السيِّد فضل الله في مقابلة مع قناة (ANB) الفضائيَّة عن النّجف والشِّعر والإبداع والحوار والمرأة

السيِّد فضل الله في مقابلة مع قناة (ANB) الفضائيَّة  عن النّجف والشِّعر والإبداع والحوار والمرأة
أجرت قناة (ANB) الفضائيَّة، ضمن برنامج (المرصد الثّقافي)، بتاريخ 24-6-2009م، حواراً مع سماحة العلامة المرجع، السيّد محمد حسين فضل الله، تناول تأثير النَّجف في التّجربة الشعريّة لسماحته، الإبداع الثّقافي، الموقف من الشِّعر الحرّ والقصائد الصوفيَّة ومحرَّمات الشّعر الغزليّ، كما تناولت موقف الإسلام من المرأة، وأهميّة الحوار بين النّاس، وكانت الخاتمة مع الحديث عن دولة الإنسان... وهذا نصّ الحوار:

تأثير النّجف
س: أودّ في بداية الحوار أن أعود إلى الماضي، وتحديداً إلى المراحل الأولى، مرحلة وجودكم في النّجف، فقد مضت سنوات طويلة وأنتم خارج النّجف. ما الّذي بقي من تأثير هذه البيئة في سماحتكم؟
ج: لقد ولدت في النجف، وعشت على ترابها، وتنفّست هواءها، وانفتحت على قداستها من خلال مدفن ومقام الإمام علي بن أبي طالب(ع)، الّذي كنت ولا أزال أعيشه روحاً وفكراً وسموّاً وانفتاحاً على الحياة كلّها، حتّى إنّنا عندما نقرأه، نتصوّر أنّه يحدّثنا الآن عن مشاكلنا الّتي نعيشها، لأنّه كان ينظر في فكره إلى المستقبل وإلى الحياة كلّها، ولا يتحرّك في دائرة المرحلة الزمنيّة الّتي عاشها. كما كنت أعيش في النّجف الآلام، لما كنّا نراه كلّ يوم من الأموات الّذين يؤتى بهم ليدفنوا في مقبرة "وادي السلام"، حيث كنّا نستقبل في كلّ يوم جنائز تأتي من سائر أنحاء العراق.
وكنّا نعيش في النّجف الذّكريات التاريخيّة لمآسي أهل البيت(ع) الّتي كانت تستثير فينا الدّموع والمشاعر المؤلمة، من خلال التّقاليد الّتي درج عليها المسلمون الشّيعة في إثارة هذه الذّكريات بشكل محدود أو بشكل واسع. كما كنت أعيش النّجف الحوزة العلميّة، الّتي مضى على تأسيسها أكثر من ألف سنة، والّتي خرَّجت الكثير من العلماء الّذين امتدّوا في أصقاع الأرض، في ما تعلّموا فيها من علوم الفقه والأصول واللّغة العربيّة والفلسفة وما إلى ذلك. وكنت أعيش النّجف الثقافيّة الأدبيّة الشّاعرة؛ النّجف الشّاعرة الّتي كانت تتنفّس شعراً، حتّى إنَّ الإنسان فيها يشعر بنفسه بطريقة لا شعوريَّة وقد بدأ يمارس الشّعر. وهكذا انطلقْتُ فيها وأنا في العاشرة من عمري، لأقوم ببعض تجاربي الشّعريّة، والّتي امتدّت حتّى الآن.
ولذلك، فإنّني أعيش النّجف كموقعٍ يتجذّر في كلّ عقلي وقلبي وحركتي في الحياة وتطلّعاتي، ولا أزال إلى الآن أعيشها من خلال اتّصالاتي مع تلامذتي الكثيرين هناك، فأنا لا أزال في النّجف من خلال كلّ هذه الطّلائع المثقَّفة الّتي عاشت على أفكاري وما تزال.

النَّجف الشَّاعرة
س: في الحقيقة، لقد أوصلتَني إلى ما كنت أريد أن أتوقّف حوله معك: كلّ من دخل النّجف، ليكون معلّماً أو فقيهاً أو علاّمةً، خرج منها شاعراً أيضاً، لماذا أصبح الشّعر بالذات إحدى سمات مدرسة النجف العلميّة؟
ج: لأنّ الحوزة العلميّة كانت في حركة الدّراسات التقليديّة تبدأ بالعلوم العربيّة، فكنّا نبدأ بدراسة النّحو والصّرف، ثم بدراسة علوم البلاغة، وبذلك كان الإنسان هناك يعيش الجانب الأدبيّ إلى جانب دراساته الحوزويّة، بحيث إنَّه إذا كان يعيش في ذاته الانفتاح على الأدب، فإنّ النّجف كانت تساعده على أن يفجِّر هذه الحالة، لتتحوَّل إلى نصّ شعريّ أو نصّ نثريّ أدبيّ.
س: كنتم تمارسون الشّعر، ولديكم دواوين شعريَّة، إلى أيِّ مدى طغت في داخلك الشخصيَّة الدينيَّة على شخصيَّة الشَّاعر؟
ج: أنا لا أعتبر أنّ الشخصيّة الدّينيّة تؤطّر الإنسان وتحبسه في زنزانة ثقافيّة مظلمة، بل إنّ الثقافة الدينيّة تنفتح على الحياة كلّها، لأنّنا نقرأ في القرآن الكريم، أنّ أساس الرّسالات هو العدل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]. ولذلك، فإنَّ العدل هو الأساس، والّذي ينبغي أن يمتدَّ في كلِّ عقل الإنسان وحركته وعلاقاته في الحياة.
أنا لا أعتبر أنّ الشخصيّة الدّينيّة تؤطّر الإنسان وتحبسه في زنزانة ثقافيّة مظلمة، بل إنّ الثقافة الدينيّة تنفتح على الحياة كلّها...
وهكذا، فإنَّ الإنسان الّذي يعيش إنسانيَّته، لا بدَّ من أن يحسَّ بالجمال؛ الجمال الطّبيعيّ، ولا بدَّ من أن يتأثّر به عندما تنطلق مشاعره بشكل مرهف يلامس إحساسه بالحياة، لأنَّ معنى أن تكون شاعراً، أن تكون حيّاً ومنفتحاً على كلّ جوانب الحياة. ولذلك، كنت أعتبر أنّ ثقافتي الإسلاميّة لا تغلق عني نوافذ الثّقافة الأدبيّة.
ولقد كنت منفتحاً على التّجارب الأدبيّة في العالم العربي، وكنت أقرأ شعر أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، كما قرأت الأخطل الصّغير، وبشارة الخوري، والياس أبو شبكة، وصلاح لبكي وغيرهم من الشّعراء، حتّى إنّني كنت أطلّ على الشعر الشعبي الفني الأدبي، سواء الشّعر الشعبي العراقي، أو الشّعر الشعبي اللّبناني، كما كنت أنفتح على الواقع السياسيّ وأنا في العراق في العهد الملكي، عندما كان العراق يضجّ بالتطوّرات السياسيّة، وعندما كان العالم العربي ينطلق ببعض الثّورات أو الانقلابات، كما في عهد جمال عبد النّاصر وما إلى ذلك.

الثَّقَافة الواحدة
س: سماحة السيِّد، في ذلك الوقت، كان العالم يستقبل الأفكار الجديدة، إن من المعسكر الاشتراكيّ، أو من المعسكر القوميّ العربيّ، وكانت هناك أفكار جديدة تطرح في المنطقة العربيَّة.. اليوم، وبعد العام 2000م، نجد أنَّه قد أصبحت هناك ثقافة واحدة في بعض الأماكن في العالم العربيّ، ولم يعد هناك استقبال للأفكار الجديدة. ما تعليقكم على هذا الموضوع؟
ج: كانت الحركة الشَّعبيَّة في العالم العربيّ تُعبِّر عن نفسها، بالرّغم من أنَّها كانت تخضع للاستعمار البريطانيّ في العراق ومصر، والفرنسيّ في سوريا ولبنان، ولذلك كان عهد الاستعمار عنصر إثارة للمشاعر الشعبيّة الأدبيّة الفنيّة، وللحركيّة الشعبيّة في الواقع، وكنّا، بالرّغم من وجود بعض القيادات الّتي لا تملك الإخلاص لشعوبها، نرى أنَّ هناك حركيّةً في العالم العربيّ، ولا سيَّما حركة القوميّة العربيّة من جهة، والماركسيّة من جهة أخرى، والإسلاميّة بطريقة وبأخرى، وعلى ضوء هذا، كان هناك حالة حركيّة في العالمين العربي والإسلامي، بينما نجد أنَّه في المرحلة الّتي نعيشها، تجمَّدت هذه الحركة كنتيجة لفشل بعض الحركات القوميّة والماركسيّة وما إلى ذلك.

