بالطَّمأنينة، ولا يشعران بالخوف على مستقبلهما إذا كبرا، لأنَّهما أحسنا إليك في وجودك، وأحسنا إليك في تربيتك، وأحسنا إليك في كلِّ حياتك و{هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ}[الرَّحمن: 60].
ونلاحظ، أيُّها الأحبَّة، أنَّ الله جعل مسألة الإحسان إلى الوالدين إلى جانب توحيده في العبادة، وهذا ما عبَّر عنه في آية أخرى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان: 14]، فجعل شكر الوالدين إلى جانب شكر الله، لأنَّ الله هو السَّبب الأوَّل في الوجود، والوالدان هما السَّبب الثَّاني فيه.
ولكن إذا أمرك الوالدان بمعصية الله، وأرادا أن ينحرفا بكَ عمَّا يريده الله، فعليكَ أن تطيعَ الله وتتركهما، ومع ذلك، عليك أن تصاحبَهما في الدّنيا معروفاً {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا - فلو كانا ضالَّين أو فاسقين أو كافرين، فلا تطعهما، بل أطع الله، ولكن حتَّى في هذه الحالة - وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان: 15].
لاحظوا في هذه الآية الَّتي نقرأها، كيف ركَّز الله سبحانه وتعالى على الجانب العاطفيّ، يعني يا أيُّها الإنسان، تذكَّر كيف رعاك والداك، وتنبَّه إلى أنَّه ليس بينك وبين والديك مسألة كرامة، فلا تقلْ، مثلاً، أبي يذلُّني، أو أمِّي تذلُّني.. تكلَّمت أمِّي معي بطريقةٍ لا أتحمُّلها، أو قال لي أبي كلمةً ولا أتحمَّل هذه الكلمة... مع والديك ليست هناك كلمة "عزّة"، فعندما كنت صغيراً، وكنت تمنعهم من النَّوم وتعذِّبهم، لم يكونوا يقولون نحن غير مستعدّين لنذلَّ أنفسنا لهذا الطّفل الصَّغير الَّذي يعذِّبنا، أو عندما كنت تدخل في مشاكل مع الجيران وغيرهم، لم يكونوا يقولون هذا...
- إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا – يعني صار أحدهما كبيراً في العمر، وصار ضعيفاً ومحتاجاً إليك - أَوْ كِلَاهُمَا – كبر كلاهما في العمر - فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء: 23]. الكبير في العمر، ابن السَّبعين والثَّمانين، يصبح ضيِّق الخلق ومطالبه ثقيلة، ويصبح مثل الطّفل الصَّغير {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا}[النَّحل: 70]. فكما تتحمَّل طفلك الصَّغير، عليك أن تتحمَّل والديك عندما يكبران، باعتبار أنَّهما يعيشان هذا الضِّيق الَّذي ينشأ من كبر العمر وينعكس على أخلاقهما معك.
لذلك {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ - وكلمة "أفّ" الّتي هي أقلُّ الأشياء الّتي يمكن أن تؤذيهما، عليك أن لا تقولها لهما - وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.
- واخفضْ لهما جَنَاْحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمةِ - تواضعْ لهما، ولو صاح والدك في وجهك، أو صاحت أمُّك في وجهك، أو أذاك أحدهما، فقل لا بأس فهما "يمونان" عليَّ. إذا جاءك الشَّيطان تذكَّر {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء: 24].
هذا هو التَّوجيه الإلهيّ في التَّعاطي مع الوالدين، يعني إذا ضاقت بك الأمور في معاشرتهما، فانظر كيف كانا يعاشرانك عندما كنت تزعجهما، فكما صبرا عليك اصبر عليهما، وكما رحماك ارحمهما، واطلب من الله أن يرحمهما.
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ - فاللهُ يطَّلع على ما في نفسك - إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ - فإذا اطَّلع على ما في نفسك ورأى الصَّلاح فيها - فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء: 25]، فسيغفر لك سيِّئاتك، لأنَّه يرى أنّك صالح وأنَّك ترجع إليه.
