هذا الرجل الذي اختط مسار رحلته الثقافية بين موطني شعر وثقافة هما العراق ولبنان، الذي زرناه فيه فاحتفى بنا عبر هذا الحوار الوحيد المجرى مع سماحته منذ أن توعك وتعقد وضعه الصحي قبل أكثر من ستة أشهر. خصنا به سماحة السيد مملياً أسطره في الوقت الذي كان يدخل إلى المستشفى ويخرج منها ناظراً إلى ما في الأدب من طريق للعبور إلى الحياة وجادة الصواب، عابراً إلى آفاق المحبة الإلهية من بوابة الالتزام الأدبي الذي لا ينفصل عن الالتزام الإسلامي، لأن سماحته يرى في الشعر رسالة ينبغي أن تؤدى على أكمل وجه، لحساب الخير والمحبة وقيم السماء التي ألهمته أربعة دواوين شعرية هي: "قصائد للإسلام والحياة"، "يا ظلال الإسلام"، "على شاطىء الوجدان"، والكتاب الأخير "في دروب السبعين"...
مع سماحة العلامة الشاعر محمد حسين فضل الله كان هذا الحوار الذي تنشره جريدة الصباح الكويتية في عددها الصادر اليوم الجمعة، بالتزامن مع وكالة أنباء الشعر.
ـ إن الشعر لا يستطيع أن يضبط نفسه أو يضبطه صاحبه، لأنه ينساب من أعماق النفس، ولذلك فإنه كالينابيع التي تتفجر وتنساب في الأراضي من دون أن تطلب إذناً من أحد.
ومن الطبيعي أن الشعر هو الإنسان عندما ينفتح على وعي نفسه وعلى وعي الكون والحياة. وبما أنّ الإنسان يتطور تجربةً ومعاناةً، فمن الطبيعي أنّ وسائل التعبير الشعري قد تتطور معه لتعبّر عن عمق الذات الإنسانية، وما تختزنه من رؤى وأحلام وتطلعات.
ـ هي قصيدة الحياة الَّتي ـ اعتقدت وما زلت أعتقد ـ أنها لا تتحمَّل الحقد، فالحقد موت والمحبة حياة... والمحبة قصيدة الحياة، لأنك حين تحب الحياة، فإنك تحاول أن تغنيها وتمنحها كل الطموح الذي تحاول تحقيقه في فترة وجودك الزمني، ولهذا عبرت عن قصيدة الحياة ببيتين:
ربما لا أستطيع أن أقوّم نفسي كشاعر، ولكنَّني أستطيع أن أقول إنني كنت صادقاً في كلِّ ما قلت.
ـ هل يحصر سماحة السيّد محمد حسين فضل الله شعر المقاومة بالجانب السياسي؟
ـ من الطبيعي أنَّ شعر المقاومة هو شعر القضيَّة التي يلتزم بها الإنسان، ومن مصاديقها المقاومة بالكلمة التي قد تترك أثراً أكثر من أعتى الوسائل الحربية التي تستخدم خلال الحرب العسكرية... وقد عشنا مرحلة منع الكيان الصهيوني تدريس الشعر والقصائد المقاوِمة أو المعبِّرة عن الالتزام بقضيَّة المقاومة في جامعات فلسطين المحتلة... فيما يفتح الأفق على مختلف مجالات "المقاومة" الاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة والأدبيّة والعلميّة وغيرها.
إنَّني لا أتحدَّث عن الالتزام في الشعر ليقول بعض الناس: إن الشاعر ليس مصلحاً أو ثائراً أو مجاهداً مقاوماً يعيش فنّه فيتفاعل معه. لذلك لا تستطيع أن تفرض على الشاعر الموضوعات التي يحرك فيها تجربته. ولكن هل يمكن أن تكون شاعراً ولا تتحسّس كلّ صرخات آلام الحريَّة والمقاومة ولا تتحسَّس تطلّعات الناس وأحلامهم وصرخاتهم ونداءاتهم ومشاكلهم؟
ـ لسماحتكم قصائد في الغزل، ألا تجدون تعارضاً في تناول هكذا موضوع، كونكم تعنون بالجانب الديني الذي يرفع بطاقة الرفض إزاء هكذا توجه؟
ـ من الطبيعي أنك عندما تكون ملتزماً دينياً بوعي، فإنك تكتشف الحب بأعمق مشاعره وبأرحب آفاقه. وهكذا، عندما انفتحت على الله اكتشفت الحبّ، ليس حباً ينبض به جسدك، ولكنه حبّ ينفتح على روحك وقلبك ووجدانك وحركتك في الحياة.
لهذا أعتقد أنّ الدين الذي يحلّق بالإنسان في آفاق المطلق، وفي رحاب الله خالق الجمال والطبيعة والإنسان، هو الدين الذي يفجر الشعر في نفس الإنسان والحب في كيانه، هذا الحب الذي لا ينبغي أن يعيش في الدوائر الذاتية المغلقة، وإنما في الهواء الطلق والصحو المبدع.