غياب الإبداع!
س: هل اختفى عنصر الإبداع الآن سماحة السيِّد؟
ج: نعم، لأنَّ مسألة الإبداع تنطلق من خلال هذه الحركة الرّوحيّة الّتي تتحسَّس آلام الإنسان وتتطلّع إلى المستقبل. نحن نلاحظ أنَّ الّذين يسيطرون على العالم العربي، قد حاصروا الإنسان العربي في زنزانة قوانين الطّوارئ والمخابرات وما إلى ذلك، بحيث إنَّهم منعوا الحريّة حتّى على مستوى التّعبير عن القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة، ما جعل الإنسان يعيش في إطار حاجاته ومشاكله الخاصّة، بحيث شُغل كلّ شعب بمشاكله وبقوته اليوميّ وبالقضايا الصَّغيرة هنا وهناك.
س: لم نعد نجد إبداعاً، فرجالات الدّين في منتصف القرن الفائت، كان لهم نشاطهم الدّينيّ، وكان لهم نشاطهم الفكريّ والأدبيّ أيضاً...؟
ج: نحن نأسف، لأنَّ الكثير من رجال الدّين انطلقوا من موقع التخلّف الذّهنيّ، الّذي جعلهم يعيشون في داخل مواقع تقليديّة تختزن العصبيّة الّتي تجعل النّاس تعيش مشاكل الماضي بدلاً من أن تعيش مشاكل الحاضر والمستقبل، وهذا ما نلاحظه في إثارة المشاكل المذهبيّة والطائفيّة، بحيث أصبح الإنسان يفكّر في حروب الماضي أكثر مما يفكِّر في الحروب المفروضة عليه في الحاضر والمستقبل.
فنحن نلاحظ مثلاً، أنّ التطوّر التّراجعيّ، إذا صحَّ التّعبير، جعل الكثير من البلدان العربيّة والإسلاميّة لا تفكّر في قضايا فلسطين أو قضايا احتلال العراق أو أفغانستان أو الصّومال أو السّودان أو ما إلى ذلك، كما تفكِّر في الحروب الّتي دارت بين المسلمين بعد وفاة النبيّ محمّد(ص)، ومن هو الخليفة؛ هل هذا هو الخليفة أو ذاك؟ وما هو الأساس في أن يكون الإنسان المسلم مؤمناً أو كافراً؟ وما إلى ذلك، حتّى وصلت المسألة في هذه الزّنزانة المخيفة للاجتهادات المتخلّفة المتعصّبة المظلمة، إلى حدّ استحلال المسلم دم المسلم الآخر، بحيث صاروا لا يتورَّعون عن قتل الأطفال والنّساء والشّيوخ.
نحن نأسف، لأنَّ الكثير من رجال الدّين انطلقوا من موقع التخلّف الذّهنيّ، الّذي جعلهم يعيشون في داخل مواقع تقليديّة تختزن العصبيّة...
لقد سمعنا أخيراً من بعض حاخامات اليهود الكبار، أنَّ لليهود الحقّ بأن يقتلوا الأطفال والنِّساء والشّيوخ من العرب، وأن يدمّروا مصالح المسلمين، وقد أصبح بعض الّذين يعطون أنفسهم صفةً إسلاميّةً، يبرّرون لأنفسهم قتل الأطفال والنِّساء والشّيوخ، وتدمير البلدان بعنوان المقاومة، ولكنَّهم ليسوا من المقاومة في شيء.

الحاجة إلى مقاومة ثقافيّة
س: سماحة السيِّد، أنت الآن شخَّصت الحالة من موقعك ومعرفتك بالأمور، ما هي السّبل الّتي يمكن أن تجعلنا نخرج من هذه الحالات؟
ج: أنا أعتقد أنَّ علينا أن نقوم بمقاومة ثقافيَّة تؤصِّل الوعي في عقل الإنسان العربيّ والإسلاميّ، بحيث يشعر بأنَّه مسؤول عن صناعة المستقبل، وقد كنت دائماً أقول للأجيال النّاشئة: كونوا المستقبليّين، لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لنا أن نفكِّر في الحاضر والمستقبل في مسؤوليَّاتنا، وألا نفكِّر في الماضي إلا من خلال ما نأخذه من الدّروس السلبيّة أو الإيجابيَّة {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134]. إذاً القضيّة هي أن نكون المستقبليّين، أن تكون لدينا مقاومة ثقافيّة وعسكريّة أيضاً ضدَّ الّذين يريدون أن يفرضوا علينا احتلالهم، وأن يصادروا اقتصادنا وسياستنا وأمننا، أن تنطلق الأمَّة في ثورة واعية منفتحة على الواقع ومتطلّعة إلى المستقبل.
القضيَّة هي كيف نغيِّر عقل الإنسان من موقع التخلّف إلى موقع التقدّم والوعي، على ضوء هذه الآية القرآنيّة الكريمة الّتي تقول: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]. غيِّر نفسك تغيِّر الواقع، لأنَّ الواقع هو صدى لما في نفسك، وصورة فكرك وإحساسك وشعورك وحركتك، لذا لن تستطيع أن تغيِّر الواقع إذا لم تغيِّر جذوره، وهي فكرك وخطّك الّذي تتحرّك فيه.

إعادة عصر التّنوير!
س: سماحة السيِّد، نحن اليوم نحارَب في فكرنا وهويَّتنا. فيما يخصّ الفكر العربيّ، ما المطلوب من رجل الدِّين أن يقدِّمه الآن لإعادة عصر تنوير جديد في الفكر العربيّ؟
ج: نحن عندما نقرأ في القرآن الكريم أنَّ أساس الرِّسالات بما أنزل الله سبحانه وتعالى من التَّوراة والإنجيل والقرآن، وبما فرض الله تعالى من موازين لتمييز الحقّ من الباطل، هو أن يقوم النَّاس بالقسط وبالعدل، نعرف أنَّ العدل هو أساس الرِّسالات، وإذا كان كذلك، فلا بدَّ لعلماء الدِّين من أن ينطلقوا ليؤصِّلوا العدل في حركة الإنسان في الواقع؛ عدل الإنسان مع ربِّه بأن يقوم بحقِّ ربِّه عليه، وعدل الإنسان مع نفسه بأن لا يظلمها، وعدل الإنسان مع الحاكم، مع القانون، مع الحياة كلِّها، حتّى عدل الإنسان مع الحيوانات ومع الطّبيعة.
أن ننطلق لنشعر بأنَّ هناك حقّاً لا بدَّ لنا من أن نحفظه ونؤدّيه، وأنَّنا لسنا كلّ العالم، فإذا كنت أعتبر أنَّ من حقّي أن أختلف مع الآخر، فإنَّ من حقِّ الآخر أن يختلف معي. ولذلك فإنَّني أؤمن بالحوار في كلِّ شيء، حتَّى كنت أقول ـ وهذا شعاري ـ لا مقدَّسات في الحوار، فالله سبحانه وتعالى حاور إبليس وحاور الملائكة، والقرآن حاور المشركين وحاور أهل الكتاب وحاور المنافقين.
إنّ القضيّة هي أن نكون المستقبليّين، أن تكون لدينا مقاومة ثقافيّة وعسكريّة أيضاً ضدَّ الّذين يريدون أن يفرضوا علينا احتلالهم...
ولذلك، فإنَّ الحوار هو الجسر الّذي يمكن أن يتحرّك النّاس عليه ليعبروا من هذا الجانب إلى الجانب الآخر، ولقد كنت دائماً أقول في ندواتي الّتي كنت أعقدها في العراق أو في لبنان، إنَّه ليس هناك سؤال تافه، وليس هناك سؤال محرج، الحقيقة بنت الحوار. أنا لا أتعقَّد من أيِّ حوار، ومستعدّ لأن أستمع إلى من ينكر وجود الله سبحانه وتعالى، وذلك لأقنعه بوجوده، وأن أستمع إلى من ينكر الإسلام جملةً وتفصيلاً، وينكر الدّين كليّةً، لأقنعه بأنَّ الإسلام حقّ وأنَّ الدّين حقّ.
وأنا لا أتعقّد من إنسان يختلف معي في الفكر السياسيّ أو في الفكر الثقافيّ أو في الفكر الأدبيّ، فعندما انطلقت تجربة الشّعر الحرّ في أوّل الخمسينات، كنّا نتشارك في النّقاش حوله، وكنّا نتساءل: هل إنَّ الشّعر الحرّ يمثّل تجربةً نستطيع أن نطلق عليها أنَّها شعر، أو هي عبارة عن نثر مشعور، أو شعر منثور، أو ما إلى ذلك؟

الموقف من الشِّعر الحرّ
س: سماحة السيِّد، كنّا قد تكلّمنا حول قصيدة النَّثر، حيث كنتم تناقشونها في الخمسينات أو في الستّينات، وهل هذه القصيدة مولود شرعيّ أو غير شرعيّ، وقد رحّبت مجموعة بقصيدة النّثر، وحاربتها مجموعة أخرى، باعتبارها إساءة إلى اللّغة العربيّة. فما رأيكم أنتم بقصيدة النّثر؟
ج: لقد تابعنا منذ أوائل الخمسينات مجلّة "الآداب" الّتي كانت تتبنّى السّجال حول المعركة بين الشّعر التّقليديّ والشّعر الحرّ، وكان هناك نوع من الجدل بين نازك الملائكة وبدر شاكر السيَّاب، حول أيّهما الّذي بدأ بالقصيدة الحديثة. وكنَّا مع بعض أخواننا في النَّجف لا نتعقَّد من ذلك، لأنّنا نعتبر أنَّ الشِّعر يتمثَّل بالموسيقى، سواء كانت التَّفعيلات على طريقة أوزان الخليل، أو على طريقة البند الَّذي كان موجوداً في العراق، حتَّى إنَّ بعضهم كان يقول إنَّ القرآن الكريم اشتمل على البند: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً}[الإسراء: 106] ، وإنَّه لا مشكلة في تنوّع التّفعيلات في تجربة شعريّة جديدة. وقد عرفنا نحن في الموشّحات الأندلسيّة، أنّ الشّعراء الأندلسيّين قدّموا تجربةً جديدةً للشّعر في موشَّحاتهم. ولذلك اندفعنا في النّجف مع هذه التّجربة، وكانت لي تجربة في الشّعر الحرّ أيضاً.