حقُّ القربى والمساكين
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ – فللأرحام حقٌّ عليك، فحاول أن تعطي أرحامك حقَّهم، مما فرضه الله عليك، ومما استحبَّه لك - وَالْمِسْكِينَ – وهو الفقير - وَابْنَ السَّبِيلِ- وهو الإنسان الَّذي ينقطع به سفره، وتنتهي ميزانيَّته، فلا يكون عنده مال، فأعطه ما يبلغ به بلدَه، حتّى لا يمدَّ يده إلى أحد.
- وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}[الإسراء: 26] وهذه من الوصايا؛ أن تكون لك ذهنيَّة حفظ مالك، أن لا تبذِّر مالك لتصرفه في غير ما هي مصلحتك، ولتصرفه في غير الموارد الَّتي يرضى الله لك بها، لأنَّ المال يمثِّل الوسيلةَ الَّتي تغطِّي بها حاجاتك، فإذا صرفته في غير حاجاتك، وفي غير ما ينبغي أن تصرفه فيه، فإنَّك بذلك سوف {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}[الإسراء: 29].
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ – لأنَّ التَّبذير في المال هو حالة شيطانيَّة، فالشَّيطان يريد لك أن تنحرف عن الخطِّ المستقيم في أن تكون متوازناً في صرف مالك، باعتبار أنَّ مالك طاقة، فإذا بذَّرت مالك، فقد أطعْتَ الشَّيطانَ في ذلك، لأنَّ الله سبحانه وتعالى، كما سيأتي في الآية الثَّانية، يريد لك أن تحقِّق التَّوازن في حياتك، حتَّى إنَّ الله يريد لك أن تُخضِعَ حاجاتك لإمكاناتك، على طريقة المثل القائل: "على قدر بساطك مدَّ رجليك"، لأنَّك تستطيع أن تصبر على نفسك، ولكنَّ النَّاس لا يستطيعون الصَّبر عليك عندما تستقرض منهم ما لا تستطيع أن تفيه لهم.
- وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[الإسراء: 27] جاحداً لنعمة ربِّه. ومن الجحود لنعمة الله، أن تصرف المال الَّذي أعطاك الله إيَّاه في غير ما يريد لك أن تصرفه.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ – عن هؤلاء المبذِّرين - ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا}[الإسراء: 28]، حتَّى عندما تريد أن تبتعد عنهم، حاول أن تتكلَّم معهم الكلام الطيِّب.
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ - فإذا رزقك الله مالاً، فلا تربط يدك في رقبتك بنحوٍ لا تعطي بها شيئاً، ولا يستفيد أحدٌ منك شيئاً - وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ - بحيث تعطي كلَّ ما عندك. فلا هذه ولا هذه، لأنَّ الله يريد من الإنسان أن يسير في خطِّ التَّوازن - فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}[الإسراء: 29] يلومك النَّاس؛ لماذا صرفت كلَّ مالك، وتركت نفسك من دون مال، ومن دون أن تكون قادراً على تلبية حاجاتك؟!
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ - فالله ينزل الرِّزق بحكمة، فلربّما من مصلحة بعض النّاس أن يرزقهم الله، أو أن يبتليهم بالغنى، وربَّما من مصلحة بعض النَّاس أن يقدِّر الله عليه رزقه أو يضِّيق عليه، أو أن يبتليه بذلك - إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء: 30]، فالله هو الَّذي يعرف مصلحة النَّاس.
النَّهيُ عن الإجهاض
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ - بعض النَّاس في الجاهليَّة، كان إذا أتاه ولد، وعنده أربعة أولاد أو خمسة، يقول إنَّ ميزانيَّتي لا تتحمَّل ولداً آخر، فيقتله.