ـ هل يعتقد سماحة السيد بجدوى الشعر في زمن تفوقت فيه الآلة وألغت الكثير من دهشة الإيقاع المعنوي للحياة؟
ـ نحن نعرف أنّ الشعر يمثل حركة الإحساس في الإنسان في تمثلاته الفكرية والتجريبية، ولا يكون مجرد رموز لحالات وتعقيدات، ولذلك، فإنني لا أتصور أن العصر هو عصر معقّد، بل إنه يتطور نحو البساطة التي تجعل الإنسان يتجاوز الكثير من التعقيدات الاجتماعية التي كان يتمثلها في الماضي.
ـ يتوزع شعراء لبنان بين جنوبيين وشماليين. إلى أيّ مدى يتصالح الخطاب الشعري بين الجزئين بحكم اختلاف الجو الاجتماعي؟ وهل هناك تواصل فكري أو أن هناك قطيعة تحتمها منهجية الخطاب الديني؟
ـ لا أؤمن أبداً بتعليب الإنسان في الموقع أو المكان الذي يعيش فيه، فأن يكون الإنسان جنوبياً أو شمالياً، لبنانياً أو عراقياً، أو ذا موقع رسمي أو اجتماعي أو سياسي، لا يعني أن يعلّب بحيث يضغط الموقع على إنسانيته.
ومن المألوف أن يعبّر الإنسان عن أحاسيسه، لأنَّ أيّ موقع يتخذه هو حركة في تطورات حياته. ولهذا قد يعبّر عن نفسه وبيئته بالشعر أو بالقطعة الأدبية النثرية أو بالخطابة على مختلف أنواعها.
ـ ماذا يذكر سماحة السيد من العراق وشعرائه؟
ـ أذكر من خلال ضباب الذكريات أننا في أواخر الخمسينيات، شكّلنا أسرةً للأدب اسمها "أسرة الأدب اليقِظ"، وكان من المنتمين إليها الدكتور مصطفى جمال الدين الشاعر المعروف... وكانت هذه الأسرة تحاول أن تجدّد شعر النجف. وأذكر أنني كتبت الشعر الحر وكنت أوقع باسم رمزي هو "رشدي ناجي"، وأعتقد أنّنا مع كثير من أصدقائنا في النجف ساهمنا في إدخال النجف في التجربة الشعرية الحديثة أثناء المعركة الأدبية التي كانت تعيش في مجلة الآداب اللبنانية بين الشعر الحر بشعرائه المتنوعين، كبدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهّاب البياتي، وصلاح الدين عبد الصبور... وهكذا انفتحت على شعر الجواهري، ومحمد سعيد الحبوبي، والشيخ علي الشرقي، وغيرها من الأسماء التي لا تزال الذاكرة تحملها.
ـ هناك مقولة: مصر تكتب ولبنان يطبع والعراق يقرأ... كيف ترون هذه المقولة؟
ـ عندما أريد أن أواجه هذا السؤال قد لا أستطيع أن أدخل في عملية تقويم دقيق للكتبة والشعراء والمتلقين وما إلى ذلك... لأنّ لكلّ بلد خصائصه وميزاته التي تطبع شخصية الأديب أو الباحث أو الشاعر أو السياسي أو الكاتب أو المبدع في مختلف المجالات الإنسانية والفكرية والأدبية والفنيّة.
ـ ما هو الشعر الديني؟ هل هو شعر الإيديولوجيا أو مجانبة الوقوع في الرذيلة؟ـ لا أتصوَّر الدين وكأنه تلك الزنزانة الضيقة التي يتصورها الآخرون، فالدين ينفتح على الجمال وعلى الإنسان الآخر وعلى الطبيعية وعلى كل تطلعات المرء وآماله وأحلامه وأفراحه وهواجسه... والدين لا يلغي تفكير الإنسان واستمتاعه بالجمال.
ولعلّ الشعر من أسمى مظاهر الجمال، ولذلك فالدين يقول: كنْ إنساناً بكلّ غرائزك، وأفراحك، وأحزانك... كن إنسان القيمة، كن إنسان الحياة، فالحياة لن ترتكز إلا على إنسان الحياة في خط القيمة.
وإنني لا أعتقد أنّ مسألة أن يعيش الإنسان حياته وتجربته الشعرية تتنافر مع أن يعيش قيمه ودينه... وعندما مارست التجربة الشعرية كنت أعيش هواجس التطلع في الوجود والغاية منه، لأنّ الدين لا يحرمك من فكرك ومشاعرك وإنما يحاسبك على عملك.
ـ
قريباً من الجو القرآني لسماحتكم، نود أن نتعرف إلى شعراء يميل سماحتكم لقراءة شعرهم؟
ـ كنت أقول وما زلت أردّد: لكل ورد رائحة.