تجربة الشّعر الحرّ
س: هل كتبت الشّعر الحرّ سماحة السيّد؟
ج: أنا لا أحفظ الآن كلّ ما كتبته، وقد كان لبعض أصدقائنا، وهو السيّد محمد بحر العلوم، تجربة في هذا المجال، وأذكر أنَّه عندما أصدر نزار قبّاني ديوانه: "خبز وحشيش وقمر"، قمت بالردّ عليه في قصيدة أقول فيها:
لن يعيش الشّرقُ تاريخاً يغنّي ويكرّرْ
حديثاً عن لياليه عن العرش المزوّر
وعن الدّخان والأفيون والحكم المنوّر
انظروا حدّقوا في الحلم في اليقظة في كلّ مكان
بدأ الدّرب وفي آفاقه ألف كيان
فمضى يختصر الدّرب ويحتلّ المكان
فإذا الوحدة في كلّ ضمير ولسان
حلم العامل والفلاح والفكر المهان
إلى أن أقول:
إنّه تاريخنا يصنع في أرض العروبة
فاقرأوه في الغد الريّان
في الأرض الخصيبة
في بلادي
حيث يحيا الجرح في وعيٍ وطيبة
فلقد ماتت مع الأمس التّواريخ الغريبة
س: جميل هذا الشّعر سماحة السيّد...
ج: لكنّ هناك فرقاً بين الشّعر الحرّ والشّعر المنثور، فالتَّجارب الشعريَّة الأخيرة تحاول أن تعطي لكلمة الشّعر معنى المضمون الفنّيّ في الدّاخل من دون موسيقى. أنا أقول إنَّ الفرق بين الشعر والنثر هو الموسيقى، بقطع النّظر عن المضمون، أمَّا إذا خلَتْ التّجربة الفنيّة من الموسيقى، فإنّها تكون نثراً...

القصائد الصّوفيّة
س: سماحة السيّد، كنت أودّ أن أسألك عمّا يسمّى القصيدة الصوفيّة، هناك من يحارب هذه القصيدة أو حتّى الفكر الصّوفيّ ككلّ. هل لديك تجربة في القصائد الصّوفيّة؟
ج: نحن نعتقد أنّ للتصوّف مدارس كثيرة جداً، ولكنّ بعضها تحرّك في خطّ التخلّف، وأصبح التصوّف مجرّد حركات شكليّة لا عمق فيها ولا انفتاح. إنّنا نفهم التصوّف أنّه يمثّل انفتاحاً فكريّاً وروحيّاً على معرفة الله سبحانه وتعالى. وأذكر أنَّ لديّ من قبل ما يقارب الأربعين أو الخمسين سنةً، قصيدة بعنوان "صوفيّة شاعر"، أحفظ بعض أبياتها:
ربّ هذا اللّيل البهيم هدوء شاعريّ طلق وأفق جميلُ
ونسيمٌ يموج في سرحة الرّوح نديّ كما نشاء عليلُ
وشعاعٌ ترقرقت فيه ألوان من السّحر رجرجتها الحقولُ
نورك الحرّ منه ينبثق الطّهر ويندى به الصّباح البليلُ
يبعث الشّاعر المدلّه صوفيّاً يناجيك والنّجوم مثولُ
أنت رمز الهوى المشعّ بدنياه وأنت الهادي وأنت المقيلُ
أنا في لجّةٍ أطوف ولكنّ زورقي مجهدٌ وعبئي ثقيلُ
إلى آخر القصيدة... وهكذا كانت لي تجارب كثيرة. وفي بعض التّجارب، مثلاً أقول:
ربّي مالي أبكي ومـال أغنّـي
وحياتي تصدّ نجـواك عنّي
وأنا أهواك لا لنعماك تستهوي
كيانـي ولا لجنّـة عـدنِ
أنا أهواك للهوى ترعش الرّوح
بأفيـائـه ويهتـزّ لحنـي
للسّماء الزّرقـاء تنساب منـها
شعلة النّور في جلالٍ وفنّي
للهوى يوقظ الصّبابة في الأعماق
والحبّ في الضّلوع يغنّـي
ربّ هـذي حقيـبتـي ليـس لي
فيها من قربة سوى حسن ظنّي
* ومثلاً في قصيدة أخرى أقول فيها:
فإذا شئت أن تعذّب جسمي
بغواياتـه فحسبـي الدّعـاءُ
دع لساني يدعـوك يا ربِّ
وافعل بي ما شئت فالدّعاء هناءُ
بعض مدارس التصوّف تحرّكت في خطّ التخلّف، وأصبح التصوّف مجرّد حركات شكليّة لا عمق فيها ولا انفتاح...

محرّمات الشّعر الغزلي
س: ما زلنا ندور في رحاب العلاّمة المرجع شعريّاً. لو سألت شاعر الفقهاء عن الغزل، هل له محرّمات، أو هل له حدود؟
ج: ليست له محرَّمات إلا الغزل الّذي ينحطُّ بالنَّفس الإنسانيَّة، ويكون انفتاحه انفتاحاً شهوانيّاً، بحيث يحوِّل المرأة إلى مجرَّد جسدٍ يتغزَّل به، ويبعدها عن أن تكون إنساناً يعيش جمال الفكر والرّوح، كما يعيش جمال الجسد، لأنَّ جمال الجسد هو هبة من الله سبحانه وتعالى للمرأة، كما هو للرَّجل، كما هو للطّبيعة، كما هو للحياة. ولذلك، فإنَّه لا يمكن للشَّاعر إلا أن يعيش الجمال، ولكن بالطّريقة الّتي لا تبتعد عن الخطّ الإنساني.

الإسلام أنصف المرأة
س: الإسلام أنصف المرأة بجوانب كثيرة، ولكن عند التَّطبيق، نجد أنَّ المرأة مظلومة في جوانب كثيرة في المجتمعات كافّةً، والمجتمع العربيّ خصوصاً.
ج: أعتقد أنَّ الظّلم الذي يحيق بالمرأة هو ظلم المجتمع وليس ظلم الإسلام، لأنَّ الإسلام ساوى بين المرأة والرّجل في الخطّ الإنسانيّ؛ فلا فضل للرّجل على المرأة، ولا فضل للمرأة على الرّجل. ولذلك تحدَّث الله تعالى عن المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والصّائمين والصّائمات، إلى آخر الآية، وضرب الله مثلاً للّذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، وضرب الله مثلاً للّذين آمنوا امرأة فرعون ومريم ابنة عمران. ومعنى ذلك، أنَّ النّموذج قد ضربه الله للرّجل وللمرأة يقتديان به معاً.
كما أنّني كنْت أقول إنَّ الله سبحانه وتعالى قدَّم إلينا امرأةً أعقل من الرِّجال، وهي ملكة سبأ، ذلك أنَّه حين جاءها كتاب سليمان، جمعت شخصيّات مملكتها وطلبت رأيهم، ولكنَّهم قالوا لها: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}[النَّمل:33]، فقد أرادت منهم أن يقدِّموا عضلات عقولهم، فأعطوها عضلات سواعدهم، {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النّمل: 34ـ35]. فكبار قومها لم يعطوها الرّأي، وإنّما اعتدّوا بقوّتهم، بينما هي أعطت الرّأي. ومعنى ذلك أنَّ المرأة قد تكون أفضل من الرّجل عقلاً ورأياً وفكراً.