وهذا ما يشبه ما يحدث للبعض في وقتنا الحاليّ، فقد يرى الزَّوجان أنّهما لا يريدان ولداً إضافيّاً، فيكون قرارهما اللّجوء إلى الإجهاض. حتّى إنّنا نرى بعض المؤمنين يقوم بهذا، وهذا ليس من الإيمان، لأنَّ الإجهاض من المحرَّمات، فمن أوَّل يومٍ تحمل فيه المرأة، أي بمجرَّد انعقاد النُّطفة، يحرم الإجهاض، إلَّا في الحالات الَّتي يلزم من الحمل مرضٌ فوق العادة، أو خطرٌ على حياة الأمّ.. أمَّا أن يكون الولد مشوَّهاً، أو عنده قصور عقليّ، فلا يجوز الإجهاض في هذه الحالات. بعض النَّاس يقولون إنَّ الطَّبيب قال لهم إنَّ هذا الولد سيولَدُ مشوَّهاً، فلا يجوز الإجهاض في هذه الحالة، وإلَّا لو جوَّزنا ذلك، فلماذا ننشئ جمعيَّات للمعوَّقين؟! فلنرتح منهم، وإذا كنَّا نقتل الأطفال الَّذين سيولدون مشوَّهين أو معوَّقين، فلماذا لا نفعل ذلك مع العجزة، حتّى لا يربكونا ويربكوا الحياة؟! لذلك، التَّشويه لا يبرِّر الإجهاض.
فالله في هذه الآية يقول للإنسان إنَّ الَّذي يريد أن يقتل ولده، سواء بالإجهاض أو بغيره، من جهة أنَّه يخاف من قلَّة الرّزق، عليه أن لا يفكِّر بهذه الطَّريقة، قد تكون أحوال الإنسان ضيّقة، لكنَّ الولد الّذي سيأتي أنت لست مسؤولاً عن رزقه، فكما رزقك الله، وكما رزق بقيَّة أولادك، سيرزق الولد القادم أيضًا.
لربّما يكون هناك بعض النَّاس في وقتٍ ما لا يريد أولاداً، فيلجأ إلى موانع الحمل، فلا مانع، ما عدا حالتي الإجهاض والتَّعقيم، وقد يفعل ذلك لأنَّه يريد أن يربّي أولاده الموجودين، أو أن يرتاح، فلا مشكلة، أمَّا أن يفعل ذلك لأنَّه يخاف من قلَّة الرّزق، فهذا خلاف الإيمان. لا نقول حرام، ولكنَّه يدلُّ على إيمانٍ ضعيفٍ وعلى عدم الثِّقة بالله.
من الأمور الَّتي لا بدَّ أن نفهمها: "لا يَصدُقُ إيمانُ عبدٍ، حتَّى يكونَ بما في يدِ اللهِ سبحانَهُ أوثقُ منه بما في يدِهِ". فإذا كنت تملك، مثلاً، عشرين ألف دولار، فلا تعتبر أنَّك أمَّنت على نفسك، لأنَّ هذا المال قد يحترق، وقد يضيع... ولكن ما عند الله أوثق، لأنَّ خزائنَ اللهِ لا تنفد {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}[الذَّاريات: 22].
- نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}[الإسراء: 31] فكما رزقناهم نرزقكم. قد تضيق حالك، ولكنَّ الله قادر على أن يوسِّع عليك {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}[الشّرح: 5].