ـ
هل ثمة قصيدة أو أبيات تحب أن تردّدها ولها الوقع الأكبر لديكم؟
من أغاني القلب أيقظت الضحى
بدمي فانتثر الوحي بروحي
فتطلعت إلى الشمس ولم
أستفق إلا على صحو جروحي
أنا حسبي إن تغشّاني الدجى
خطرات الفجر والحسّ الصّريح
فانطلاقات حياتي فكرة
سوف تبقى حلماً فوق ضريحي
ـ
لسماحتكم قصيدة تعارضون بها قصيدة الشاعر الراحل نزار قبّاني. كيف تقرأون القصيدتين بعد مرور عقود من الزّمن على كتابتها؟
ـ أذكر أنني عندما انطلقت الانتفاضة العراقية في العام 1958، كتبت قصيدتي بعنوان "أيّ ثورة"، والتي اعتبرها البعض ردّاً على قصيدة "خبز وحشيش وقمر" لنزار قباني ومنها:
أيّ ثورة!
فجر الشعب بها للشرق ذاته
فوعى فيها حياته
مثلما ينسكب النور على الدنيا الكئيبه،
مثلما ينطلق الينبوع في الأرض الجديبه،
فإذا بالأفق أعراس وأحلام "خضيبة"
وإذا بالقفر واحات وأفياء رحيبه،
أيّ ثورة،
إنّه الشعب أتى،
يحصد آلاف السّنابل
وبكفَّيه المناجل،
إنّه الشعب الذي كان يعيش الأغنية
عالماً حيّاً ودنياً موحيه...
وصدى يلهب روح التضحية
شعبنا هذا الذي عانى وقاسى وتألّم...
في سبيل الكلمة...
حرة يبدع فيها حلمه...
فافتحوا الدرب له
للعبقريات الدفينة،
إنه يحمل في عينيه عزماً لن يخونه،
إنّه يحمل تاريخ الرسالات الأمينه،
إنه قد يلعق الجرح،
وقد ينسى أنينه،
قد يغني ريثما يملأ بالدّمع عيونه،
فيقولون مضى الشّرق وماتْ،
في ضباب الأغنياتْ،
غير أنّ الشرق لن ينسى شجونهْ،
إنّه لن يترك الخائن يقتادُ شؤونه...
ومن الطبيعي أنّ الثورة التي أينعت بعد زمن ـ وما تزال ـ تعّبر عن الواقع الذي صنعه شباب الشرق المبدع الخلاقِ المقاوم، لأنّ هناك ذهنية تقول إنّه لا بدّ للإنسان أن يعيش التمرد، لأنّ روحيّة التمرد توحي بالإبداع الذي يجعلك تقرأ المستقبل على ضوء الحاضر المرتبط بالماضي الغني بمحطات العطاء.
وقد قلتُ حين صدور قصيدة نزار: "خبز وحشيش وقمر" أنّها خطيرة، لأنّ نزار كان شاعر الشّباب المندفع الذي يُعْتَبَرُ العَزْمَ والعَزيمَةَ في ميادين الحياةِ.
ـ
في رأي سماحتكم، أيهما يسبق في تأثيره، المقاومة أم شعراء المقاومة؟
ـ من الطبيعي أنّ الحدث قد يسبق كثيراً مجالات الكلمة ووسائل التعبير عنها، ومنها الشعر. وفي تصوري أنّ فعل المقاومة ومنجزاتها وما أثمرته، قد سبق التعبير عن هذا الفعل شعراً وفنّاً.
ـ
يرى البعض أنّنا نعيش حالياً في عصر الرواية لا الشعر. هل تستطيع الرواية، حسب رؤيتكم، أن تتفوّق على ديوان العرب؟
ـ قيمة الرواية أنها أكثر تجذّراً في وجدان الإنسان منذُ كانت القصّة؛ لأنّ الإنسان معنيٌّ بأن يتابع الأحداث؛ ولأن طبيعة حركيّة القصة وتحوّلها من مشهد إلى مشهد، هي التي تجذبه وتملأ فراغه وتشعره بنوع من الحيويّة.
أمّا الشعر فقد أخذ دوره ومكانته في الحياة عندما كان الشعرُ شعرَ الناس والحياة. أمّا عندما صار الشّعر شعرَ النخبة، فإني أظنّ أنّ النخبة ليست متفرّغة لقراءة الشعر، لأنّ النخبة قليلاً ما تقرأ.
ـ
من هو شاعر المقاومة الأوّل حالياً حسب رؤيتكم؟
ـ المقاوم.
ـ
يرى أدونيس أنّ محمود درويش كان شاعر مصالحة لا مقاومة. كيف يرى سماحتكم هذا القول؟
ـ نحن نرى أنّ محمود درويش كان الإنسان الشاعر الذي جسّد فلسطين أرضاً وشعباً وقضيّة.