جرأة الفتاوى حول المرأة
س: لكن هناك من يختلف معكم ويعتبر فتاواكم، وخصوصاً بما يتعلّق بحقوق المرأة، فتاوى فيها شيء من الجرأة، فماذا تردّون؟
ج: أنا لا أنطلق من الفتاوى المتَّصلة بالمرأة من ناحية ذاتيّة، ولكنّي أنطلق من المفهوم الإسلاميّ، فمثلاً، بالنّسبة إلى مسألة القِوامة، فإنّها لا تعني السّيادة كما هو موجود عند المسيحيّين: (إنّ الرّجل رأس المرأة). لا، الرّجل ليس رأس المرأة، وإنما المرأة هي رفيقة الرَّجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}[البقرة: 228]، وهذه الدّرجة هي باعتبار إدارة الحياة الزّوجيّة، لأنَّ ظروف الرّجل أوسع من ظروف المرأة الّتي قد تُبتلى بالحمل والإرضاع وما إلى ذلك، بينما الرّجل لا يبتلى بمثل هذا.
فالمسألة أنّه ليس هناك فرقٌ بين الرّجل والمرأة في المعنى الإنسانيّ، وحتّى في المعنى القيميّ، فالله سبحانه وتعالى قدَّم إلينا مريم ابنة عمران، ونحن أيضاً نقدّم السيّدة فاطمة الزهراء والسيّدة زينب وغيرهنّ من النّساء اللاتي يمثّلن النّموذج الأعلى في حياة الإنسان. ومن الأمور التي كنّا نؤكّدها أيضاً في هذا الموضوع، أنّ المرأة ليست هي الإنسان المظلوم والإنسان المضطهد والإنسان الخاضع الّذي عليه أن يتقبَّل العدوان مثلاً ويرزح. لا، من حقِّ المرأة أن تدافع عن نفسها إذا أسيء إليها، سواء من زوجها أو من غيره.

حقّ الرّجل على المرأة!
س: انتُقِد ما صدر عن سماحتكم من رأي يجيز للمرأة حقَّ الدّفاع عن نفسها. هناك من يقول إنَّ المرأة يجب أن تخضع للرّجل، فيحقّ له أن يضربها ويشتمها، فهو زوجها وله حقّ عليها؟
ج: لا، ليس له حقّ عليها إلا حقّ الاستمتاع الجنسيّ، لأنّها التزمت به، فهذا الحقّ ليس حقاً مفروضاً عليها، ولكنَّ العقد هو اتّفاق بين اثنين، فالمرأة إذاً تلتزم على نفسها أن تكون زوجةً للرّجل بإرادتها الحرّة وباختيارها. ومن طبيعة الحياة الزوجيّة، أن يكون للرّجل حقٌّ في الجانب الجنسيّ، كما أنّ لها حقّاً هي في الجانب الجنسيّ. أمّا في غير ذلك، فلا حقّ للرّجل عليها حتّى في أن تكون ربَّة بيت، بمعنى أن تقوم بشؤون البيت، حتَّى إنَّ القرآن الكريم قال إنَّ من حقّ المرأة إذا أرادت أن ترضع ولدها، أن تأخذ الأجر من أبيه على الإرضاع، إلا إذا طلبت أجراً أغلى، فيسترضع له أخرى، {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}[الطّلاق: 6].
ومعنى ذلك، أنَّ المرأة تدخل البيت الزَّوجيّ وهي متحرّرة من كلِّ الالتزامات، وإنَّما تقدّم بعض الالتزامات من خلال طبيعة المودَّة والرّحمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الرّوم:21]، فقد اعتبر أنَّ الحياة الزّوجيّة لا يحكمها القانون فقط، بمعنى أن تطالبه بالمادَّة رقم واحد وهو يطالبها بالمادَّة رقم اثنين، لا، بل على أساس المودّة والرّحمة، وأن يسكن الرّجل لامرأته ويجد عندها الرّاحة، وتسكن المرأة للرّجل وتجد عنده الرّاحة، لكن إذا أراد الرَّجل أن يضطهدها مثلاً، فلها أن تعفو، فإذا أراد أن يفقأ عينها أو يكسر يدها، فلها الحقّ في الدّفاع عن نفسها، لأنَّ الله سبحانه وتعالى جعل هذا الحقّ إنسانيّاً {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، فحقّ الدّفاع عن النّفس هو حقّ إنسانيّ. قد يستنكر بعض النّاس هذا، ويقولون إنّ الحياة الزّوجيّة سوف تسقط أمام هذا الدّفاع، ونحن نقول لهم: لماذا لا تطالبون الرَّجل، بدل أن تطالبوا المرأة فقط إذا دافعت عن نفسها، لماذا لا تقولون إنَّ الرّجل إذا اضطهد امرأته فإنَّه بذلك يسقط الحياة الزّوجيّة عن معناها الإنسانيّ؟!
لماذا تطالبون المرأة... ولا تقولون إنَّ الرّجل إذا اضطهد امرأته فإنَّه بذلك يسقط الحياة الزّوجيّة عن معناها الإنسانيّ؟!...


أهميّة الحوار بين النَّاس
س: أعود، سماحة السيِّد، إلى السّؤال الّذي يقول إنَّكم أنتم تُعَدُّون من علماء الانفتاح الفكريّ على الآخر، أيّاً كان هذا الآخر. ما هي، في نظركم، الآليَّات الّتي تحدُّ من التَّكفير وإقصاء الآخر؟
ج: أنا أعتقد بالحوار بين النَّاس، وأؤمن بالحوار الإنساني ـ الإنساني، ولا أتحدّث فقط عن الحوار الإسلامي ـ المسيحي، أو الحوار الإسلامي ـ الإسلامي، حتى إنَّه لا مانع من الحوار اليهودي ـ الإسلامي خارج نطاق "إسرائيل"، وكما يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[العنكبوت: 46]، لأنَّ إسرائيل دولةٌ ظالمةٌ وليست دولةً حواريّةً على المستوى الإنسانيّ، ولأنَّها صادرت أرضاً لأناس كانوا يسكنونها وشرَّدتهم في أصقاع الأرض.
لذلك، أنا أعتقد أنَّ المشكلة هي أنَّ النّاس قد لا يفهمون بعضهم بعضاً، أنا عليَّ أن أفهم الإنسان الآخر كما يرى نفسه، وأن يفهمني كما أرى نفسي، وعلى هذا الأساس، يكون هناك حوارٌ مشتركٌ بيننا حول الفكرة الّتي نختلف فيها، لنصل معاً إلى الحقيقة. هناك آية قرآنيَّة لا تعتبر أنَّ الحوار يمثِّل حالة خصومة وحالة جدل ذاتيّ، يقول تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24]، يعني قد أكون أنا على هدى وقد أكون على ضلال، وقد تكون أنت على هدى وقد تكون على ضلال، إذاً هناك حقيقةٌ ضائعةٌ بيننا، فعلينا أن نتشارك معاً في اكتشاف هذه الحقيقة. فإذاً ليس الحوار عمليَّة مغالبة، وإنَّما هو عمليَّة تعاون من أجل الوصول إلى الحقيقة الأصيلة الواحدة في هذا المجال.
لهذا نقول: عندما نعيش الحوار في كلّ قضايانا الدّينيَّة والثّقافيّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، فإنّنا نستطيع أن نصل إلى نتائج إنسانيَّة تجعل الإنسان أقرب إلى الإنسان الآخر.

دولة الإنسان
س: في رأيكم، هل دولة الإنسان هي الحلّ الجذريّ لهذه المشاكل الّتي نعيشها؟
ج: أنا أعتقد أنَّ دولة الإنسان تكون عندما نعيش إنسانيَّتنا بكلّ ما تختزنه كلمة الإنسان من معنى، بحيث يشعر الإنسان بأنَّه ليس وحده الموجود في الكون، بل هو موجود، والآخر موجود إلى جانبه، فكما أنَّ له حقّاً على الآخر، فللآخر حقّ عليه، فعلينا أن نعطي لكلّ ذي حقّ حقّه، وأن نعرف أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد لنا أن نُعمِّر الأرض على أساس القيم الرّوحيّة والاجتماعيّة.
س: سماحة السيِّد، هذا الكلام جميل جدّاً، لكن عندما نأتي إلى التَّطبيق، لا نجد مجالاً أبداً للتّطبيق، وخصوصاً في واقعنا...
ج: إنَّ المشكلة في عالم التَّطبيق، أنَّ {الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: 7]، وأنَّ الإنسان يعيش في زنزانة أطماعه وأهوائه وشهواته، ولذا كنت أقول: ليس عندنا صراع الحضارات ولا حوار حضارات فقط، ولكنَّ المشكلة عندنا هي صراع السّياسات، لأنَّ كلَّ إنسان يملك قوّةً يحاول أن يسيطر بها على المستضعفين، تماماً كما الآية {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ}[يوسف: 53]، يعني نحن نقول: علينا أن نجرِّب أن نثقّف الإنسان بثقافة الحوار الإنساني، وأن نثقّفه بأن يكون إنساناً وأن لا يكون وحشاً. ونحن نلاحظ الآن أنّ الدّول الكبرى والمتخلّفين من الإرهابيّين والمتطرّفين الّذين لا يحترمون حياة الإنسان، أصبحوا وحوشاً في صورة البشر.
علينا أن نجرِّب أن نثقّف الإنسان بثقافة الحوار الإنساني، وأن يكون إنساناً لا وحشاً...
 