الزِّنا تدميرٌ للمجتمع
{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}[الإسراء: 32]. فالزّنا من الأعمال الَّتي تجاوزت الحدَّ في غضب الله، وهو الطَّريق السيِّئ، لأنَّه يؤدِّي إلى نتائجَ سيِّئةِ على مستوى المجتمع، ويؤدِّي إلى اختلاط الأنساب وضياع الأسرة، وما إلى ذلك من الأمور الَّتي تترتَّب على هذه المسألة.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، إذا كان الله قد حرَّم علينا الزِّنا، فعلينا أن لا نقوم بالأعمال الَّتي تجذب النَّاس إلى ذلك، يعني إذا كنَّا نريد حالة انضباط، فعلينا أن ندرس طريقتنا في الحياة الاجتماعيَّة؛ في اختلاط الرّجال والنِّساء، في خروج النِّساء، مثلاً، بالشَّكل الفاضح، في مسألة الأفلام الجنسيَّة الموجودة، والأفلام الخليعة الَّتي تعرض على القنوات الفضائيَّة... هذه كلُّها أمور تشجِّع على الزِّنا.
في كثيرٍ من حالات الاختلاط بين الرِّجال والنِّساء، كما يحدث بين الجيران، تحدث حالات سيِّئة، والأفظع من ذلك، أنَّ هناك حالةً بدأ يشهدها المجتمع، وهي حالة الزِّنا بالمحارم، وهذا أمر نقرأه كلّ يوم في الجريدة، عن شخصٍ زنا بأخته، وآخر بابنته... ونحن يأتينا الكثير من البنات اللَّاتي يستغثن، من جهة أنَّ آباءهنَّ بلغوا من الوحشيَّة بنحوٍ أنَّهم يعتدون على بناتهم، أو ما أشبه ذلك.
الحمد لله أنَّ هذه الحالات ليست كثيرة في المجتمع، ولكن عندما تكثر، فمعى ذلك أنَّ المجتمع يسير نحو الانهيار. وهذا الأمر دخل في حياتنا من خلال الأفلام الخلاعيَّة والأفلام الجنسيَّة، وهذه الأفلام تباع في المحلات وتؤجَّر، ويجلس الأب ومعه بناته وأولاده ويشاهدون هذه الأفلام، وهذا أكثر فظاعةً مما يُعرَض على التّلفزيونات، وإن كان ما يُعرَض فظيعاً.
نحن نريد أخلاقاً، نريد أن نهيِّئ جوّاً للأخلاق، أن نؤمِّن لأولادنا هذه الأرضيَّة، أمَّا إنَّنا نريد أن يكون أولادنا أصحاب أخلاق وأعفّاء، وفي الوقت نفسه نعطيهم كلَّ هذا المجال، فعندها نصبح كما قال ذاك الشَّاعر:
ألقاهُ في اليمِّ مكتوفاً وقال له إيَّاك إيَّاك أنْ تبتلَّ بالماءِ
لذلك، علينا - أيُّها الأحبَّة - أن نحارب كلَّ المحلَّات، وأنا أتحمَّل المسؤوليَّة في هذا المجال، كلُّ شخص يبيع أفلاماً جنسيَّة خلاعيَّة أو يؤجِّرها، قاطعوه أوَّلاً، وأخبروا السّلطات عنه، لأنَّ هذا الرَّجل ممن يحبُّ أن تشيع الفاحشة في الَّذين آمنوا. وهكذا الشَّخص الَّذي عنده تلفزيون، عليه أن يحفظ نفسه وأهله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا...}[التَّحريم: 6]. فعندما نخلق كلَّ الأجواء الَّتي تؤدّي إلى الزّنا وإلى الانحراف الجنسيّ، إلى الشّذوذ المذكَّر كاللّواط، أو الشَّذوذ المؤنَّت كالسّحاق، وما إلى ذلك، فهذه الأمور تدمِّر المجتمع كلَّه، وتدمِّر أخلاقيَّتنا وديننا، وعلى المجتمع كلِّه أن يعمل في سبيل مواجهة هذه الأمور.
تحريمُ القتلِ إلَّا بالحقّ
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ - لا بدَّ للإنسان أن يحترم دماء النَّاس، فلا يجوز لك أن تقتل أيَّ نفس حرَّمها الله، سواء كانت نفسَ كافرٍ مسالم، أو نفسَ مسلم، لأنَّ الله يريد للنَّاس أن يعيشوا آمنين على أنفسهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم.