أجرت قناة (ANB) الفضائيَّة، ضمن برنامج (المرصد الثّقافي)، بتاريخ 24-6-2009م، حواراً مع سماحة العلامة المرجع، السيّد محمد حسين فضل الله، تناول تأثير النَّجف في التّجربة الشعريّة لسماحته، الإبداع الثّقافي، الموقف من الشِّعر الحرّ والقصائد الصوفيَّة ومحرَّمات الشّعر الغزليّ، كما تناولت موقف الإسلام من المرأة، وأهميّة الحوار بين النّاس، وكانت الخاتمة مع الحديث عن دولة الإنسان... وهذا نصّ الحوار:

تأثير النّجف
س: أودّ في بداية الحوار أن أعود إلى الماضي، وتحديداً إلى المراحل الأولى، مرحلة وجودكم في النّجف، فقد مضت سنوات طويلة وأنتم خارج النّجف. ما الّذي بقي من تأثير هذه البيئة في سماحتكم؟
ج: لقد ولدت في النجف، وعشت على ترابها، وتنفّست هواءها، وانفتحت على قداستها من خلال مدفن ومقام الإمام علي بن أبي طالب(ع)، الّذي كنت ولا أزال أعيشه روحاً وفكراً وسموّاً وانفتاحاً على الحياة كلّها، حتّى إنّنا عندما نقرأه، نتصوّر أنّه يحدّثنا الآن عن مشاكلنا الّتي نعيشها، لأنّه كان ينظر في فكره إلى المستقبل وإلى الحياة كلّها، ولا يتحرّك في دائرة المرحلة الزمنيّة الّتي عاشها. كما كنت أعيش في النّجف الآلام، لما كنّا نراه كلّ يوم من الأموات الّذين يؤتى بهم ليدفنوا في مقبرة "وادي السلام"، حيث كنّا نستقبل في كلّ يوم جنائز تأتي من سائر أنحاء العراق.
وكنّا نعيش في النّجف الذّكريات التاريخيّة لمآسي أهل البيت(ع) الّتي كانت تستثير فينا الدّموع والمشاعر المؤلمة، من خلال التّقاليد الّتي درج عليها المسلمون الشّيعة في إثارة هذه الذّكريات بشكل محدود أو بشكل واسع. كما كنت أعيش النّجف الحوزة العلميّة، الّتي مضى على تأسيسها أكثر من ألف سنة، والّتي خرَّجت الكثير من العلماء الّذين امتدّوا في أصقاع الأرض، في ما تعلّموا فيها من علوم الفقه والأصول واللّغة العربيّة والفلسفة وما إلى ذلك. وكنت أعيش النّجف الثقافيّة الأدبيّة الشّاعرة؛ النّجف الشّاعرة الّتي كانت تتنفّس شعراً، حتّى إنَّ الإنسان فيها يشعر بنفسه بطريقة لا شعوريَّة وقد بدأ يمارس الشّعر. وهكذا انطلقْتُ فيها وأنا في العاشرة من عمري، لأقوم ببعض تجاربي الشّعريّة، والّتي امتدّت حتّى الآن.
ولذلك، فإنّني أعيش النّجف كموقعٍ يتجذّر في كلّ عقلي وقلبي وحركتي في الحياة وتطلّعاتي، ولا أزال إلى الآن أعيشها من خلال اتّصالاتي مع تلامذتي الكثيرين هناك، فأنا لا أزال في النّجف من خلال كلّ هذه الطّلائع المثقَّفة الّتي عاشت على أفكاري وما تزال.

النَّجف الشَّاعرة
س: في الحقيقة، لقد أوصلتَني إلى ما كنت أريد أن أتوقّف حوله معك: كلّ من دخل النّجف، ليكون معلّماً أو فقيهاً أو علاّمةً، خرج منها شاعراً أيضاً، لماذا أصبح الشّعر بالذات إحدى سمات مدرسة النجف العلميّة؟
ج: لأنّ الحوزة العلميّة كانت في حركة الدّراسات التقليديّة تبدأ بالعلوم العربيّة، فكنّا نبدأ بدراسة النّحو والصّرف، ثم بدراسة علوم البلاغة، وبذلك كان الإنسان هناك يعيش الجانب الأدبيّ إلى جانب دراساته الحوزويّة، بحيث إنَّه إذا كان يعيش في ذاته الانفتاح على الأدب، فإنّ النّجف كانت تساعده على أن يفجِّر هذه الحالة، لتتحوَّل إلى نصّ شعريّ أو نصّ نثريّ أدبيّ.
س: كنتم تمارسون الشّعر، ولديكم دواوين شعريَّة، إلى أيِّ مدى طغت في داخلك الشخصيَّة الدينيَّة على شخصيَّة الشَّاعر؟
ج: أنا لا أعتبر أنّ الشخصيّة الدّينيّة تؤطّر الإنسان وتحبسه في زنزانة ثقافيّة مظلمة، بل إنّ الثقافة الدينيّة تنفتح على الحياة كلّها، لأنّنا نقرأ في القرآن الكريم، أنّ أساس الرّسالات هو العدل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25]. ولذلك، فإنَّ العدل هو الأساس، والّذي ينبغي أن يمتدَّ في كلِّ عقل الإنسان وحركته وعلاقاته في الحياة.
أنا لا أعتبر أنّ الشخصيّة الدّينيّة تؤطّر الإنسان وتحبسه في زنزانة ثقافيّة مظلمة، بل إنّ الثقافة الدينيّة تنفتح على الحياة كلّها...
وهكذا، فإنَّ الإنسان الّذي يعيش إنسانيَّته، لا بدَّ من أن يحسَّ بالجمال؛ الجمال الطّبيعيّ، ولا بدَّ من أن يتأثّر به عندما تنطلق مشاعره بشكل مرهف يلامس إحساسه بالحياة، لأنَّ معنى أن تكون شاعراً، أن تكون حيّاً ومنفتحاً على كلّ جوانب الحياة. ولذلك، كنت أعتبر أنّ ثقافتي الإسلاميّة لا تغلق عني نوافذ الثّقافة الأدبيّة.
ولقد كنت منفتحاً على التّجارب الأدبيّة في العالم العربي، وكنت أقرأ شعر أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، كما قرأت الأخطل الصّغير، وبشارة الخوري، والياس أبو شبكة، وصلاح لبكي وغيرهم من الشّعراء، حتّى إنّني كنت أطلّ على الشعر الشعبي الفني الأدبي، سواء الشّعر الشعبي العراقي، أو الشّعر الشعبي اللّبناني، كما كنت أنفتح على الواقع السياسيّ وأنا في العراق في العهد الملكي، عندما كان العراق يضجّ بالتطوّرات السياسيّة، وعندما كان العالم العربي ينطلق ببعض الثّورات أو الانقلابات، كما في عهد جمال عبد النّاصر وما إلى ذلك.

الثَّقَافة الواحدة
س: سماحة السيِّد، في ذلك الوقت، كان العالم يستقبل الأفكار الجديدة، إن من المعسكر الاشتراكيّ، أو من المعسكر القوميّ العربيّ، وكانت هناك أفكار جديدة تطرح في المنطقة العربيَّة.. اليوم، وبعد العام 2000م، نجد أنَّه قد أصبحت هناك ثقافة واحدة في بعض الأماكن في العالم العربيّ، ولم يعد هناك استقبال للأفكار الجديدة. ما تعليقكم على هذا الموضوع؟
ج: كانت الحركة الشَّعبيَّة في العالم العربيّ تُعبِّر عن نفسها، بالرّغم من أنَّها كانت تخضع للاستعمار البريطانيّ في العراق ومصر، والفرنسيّ في سوريا ولبنان، ولذلك كان عهد الاستعمار عنصر إثارة للمشاعر الشعبيّة الأدبيّة الفنيّة، وللحركيّة الشعبيّة في الواقع، وكنّا، بالرّغم من وجود بعض القيادات الّتي لا تملك الإخلاص لشعوبها، نرى أنَّ هناك حركيّةً في العالم العربيّ، ولا سيَّما حركة القوميّة العربيّة من جهة، والماركسيّة من جهة أخرى، والإسلاميّة بطريقة وبأخرى، وعلى ضوء هذا، كان هناك حالة حركيّة في العالمين العربي والإسلامي، بينما نجد أنَّه في المرحلة الّتي نعيشها، تجمَّدت هذه الحركة كنتيجة لفشل بعض الحركات القوميّة والماركسيّة وما إلى ذلك.

غياب الإبداع!
س: هل اختفى عنصر الإبداع الآن سماحة السيِّد؟
ج: نعم، لأنَّ مسألة الإبداع تنطلق من خلال هذه الحركة الرّوحيّة الّتي تتحسَّس آلام الإنسان وتتطلّع إلى المستقبل. نحن نلاحظ أنَّ الّذين يسيطرون على العالم العربي، قد حاصروا الإنسان العربي في زنزانة قوانين الطّوارئ والمخابرات وما إلى ذلك، بحيث إنَّهم منعوا الحريّة حتّى على مستوى التّعبير عن القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة، ما جعل الإنسان يعيش في إطار حاجاته ومشاكله الخاصّة، بحيث شُغل كلّ شعب بمشاكله وبقوته اليوميّ وبالقضايا الصَّغيرة هنا وهناك.
س: لم نعد نجد إبداعاً، فرجالات الدّين في منتصف القرن الفائت، كان لهم نشاطهم الدّينيّ، وكان لهم نشاطهم الفكريّ والأدبيّ أيضاً...؟
ج: نحن نأسف، لأنَّ الكثير من رجال الدّين انطلقوا من موقع التخلّف الذّهنيّ، الّذي جعلهم يعيشون في داخل مواقع تقليديّة تختزن العصبيّة الّتي تجعل النّاس تعيش مشاكل الماضي بدلاً من أن تعيش مشاكل الحاضر والمستقبل، وهذا ما نلاحظه في إثارة المشاكل المذهبيّة والطائفيّة، بحيث أصبح الإنسان يفكّر في حروب الماضي أكثر مما يفكِّر في الحروب المفروضة عليه في الحاضر والمستقبل.
فنحن نلاحظ مثلاً، أنّ التطوّر التّراجعيّ، إذا صحَّ التّعبير، جعل الكثير من البلدان العربيّة والإسلاميّة لا تفكّر في قضايا فلسطين أو قضايا احتلال العراق أو أفغانستان أو الصّومال أو السّودان أو ما إلى ذلك، كما تفكِّر في الحروب الّتي دارت بين المسلمين بعد وفاة النبيّ محمّد(ص)، ومن هو الخليفة؛ هل هذا هو الخليفة أو ذاك؟ وما هو الأساس في أن يكون الإنسان المسلم مؤمناً أو كافراً؟ وما إلى ذلك، حتّى وصلت المسألة في هذه الزّنزانة المخيفة للاجتهادات المتخلّفة المتعصّبة المظلمة، إلى حدّ استحلال المسلم دم المسلم الآخر، بحيث صاروا لا يتورَّعون عن قتل الأطفال والنّساء والشّيوخ.
نحن نأسف، لأنَّ الكثير من رجال الدّين انطلقوا من موقع التخلّف الذّهنيّ، الّذي جعلهم يعيشون في داخل مواقع تقليديّة تختزن العصبيّة...
لقد سمعنا أخيراً من بعض حاخامات اليهود الكبار، أنَّ لليهود الحقّ بأن يقتلوا الأطفال والنِّساء والشّيوخ من العرب، وأن يدمّروا مصالح المسلمين، وقد أصبح بعض الّذين يعطون أنفسهم صفةً إسلاميّةً، يبرّرون لأنفسهم قتل الأطفال والنِّساء والشّيوخ، وتدمير البلدان بعنوان المقاومة، ولكنَّهم ليسوا من المقاومة في شيء.

الحاجة إلى مقاومة ثقافيّة
س: سماحة السيِّد، أنت الآن شخَّصت الحالة من موقعك ومعرفتك بالأمور، ما هي السّبل الّتي يمكن أن تجعلنا نخرج من هذه الحالات؟
ج: أنا أعتقد أنَّ علينا أن نقوم بمقاومة ثقافيَّة تؤصِّل الوعي في عقل الإنسان العربيّ والإسلاميّ، بحيث يشعر بأنَّه مسؤول عن صناعة المستقبل، وقد كنت دائماً أقول للأجيال النّاشئة: كونوا المستقبليّين، لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لنا أن نفكِّر في الحاضر والمستقبل في مسؤوليَّاتنا، وألا نفكِّر في الماضي إلا من خلال ما نأخذه من الدّروس السلبيّة أو الإيجابيَّة {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134]. إذاً القضيّة هي أن نكون المستقبليّين، أن تكون لدينا مقاومة ثقافيّة وعسكريّة أيضاً ضدَّ الّذين يريدون أن يفرضوا علينا احتلالهم، وأن يصادروا اقتصادنا وسياستنا وأمننا، أن تنطلق الأمَّة في ثورة واعية منفتحة على الواقع ومتطلّعة إلى المستقبل.
القضيَّة هي كيف نغيِّر عقل الإنسان من موقع التخلّف إلى موقع التقدّم والوعي، على ضوء هذه الآية القرآنيّة الكريمة الّتي تقول: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]. غيِّر نفسك تغيِّر الواقع، لأنَّ الواقع هو صدى لما في نفسك، وصورة فكرك وإحساسك وشعورك وحركتك، لذا لن تستطيع أن تغيِّر الواقع إذا لم تغيِّر جذوره، وهي فكرك وخطّك الّذي تتحرّك فيه.

إعادة عصر التّنوير!
س: سماحة السيِّد، نحن اليوم نحارَب في فكرنا وهويَّتنا. فيما يخصّ الفكر العربيّ، ما المطلوب من رجل الدِّين أن يقدِّمه الآن لإعادة عصر تنوير جديد في الفكر العربيّ؟
ج: نحن عندما نقرأ في القرآن الكريم أنَّ أساس الرِّسالات بما أنزل الله سبحانه وتعالى من التَّوراة والإنجيل والقرآن، وبما فرض الله تعالى من موازين لتمييز الحقّ من الباطل، هو أن يقوم النَّاس بالقسط وبالعدل، نعرف أنَّ العدل هو أساس الرِّسالات، وإذا كان كذلك، فلا بدَّ لعلماء الدِّين من أن ينطلقوا ليؤصِّلوا العدل في حركة الإنسان في الواقع؛ عدل الإنسان مع ربِّه بأن يقوم بحقِّ ربِّه عليه، وعدل الإنسان مع نفسه بأن لا يظلمها، وعدل الإنسان مع الحاكم، مع القانون، مع الحياة كلِّها، حتّى عدل الإنسان مع الحيوانات ومع الطّبيعة.
أن ننطلق لنشعر بأنَّ هناك حقّاً لا بدَّ لنا من أن نحفظه ونؤدّيه، وأنَّنا لسنا كلّ العالم، فإذا كنت أعتبر أنَّ من حقّي أن أختلف مع الآخر، فإنَّ من حقِّ الآخر أن يختلف معي. ولذلك فإنَّني أؤمن بالحوار في كلِّ شيء، حتَّى كنت أقول ـ وهذا شعاري ـ لا مقدَّسات في الحوار، فالله سبحانه وتعالى حاور إبليس وحاور الملائكة، والقرآن حاور المشركين وحاور أهل الكتاب وحاور المنافقين.
إنّ القضيّة هي أن نكون المستقبليّين، أن تكون لدينا مقاومة ثقافيّة وعسكريّة أيضاً ضدَّ الّذين يريدون أن يفرضوا علينا احتلالهم...
ولذلك، فإنَّ الحوار هو الجسر الّذي يمكن أن يتحرّك النّاس عليه ليعبروا من هذا الجانب إلى الجانب الآخر، ولقد كنت دائماً أقول في ندواتي الّتي كنت أعقدها في العراق أو في لبنان، إنَّه ليس هناك سؤال تافه، وليس هناك سؤال محرج، الحقيقة بنت الحوار. أنا لا أتعقَّد من أيِّ حوار، ومستعدّ لأن أستمع إلى من ينكر وجود الله سبحانه وتعالى، وذلك لأقنعه بوجوده، وأن أستمع إلى من ينكر الإسلام جملةً وتفصيلاً، وينكر الدّين كليّةً، لأقنعه بأنَّ الإسلام حقّ وأنَّ الدّين حقّ.
وأنا لا أتعقّد من إنسان يختلف معي في الفكر السياسيّ أو في الفكر الثقافيّ أو في الفكر الأدبيّ، فعندما انطلقت تجربة الشّعر الحرّ في أوّل الخمسينات، كنّا نتشارك في النّقاش حوله، وكنّا نتساءل: هل إنَّ الشّعر الحرّ يمثّل تجربةً نستطيع أن نطلق عليها أنَّها شعر، أو هي عبارة عن نثر مشعور، أو شعر منثور، أو ما إلى ذلك؟

الموقف من الشِّعر الحرّ
س: سماحة السيِّد، كنّا قد تكلّمنا حول قصيدة النَّثر، حيث كنتم تناقشونها في الخمسينات أو في الستّينات، وهل هذه القصيدة مولود شرعيّ أو غير شرعيّ، وقد رحّبت مجموعة بقصيدة النّثر، وحاربتها مجموعة أخرى، باعتبارها إساءة إلى اللّغة العربيّة. فما رأيكم أنتم بقصيدة النّثر؟
ج: لقد تابعنا منذ أوائل الخمسينات مجلّة "الآداب" الّتي كانت تتبنّى السّجال حول المعركة بين الشّعر التّقليديّ والشّعر الحرّ، وكان هناك نوع من الجدل بين نازك الملائكة وبدر شاكر السيَّاب، حول أيّهما الّذي بدأ بالقصيدة الحديثة. وكنَّا مع بعض أخواننا في النَّجف لا نتعقَّد من ذلك، لأنّنا نعتبر أنَّ الشِّعر يتمثَّل بالموسيقى، سواء كانت التَّفعيلات على طريقة أوزان الخليل، أو على طريقة البند الَّذي كان موجوداً في العراق، حتَّى إنَّ بعضهم كان يقول إنَّ القرآن الكريم اشتمل على البند: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً}[الإسراء: 106] ، وإنَّه لا مشكلة في تنوّع التّفعيلات في تجربة شعريّة جديدة. وقد عرفنا نحن في الموشّحات الأندلسيّة، أنّ الشّعراء الأندلسيّين قدّموا تجربةً جديدةً للشّعر في موشَّحاتهم. ولذلك اندفعنا في النّجف مع هذه التّجربة، وكانت لي تجربة في الشّعر الحرّ أيضاً.