- إِلَّا بِالْحَقِّ – ففي مقام القصاص، لوليِّ الدَّم الحقّ في أن يقتل القاتل، وفي مقام الدِّفاع عن النّفس أيضاً، إذا لم يكن هناك طريقة لأن تدفع عن نفسك إلَّا بذلك.
- وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا}[الإسراء: 33]، لا أن يَقتلَ كيفما كان، أو أن يقول سنقتل الآلاف لأنَّ من قُتِلَ لنا لا يعادله أحد. هذا غيرُ مقبول، فمهما كان فلان، فلن يكون بمستوى عليّ بن أبي طالب (ع) الَّذي قال: "ألَا لَا تقتلنَّ بي إلَّا قاتلي"، فليس هناك طبقيَّة في عالم القصاص.
وتبقى بعض الوصايا الأخرى سنتعرَّفها، إن شاء الله، في موقف آخر.
أيُّها الأحبَّة، إنَّنا مسؤولون أن نحمي مجتمعنا من كلِّ هذه الانحرافات، ليعيش المجتمع آمناً في أخلاقه، آمناً على حياته، وليكون المجتمع منفتحاً بعضه على بعض بكلِّ رعاية وبكلّ خير، ولينطلق المجتمع كلّه موحِّداً لله في العقيدة وفي العبادة وفي الطَّاعة.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في كلِّ سلوككم في القضايا الفرديَّة والاجتماعيَّة، اتَّقوا الله وراقبوه عندما تضرى شهواتكم، وعندما تتحرَّك عصبيَّاتكم، وعندما يوسوسُ لكم الشَّيطانُ أن تنحرفوا عن اللهِ سبحانَهُ وتعالى في أوامرِهِ ونواهيه، وأن تبتعدوا عن خطِّهِ المستقيم. اتَّقوا الله، فإنَّ التَّقوى حصنٌ حصين، وهي المدخل إلى الجنَّة.
ولتكن تقواكم لله هي القاعدة الَّتي ترتكز عليها علاقاتكم بمجتمعكم، وحركتكم في مسؤوليَّتكم أمام قضايا أمَّتكم، لأنَّ الله جعل كلَّ إنسان مسؤولاً عن أمَّته بحجم قدراته وبحجم ظروفه.
ولذلك، فإنَّ علينا دائماً، أيُّها الأحبَّة، أن نفكِّر في الأمَّة، وأن نرفدَها في كلِّ مواقعِ ضعفِها، وفي كلِّ مواقعِ قوَّتِها، من أجلِ أن نحوّلَ نقاطَ الضّعف إلى نقاط قوَّة، ومن أجل أن نستزيد من نقاط القوَّة، لأنَّ كلَّ أمَّة لا بدَّ أن تكون قويّةً في ساحة الصِّراع، ولا سيَّما الأمَّة الإسلاميَّة الَّتي أراد الله لكلِّ مجتمعٍ فيها أن يعدَّ ما استطاع من القوَّة، لأنَّ الله يريد العزَّة لنفسه ولرسوله وللمؤمنين، ولا عزَّة إلَّا بالأخذ بأسباب القوَّة، وإلَّا بمواجهة الَّذين يريدون أن يضعفونا في كلِّ مواقعنا الاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة.
فتعالوا لندرس ماذا عندنا، وما حولنا ومن حولنا، في كلِّ ما يتَّصل بحاضرنا ومستقبلنا.
تحذيرٌ من لعبةٍ جديدة
لا يزال الوسط السياسي العربيّ مشغولاً بنتائج الانتخابات الإسرائيليَّة، باعتبارها - كما يقولون - التطوّرَ الكبيرَ في قضيَّة التَّسوية، وقد بدأ البعض يهرول وراء هذا القادمِ الجديد، ويدعو إلى تقديم التَّنازلات إليه، بفعل الضَّغط الأمريكيّ الَّذي يعمل لتسهيل نجاح مشروعه الإسرائيليّ، في احتواء التَّعقيدات الدَّاخليَّة المتحركة في ساحة الأحزاب المختلفة هناك، ولا سيَّما في مسألة تأكيد الاستراتيجيَّة الصهيونيَّة في القدس والمستوطنات، ورفض العودة إلى حدود ما قبل 67.
إنَّنا نحذِّر من هذه اللّعبة الجديدة الَّتي قد تلوِّح بغصن الزَّيتون، وبتحريك التَّسوية، وبالحديث عن الانسحاب من لبنان بعد عام، أو الانسحاب من جزِّين قريباً، لأنَّ اليهود يتحركون في التَّكتيك الجديد في خطِّ استراتيجيَّتهم القائمة على أنَّ الأمن الإسرائيلي فوق كلِّ اعتبار، وعلى أنَّ المصالح الإسرائيليَّة - هكذا يفكِّرون - لا بدَّ أن تكون فوق المصالح العربيَّة والإسلاميَّة، ولا سيَّما الفلسطينيَّة، وأنَّ إسرائيل لن تنسحب من أيِّ شبر من فلسطين إلَّا بعد أن تحوِّله إلى سجن تحيط به المستوطنات من كلِّ جهة.
إنَّ اللُّعبة الجديدة تعمل على إرباك السَّاحة العربيَّة، من أجل إضعافها بتعقيدات جديدة. ولنا أن نتساءل، وقد طُرحَتْ في هذا السِّجال السياسيّ فكرة قمَّة عربيَّة خماسيَّة تضمُّ مصر وسوريا ولبنان والأردن وسلطة الحكم الذَّاتي في فلسطين، ولا تضمّ غير هؤلاء، باعتبار أنَّهم يمثِّلون دول الطّوق.. لنا أن نتساءل عن جدوى القمَّة العربيَّة الخماسيَّة الَّتي تتقدَّمها دولتان دخلتا في الصّلح مع إسرائيل، وهما مصر والأردن، وسلطة الحكم الذاتي قدَّمت التنازلات لليهود قبل أن تحصل على أيِّ شيء حيويّ من خلال اتّفاق أوسلو، وهل هي مشروع أمريكي لاحتواء الواقع العربي في هذه الدائرة، وترتيب أوضاعه على صورة المشروع الصهيوني؟! لأنَّ أمريكا وظَّفت بعض الدّول العربيَّة، على أساس أن تكون - كما يعبّرون - العرَّاب للمشروع الأمريكي الصهيوني، ولو على حساب المشروع العربي الحيويّ.
إنَّنا ندعو إلى الحذر من الاتّصالات الدبلوماسيَّة الَّتي تتحرَّك من خلال اتّصالات السَّفير الأمريكي في لبنان، والتَّصريحات الضبابيَّة، والمشاريع الانسحابيّة الغامضة، وإطلاق الأحلام العربيَّة من دون أفق واضح، ونقول للجميع: لا تستعجلوا الاحتفال، فقد يصدق قول القائل: "رُبَّ يَومٍ بَكَيتُ مِنهُ، فَلَّما صرْتُ في غَيرِهِ بَكَيتُ عَلَيهِ".
والعرب عندما ينتقلون من مرحلةٍ إلى مرحلة، عند رئيس أمريكيٍّ ذاهبٍ ورئيسٍ أمريكيّ قادم، أو رئيس صهيونيّ ذاهب ورئيس صهيونيّ قادم، إنّهم يحلمون ويحتفلون ويهلِّلون، ولكنَّهم يكتشفون بعد ذلك أنَّ الجديد أقسى من القديم، وربما يترحمَّون على القديم. ولكنَّنا، أيُّها الأحبَّة، بفعل الضّعف الَّذي نعيشه، أصبحنا ندمن البكاء، بالقوَّة نفسها الَّتي ندمن بها الأحلام الخياليَّة.
إنَّ اليهود فريق واحد في الاستراتيجيَّة، وإن اختلفوا في بعض التَّفاصيل التكتيكيَّة، وإنَّ العرب هم فرقاء متعدّدون في الاستراتيجيَّة، وإن خيِّل إلينا أنَّهم موحَّدون بالشّعار {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}[الحشر: 14]، كما كان اليهود في السَّابق.
ذلك هو الَّذي يختصر كلَّ تاريخ الصِّراع العربي الإسرائيلي، فهل تتغيَّر المعادلة؟ وهل يعود التَّضامن العربي بالعودة إلى قمَّة عربيَّة موسَّعة تخطِّط للمستقبل على أساس النَّصر، أو أنَّنا سنتحدَّث كما تحدَّث بعض المسؤولين العرب، عندما قال سنقف مع أصدقائنا الإسرائيليِّين لنحميهم، ونؤكِّد لهم أنَّنا سنكون إلى جانبهم في السّرّاء والضَّراء؟! هذا كلامُ مسؤولٍ عربيٍّ يرأسُ دولةً عربيَّة... إنَّهم يقفون مع إسرائيل في السرّاء والضَّرَّاء، ويقفون ضدَّ هذا الشَّعب العربيّ، وضدَّ ذاك الشَّعب العربيّ، في السرَّاء والضّرّاء، والعرب كرماء أصحاب ضيافة، ويقولون دائماً:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضّيوف وأنت ربُّ المنزل
وقد صدَّق كلُّ الضيوف هذا، فأصبح كلُّ ضيوفنا من الأمريكيّين والبريطانيّين والفرنسيّين، وأخيراً الإسرائيليّين، أصبحوا يعتبرون أنفسهم من أهل البيت، ونحن الطَّارئون على البيت. أليس كذلك؟!
المقاومةُ تستنزفُ العدوّ
إنَّ علينا أن ندرس خلفيَّات الكلمات والوعود وحجم المطلوب من التَّنازلات، وعلى الجميع أن يعرفوا أنَّ العدوَّ إذا قرَّر الانسحاب، فليس ذلك منحةً منه ولا هبة، ولكنَّ أبطال المقاومة هم الَّذين فرضوا عليه ذلك، فإنَّما يُقدِم على ذلك بفعل ضربات المقاومة، ولا سيَّما المقاومة الإسلاميَّة الَّتي هي العمود الفقري للمقاومة، وليس بفعل أيِّ دعوة أخرى من الدَّاخل والخارج. ولذلك ينبغي تصاعد الرّهان على هذه المقاومة ودعمها حتّى تستمرّ، لتفرض على العدوّ الهزيمة، بدلاً من أن يفرض العدوّ الهزيمة على العرب.
إنَّنا نكرِّر دعوتنا إلى جيش العملاء للتَّوبة والفرار قبل فوات الأوان، لأنَّ الشَّعب اللُّبناني، ولأنَّ العرب جميعاً والمسلمين جميعاً، الأحرار منهم، لن يرحموا أحداً من هؤلاء إذا أصرّوا على الخيانة ولم يعلنوا التَّوبة. وعلى الَّذين يثيرون الضّباب حول مسألة جزين بالتَّخويف من فتنة طائفيَّة، أن يتأكَّدوا أنَّه ليس هناك أيّ معطيات لذلك، إذا وعى الجميع حركة الأجهزة لدى العدوّ ومخابراته، فإنَّ جزّين جزء من هذا الوطن، وأهلها جزء من أهله، وإنَّ المقاومة أمينة على أمن شعبها، كما هي أمينة على تحريره من الاحتلال.. وفي مسألة انسحاب إسرائيل أو عملائها من هذه البلدة أو تلك، ينبغي أن لا يفكِّر أحدٌ في تعطيل عمل المقاومة وإرباكها، بفعل اللُّعبة السياسيَّة الدَّاخليَّة، بل لا بدَّ من مساعدتها من قبل الجميع للاستمرار في عمليَّة التَّحرير حتَّى زوال الاحتلال.
وإذا كان رئيس أركان العدوِّ يتحدَّث بأنَّ الانسحاب من لبنان من مصلحة إسرائيل، فإنَّنا نعلم أنَّ المقاومة هي الَّتي استطاعت أن ترهق جيش العدوّ ومجتمعه بعمليَّة الاستنزاف الطَّويلة. وعلى العرب أن يستفيدوا من هذه التجربة التحريريَّة الرائدة في الحاضر والمستقبل، وليتعلَّموا أنَّ الصَّبر والصّمود والمقاومة ضدَّ المحتلّ هو الَّذي يحقِّق النَّصر أخيراً.
جرائمُ تستدعي الاستنفار
وأخيراً، إنَّنا نقف أمام الجرائم الوحشيَّة التي بدأت تتكرَّر في لبنان بشكلٍ مخيف؛ من اغتصاب القاصرين وقتلهم، كما حدث في الاعتداء على الطّفل في الشّمال بشكلٍ وحشيّ، إلى القتل من أجل السَّرقة، إلى الأمّ الَّتي ترمي وليدَها من الطَّبقات العليا، إلى الأب الَّذي يعتدي على بناته... إنَّ ذلك يستدعي أن لا نكتفي بمعاقبة المجرم، بل أن نبحث في واقعنا عن الأسباب الدَّافعة إلى ذلك، لنعمل على معالجتها، سواء كانت فقراً لندعو إلى التَّكافل الاجتماعي، أو إعلاماً للإباحيَّة أو للعنف أو للجريمة، لنقف جميعاً، ونرفع الصَّوت عالياً، للرَّقابة على وسائل الإعلام، ولا سيَّما المحطات الفضائيَّة الَّتي تتحرَّك في برامجها من خلال عناصر الإثارة الغرائزيَّة، لاجتذاب المشاهدين، من أجل الحصول على الإعلانات، على أساس أنَّ البرامج كلَّما كانت مثيرة، أقبل النَّاس على مشاهدتها أكثر، وبذلك ينطلق المعلنون عندما يرون كثرة المشاهدين لهذا البرنامج أو ذاك، ليتعاملوا مع هذا التّلفزيون أو مع هذه الإذاعة أو تلك. إنَّنا مع حريِّة الإعلام، ولكن الحريَّة المسؤولة عن سلامة المستقبل من خلال سلامة الأخلاق.
إنَّنا نطلق الصَّوت تحذيراً من الانهيار الأخلاقيِّ الَّذي يقود إلى تعاظم الجريمة، وعلى المجتمع والدَّولة أن يتحمَّلا المسؤوليَّة الكبرى في مواجهة ذلك كلِّه، فإنَّ الكارثة الاقتصاديَّة الَّتي أوصلت النَّاس إلى أكبر مستوى من خطِّ الفقر من جهة، والفساد الأخلاقيّ والإعلاميّ والاجتماعيّ من جهةٍ ثانية، سوف يسبِّبان ضياعاً وانهياراً وتدميراً لطاقات الشَّباب الَّتي هي طاقات الوطن كلِّه.
إنَّنا نضمُّ صوتنا إلى الأصوات الَّتي تدعو الحكومة اللّبنانيَّة وسائر الفعاليَّات الدينيَّة والسياسيَّة والجمعيَّات الأهليَّة، إلى لقاءٍ أو مؤتمرٍ وطنيٍّ لتدارسِ هذه الأخطار الَّتي تتفشَّى في جسمنا المثقل بالأمراض بطريقة خطيرة تهدِّد كياننا ونسيجنا الاجتماعي من الأساس، في الحاضر والمستقبل.
أيُّها النَّاس، اتَّقوا الله في عباده وبلاده، فإنَّكم مسؤولون حتَّى عن البقاع والبهائم.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[سورة العصر].
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 28/ 05/ 1999.