تجربة الشّعر الحرّ
س: هل كتبت الشّعر الحرّ سماحة السيّد؟
ج: أنا لا أحفظ الآن كلّ ما كتبته، وقد كان لبعض أصدقائنا، وهو السيّد محمد بحر العلوم، تجربة في هذا المجال، وأذكر أنَّه عندما أصدر نزار قبّاني ديوانه: "خبز وحشيش وقمر"، قمت بالردّ عليه في قصيدة أقول فيها:
لن يعيش الشّرقُ تاريخاً يغنّي ويكرّرْ
حديثاً عن لياليه عن العرش المزوّر
وعن الدّخان والأفيون والحكم المنوّر
انظروا حدّقوا في الحلم في اليقظة في كلّ مكان
بدأ الدّرب وفي آفاقه ألف كيان
فمضى يختصر الدّرب ويحتلّ المكان
فإذا الوحدة في كلّ ضمير ولسان
حلم العامل والفلاح والفكر المهان
إلى أن أقول:
إنّه تاريخنا يصنع في أرض العروبة
فاقرأوه في الغد الريّان
في الأرض الخصيبة
في بلادي
حيث يحيا الجرح في وعيٍ وطيبة
فلقد ماتت مع الأمس التّواريخ الغريبة
س: جميل هذا الشّعر سماحة السيّد...
ج: لكنّ هناك فرقاً بين الشّعر الحرّ والشّعر المنثور، فالتَّجارب الشعريَّة الأخيرة تحاول أن تعطي لكلمة الشّعر معنى المضمون الفنّيّ في الدّاخل من دون موسيقى. أنا أقول إنَّ الفرق بين الشعر والنثر هو الموسيقى، بقطع النّظر عن المضمون، أمَّا إذا خلَتْ التّجربة الفنيّة من الموسيقى، فإنّها تكون نثراً...

القصائد الصّوفيّة
س: سماحة السيّد، كنت أودّ أن أسألك عمّا يسمّى القصيدة الصوفيّة، هناك من يحارب هذه القصيدة أو حتّى الفكر الصّوفيّ ككلّ. هل لديك تجربة في القصائد الصّوفيّة؟
ج: نحن نعتقد أنّ للتصوّف مدارس كثيرة جداً، ولكنّ بعضها تحرّك في خطّ التخلّف، وأصبح التصوّف مجرّد حركات شكليّة لا عمق فيها ولا انفتاح. إنّنا نفهم التصوّف أنّه يمثّل انفتاحاً فكريّاً وروحيّاً على معرفة الله سبحانه وتعالى. وأذكر أنَّ لديّ من قبل ما يقارب الأربعين أو الخمسين سنةً، قصيدة بعنوان "صوفيّة شاعر"، أحفظ بعض أبياتها:
ربّ هذا اللّيل البهيم هدوء شاعريّ طلق وأفق جميلُ
ونسيمٌ يموج في سرحة الرّوح نديّ كما نشاء عليلُ
وشعاعٌ ترقرقت فيه ألوان من السّحر رجرجتها الحقولُ
نورك الحرّ منه ينبثق الطّهر ويندى به الصّباح البليلُ
يبعث الشّاعر المدلّه صوفيّاً يناجيك والنّجوم مثولُ
أنت رمز الهوى المشعّ بدنياه وأنت الهادي وأنت المقيلُ
أنا في لجّةٍ أطوف ولكنّ زورقي مجهدٌ وعبئي ثقيلُ
إلى آخر القصيدة... وهكذا كانت لي تجارب كثيرة. وفي بعض التّجارب، مثلاً أقول:
ربّي مالي أبكي ومـال أغنّـي
وحياتي تصدّ نجـواك عنّي
وأنا أهواك لا لنعماك تستهوي
كيانـي ولا لجنّـة عـدنِ
أنا أهواك للهوى ترعش الرّوح
بأفيـائـه ويهتـزّ لحنـي
للسّماء الزّرقـاء تنساب منـها
شعلة النّور في جلالٍ وفنّي
للهوى يوقظ الصّبابة في الأعماق
والحبّ في الضّلوع يغنّـي
ربّ هـذي حقيـبتـي ليـس لي
فيها من قربة سوى حسن ظنّي
* ومثلاً في قصيدة أخرى أقول فيها:
فإذا شئت أن تعذّب جسمي
بغواياتـه فحسبـي الدّعـاءُ
دع لساني يدعـوك يا ربِّ
وافعل بي ما شئت فالدّعاء هناءُ
بعض مدارس التصوّف تحرّكت في خطّ التخلّف، وأصبح التصوّف مجرّد حركات شكليّة لا عمق فيها ولا انفتاح...

محرّمات الشّعر الغزلي
س: ما زلنا ندور في رحاب العلاّمة المرجع شعريّاً. لو سألت شاعر الفقهاء عن الغزل، هل له محرّمات، أو هل له حدود؟
ج: ليست له محرَّمات إلا الغزل الّذي ينحطُّ بالنَّفس الإنسانيَّة، ويكون انفتاحه انفتاحاً شهوانيّاً، بحيث يحوِّل المرأة إلى مجرَّد جسدٍ يتغزَّل به، ويبعدها عن أن تكون إنساناً يعيش جمال الفكر والرّوح، كما يعيش جمال الجسد، لأنَّ جمال الجسد هو هبة من الله سبحانه وتعالى للمرأة، كما هو للرَّجل، كما هو للطّبيعة، كما هو للحياة. ولذلك، فإنَّه لا يمكن للشَّاعر إلا أن يعيش الجمال، ولكن بالطّريقة الّتي لا تبتعد عن الخطّ الإنساني.

الإسلام أنصف المرأة
س: الإسلام أنصف المرأة بجوانب كثيرة، ولكن عند التَّطبيق، نجد أنَّ المرأة مظلومة في جوانب كثيرة في المجتمعات كافّةً، والمجتمع العربيّ خصوصاً.
ج: أعتقد أنَّ الظّلم الذي يحيق بالمرأة هو ظلم المجتمع وليس ظلم الإسلام، لأنَّ الإسلام ساوى بين المرأة والرّجل في الخطّ الإنسانيّ؛ فلا فضل للرّجل على المرأة، ولا فضل للمرأة على الرّجل. ولذلك تحدَّث الله تعالى عن المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والصّائمين والصّائمات، إلى آخر الآية، وضرب الله مثلاً للّذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، وضرب الله مثلاً للّذين آمنوا امرأة فرعون ومريم ابنة عمران. ومعنى ذلك، أنَّ النّموذج قد ضربه الله للرّجل وللمرأة يقتديان به معاً.
كما أنّني كنْت أقول إنَّ الله سبحانه وتعالى قدَّم إلينا امرأةً أعقل من الرِّجال، وهي ملكة سبأ، ذلك أنَّه حين جاءها كتاب سليمان، جمعت شخصيّات مملكتها وطلبت رأيهم، ولكنَّهم قالوا لها: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}[النَّمل:33]، فقد أرادت منهم أن يقدِّموا عضلات عقولهم، فأعطوها عضلات سواعدهم، {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النّمل: 34ـ35]. فكبار قومها لم يعطوها الرّأي، وإنّما اعتدّوا بقوّتهم، بينما هي أعطت الرّأي. ومعنى ذلك أنَّ المرأة قد تكون أفضل من الرّجل عقلاً ورأياً وفكراً.

جرأة الفتاوى حول المرأة
س: لكن هناك من يختلف معكم ويعتبر فتاواكم، وخصوصاً بما يتعلّق بحقوق المرأة، فتاوى فيها شيء من الجرأة، فماذا تردّون؟
ج: أنا لا أنطلق من الفتاوى المتَّصلة بالمرأة من ناحية ذاتيّة، ولكنّي أنطلق من المفهوم الإسلاميّ، فمثلاً، بالنّسبة إلى مسألة القِوامة، فإنّها لا تعني السّيادة كما هو موجود عند المسيحيّين: (إنّ الرّجل رأس المرأة). لا، الرّجل ليس رأس المرأة، وإنما المرأة هي رفيقة الرَّجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}[البقرة: 228]، وهذه الدّرجة هي باعتبار إدارة الحياة الزّوجيّة، لأنَّ ظروف الرّجل أوسع من ظروف المرأة الّتي قد تُبتلى بالحمل والإرضاع وما إلى ذلك، بينما الرّجل لا يبتلى بمثل هذا.
فالمسألة أنّه ليس هناك فرقٌ بين الرّجل والمرأة في المعنى الإنسانيّ، وحتّى في المعنى القيميّ، فالله سبحانه وتعالى قدَّم إلينا مريم ابنة عمران، ونحن أيضاً نقدّم السيّدة فاطمة الزهراء والسيّدة زينب وغيرهنّ من النّساء اللاتي يمثّلن النّموذج الأعلى في حياة الإنسان. ومن الأمور التي كنّا نؤكّدها أيضاً في هذا الموضوع، أنّ المرأة ليست هي الإنسان المظلوم والإنسان المضطهد والإنسان الخاضع الّذي عليه أن يتقبَّل العدوان مثلاً ويرزح. لا، من حقِّ المرأة أن تدافع عن نفسها إذا أسيء إليها، سواء من زوجها أو من غيره.

حقّ الرّجل على المرأة!
س: انتُقِد ما صدر عن سماحتكم من رأي يجيز للمرأة حقَّ الدّفاع عن نفسها. هناك من يقول إنَّ المرأة يجب أن تخضع للرّجل، فيحقّ له أن يضربها ويشتمها، فهو زوجها وله حقّ عليها؟
ج: لا، ليس له حقّ عليها إلا حقّ الاستمتاع الجنسيّ، لأنّها التزمت به، فهذا الحقّ ليس حقاً مفروضاً عليها، ولكنَّ العقد هو اتّفاق بين اثنين، فالمرأة إذاً تلتزم على نفسها أن تكون زوجةً للرّجل بإرادتها الحرّة وباختيارها. ومن طبيعة الحياة الزوجيّة، أن يكون للرّجل حقٌّ في الجانب الجنسيّ، كما أنّ لها حقّاً هي في الجانب الجنسيّ. أمّا في غير ذلك، فلا حقّ للرّجل عليها حتّى في أن تكون ربَّة بيت، بمعنى أن تقوم بشؤون البيت، حتَّى إنَّ القرآن الكريم قال إنَّ من حقّ المرأة إذا أرادت أن ترضع ولدها، أن تأخذ الأجر من أبيه على الإرضاع، إلا إذا طلبت أجراً أغلى، فيسترضع له أخرى، {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}[الطّلاق: 6].
ومعنى ذلك، أنَّ المرأة تدخل البيت الزَّوجيّ وهي متحرّرة من كلِّ الالتزامات، وإنَّما تقدّم بعض الالتزامات من خلال طبيعة المودَّة والرّحمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً}[الرّوم:21]، فقد اعتبر أنَّ الحياة الزّوجيّة لا يحكمها القانون فقط، بمعنى أن تطالبه بالمادَّة رقم واحد وهو يطالبها بالمادَّة رقم اثنين، لا، بل على أساس المودّة والرّحمة، وأن يسكن الرّجل لامرأته ويجد عندها الرّاحة، وتسكن المرأة للرّجل وتجد عنده الرّاحة، لكن إذا أراد الرَّجل أن يضطهدها مثلاً، فلها أن تعفو، فإذا أراد أن يفقأ عينها أو يكسر يدها، فلها الحقّ في الدّفاع عن نفسها، لأنَّ الله سبحانه وتعالى جعل هذا الحقّ إنسانيّاً {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، فحقّ الدّفاع عن النّفس هو حقّ إنسانيّ. قد يستنكر بعض النّاس هذا، ويقولون إنّ الحياة الزّوجيّة سوف تسقط أمام هذا الدّفاع، ونحن نقول لهم: لماذا لا تطالبون الرَّجل، بدل أن تطالبوا المرأة فقط إذا دافعت عن نفسها، لماذا لا تقولون إنَّ الرّجل إذا اضطهد امرأته فإنَّه بذلك يسقط الحياة الزّوجيّة عن معناها الإنسانيّ؟!
لماذا تطالبون المرأة... ولا تقولون إنَّ الرّجل إذا اضطهد امرأته فإنَّه بذلك يسقط الحياة الزّوجيّة عن معناها الإنسانيّ؟!...


أهميّة الحوار بين النَّاس
س: أعود، سماحة السيِّد، إلى السّؤال الّذي يقول إنَّكم أنتم تُعَدُّون من علماء الانفتاح الفكريّ على الآخر، أيّاً كان هذا الآخر. ما هي، في نظركم، الآليَّات الّتي تحدُّ من التَّكفير وإقصاء الآخر؟
ج: أنا أعتقد بالحوار بين النَّاس، وأؤمن بالحوار الإنساني ـ الإنساني، ولا أتحدّث فقط عن الحوار الإسلامي ـ المسيحي، أو الحوار الإسلامي ـ الإسلامي، حتى إنَّه لا مانع من الحوار اليهودي ـ الإسلامي خارج نطاق "إسرائيل"، وكما يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}[العنكبوت: 46]، لأنَّ إسرائيل دولةٌ ظالمةٌ وليست دولةً حواريّةً على المستوى الإنسانيّ، ولأنَّها صادرت أرضاً لأناس كانوا يسكنونها وشرَّدتهم في أصقاع الأرض.
لذلك، أنا أعتقد أنَّ المشكلة هي أنَّ النّاس قد لا يفهمون بعضهم بعضاً، أنا عليَّ أن أفهم الإنسان الآخر كما يرى نفسه، وأن يفهمني كما أرى نفسي، وعلى هذا الأساس، يكون هناك حوارٌ مشتركٌ بيننا حول الفكرة الّتي نختلف فيها، لنصل معاً إلى الحقيقة. هناك آية قرآنيَّة لا تعتبر أنَّ الحوار يمثِّل حالة خصومة وحالة جدل ذاتيّ، يقول تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[سبأ: 24]، يعني قد أكون أنا على هدى وقد أكون على ضلال، وقد تكون أنت على هدى وقد تكون على ضلال، إذاً هناك حقيقةٌ ضائعةٌ بيننا، فعلينا أن نتشارك معاً في اكتشاف هذه الحقيقة. فإذاً ليس الحوار عمليَّة مغالبة، وإنَّما هو عمليَّة تعاون من أجل الوصول إلى الحقيقة الأصيلة الواحدة في هذا المجال.
لهذا نقول: عندما نعيش الحوار في كلّ قضايانا الدّينيَّة والثّقافيّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، فإنّنا نستطيع أن نصل إلى نتائج إنسانيَّة تجعل الإنسان أقرب إلى الإنسان الآخر.

دولة الإنسان
س: في رأيكم، هل دولة الإنسان هي الحلّ الجذريّ لهذه المشاكل الّتي نعيشها؟
ج: أنا أعتقد أنَّ دولة الإنسان تكون عندما نعيش إنسانيَّتنا بكلّ ما تختزنه كلمة الإنسان من معنى، بحيث يشعر الإنسان بأنَّه ليس وحده الموجود في الكون، بل هو موجود، والآخر موجود إلى جانبه، فكما أنَّ له حقّاً على الآخر، فللآخر حقّ عليه، فعلينا أن نعطي لكلّ ذي حقّ حقّه، وأن نعرف أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد لنا أن نُعمِّر الأرض على أساس القيم الرّوحيّة والاجتماعيّة.
س: سماحة السيِّد، هذا الكلام جميل جدّاً، لكن عندما نأتي إلى التَّطبيق، لا نجد مجالاً أبداً للتّطبيق، وخصوصاً في واقعنا...
ج: إنَّ المشكلة في عالم التَّطبيق، أنَّ {الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}[العلق: 7]، وأنَّ الإنسان يعيش في زنزانة أطماعه وأهوائه وشهواته، ولذا كنت أقول: ليس عندنا صراع الحضارات ولا حوار حضارات فقط، ولكنَّ المشكلة عندنا هي صراع السّياسات، لأنَّ كلَّ إنسان يملك قوّةً يحاول أن يسيطر بها على المستضعفين، تماماً كما الآية {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ}[يوسف: 53]، يعني نحن نقول: علينا أن نجرِّب أن نثقّف الإنسان بثقافة الحوار الإنساني، وأن نثقّفه بأن يكون إنساناً وأن لا يكون وحشاً. ونحن نلاحظ الآن أنّ الدّول الكبرى والمتخلّفين من الإرهابيّين والمتطرّفين الّذين لا يحترمون حياة الإنسان، أصبحوا وحوشاً في صورة البشر.
علينا أن نجرِّب أن نثقّف الإنسان بثقافة الحوار الإنساني، وأن يكون إنساناً لا وحشاً...
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية