حوار مع المرجع فضل الله.. الشّاعر.. المثقّف والإنسان

حوار مع المرجع فضل الله.. الشّاعر.. المثقّف والإنسان
 

يستغرق العلّامة السيّد محمد حسين فضل الله في هدوئه العميق واللافت، ذلك الهدوء الأنيق، والذي لا تملك أمامه إلا المزيد من الفضول للسّفر في داخل هذا الرّجل المرجعي الذي شكّل في السنوات الأخيرة شخصيّة محوريّة فكرياً وسياسياً (فضلاً عن المسألة الدينيّة)، وصلت في نضجها الإنساني إلى مرتبة قطبية عالية، يستمدّ منها معاني المكابدة المعرفية، وعمق جدل الأفكار واتّساعها، عبر "كاريزما" عالية الخصوصيّة في انفتاحها وسماحتها، وتخلّق فهمها الاستثنائي لسيادة الدّين في الروح، وتشرّبها للبعد التطهّري فيه. ولذا، من السّهل أن نلمح في سماحته ذلك العفاف والنورانيّة والخفر الروحي والتقشّف، ولذا فهو يرفض "الهالة"، ويحبّ أن يعيش مع نفسه.

يجمع سماحة السيّد محمد حسين فضل الله بين عالم الدّين والشاعر، وإذا اعتبرنا أنّ كتابة الشّعر هي في جوهرها نوع من القداسة والأخلاقيّة المضاعفة، فالرّجل، إذاً تتضاعف في ذاته دينيّة شعريّة تقع في الصّحو المبدع وفي الهواء الطّلق، كما يقول.. وهو شاعر في رجل دين، ورجل دين في شاعر، يحترمه ويبقي عليه، ولا يكبح أشواقه ومفرداته.

وهو في هذا الحوار، أنموذج صريح لمتطلّب الجرأة في النَّفس الشّاعرة، فلا يقيّده موقعه الديني المرجعي، ولا يزيح من حياته صورة طفولته الّتي لا يزال يحسّ بها حتى وهو في طريقه إلى السّبعين من العمر.

السيّد محمد حسين فضل الله في هذا الحوار، شاعر، ومثقَّف، وإنسان منفتح، لا يعتبر الشّعور الدّيني زنزانة مغلقة، والعمامة بالنّسبة إليه هي مجرَّد زيّ تقليديّ، وفوق هذا وذاك، يقبل اختلاف الآخر معه إلى أبعد مدى، وموقعه المرجعيّ لم يبعده يوماً عن الانخراط في الحياة والنّاس ليعيش بينهم كأيّ فرد منهم.

في مجمل إجاباته ـ وباختصار ـ يؤكِّد السيّد محمد حسين فضل الله حريّة الإنسان وحقّه في الاختلاف، ولم يطلق جملة حكميّة واحدة تحيلك إلى صيغة سلطويّة، وبذلك لم يبتعد إحساسه الفني عن إحساسه الدّيني، وتحوَّلت لديه "السلطة" بمعنى موقعه الدّيني، إلى فضاء رحب من التَّواضع ومحبَّة الحياة، وتمجيدٍ بالإنسان خليفة الله في الأرض.

شاعر متديّن، أو متديّن شاعر، ليّن الجانب، وما في جملته ورأيه أيّ فظاظة أو استكبار، يحترم في الإنسان طموحه وحقّه في النقد والحوار وإبداء الرأي والرأي الآخر، وهو بكلّ هذه الأناقة الروحيّة والعقليّة، إنما يقترب أكثر وأكثر من سيماء النّور، ويكبر في موقعه الذي ترك فيه حيّزاً حرّاً للشّعر، بل يتّضح من هذا الحوار، أنّ سماحته لم يندم على قصيدة واحدة كتبها، وأطلق شعره في حياته كما ينبغي للشّعر أن ينطلق من دون قيود أو مؤثّرات، طالما أنه مثل الدّين الذي يطهّر روح الإنسان من القذارات المادية والدنيوية التي قد تحوّله إلى وحش، كما يقول.

السيّد محمد حسين فضل الله غزير في معارفه وإنسانيَّته، متدفِّق الأحاسيس، حرّ الوجدان، طليق في لغته وفي تعابير وجهه الطفوليَّة الشفيفة. أضف إلى ذلك، أنّه يختزن وميضاً من الحزن والغربة في عينيه اليقظتين الذّكيّتين، وذلك هو الغنى الإنساني والرّوحي بعينه، ومثل هذا الغنى هو باعث على القوَّة الآسرة، والدّين في حدّ ذاته هو قوَّة آسرة، وكذا الشّعر.

يقول: "ما زلت أتعلّم، والإنسان الّذي يشعر بأنّه وصل إلى دور المعلّم وفقد دور التلميذ، يبدأ بالتّراجع".

ومن يؤمن بمثل هذا الكلام هو حقّاً سيّد في نفسه، وحيّ في المعرفة، ونبيل في الحياة وفي الآخرين على السّواء.

عناوين الموضوعات

الشعر... موهبة أم وراثة؟!

اجتماع الشِّعر والدِّين؟!

التزام الشّاعر

حضور الطّفل في رجل الدين!

العلاقة بالوالدة

لماذا الاختيار الدّينيّ؟!

الشعر والدّين

القلق الوجوديّ

الدّين ليس زنزانة

العمر لحظات

التَّوق الحقيقي

لا خطوط حمراء

العمامة زيّ تقليديّ

الإنسانيّة أوّلاً

شعرٌ معقَّد!

عصر البساطة

بين الحرية والضوابط !

الالتزام في الشِّعر!

موقع رجل الدين.. والنّاس

علاقة الحبّ بالموت!

فقدان العدالة

تنظيم الأنانيّة

الدّين.. والمشاكل الوجوديّة

هل من قصائد مخفيّة؟

ورقة التّوت!

تفاوت فنّيّ

شعورٌ بالغربة!

شعر.. رسم.. وموسيقى!

شاعر من دون قصيدة!

المرأة الإنسانة والدّور

بين حجاب المرأة وتسليعها!

حلم السيّد..

- موهبة أم وراثة؟!

س: لنتحدَّث بدايةً عن العوامل والمؤثِّرات البيئيَّة والثقافيَّة التي لعبت دورها في تكوينك كشاعر؟

ج: أنا من عائلة شاعرة يتداول أفرادها الشِّعر، تماماً كما يتداولون شؤون حياتهم اليوميّة، ولذلك إذا كانت الوراثة تنقل الموهبة، فقد يكون هناك شيء من الوراثة في هذا الموضوع.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّ مدينة النجف هي المكان الذي يتنفّس شعراً في المناسبات، فلا تخلو مناسبة فرح أو حزن من أكثر من قصيدة لشاعرٍ يهنّئ فيها أهل الفرح، أو يعزّي فيها أهل الحزن، ما يجعل، إضافةً إلى مسألة المجالس الحسينيّة التي تتلى فيها القصائد التي تتحدّث عن المأساة وما إلى ذلك، يجعل الإنسان يعيش أجواء الشّعر الشعبي، من خلال الاحتفالات الدينية التي يتحرّك فيها الشعراء، ليلقوا أشعارهم بطريقة أقرب إلى الطريقة التلحينيّة، ما قد يتجاوز المسألة الدينيّة إلى المناسبات الاجتماعيّة.

إضافةً إلى قراءتي المبكرة للشعر العربي، سواء أكان الشّعر اللّبناني أم المصريّ أم العراقي.

س: إذاً، تحملون جينات شعريّة إضافةً إلى الاكتساب والأجواء؟

ج: هذا صحيح.

- اجتماع الشِّعر والدِّين؟!

س: هنالك آية كريمة في سورة الشّعراء تقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...}[الشّعراء: 224-227]. كيف يجمع السيّد فضل الله بين الشّعر والدّين في ظلّ هذه الآية ومنطلقاتها؟

ج: هذه الآية تمثّل أبلغ ألوان التَّعبير الذي يجمع للشّعر أغراضه السلبيّة والإيجابيّة، كالحديث عن أنّ الشّعراء يتبعهم الغاوون؛ إنّه يتحدّث عن واقع الشّعر في عصر الجاهليّة، باعتبار أنّ أغراض الشعر كانت هي الأغراض التي تثير العصبيّات، وتتحدّث عن كلّ تفاصيلها... ما يجعل الأغراض الشعريّة أغراضاً لا تلتقي مع النّاس الذين يعيشون القيم الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة.

ثم تتحدّث الآية الثانية {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}، بمعنى أنّه ليست لديهم قاعدة فكريّة تحدّد لهم مسارهم الشّعري في الأغراض التي ينطلقون فيها، فهم يتحرّكون في هذا الوادي أو ذاك، من أجل بعض الجوانب الذاتيَّة وما إلى ذلك.. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}، لأنهم يتحرّكون في تصوير بعض القيم والمبادئ، ولكنَّهم لا يلتزمون بها.. هم صنّاع الكلمة وليسوا صنّاع الواقع، لأنّ هناك هوّة بين الكلمة التي يقولونها وبين الواقع الذي يعيشونه.

{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهنا تتحدّث الآية عن الذين يؤمنون بالله، باعتبار أنَّ الإيمان بالله يمثِّل القاعدة التي تحدِّد للإنسان كلّ مفرداته {وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}، الذين يواجهون الظّلم ويتحدّثون على أساس إرادة الانتصار.

إنّ هذه الآيات لا تتحدّث عن الشعر في كلّ أغراضه، بل تتحدّث عن الشّعراء في أغراضهم المنفتحة على قضايا المجتمع. وعلينا أن نعرف حقيقة، وهي أنّ الإسلام رسالة، وأنّ القرآن جاء لتأكيد هذه الرّسالة، ولتأكيد هذه القيم، وأنّه يريد للإنسان أن يرتكز على قاعدة حتى عندما يريد أن ينفتح على الكون كلّه، وأن ينطلق من وعيٍ لفلسفة الكون حتى في مزاجه. إننا لا نفهم أن يكون المزاج شيئاً بعيداً من القيم التي يؤمن بها الإنسان، أو شيئاً بعيداً من العلاقات الإنسانيّة، مما يمنع الإبداع الشعري. والإسلام لا يريد أن يعلّب الإنسان الشّاعر، ولكن يريد أن يقول له: عندما تريد أن تنطلق لتكون عنصراً مؤثّراً في الإنسان، فإنّ عليك أن تركّز قاعدتك الفكرية والعاطفية والحركية في داخل نفسك، بحيث تنفتح من خلال هذه المعرفة الإنسانيّة المرتكزة على قاعدة.

- التزام الشّاعر

س: إذاً، نفهم أنّ الشّعر يجب أن يكون ملتزماً؟

ج: ينبغي على الشّاعر أن يكون ملتزماً، وليست مواضيعه، لأنّه عندما يكون ملتزماً، فإنّ التزامه يحرّكه عفويّاً في خطّ الالتزام. أنا لا أؤمن بأن تفرض على الشّاعر موضوعاً يعيشه، ولكنّنا نقول إنّ على الشّاعر أن يعيش الحياة، وأن يعيش الإنسان، وأن يعيش القيم، حتى لا يكون الشعر مجرّد هواية ذاتيّة، بل يكون مادّة للحياة. ولذلك، أنا لا أؤمن بأن نحدّد على الفنّان فنّه، ولكن نريد أن نقول له كن إنسان الفنّ الذي يخدم الحياة، أي اصنع نفسك قبل أن تصنع فنّك.

الرجوع للأعلى

- الطّفولة الحاضرة!

س: ما مقدار حضور الطفل في حياة السيّد فضل الله رجل الدّين؟

ج: الطفولة كأيّ مرحلة من مراحل العمر، لا تغيب عن الإنسان، بل تظلّ كامنة في أعماقه. لقد عبّرت عن ذلك في أكثر من قصيدة. ولذلك، لا أزال أحسّ بطفولتي وأنا في الطريق إلى السّبعين، لأنفتح على كثير من صبواتها ومن فوضاها ومن لعبها ولهوها. ولكن من الطبيعيّ أنّ الطّفولة عندما تنفتح في النفس، فإنّ المرحلة الجديدة قد تمنعها من أن تواصل هذا الانفتاح، إنّ الطفولة تمثّل عمق البراءة الإنسانيّة، وتمثّل عمق العفويّة التي يحسّ بها الإنسان في إنسانيّته، لأنّ الإنسان كلّما تقدّم في السنّ أكثر، فإنّ القيود التي تعيش في هذه المرحلة، والتي توازن له حركته، تمنع العفويّة من أن تنساب في مشاعره وأحاسيسه، وبالتّالي في إنتاجه. لذلك أتصوَّر أنّ الطفولة لا تزال تعيش معي، ولكنَّها لا تتحرّك في الواقع.

س: ألا تتحرّك في الشّعر؟ وإن فعلت، هل تتحرّك مضبوطة أم بعفويّة الطفل؟

ج: الشّعر لا يمكن أن يضبط نفسه أو يضبطه صاحبه، الشّعر ينساب من أعماق النفس، ولذلك فإنّه تماماً كالينابيع التي تنفجر وتنساب في الأراضي من دون أن تطلب إذناً من أحد.

س: كيف كانت طفولتك؟

ج: كانت طفولتي قلقة، لأنها كانت نتاج مجتمع محافظ تقليديّ يوحي إلى الطفل بأنّ عليه أن يتحفَّظ في جلسته وفي كلامه... كانت التعليمات تنهال على الطفل لتوحي إليه بأنّ لعبه ولهوه لا يمثّلان قيمة في معنى إنسانيّته، ولذلك لم أستطع أن أحصل على طفولة تلعب جيّداً وتلهو جيّداً، وتعبّر عن عناصرها الذاتيّة بشكل منفتح.

س: ألهذا السّبب بقيت طفولتك حيّة دائماً في داخلك، بحيث تتوق إليها دائماً؟

ج: قد تكون المسألة كذلك، ولكن أعتقد أنّ المرحلة الجديدة لا تلغي المرحلة القديمة، ولكنّها تجمّدها في النفس.

- العلاقة بالوالدة

س: كيف كانت علاقتك بوالدتك، وماذا تركت من أثر في حياتك لاحقاً؟

ج: لقد عبّرت في رثائي لوالدتي عن هذه العلاقة، كنت أحسّ بطفولتي وأنا في الخمسين معها، لأنها كانت كأيّ والدة، تلاحق حضوري وغيابي وممارساتي، فتخاف من مرض هنا أو هناك أو ما شابه ذلك، كنت أحسّ بأنها تلاحقني بإحساسها ومشاعرها وحذرها ولهفتها، تماماً كما لو كنت طفلاً أمامها. إنّ الأمّ لا تفهم معنى أن يكون ولدها شابّاً أو شيخاً، إنها تستعيد ذكرى احتضان هذا الولد في أحضانها عندما كانت ترضعه، أو كانت تحافظ عليه أو تضبط خطواته، كنت أشعر بسعادة الطفولة معها، ولذلك لم أحسّ بالشيخوخة أو بالكهولة إلا بعدما فقدتها.

س: ربما كانت هي الإنسان الوحيد الّذي يذكّرك بطفولتك؟

ج: كانت تعمّق إحساسي بالطفولة، وتجعلني قادراً على استعادتها في هذا الجوّ الحميم.

- لماذا الاختيار الدّينيّ؟!

س: كان والدكم رجل دين ونشأتم في بيت دينيّ، فهل أثّر ذلك في اختيار اتجاهكم الديني؟ وهل أسّس لصراع ما في داخلكم ترجمتموه في شعركم؟

ج: صحيح أنّني عشت في هذه البيئة، سواء لناحية أنّني من عائلة علميّة دينيّة، أو من خلال البيئة التي عشتها في النجف، والتي هي الحوزة العلميّة التي يأتي إليها الناس من سائر أنحاء العالم ليتعلّموا الدين، وليكونوا في موقع علماء الدين، ولعلّ انخراطي في هذا الاتجاه، لم يكن ناشئاً من عنصر واحد، بل كان الجوّ كلّه يتنفّس التأثير الديني، ولم تكن لديّ خيارات أخرى، ولكنّها لم تحبس عقلي ولم تحبس مشاعري وأحاسيسي، ولذلك كنت منفتحاً من وعي الطفولة في إنسانيّتي، فكنت أقرأ قراءات ليس من المألوف أن يقرأها طالب الدّين، ولذلك لم أمرّ بأيّ فترة جمود ذهنية بسبب سيطرة جوّ البيئة الدينية عليّ.

- الشعر والدّين

س: هل يمكننا القول إنّك اخترت أن تكون الشّاعر بمحض إرادتك، في حين فرض عليك أن تتّجه إلى الدّين في حياتك؟

ج: قد لا تكون كلمة الاختيار دقيقة، لأني عشت الشّعر.. كنت أعيشه، ولم أجد هناك أيّ تنافر بين أن أكون شاعراً وبين أن أكون طالباً في الحوزة الدينيّة، فأغلب العلماء الذين يعيشون في الحوزة العلميّة في النجف كانوا شعراء، حتى إنّ بعضهم ينظم الشعر الغزلي والشّعر الخمري.

هناك شاعر معروف وكبير اسمه السيّد محمد سعيد الحبوبي، وهو من العلماء والمجاهدين، كان عنده حتى أشعار خمريّة، وكان بشارة الخوري (الأخطل الصغير) يقرأها ويستمتع بها كشعر، ومن الطبيعي أنّ ثقافته كانت من خلال قراءاته الخمريّة لأبي نواس وغيره.

س: ألا يتنافى الشّعر مع الدّين عندما نصل إلى شعر الخمرة؟

ج: لا أدري كيف يتقبّل الوسط الدّيني هذا النّوع من الشعر الذي ينتشر لدى الشّعراء التقليديين الذين كانوا غالباً لا ينفتحون على أغراض جديدة غير الأغراض التي قرأوها في ما قرأوا من شعر. وما نلاحظه أنّنا قد نجد في هذا الوسط الديني غزلاً فاضحاً يعبّر عن أحاسيس مباشرة بشكل طبيعيّ جدّاً.. ومن هنا، فإنّ هذه المسألة تدلّ على أنّ هذا المجتمع لم يكن، على الأقلّ في هذا الجانب، مجتمعاً تقليدياً.

- القلق الوجوديّ

س: من المفترض أنّ طمأنينة الدّين تلغي القلق الوجودي، في حين يعيش معظم الشّعراء قلقاً وجوديّاً.. ما تعليقكم؟

ج: هناك فرق بين أن يعيش الإنسان الدّين كطمأنينة وكسكينة روحيّة في إحساسه بالله، وإحساسه بأنّه يعيش في وجود لا يتحرّك من خلال الضّياع أو من خلال حالة ضبابيّة، بل من خلال "وجود منظّم"، وبين أن يعيش قلق مستقبل حركته في مسؤوليَّاته، من خلال اعتقاده دينياً أنَّ الله أوكل إليه صنع تاريخه. إنّ الله يقول: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، بمعنى أنّ الإنسان عندما يتحرَّك في خطِّ التَّغيير الذي أوكل الله أمره إليه، فإنَّ ذلك يعني أنّ الله أوكل إليه صنع تاريخه. إنّ مسألة أن تغيّر نفسك هي أن تغيّر التاريخ.

لذلك، عندما يجاهد الإنسان نفسه ويحرّكها في خطّ التّغيير، لا بدَّ أن يعيش قلق هذا المسار، ولا بدّ أن يعيش قلق نفسه في الالتزام بمسؤوليَّته أو الالتزام بالصَّواب في مقابل الخطأ.

س: أيمكن أن يكون الإنسان مؤمناً وقلقاً في كلّ لحظة؟

ج: هذا أمر طبيعيّ، فهو يوكل الأمر إلى الله، ولكنّ الله يقول له فكّر وتوكّل، خطّط وتوكّل، جاهد نفسك وتوكّل. لهذا، التوكّل لا يعني أن يجلس الإنسان ليطلب من الله أن يقوم بالنيابة عنه في كلّ شيء.

- الدّين ليس زنزانة

س: هل يمكنني القول إنّ الشّاعر في داخلك ظلّ عصيّاً على رجل الدّين؟

ج: لا أتصوّر الدّين وكأنّه تلك الزنزانة الضيّقة التي يتصوّرها الآخرون، فالدّين ينفتح على الجمال، وعلى الإنسان الآخر، وعلى الطبيعة، وعلى كلّ تطلّعات المرء وآماله وأحلامه وأفراحه وهواجسه.. الدّين لا يلغي الشّكّ، فهو يسعى نحو اليقين. ولذلك، فإنّنا عندما نقرأ القرآن الكريم، نجده يخاطب الذين يشكّون ليسير بهم نحو اليقين.

لذلك، فالدين لا يلغي تفكير الإنسان واستمتاعه بالجمال، ولكنّه يقول له كن إنساناً بكلّ غرائزك، بكلّ أفراحك وأحزانك، كن إنسان القيمة، كن إنسان الحياة، فالحياة لا ترتكز إلّا على أساس القيمة، كن إنسان القيمة لتكون إنسان الحياة في خطّ القيمة. ولا أعتقد أنَّ مسألة أن يعيش الإنسان حياته تتنافر مع أن يعيش قيمه.. حتى الشّعراء، فأنا عندما مارست التجربة الشعريّة، كنت أعيش هذه الهواجس، حتى هواجس التطلّع في الوجود. وأذكر في هذا السّياق بعضاً مما نظمته في الخمسينات في قصيدة "صوفيّة شاعر":

ربِّ إني وفي انتفاضات آهاتي جراح، وفي حشاي نصولُ

أتلظّى بين الجحيم وفي روحي نداء إليك كيف السّبيلُ

تاه بي عالمي إلى حيث لا أدري، فدنياي وحشة وذهولُ

ودعاء في هدأة اللّيل يستهديك، والدّرب موحش مجهولُ

كيف أسمو إلى الحقيقة حراً وكياني مقيَّد مغلولُ

وحياتي شلو تناهبه الرّيح، وألوى بجانبيه الذّبولُ؟

- العمر لحظات

س: تدعو في كتابك "على شاطئ الوجدان" إلى استغلال حاضرنا، والاحتفاء باللّحظة الرّاهنة من دون الالتفات إلى الزّمن المقبل.. كيف تقارب ذلك من كونك رجل دين؟

ج: الغد هو مجموعة اللّحظات، وعلى الإنسان أن يعيش لحظته، أن يمسك بها حتى لا تهرب منه، بل أن يعتصر اللّحظة حتى يبقي للمستقبل شيئاً، وهذا ما يعالجه القرآن الكريم عندما يتحدّث عن القصّة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف: 111]، إنه يقول لا تنفتح على التاريخ لتتسلّى أو لتلهو به، لكن اعتصره وأبق للمستقبل شيئاً منه. إنّ العمر لحظات، ولذلك يكون قد فاتنا الكثير إذا أفسحنا في المجال للحظة أن تهرب منا من دون أن نحدّق فيها وأن نعتصرها، حينها، سوف لن نستطيع أن نعطي المستقبل شيئاً من لحظات الماضي.

- التَّوق الحقيقي

س: تتحدّث في بعض شعرك عن حزن شديد يقابله فرح شديد، مثلاً تقول: "شاعر رنّح الخيال جناحيه بأطياف عالم فيّاح".. وتقول: "لك اليوم فافرح به ما غد سوى حلمٍ كالصّدى المهمل".. فأين يكمن توقك الحقيقيّ الّذي يملي عليك كشاعر؟

ج: كإنسان أعيش الفرح والحزن، ولكنّ حزني ليس حزناً يقتل مشاعري وأحاسيسي، وليس فيه أيّ إحباط، بل إنّ للحزن لذّته عندما نعانيه.. وللحياة لذّتها في المعاناة.

أقول في قصيدة تعود إلى زمن الخمسينات، وهي قصيدة وجدانيّة فلسفيّة:

أنا يا ليلاي مهما يعتصرُ من دمائي اللّيلُ في عسفِ التجنّي

فدمي قيثارةٌ تعزفُ لي أغنياتِ النّورِ في فجرِ التّمنّي

وأنا ـ عبر المدى ـ ما ضرَّني أنّني وحدي أحيا وأغنّي

أزرعُ النّشوةَ في دنيا غدي وأثيرُ النّورَ في أطيافِ جفني

وأناجيكَ وحولي جنّةٌ من رؤى فنٍّ.. ومن أطيابِ حسنِ

فأنا أخلقُ وحدي جنّتي فأرى اللذّةَ في أعماقِ حزني

فتعالي نقطع العمرَ معاً بين لهوٍ.. وعذابٍ وتغنّي

فهوانا لم يعدْ أسطورةً في خيالٍ.. يبدعُ النّجوى وظنِّ

- لا خطوط حمراء

س: تقول في إحدى قصائدك عن الشّاعر: "حرّ الضّمير، تثور في أعماقه حريّة طافت على تبيانه". ألا تتعارض هذه الحريّة وما تفترضه من أسئلة وجوديّة ملحّة ودقيقة، مع ما يفرضه الدّين من محاذير وممنوعات وخطوط حمر؟

ج: لا أتصوَّر أنّ الدّين يفرض خطوطاً حمراً على الشَّاعر الذي يعيش دينه في الإسلام. سبق أن قلت: لا بدَّ للشّاعر أن يبني عقله وقلبه على أساس مبادئه وقيمه، وأن لا يكون هنالك انفصام بين الذّات والفعل، ولذلك فمن الطبيعيّ أن يعيش الإنسان حرّيته في نطاق فكره.

إنّ كلّ من يمارس الحريّة، إنما يمارسها من خلال العناصر التي ترتكز عليها الحريَّة، إنّه يعيش حريّته من خلال حركته الوجدانيّة والعقليّة والفكريّة، ولا يدخل في حريّته بالمطلق.

إنّ الصورة التي يطرحها السّؤال عمّا يسمّى "رجل الدّين"، هي صورة قاتمة لا تعكس حقيقة ما يمثّل هذا الإنسان في إنسانيّته.

- العمامة زيّ تقليديّ

س: "والعمامة" أو "الجبّة"، ألا ترمز بطريقة أو بأخرى إلى تكبيل المشاعر؟

ج: العمامة هي مجرّد زيّ تقليديّ، والمهمّ ألا يعيش الإنسان في داخل نفسه مقيَّد العقل والرّوح.

س: ولكنّها تضفي على رجل الدين رهبةً ما؟

ج: قد تكون رهبةً للآخر، لكنّني وأنا في هذا الموقع، وأعتقد أنّه موقع تحيط به الكثير من الهالات، لا أستمدّ شخصيّتي من هذا الاعتبار، بل أحسّ بإنسانيّتي تتحرّك بشكل عفويّ جداً. ولذلك أنا لا أشعر بأيّ قيد يقيد هذه الإنسانيّة في علاقتي بالناس الآخرين.

أنا أجلس مع الذين يؤمنون بالدّين، ومع الذين يكفرون به، وأتحدّث معهم بشكل طبيعيّ جدّاً. أنا لا أشعر بوجود حاجز بيني وبين أيّ إنسان، حتى وإن كنت أختلف معه في الفكر، لأنّني أعتقد أنّه إذا كان من حقّي الاختلاف مع الآخر، فلماذا لا يكون للآخر الحقّ في أن يختلف معي؟!

- الإنسانيّة أوّلاً

س: لستم تعيشون، إذاً، في برجٍ عاجيّ؟

ج: أشعر بأنّني لا أزال أعيش إنسانيّتي في الإنسان الآخر. إنني الآن، وأنا في هذا الموقع، أجلس مع الطّفل وأحدّثه بلغة طفولته، وأجلس مع الشابّ وأحدّثه عن تطلّعات الشّباب، لأنّني ألاحق تطلّعات الشّباب، حتى إنّني أقرأ ما لا يقرأ من أجل أن أكتشف الخلفيّات التي تؤثّر في ثقافة الشّباب وفي وجدانهم وحركتهم.

إنَّ على الإنسان الذي يحمل رسالة أن يتعلّم منها، لذا أشعر بنفسي تلميذاً لكلّ من ألتقيه، فلكلّ إنسان تجربته، وحتى تجربة الأطفال، لعلّ فيها بعض الأشياء التي تضيء فكرة هنا أو هناك، وخصوصاً لأولئك الذين بإمكانهم أن يعيشوا حتى العفويّة، فتقفز فكرة من داخل أعماقهم ومن داخل فطرتهم لتمثّل الحقيقة.

س: أعلى هذا النّهج ـ في رأيك ـ يمكن أن ينضج فكر الإنسان ووعيه؟

ج: من الطبيعي أن ينطلق الإنسان الذي يعيش قلق المعرفة ويبحث عنها في كلّ مكان، إلى آفاق الحياة، فالحياة تتطوَّر باطّراد وتنفتح على الجديد، ولست أفهم أن يكون الإنسان معلّماً من دون أن يعلم ما عنده ويتعلَّم ما عند سواه.

- شعرٌ معقَّد!

س: تقول: "لم أقرأ حتى الآن أيّ شيء يمكن أن يعبِّر عن العمق الإنساني في المحنة". ألا يعني كلامك هذا نسفاً لبعض التجارب الشعريّة المتميّزة؟

ج: تحدّثت عن العمق الإنساني، كنت أتحدّث عن جوهر الإنسان الذي يعبّر عمّا يمثّل العناصر الحقيقيّة للإنسانيّة. لقد عاش الشعراء تجربة عبّروا فيها عن المشاعر والأحاسيس السطحية التي تلامس السطحي في الإنسان ولا تلامس عمقه. ولكنَّ ذلك لا يخلو من بعض اللّمحات الإنسانيّة بين تجربة وأخرى. وأحبّ أن أؤكّد ما قرأته من بعض الترجمات العربيّة لأشعار طاغور، وفي بعض أشعار لامرتين، وفي بعض اللّمحات من الشّعر العربي، ولكني كنت أبحث عن جوهر الإنسان، بحيث إذا تمثّلت هذه التّجربة، تمثّل الإنسان فيها.

س: لكنّ قلّة من الشّعراء المعاصرين تتوصَّل إلى لمس العمق الإنساني الذي تتكلّمون عنه؟

ج: قلت إنَّ هناك بعض اللّمحات، حتى لدى الشّعراء المعاصرين، ولا أزعم أنّني قرأت كلّ الشّعر المعاصر لأحكم عليه. ولكنَّ مشكلة الشّعر العربي الحديث الذي يعبَّر عنه بشعر الحداثة، هي ما يسمَّى في علم البلاغة بالتّعَقيد المعنويّ الّذي يجعل القارئ يعيش في متاهة الفاصل بين معنى اللّفظ في اللّغة، وبين ما يختزنه الشَّاعر من معنى، لأنه يمرّ بالكثير من اللّوازم التي تتبع بعضها بعضاً، بحيث قد يتعسَّر على الذي لا يعرف اصطلاحات الشَّاعر أن يفهم مقصوده. ونحن نعرف أنَّ الشّعر يمثّل حركة الإحساس في الإنسان، في تمثّلاته الفكريّة والتجريبيّة، ولا يكون مجرَّد رموز لحالات وتعقيدات.

س: ربما كانت ذات الشّاعر تحمل هذه التّعقيدات، فالشّاعر بطبيعة الحال إنسان يعيش فوضى حواسّ ومشاعر وحياة؟

ج: حتى هذه الفوضى تحتاج إلى صيغة فنيّة يمكن أن يفهمها القارئ، لا أن يقضي القارئ وقتاً طويلاً لإيجاد الرّابط بين الكلمة والمعنى في قلب الشاعر.

- عصر البساطة

س: هل تعتقد أنّ عصرنا الحاليّ معقَّد بعض الشّيء، وقد يحتاج إلى شعر ينسجم مع إيقاعه؟

ج: أنا لا أتصوّر أنّ العصر هو عصر معقَّد، بل إنه يتطوّر نحو البساطة.

س: كيف؟

ج: البساطة التي تجعل الإنسان يتجاوز الكثير من التَّعقيدات الاجتماعيّة التي كان يتمثّلها الإنسان في الماضي، والقيود التي تحكم العلاقات بين إنسان وآخر في وسائل العيش أو وسائل الاتّصال وما إلى ذلك.. إنّ العصر أصبح يتحرّك نحو البساطة.

- حريّة.. وضوابط

س: ألا تعتقدون، سماحة السيّد، أنّ القيود أحياناً تكبّل الإنسان، لكنّها تنظّمه بعض الشّيء ولو جاءت بالإكراه، بينما الإنسان الّذي يتمتَّع بمساحة من الحريّة ـ مهما يكن حجمها ـ يضيع ويتوه؟

ج: عندما نتحدث عن الحريّة، لا نتحدَّث عن حريَّة منفردة، بل عن حرية إنسانيَّة، وهي الحريَّة التي تلتقي بمصالح الإنسان وقضاياه الحيويَّة في الحياة، ومن الطبيعي أنّ الحريّة في هذا الإطار، تمثّل حالة حركيّة في الحياة لا بدّ من أن تخضع لبعض الضّوابط.

- الالتزام في الشِّعر!

س: ما مفهومك للشِّعر الملتزم؟ وهل له معايير عامَّة، في رأيك؟

ج: الشّعر الملتزم هو الشِّعر الذي يعبِّر عن قضيَّة ومشاعر وواقع. والالتزام ليس شيئاً يتكلَّفه الإنسان، وإلا لما كان الفنّ فناً. الالتزام هو ما يعيشه الإنسان، بحيث تتحرَّك القضيَّة في مشاعره لتتحوّل إلى حالة فنيّة إبداعية تناسب فكره ونفسه، تماماً كما هو انسياب الضّوء من الشّمس والماء من الينبوع. ولا أتصوّر الالتزام في أن يفرض على الشّاعر شيء منه، فالشاعر إنسان كأيّ إنسان آخر، لا بدّ له أن يلتزم في عيشه للحياة؛ قد يلتزم الدّين، وقد يلتزم نهجاً سياسياً، وقد لا يفعل، وقد يلتزم الحريّة، وقد يلتزم الجمال... لهذا، فإن الالتزام ليس مسألة تعيش خارج نطاق الإنسان، بمعنى لكي تكون إنساناً، لا بدّ أن يكون لك موقف مما تنفتح الحياة عليه أو تتنوّع فيه.

ولذلك، لا بدَّ أن يكون الفنّ تعبيراً عن التزامك الذي هو تعبير عن إنسانيّتك المسؤولة في الحياة، وعندما يتنوّع مضمون الالتزام بين السلبي والإيجابي، لا بدّ أن يكون لنا موقف في رفض هذا الالتزام وفي القبول به تبعاً لالتزامنا. ولكنّ الشّعر يبقى شعراً حتى لو كنت لا ترتاح لمضمونه من الناحية الفكريّة.

س: ولكن ثمة من يقول إنَّه في مواجهة سؤال "التزام الشّعر"، لا بدَّ من مغامرة فكريّة مستقلَّة يقام بها لذاتها، ليكون الشِّعر أكثر إبداعاً؟

ج: علينا أن نحدِّد ما هو الالتزام؛ الالتزام هو تطلّعات الإنسان، أهدافه، نظرته إلى الواقع وتفاعله معه ومع الحياة، مع الخطوط الفكريَّة ومع القضايا المصيريَّة. لذلك، فإنّ مسألة أن تكون مسؤولاً، هي أن يكون ثمة مضمون لحركة إنسانيَّتك في الواقع أو في الإنسان الآخر. ولهذا، فإن الالتزام يختلف حسب اختلاف الأفق الّذي يعيشه الإنسان والتجربة التي يتمثّلها.

س: وهنا ربما تكمن أهميّة الشّعر الذي يميّز شاعراً من آخر؟

ج: الشّعر هو مرآة نفس الشّاعر.. إنه مرآة الشّاعر في تأمّلاته وفي تجاربه، لذلك، فإنه لا ينفصل عن إنسانيّة الإنسان، من الطبيعي أنّنا نتحدّث عن الشاعر الذي يعيش شعره، لا الشّاعر الذي يتكلّف شعره، بحيث يتحوَّل إلى نظام لما يريده الآخرون، أو لما يتحرَّك به الواقع من حوله من دون أن يلامس حسّه.

- الموقع.. والنّاس

س: ما معنى أن يقوم رجل الدّين، صاحب المؤلّفات المتميّزة، وهو المرجع الدّيني والروحي والسياسي، على أعتاب العقد السّابع من العمر، بالإعلان عن ذاته من خلال قصائد كتب بعضها في مقتبل العمر؟ هل يعني ذلك أنّ الإعلان عن الذّات بالشّعر هو خصوصيّة لا يمنحها "الديني" أو السياسي؟

ج: لا أؤمن بتعليب الإنسان في الموقع الّذي يعيش فيه، أن يكون الإنسان مرجعاً أو ذا موقع رسمي أو اجتماعي أو سياسي لا يعني أن يعلَّب، بحيث يضغط الموقع على إنسانيّته.

من الطبيعي أن يعبّر الإنسان عن أحاسيسه، لأنَّ أيَّ موقع يتّخذه هو حركة في تطوّرات حياته، ولهذا من الطبيعيّ أن يعبِّر عن نفسه بالشّعر وبالقطعة الأدبيّة النثريّة أو بالخطابة.

ربما كانت التقاليد تفرض على الإنسان في موقع ديني مميّز أن يظهر على الناس من خلال الهالة.. أنا أرفض الهالة، إنّني أحبّ في كلّ مراحل حياتي، منذ الطّفولة وحتى الكهولة، أن أعيش نفسي، لأنّني لا أحبّ أن أكون مرائياً، ولا أحبّ أن أبرز إلى الناس من خلال كلّ هذه الجدران السَّميكة التي تفصل النّاس عمّا أعيشه وأتطلّع إليه. إنّني لا أعتقد أنَّ التزامي الدّيني يبعدني عن التزامي الإنساني، وأنَّ موقعي المرجعي يبعدني عن التزامي بالحياة وبالنّاس لأعيش كأيّ واحد منهم، ونحن نقرأ في حياة النبيّ محمّد (ص)، في ما ينقله بعض أصحابه عنه، أنّه كانت لديه هذه النظرة الإنسانيّة التي كان يعيشها ويتحرَّك بها مع الناس، ونقرأ كذلك عنه في القرآن الكريم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 128].

لقد كان النبيّ يتحدّث ويتحرّك مع النّاس بكلّ عفويّته وتواضعه، لذلك كان النّاس يتحرّكون معه بطريقة قد لا تتناسب مع موقعه، فقد كان بعضهم يأتي إلى خارج بيته ويخاطبه بصوت عال: "يا محمّد"، حتى نزلت الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}[الحجرات: 4]، باعتبار أنّ عفويّته وتواضعه، يجعلان النّاس لا يشعرون بوجود حاجز بينه وبينهم. حتى إننا نقرأ في بعض سيرته، أنّه كان يحطّم الحواجز التي يتصوّر الناس وجودها بينهم وبينه، فقد شاهدته امرأة فارتعدت من هيبته، فقال لها: "لا عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكّة".. فلكي يبسّط العلاقة بينه وبينها، قال لها أنت كأمّي، ليس هناك حاجز بيني وبينك.. كان يسعى إلى أن يؤنسن العلاقات، بحيث لا يشعر النَّاس بوجود أيّ حاجز بينه وبينهم، ليكلّموه بصراحة، ويسألوه بحريّة، من دون أن يتمثَّلوا موقعه ليكون الموقع حاجزاً بين الطرفين. ولذلك أعتقد أنّ التقاليد التي وضعتها التفاعلات الحضاريّة لدى علماء الدين، أبعدتهم عن اللّقاء بالناس بطريقة عفويّة إنسانيّة، ولذلك ابتعدوا عن أن يفهموا الناس، أو أن يفهمهم الناس بشكل دقيق.

س: أنت لا تعيش في شخصيّتين يقتضيهما الشّعر والدّين؟

ج: أنا لا أحبّ أن أعيش في شخصيّتين؛ شخصيّة باطنيّة وأخرى خارجيّة، ولا أريد أن أكون مزدوج الشخصيّة أنطلق إلى الناس بوجهين أو بلسانين.

أريد أن أكون نفسي، ليحكم النّاس عليّ سلباً أو إيجاباً من خلال نفسي التي تبرز أمامهم بطريقة فيها الكثير من وضوح الرّؤية.

- علاقة الحبّ بالموت!

س: هل يشبه الحبّ عندك الموت في مراحله المتسلسلة؟

ج: الحبّ يمثّل هذا الاستغراق الإنساني المطلق في ما نحبّ وفي من نحبّ، بحيث لا يتحسّس الإنسان حياته، فكأنّه يعطي كلّ حياته كما تعطي الفراشة كلّ حياتها في محبّتها للنّور. لذلك، يختزن الحبّ شيئاً من الموت من جهة أنّه يعطي كلّ الحياة، بحيث لا يحسّ الإنسان، وهو يحبّ، باختياريّة في مشاعره وأحاسيسه تجاه حياته؛ إنّه يذوب في إحساسه تماماً كما تذوب الفراشة في النّور، فتفقد ذاتها عنده.

س: في ضوء ذلك، ما تعريفكم للحبّ؟

ج: الحبّ لا يمكن أن يُعرَّف؛ إنّه يُعاش، إننا لا نستطيع التَّعبير عن العطر كما هو حقاً، ولو جئنا بألف قصيدة في وصف العطر، لما استطعنا أن نتحسَّس العطر كما عندما نشمّه في الوردة.

س: أسألك بطريقة أخرى، ما الأعراض التي تنتابنا عندما نحبّ؟

ج: إنّه هذا التّوق الإنساني لما يحبّ ولمن يحبّ، بحيث يشعر الإنسان بأنّ ذاته تحوّلت إلى شيء في الآخر وابتعدت عن شيئيّاتها في داخله؛ إنه يعيش في الآخر، يتطلّع إليه، يهفو إليه، تتحرّك أحاسيسه في كلّ معانيه التي يتمثّلها في وجدانه.

س: وهل صحيح أنّ الإنسان الذي يعيش الحبّ يقترب أكثر من الله؟

ج: عندما يعيش الإنسان الحبّ، فإنه يقترب من المطلق، وعندما يقترب من المطلق، فإنّه يقترب من الله، لأنّ الإنسان يتمثّل الحبّ في بعض العناصر الموجودة في المحبوب، ومن الطبيعيّ أنّ الإنسان عندما يتمثّل هذه العناصر المحدودة في هذا أو ذاك، لا بدّ له أن يتمثّلها في الله المطلق. إنّ الذي يتجاوز الجمال المحدود في ذاته، يتجاوز كلّ العناصر الأخرى التي يحبّها الإنسان في الإنسان أمام الله.

- فقدان العدالة

س: تصرّح بفقدان العدالة الإنسانيّة، وأنّك لا تجد لها أثراً في حياتنا المعاصرة.. إذاً أين نعيش؟ ومن نحن؟!

ج: إننا نعيش أنانيّتنا الذاتيّة التي لا تنفتح على الإنسان الآخر، بل تحاول أن تضطهده عندما تصطدم عناصر الذّات لدينا بعناصر الذات لديه.

لست ضدّ الإحساس بـ"الأنا" في وجدان الإنسان الفرد، لأنّ "الأنا" هي التي تحرّكه نحو كلّ طموحاته، وهي التي تقوده إلى الإبداع، وهي التي تحميه من كلّ ما يمكن أن يعتدي على حياته أو يقتله. إنّ "الأنا" هي عنصر إيجابيّ في حياة الإنسان، ولكن السلبيّة في "الأنا" تكمن في عدوانيّتها، عندما تتحوّل إلى حالة مغلقة، وعندما تحوّل صاحبها إلى مخلوق يعيش في سجن ذاته، بحيث لا يتصوّر العالم إلا من خلال هذا السّجن الشخصي في كلّ عناصره الشخصيّة.

لهذا، فإنّ هذه الذاتيّة المغلقة أو الأنانيّة العدوانيّة هي التي حطّمت العدالة في واقعنا الاجتماعيّ، لأنّنا أصبحنا نعيش في معادلة "أنا لا الآخر" بدلاً من "أنا والآخر". لكنّنا لا بدّ أن نعيش في حياتنا هذا الإدراك الإنساني في مسألة العدالة، لنجرّب أن نخفّف شيئاً من هذا الظّلم، ولنعطي شيئاً من تجربة العدالة. إنّ وجود السلبيّات في الحياة لا يعني أن نسقط أمامها، فلا بدّ لنا أن نقتحمها لنحوّلها إلى إيجابيّات، أو لنخفّف من تأثيراتها السلبيّة في الإنسان وفي الواقع.

- تنظيم الأنانيّة

س: لكن هل تحتمل الحياة اليوم مزيداً من العدوانيّة و"الأنوات" الذاتيّة المغلقة؟

ج: هناك نقطة تخفّف من هذا التّأثير السلبيّ في حركة الوجود، وهي أنّ العدوانيّة المطلقة ربما تتحوّل ضدّ صاحبها، ولذلك بدأ الإنسان يشعر بأنّ عليه أن ينظّم حياته مع حياة الآخر، لأنّ أنانيّته الذاتيّة تصطدم بأنانيّة الآخر الذاتيّة، لذلك فإنّ استمرار الحياة عندنا هو في هذه التوازنات بين الذات والذات الأخرى، والتي قد تتحوّل إلى توازنات بين مجتمع ومجتمع آخر، أو بين محور دولي ومحور دولي آخر... وهكذا.

ولعلّ هذا مما خلقه الله في طبيعة الإنسان من عناصر الإحساس بحماية نفسه من الآخر، لأنّه ليس موجوداً وحده في العالم، بل إنّ العالم يمثّل وجوده ووجود الآخر. ومن هنا، لا بدّ له أن يعيش وجوده في وجود الآخر، بمقدار ما يحمي وجود الآخر بوجوده.

س: وكيف يلعب الدّين دوره هنا؟

ج: إنّ دور الدّين هو أن يقتحم النفس الإنسانيّة ليخلق فيها هذا النوع من التّوازن.. إنّ من خصوصيّة الإسلام هو هذا التّوازن بين المادّة والروح، وبين الفردية والجماعيّة، وبين العقل والغريزة. لذلك، فإنّ دور الدّين هو أن يطهّر الإنسان من القذارات الروحيّة والماديّة التي قد تحوّله إلى وحش، إلى حالة حيوانيّة وحشيّة في مواجهة الآخر. إنّ قيمة الدين في كونه يعمّق في الإنسان إحساسه بإنسانيّته في إنسانيّة الآخر، أي يتمثّل نفسه في الآخر، بحيث يتطلّع إلى الآخر في تلك الدّائرة التي يتطلّع فيها إلى نفسه: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها". وفي حديث نبويّ شريف آخر: "يا بنيّ، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها".

- الدّين.. والمشاكل الوجوديّة

س: هل تعتقدون أنّ التجربة الإنسانيّة عبر التاريخ برهنت أنّ الدّين استطاع أن يقدّم حلولاً للمشاكل الوجوديّة؟

ج: لم يستطع الدّين تحويل الإنسان إلى ملاك يحلّق في المطلق، لكنّه استطاع أن يضع بعض النماذج التي يتمثّل فيها شيء من هذه الملائكيّة.

ليس الدين أمراً مفروضاً على الإنسان في تكوينه، بل إنّه مسألة تتحرّك في عقل الإنسان لتصطدم بغرائزه، ولتنفتح على كلّ ما حوله ومن حوله، وهذا ما جاء في الآية الكريمة: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}[يوسف: 53].

لذلك، فإن تمثّل الإنسان للدّين تجربة صعبة لا بدّ أن يواجهها بالكثير من المعاناة، ولذلك اعتبرت هذه المعاناة النفسانيّة التي يربي فيها الإنسان نفسه، هي الجهاد الأكبر، فعندما يقتحم الإنسان نفسه ليكون مدّعياً أو مدَّعى عليه، يكون مجاهداً يعيش الشّيء وضدّه، وقد يسقط الإنسان أمام هذا النّوع من الصّراع النفساني تحت تأثير البيئة والعناصر المحيطة به.

- هل من قصائد مخفيّة؟

س: بعد كلّ ما ذكرتموه سماحة السيّد، أسألكم ثانيةً، هل طمست ممارستكم الدينيّة هويتكم الشعريّة؟

ج: لقد عشت الدّين في الهواء الطّلق، وفي الصّحو المبدع، ولذلك عشت الشّعر ليتنفّس في رحاب الله، ولذا لم يبتعد إحساسي الشّعري عن إحساسي الدّيني.

س: هل من قصائد كتبتها وأخفيتها، وربما يكون بعض منها متناقضاً مع مكانتك الدينيّة؟

ج: نشرت كلّ قصائدي، بما فيها تلك التي لا تتناسب مع موقعي الدّيني، ومن ذلك ديوان "على شاطئ الوجدان".

- ورقة التّوت!

س: هل يعتبر السيّد فضل الله أنّه "تعرّى" تماماً أمام نفسه وأمام قرّائه من خلال شعره؟

ج: من الطبيعي أنّ الإنسان يتجدّد ويتطوّر، فأنا في هذه المرحلة من حياتي، أختلف عن المرحلة التي عشتها سابقاً.

س: وهل ثمة بعض خجل من شيءٍ ما في مرحلة عشتها في السّابق؟

ج: أنا لا أخجل مما عشته، ولكنّي قد أخجل مما أعتبره خطأً، أخجل لأني كنت أحبّ ألا يكون وقد كان. ولذلك، لم أخف هذه الأخطاء، بل عرضتها على الناس، واعترفت بأنني تطوّرت وقمت بعمليّة نقد ذاتي.

س: ألا تحتفظون سماحة السيد "بورقة توت" ما؟

ج: من الطبيعي أن هناك من الأمور التي تدخل في حساب الأحاسيس، ولا سيّما أمام ضعف النّفس، مما لا يبديه الإنسان للآخر. وليس من المفروض أن نعيش نقاط الضّعف التي يختزنها الإنسان بين وقت وآخر مع النّاس، لأنها لا تهمّ الناس، ولا تدخل في مسؤوليّة الإنسان، إنّ على الإنسان أن يقدّم مما في نفسه للنّاس مما يتصل بحياتهم، أمّا الأشياء التي لا تتّصل بحياة الناس، كأن يشتهي هذه الأكلة أو تلك، هذا الشّراب أو ذاك، أو ينفتح على هذه اللذّة أو على تلك الشّهوة، فهذه ليست من اهتمامات النّاس.

وربما يحتاج الإنسان إلى أن يعيش بعض خصوصيّاته، ليتحسّس نفسه في ذاته، لأنه عندما يطرح كلّ نفسه للنّاس، فإنه يفقد استقلاله الذّاتي، ولذلك يحتاج إلى أن يعيش شيئاً من هذه الاستقلاليّة.

س: وكم تدوم لحظات الضّعف التي قد تعيشونها؟

ج: بمقدار ما أكتشف سلبيّاتها.

س: ربما تدوم طويلاً؟!

ج: قد تدوم طويلاً، لأنّ الإنسان ضعيف {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النساء: 28]..

- تفاوت فنّيّ

س: نلاحظ تفاوتاً في مستوى قصائدكم من الناحية الفنيّة، كيف تفسّر هذا التفاوت؟

ج: من الطبيعي لمن يعيش التجربة الشعريّة، أن يعيشها في تنوّع من حركة الشّعور أو من طبيعة التجربة، فقد تضعف التجربة، وقد يتيه الشّعور والإحساس في بعض الحالات.. ولهذا من الصّعب في دراسة تجربة أيّ شاعر أو أيّ أديب، أن يجد الإنسان تجاربه متساوية في مستواها الإبداعي.

س: وهل يحدث هذا التفاوت حتى على الصعيد التقني.. ألا يرتبط العمل "تقنياً" بمعايير ثابتة؟

ج: كما يعيش الإنسان نقاط ضعفه في ذاته، قد يعيش نقاط ضعفه في فنّه، وهذا ما يعبّر عنه في أمثال عربيّة بالقول: "إنّ السيف قد ينبو، وإن الجواد قد يكبو".

- شعورٌ بالغربة!

س: يقال: "بدأ الشّعر غريباً وغريباً سيعود الشّعر"، على الرّغم من كلّ المصالحة التي تعيشها مع ذاتك، هل لا تزال تتحسّس طعم الغربة؟ وهل ما زلت تصارعها، أم أنّك تأكّدت من أنها جزء من ذاتك؟

ج: قد يشعر الإنسان بالغربة عندما يعيش بعض تطلّعات أو آفاق أو أحلام لا يجد لها فرصة للتّحقيق واقعياً، فيشعر بأنّه يغرّد خارج سربه، أو يعيش خارج موطنه، لأنّ الموطن ليس أرضاً يعيش الإنسان فيها، ولكنّه الأفق الداخلي الذي يعيش في عقله وقلبه وإحساسه وشعوره.

س: إذاً تعيش الغربة على الرّغم من كلّ الظروف المحيطة؟

ج: أعيش الكثير من الغربة، والكثير من الأحاسيس الّتي تنبع من الوجدان الذي يقوم بجولة دائمة في مفردات الواقع.

س: بلا جواز سفر؟

ج: حركة الإنسان في عالم الفكر والإحساس لا تحتاج إلى جواز سفر، لأنّها تتجاوز الحدود، ولا تعترف بالمواقع الجغرافيّة.

س: لكنّها جولة تبدو باهظة الثّمن؟!

ج: من الطبيعي أن يكون كلّ شيء يدخل في العنصر الإنساني الحيويّ غالي الثّمن.

- شعر.. رسم.. وموسيقى!

س: لمن تقرأ من الشّعراء، وبمن تأثّرت؟

ج: لم أتأثّر بشاعر معيّن على النّحو الذي أعتبر نفسي فيه من مدرسته، ولكنّي قرأت لأكثر الشّعراء في مرحلة الشباب. لقد قرأت مبكراً الأخطل الصّغير وأحمد شوقي، ولشعراء لبنانيّين مثل الياس أبو شبكة، وقرأت الجواهري، ومن الأقدمين المتنبي وأبو تمام والبحتري وسواهم.. وأنا لا أزال معنيّاً بأن أقرأ كلّ تجربة شعريّة، حسب ما يسمح به وقتي الآن.

س: ما هو المشترك بين هؤلاء الذين قرأت لهم؟

ج: لا أظنّ أنّ شيئاً مشتركاً بينهم، "فهم في كلّ واد يهيمون" (يضحك).

س: كشاعر، ما مدى علاقتك بسائر الفنون الأخرى، كالرّسم والموسيقى والغناء؟

ج: لا أملك موهبة الرّسم، ولكني أتفاعل مع الرّسم، وكذلك لم أعش تجربة موسيقيّة، لأنّ الظروف لم تهيّئ لي ذلك، ففي بدايات حياتي، كنا نقتدي بالفتوى التي تحرّم الموسيقى جملةً وتفصيلاً، ولكنّي في اجتهاداتي، أجد أنّ الموسيقى المحرَّمة هي التي تثير الغرائز، وتقمع النفس بالعنف وما إلى ذلك، أمّا الموسيقى الهادئة والمنفتحة التي تحلّق بالإنسان في أجواء الروح، فأمر مختلف تماماً.

س: ما رأيك بأغاني محمد عبد الوهاب وأمّ كلثوم.. ألم تسمعها؟

ج: لم أعش هذه التّجربة.. ولم أعرفها بكامل معناها..

- شاعر من دون قصيدة!

س: ماذا ينقص رجل الدين إذا لم يكن شاعراً؟ وماذا ينقص الشّاعر لو لم يتّكئ على الدّين؟

ج: لا أعتقد أنّ الجانب التعبيريّ هو كلّ شيء، فربما يكون الإنسان شاعراً من دون أن يكتب بيتاً واحداً من الشّعر، وقد يجعله ما يعيشه من الإحساس بالوجود وبالجمال وبحركة الحياة وبمعنى الإنسانيّة، مبدعاً في شاعريّته. الشعورية ـ إذا جاز التّعبير ـ أكثر من كتابة الشّعر في حدّ ذاته. وقد يعيش الشاعر آفاقاً من الشّعر في تأمّلاته وتطلّعاته وأحاسيسه أكثر مما يكتب.. وقد قرأت لبعض الشعراء الرّمزيين: ربّ ورقة يضعها شاعر أمامه ليكتب عليها شعراً، فيستعصي عليه الشّعر، قد تكون أجمل من أبدع قصيدة ينظمها. وأعتقد أنّ القصد هو أنّ هذه الرّوح الشّاعرة تريد أن تنسكب في الورق، لكنّ الحواجز تحول يبنها وبينه، هذا القول يعبّر عما يختزنه الشّاعر من القصائد في داخل شعوره، مما لا يملك أن يعبّر عنه بالكلمة.

س: إذاً، يمكن لرجل الدّين أن يكون شاعراً بتدفّق مشاعره وأحاسيسه، وأن يكون الشّاعر رجل دين بإنسانيّته؟

ج: إنّ الدّين الذي يحلّق بالإنسان في آفاق المطلق، وفي رحاب الله خالق الجمال والطبيعة والإنسان.. إنّ هذا الدّين هو الذي يفجّر الشّعر في نفسه إذا عاشه الإنسان في آفاقه، ولم يعشه في الدّوائر المغلقة التي تحبسه في داخل قمقم لا ينفتح على الهواء.

- المرأة الإنسانة والدّور

س: كيف ينظر السيّد فضل الله إلى المرأة الملهمة؟

ج: تختلف النّظرة إلى المرأة من موقع إلى آخر، فثمّة نظرة إلى المرأة من موقع حركة الحيوان في حسّه، وهناك نظرة إليها من خلال حركة الإنسان في وعيه. إنّ الإنسان قد يلتقي بالمرأة في حركة الحيوان في حسّه، ولكنّ ذلك لا يدوم، لأنّه مجرّد لحظة، على عكس ما يحدث عندما يعيش الإنسان الجمال في معناه الرّوحيّ، لينفتح به على الآفاق التي تتمثّل فيها عناصره، عندما يتمثّل إنسانيّة المرأة، والنقاء والطّهر والصّفاء فيها، بحيث إنّه ينطلق من جمال الجسد إلى روحيّة الجمال، وهذا ما عبّر عن بعضه الشّاعر "الأخطل الصغير".

س: والأمّ.. كيف تصفها؟

ج: لا أستطيع التعبير عن الأمّ، لأنها هذا الينبوع المتدفّق الذي يعطي من دون أن يسأل إلى أين يتّجه العطاء، إنها ينبوع يعطي بكلّيته. إنّ الأمّ تعطي الجنين من دمها وغذائها وقوّتها وحياتها وآلامها وأحلامها، ما يجعله ينمو في هذا الجوّ داخل الرّحم، ثم عندما تضعه وتحتضنه وترضعه، فإنها تعطيه كلّ روحها ونفسها، بحيث يرتضع الحليب من ثديها وهو يعيش روحها في الحليب. لذا، نجد أنّ الإرضاع الطبيعي لا يمنح الطفل الغذاء فقط، ولكنّه يمنحه كلّ الدّفقات من الحنان والإنسانيّة والروحيّة التي تنساب إليه من أمّه وهي ترضعه. وهكذا تعيش الأمّ بالمستوى الذي تفقد فيه ذاتها مع ولدها.

حين توفّيت أمّي سنة 1992م، رثيتها في قصيدة "رحماك في روح أمّي"، فقلت:

وتبقى الحياة

وتهرب منّي جمالاتها

حكاياتها

في طفولة عمري

غنائيّة الهدهدات الحميمة

أراجيح روحي التي يشهق الضّياء

بهزّاتها

ويغفو العبير

على وحيها الضّائع الأمنيات

وأمضي

وترحل بي الذّكريات

تغيب طويلاً بوعي الضّباب

وتشرق بسمةً...

س: وكيف ترى إلى دور المرأة في المجتمع؟

ج: إنّ المرأة إنسان لا بدَّ أن يعيش دور الإنسان كلّه في المجتمع، مع الخصوصيات التي تتمثّل في معناها كامرأة، كما أنّ الرّجل لا بدّ أن يعيش دوره كإنسان في المجتمع مع خصوصيّاته كرجل: يقول الله جلّ جلاله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}[الأعراف: 189]. إذاً هناك شيء من المرأة في الرّجل، وشيء من الرّجل في المرأة {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}[البقرة: 187].

س: هل تؤمن بالمساواة بين الرّجل والمرأة؟

ج: إنَّ علينا أوّلاً تحديد معنى المساواة، هل تعني مساواة المرأة للرّجل أن تعيش المرأة ذكورة الرّجل، أو أن يعيش الرّجل أنوثة المرأة؟! إنّ ذلك لا يعني المساواة، بل يعني فقدان الشخصيّة في الآخر، وأن لا يكون الإنسان نفسه.

إنَّ المساواة هي أن تأخذ المرأة حقوقها في إنسانيّتها، وأن يأخذ الرّجل حقوقه في إنسانيّته، وألا يكون الرّجل سيّد المرأة الذي يلغي شخصيّتها، وألا تكون المرأة ظلاً للرّجل، بحيث تذوب شخصيّتها فيه. المساواة هي أن تعيش المرأة أنوثتها في إنسانيّتها، وأن يعيش الرّجل ذكوريّته في إنسانيّته، لتتكامل الإنسانيّة في هذين النَّوعين بعلاقة الذّكورة والأنوثة التي قد تميّز كلّاً منهما ببعض الأحاسيس والمشاعر والأدوار التي تتمثّل في امتداد الجنس البشري، حيث تمتزج المادّة بالرّوح في ذلك كلّه.

إنّ على الرّجل أن يعترف بإنسانيّة المرأة كإنسان له عقل وإرادة وحريّة في النطاق الذي تتحرّك فيه الحريّة في خطّ المسؤوليّة، كما تعترف المرأة للرّجل بذلك. وبعبارة أخرى، أن يعترف كلّ منهما بالخصوصيّات التي تمثّل تنوّعه الذّاتي.

- بين حجاب المرأة وتسليعها!

س: هل يلتقي رجل الدّين والشّاعر في شخص فضل الله حيال النّظرة إلى حجاب المرأة؟

ج: عندما أتمثّل المرأة إنساناً، فأنا لا أرى الحجاب مسيئاً إلى إنسانيّتها، بل إنّني قد أتمثّل "ضدّ الحجاب" في أنّه يسيء إلى إنسانيّتها، لأنه يجعلها من ضمن ما يختزنه الرّجل من نظرته إلى المرأة في الإطار الجنسي.

إنّ خروج المرأة سافرة بالطّريقة التي تعارف عليها النّاس، قد يجعل الرّجل يتصوّرها كأنثى لا كإنسانة، كما أنّ المرأة أصبحت تشعر من خلال وسائل الحضارة الحديثة (الإعلام والرواية والقصّة) بأنوثتها أكثر مما تشعر بإنسانيّتها. لذلك، فإنّ الحجاب المعتدل قد يغرس في نفس المرأة معنى الإنسان، وأنها ليست مجرَّد جسد، بل إنسان يمتلك عقلاً، ويجتذب نظرة الناس إليه في عقله وإنسانيّته وليس في جسده.

س: كيف تنظر إلى استخدام المرأة اليوم كسلعة ترويجيّة في وسائل الإعلام؟

ج: إننا نرفض ذلك، لأنّ ذلك يوحي للمرأة وللرَّجل بأنَّ الجسد هو القيمة وليس العقل.

س: هل بإمكان المرأة أن تكافح "تسليعها" من خلال الحجاب فقط؟

ج: الحجاب إحدى الوسائل، لكنّنا لا نعتقد أنّ الحجاب يعصم المرأة، ولكنّه يهيّئ بعض المناخات. لذلك، لطالما قلت من قبيل الطّرفة: "إنّ الحجاب هو أمر يسلّم به الجميع، ولكنّ الفرق في قطع الثّياب".

- حلم السيّد..

س: أخيراً، بماذا يحلم السيّد فضل الله وهو في هذا العمر؟!

ج: أحلم بأن أبقى في روحيّة العطاء للإنسان الآخر، أحبّ أن تكون حياتي متحرّكة في الإنسان الآخر، أن أعطي الفكر والرّوح والحياة، حيث يتحرّك الزّمن في رحلة العمر، فلا تفلت منه لحظة من دون عطاء.

إنّني وأنا في هذه المرحلة من العمر، لا أشعر بأيّ لذّة حسيّة، أو بأيّ جانب حسّي، ولكن لذّتي في كيف أعطي أكثر، وكيف أنتج أكثر، كيف أكتب وأفكّر وأحاضر وأعظ، وكيف أعيش مع الله.

س: هل تعتبرون أنّكم في هذا العمر وصلتم إلى قمّة النّضج؟

ج: لا أعتقد أنّ بإمكان الإنسان الوصول إلى قمّة النّضج.. إنّني أشعر بأنني أتعلّم من كلّ من ألتقي، ومن كلّ ما ألتقي، وأعتقد أنّ الإنسان الذي يشعر بأنّه وصل إلى دور المعلّم، وفقد دور التّلميذ، يبدأ بالتراجع.

* مقابلة أجرتها مجلّة الخليج الثقافي مع سماحته، بتاريخ: 8/1/2001م.

 

يستغرق العلّامة السيّد محمد حسين فضل الله في هدوئه العميق واللافت، ذلك الهدوء الأنيق، والذي لا تملك أمامه إلا المزيد من الفضول للسّفر في داخل هذا الرّجل المرجعي الذي شكّل في السنوات الأخيرة شخصيّة محوريّة فكرياً وسياسياً (فضلاً عن المسألة الدينيّة)، وصلت في نضجها الإنساني إلى مرتبة قطبية عالية، يستمدّ منها معاني المكابدة المعرفية، وعمق جدل الأفكار واتّساعها، عبر "كاريزما" عالية الخصوصيّة في انفتاحها وسماحتها، وتخلّق فهمها الاستثنائي لسيادة الدّين في الروح، وتشرّبها للبعد التطهّري فيه. ولذا، من السّهل أن نلمح في سماحته ذلك العفاف والنورانيّة والخفر الروحي والتقشّف، ولذا فهو يرفض "الهالة"، ويحبّ أن يعيش مع نفسه.

يجمع سماحة السيّد محمد حسين فضل الله بين عالم الدّين والشاعر، وإذا اعتبرنا أنّ كتابة الشّعر هي في جوهرها نوع من القداسة والأخلاقيّة المضاعفة، فالرّجل، إذاً تتضاعف في ذاته دينيّة شعريّة تقع في الصّحو المبدع وفي الهواء الطّلق، كما يقول.. وهو شاعر في رجل دين، ورجل دين في شاعر، يحترمه ويبقي عليه، ولا يكبح أشواقه ومفرداته.

وهو في هذا الحوار، أنموذج صريح لمتطلّب الجرأة في النَّفس الشّاعرة، فلا يقيّده موقعه الديني المرجعي، ولا يزيح من حياته صورة طفولته الّتي لا يزال يحسّ بها حتى وهو في طريقه إلى السّبعين من العمر.

السيّد محمد حسين فضل الله في هذا الحوار، شاعر، ومثقَّف، وإنسان منفتح، لا يعتبر الشّعور الدّيني زنزانة مغلقة، والعمامة بالنّسبة إليه هي مجرَّد زيّ تقليديّ، وفوق هذا وذاك، يقبل اختلاف الآخر معه إلى أبعد مدى، وموقعه المرجعيّ لم يبعده يوماً عن الانخراط في الحياة والنّاس ليعيش بينهم كأيّ فرد منهم.

في مجمل إجاباته ـ وباختصار ـ يؤكِّد السيّد محمد حسين فضل الله حريّة الإنسان وحقّه في الاختلاف، ولم يطلق جملة حكميّة واحدة تحيلك إلى صيغة سلطويّة، وبذلك لم يبتعد إحساسه الفني عن إحساسه الدّيني، وتحوَّلت لديه "السلطة" بمعنى موقعه الدّيني، إلى فضاء رحب من التَّواضع ومحبَّة الحياة، وتمجيدٍ بالإنسان خليفة الله في الأرض.

شاعر متديّن، أو متديّن شاعر، ليّن الجانب، وما في جملته ورأيه أيّ فظاظة أو استكبار، يحترم في الإنسان طموحه وحقّه في النقد والحوار وإبداء الرأي والرأي الآخر، وهو بكلّ هذه الأناقة الروحيّة والعقليّة، إنما يقترب أكثر وأكثر من سيماء النّور، ويكبر في موقعه الذي ترك فيه حيّزاً حرّاً للشّعر، بل يتّضح من هذا الحوار، أنّ سماحته لم يندم على قصيدة واحدة كتبها، وأطلق شعره في حياته كما ينبغي للشّعر أن ينطلق من دون قيود أو مؤثّرات، طالما أنه مثل الدّين الذي يطهّر روح الإنسان من القذارات المادية والدنيوية التي قد تحوّله إلى وحش، كما يقول.

السيّد محمد حسين فضل الله غزير في معارفه وإنسانيَّته، متدفِّق الأحاسيس، حرّ الوجدان، طليق في لغته وفي تعابير وجهه الطفوليَّة الشفيفة. أضف إلى ذلك، أنّه يختزن وميضاً من الحزن والغربة في عينيه اليقظتين الذّكيّتين، وذلك هو الغنى الإنساني والرّوحي بعينه، ومثل هذا الغنى هو باعث على القوَّة الآسرة، والدّين في حدّ ذاته هو قوَّة آسرة، وكذا الشّعر.

يقول: "ما زلت أتعلّم، والإنسان الّذي يشعر بأنّه وصل إلى دور المعلّم وفقد دور التلميذ، يبدأ بالتّراجع".

ومن يؤمن بمثل هذا الكلام هو حقّاً سيّد في نفسه، وحيّ في المعرفة، ونبيل في الحياة وفي الآخرين على السّواء.

عناوين الموضوعات

الشعر... موهبة أم وراثة؟!

اجتماع الشِّعر والدِّين؟!

التزام الشّاعر

حضور الطّفل في رجل الدين!

العلاقة بالوالدة

لماذا الاختيار الدّينيّ؟!

الشعر والدّين

القلق الوجوديّ

الدّين ليس زنزانة

العمر لحظات

التَّوق الحقيقي

لا خطوط حمراء

العمامة زيّ تقليديّ

الإنسانيّة أوّلاً

شعرٌ معقَّد!

عصر البساطة

بين الحرية والضوابط !

الالتزام في الشِّعر!

موقع رجل الدين.. والنّاس

علاقة الحبّ بالموت!

فقدان العدالة

تنظيم الأنانيّة

الدّين.. والمشاكل الوجوديّة

هل من قصائد مخفيّة؟

ورقة التّوت!

تفاوت فنّيّ

شعورٌ بالغربة!

شعر.. رسم.. وموسيقى!

شاعر من دون قصيدة!

المرأة الإنسانة والدّور

بين حجاب المرأة وتسليعها!

حلم السيّد..

- موهبة أم وراثة؟!

س: لنتحدَّث بدايةً عن العوامل والمؤثِّرات البيئيَّة والثقافيَّة التي لعبت دورها في تكوينك كشاعر؟

ج: أنا من عائلة شاعرة يتداول أفرادها الشِّعر، تماماً كما يتداولون شؤون حياتهم اليوميّة، ولذلك إذا كانت الوراثة تنقل الموهبة، فقد يكون هناك شيء من الوراثة في هذا الموضوع.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّ مدينة النجف هي المكان الذي يتنفّس شعراً في المناسبات، فلا تخلو مناسبة فرح أو حزن من أكثر من قصيدة لشاعرٍ يهنّئ فيها أهل الفرح، أو يعزّي فيها أهل الحزن، ما يجعل، إضافةً إلى مسألة المجالس الحسينيّة التي تتلى فيها القصائد التي تتحدّث عن المأساة وما إلى ذلك، يجعل الإنسان يعيش أجواء الشّعر الشعبي، من خلال الاحتفالات الدينية التي يتحرّك فيها الشعراء، ليلقوا أشعارهم بطريقة أقرب إلى الطريقة التلحينيّة، ما قد يتجاوز المسألة الدينيّة إلى المناسبات الاجتماعيّة.

إضافةً إلى قراءتي المبكرة للشعر العربي، سواء أكان الشّعر اللّبناني أم المصريّ أم العراقي.

س: إذاً، تحملون جينات شعريّة إضافةً إلى الاكتساب والأجواء؟

ج: هذا صحيح.

- اجتماع الشِّعر والدِّين؟!

س: هنالك آية كريمة في سورة الشّعراء تقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...}[الشّعراء: 224-227]. كيف يجمع السيّد فضل الله بين الشّعر والدّين في ظلّ هذه الآية ومنطلقاتها؟

ج: هذه الآية تمثّل أبلغ ألوان التَّعبير الذي يجمع للشّعر أغراضه السلبيّة والإيجابيّة، كالحديث عن أنّ الشّعراء يتبعهم الغاوون؛ إنّه يتحدّث عن واقع الشّعر في عصر الجاهليّة، باعتبار أنّ أغراض الشعر كانت هي الأغراض التي تثير العصبيّات، وتتحدّث عن كلّ تفاصيلها... ما يجعل الأغراض الشعريّة أغراضاً لا تلتقي مع النّاس الذين يعيشون القيم الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة.

ثم تتحدّث الآية الثانية {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}، بمعنى أنّه ليست لديهم قاعدة فكريّة تحدّد لهم مسارهم الشّعري في الأغراض التي ينطلقون فيها، فهم يتحرّكون في هذا الوادي أو ذاك، من أجل بعض الجوانب الذاتيَّة وما إلى ذلك.. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}، لأنهم يتحرّكون في تصوير بعض القيم والمبادئ، ولكنَّهم لا يلتزمون بها.. هم صنّاع الكلمة وليسوا صنّاع الواقع، لأنّ هناك هوّة بين الكلمة التي يقولونها وبين الواقع الذي يعيشونه.

{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهنا تتحدّث الآية عن الذين يؤمنون بالله، باعتبار أنَّ الإيمان بالله يمثِّل القاعدة التي تحدِّد للإنسان كلّ مفرداته {وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}، الذين يواجهون الظّلم ويتحدّثون على أساس إرادة الانتصار.

إنّ هذه الآيات لا تتحدّث عن الشعر في كلّ أغراضه، بل تتحدّث عن الشّعراء في أغراضهم المنفتحة على قضايا المجتمع. وعلينا أن نعرف حقيقة، وهي أنّ الإسلام رسالة، وأنّ القرآن جاء لتأكيد هذه الرّسالة، ولتأكيد هذه القيم، وأنّه يريد للإنسان أن يرتكز على قاعدة حتى عندما يريد أن ينفتح على الكون كلّه، وأن ينطلق من وعيٍ لفلسفة الكون حتى في مزاجه. إننا لا نفهم أن يكون المزاج شيئاً بعيداً من القيم التي يؤمن بها الإنسان، أو شيئاً بعيداً من العلاقات الإنسانيّة، مما يمنع الإبداع الشعري. والإسلام لا يريد أن يعلّب الإنسان الشّاعر، ولكن يريد أن يقول له: عندما تريد أن تنطلق لتكون عنصراً مؤثّراً في الإنسان، فإنّ عليك أن تركّز قاعدتك الفكرية والعاطفية والحركية في داخل نفسك، بحيث تنفتح من خلال هذه المعرفة الإنسانيّة المرتكزة على قاعدة.

- التزام الشّاعر

س: إذاً، نفهم أنّ الشّعر يجب أن يكون ملتزماً؟

ج: ينبغي على الشّاعر أن يكون ملتزماً، وليست مواضيعه، لأنّه عندما يكون ملتزماً، فإنّ التزامه يحرّكه عفويّاً في خطّ الالتزام. أنا لا أؤمن بأن تفرض على الشّاعر موضوعاً يعيشه، ولكنّنا نقول إنّ على الشّاعر أن يعيش الحياة، وأن يعيش الإنسان، وأن يعيش القيم، حتى لا يكون الشعر مجرّد هواية ذاتيّة، بل يكون مادّة للحياة. ولذلك، أنا لا أؤمن بأن نحدّد على الفنّان فنّه، ولكن نريد أن نقول له كن إنسان الفنّ الذي يخدم الحياة، أي اصنع نفسك قبل أن تصنع فنّك.

الرجوع للأعلى

- الطّفولة الحاضرة!

س: ما مقدار حضور الطفل في حياة السيّد فضل الله رجل الدّين؟

ج: الطفولة كأيّ مرحلة من مراحل العمر، لا تغيب عن الإنسان، بل تظلّ كامنة في أعماقه. لقد عبّرت عن ذلك في أكثر من قصيدة. ولذلك، لا أزال أحسّ بطفولتي وأنا في الطريق إلى السّبعين، لأنفتح على كثير من صبواتها ومن فوضاها ومن لعبها ولهوها. ولكن من الطبيعيّ أنّ الطّفولة عندما تنفتح في النفس، فإنّ المرحلة الجديدة قد تمنعها من أن تواصل هذا الانفتاح، إنّ الطفولة تمثّل عمق البراءة الإنسانيّة، وتمثّل عمق العفويّة التي يحسّ بها الإنسان في إنسانيّته، لأنّ الإنسان كلّما تقدّم في السنّ أكثر، فإنّ القيود التي تعيش في هذه المرحلة، والتي توازن له حركته، تمنع العفويّة من أن تنساب في مشاعره وأحاسيسه، وبالتّالي في إنتاجه. لذلك أتصوَّر أنّ الطفولة لا تزال تعيش معي، ولكنَّها لا تتحرّك في الواقع.

س: ألا تتحرّك في الشّعر؟ وإن فعلت، هل تتحرّك مضبوطة أم بعفويّة الطفل؟

ج: الشّعر لا يمكن أن يضبط نفسه أو يضبطه صاحبه، الشّعر ينساب من أعماق النفس، ولذلك فإنّه تماماً كالينابيع التي تنفجر وتنساب في الأراضي من دون أن تطلب إذناً من أحد.

س: كيف كانت طفولتك؟

ج: كانت طفولتي قلقة، لأنها كانت نتاج مجتمع محافظ تقليديّ يوحي إلى الطفل بأنّ عليه أن يتحفَّظ في جلسته وفي كلامه... كانت التعليمات تنهال على الطفل لتوحي إليه بأنّ لعبه ولهوه لا يمثّلان قيمة في معنى إنسانيّته، ولذلك لم أستطع أن أحصل على طفولة تلعب جيّداً وتلهو جيّداً، وتعبّر عن عناصرها الذاتيّة بشكل منفتح.

س: ألهذا السّبب بقيت طفولتك حيّة دائماً في داخلك، بحيث تتوق إليها دائماً؟

ج: قد تكون المسألة كذلك، ولكن أعتقد أنّ المرحلة الجديدة لا تلغي المرحلة القديمة، ولكنّها تجمّدها في النفس.

- العلاقة بالوالدة

س: كيف كانت علاقتك بوالدتك، وماذا تركت من أثر في حياتك لاحقاً؟

ج: لقد عبّرت في رثائي لوالدتي عن هذه العلاقة، كنت أحسّ بطفولتي وأنا في الخمسين معها، لأنها كانت كأيّ والدة، تلاحق حضوري وغيابي وممارساتي، فتخاف من مرض هنا أو هناك أو ما شابه ذلك، كنت أحسّ بأنها تلاحقني بإحساسها ومشاعرها وحذرها ولهفتها، تماماً كما لو كنت طفلاً أمامها. إنّ الأمّ لا تفهم معنى أن يكون ولدها شابّاً أو شيخاً، إنها تستعيد ذكرى احتضان هذا الولد في أحضانها عندما كانت ترضعه، أو كانت تحافظ عليه أو تضبط خطواته، كنت أشعر بسعادة الطفولة معها، ولذلك لم أحسّ بالشيخوخة أو بالكهولة إلا بعدما فقدتها.

س: ربما كانت هي الإنسان الوحيد الّذي يذكّرك بطفولتك؟

ج: كانت تعمّق إحساسي بالطفولة، وتجعلني قادراً على استعادتها في هذا الجوّ الحميم.

- لماذا الاختيار الدّينيّ؟!

س: كان والدكم رجل دين ونشأتم في بيت دينيّ، فهل أثّر ذلك في اختيار اتجاهكم الديني؟ وهل أسّس لصراع ما في داخلكم ترجمتموه في شعركم؟

ج: صحيح أنّني عشت في هذه البيئة، سواء لناحية أنّني من عائلة علميّة دينيّة، أو من خلال البيئة التي عشتها في النجف، والتي هي الحوزة العلميّة التي يأتي إليها الناس من سائر أنحاء العالم ليتعلّموا الدين، وليكونوا في موقع علماء الدين، ولعلّ انخراطي في هذا الاتجاه، لم يكن ناشئاً من عنصر واحد، بل كان الجوّ كلّه يتنفّس التأثير الديني، ولم تكن لديّ خيارات أخرى، ولكنّها لم تحبس عقلي ولم تحبس مشاعري وأحاسيسي، ولذلك كنت منفتحاً من وعي الطفولة في إنسانيّتي، فكنت أقرأ قراءات ليس من المألوف أن يقرأها طالب الدّين، ولذلك لم أمرّ بأيّ فترة جمود ذهنية بسبب سيطرة جوّ البيئة الدينية عليّ.

- الشعر والدّين

س: هل يمكننا القول إنّك اخترت أن تكون الشّاعر بمحض إرادتك، في حين فرض عليك أن تتّجه إلى الدّين في حياتك؟

ج: قد لا تكون كلمة الاختيار دقيقة، لأني عشت الشّعر.. كنت أعيشه، ولم أجد هناك أيّ تنافر بين أن أكون شاعراً وبين أن أكون طالباً في الحوزة الدينيّة، فأغلب العلماء الذين يعيشون في الحوزة العلميّة في النجف كانوا شعراء، حتى إنّ بعضهم ينظم الشعر الغزلي والشّعر الخمري.

هناك شاعر معروف وكبير اسمه السيّد محمد سعيد الحبوبي، وهو من العلماء والمجاهدين، كان عنده حتى أشعار خمريّة، وكان بشارة الخوري (الأخطل الصغير) يقرأها ويستمتع بها كشعر، ومن الطبيعي أنّ ثقافته كانت من خلال قراءاته الخمريّة لأبي نواس وغيره.

س: ألا يتنافى الشّعر مع الدّين عندما نصل إلى شعر الخمرة؟

ج: لا أدري كيف يتقبّل الوسط الدّيني هذا النّوع من الشعر الذي ينتشر لدى الشّعراء التقليديين الذين كانوا غالباً لا ينفتحون على أغراض جديدة غير الأغراض التي قرأوها في ما قرأوا من شعر. وما نلاحظه أنّنا قد نجد في هذا الوسط الديني غزلاً فاضحاً يعبّر عن أحاسيس مباشرة بشكل طبيعيّ جدّاً.. ومن هنا، فإنّ هذه المسألة تدلّ على أنّ هذا المجتمع لم يكن، على الأقلّ في هذا الجانب، مجتمعاً تقليدياً.

- القلق الوجوديّ

س: من المفترض أنّ طمأنينة الدّين تلغي القلق الوجودي، في حين يعيش معظم الشّعراء قلقاً وجوديّاً.. ما تعليقكم؟

ج: هناك فرق بين أن يعيش الإنسان الدّين كطمأنينة وكسكينة روحيّة في إحساسه بالله، وإحساسه بأنّه يعيش في وجود لا يتحرّك من خلال الضّياع أو من خلال حالة ضبابيّة، بل من خلال "وجود منظّم"، وبين أن يعيش قلق مستقبل حركته في مسؤوليَّاته، من خلال اعتقاده دينياً أنَّ الله أوكل إليه صنع تاريخه. إنّ الله يقول: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، بمعنى أنّ الإنسان عندما يتحرَّك في خطِّ التَّغيير الذي أوكل الله أمره إليه، فإنَّ ذلك يعني أنّ الله أوكل إليه صنع تاريخه. إنّ مسألة أن تغيّر نفسك هي أن تغيّر التاريخ.

لذلك، عندما يجاهد الإنسان نفسه ويحرّكها في خطّ التّغيير، لا بدَّ أن يعيش قلق هذا المسار، ولا بدّ أن يعيش قلق نفسه في الالتزام بمسؤوليَّته أو الالتزام بالصَّواب في مقابل الخطأ.

س: أيمكن أن يكون الإنسان مؤمناً وقلقاً في كلّ لحظة؟

ج: هذا أمر طبيعيّ، فهو يوكل الأمر إلى الله، ولكنّ الله يقول له فكّر وتوكّل، خطّط وتوكّل، جاهد نفسك وتوكّل. لهذا، التوكّل لا يعني أن يجلس الإنسان ليطلب من الله أن يقوم بالنيابة عنه في كلّ شيء.

- الدّين ليس زنزانة

س: هل يمكنني القول إنّ الشّاعر في داخلك ظلّ عصيّاً على رجل الدّين؟

ج: لا أتصوّر الدّين وكأنّه تلك الزنزانة الضيّقة التي يتصوّرها الآخرون، فالدّين ينفتح على الجمال، وعلى الإنسان الآخر، وعلى الطبيعة، وعلى كلّ تطلّعات المرء وآماله وأحلامه وأفراحه وهواجسه.. الدّين لا يلغي الشّكّ، فهو يسعى نحو اليقين. ولذلك، فإنّنا عندما نقرأ القرآن الكريم، نجده يخاطب الذين يشكّون ليسير بهم نحو اليقين.

لذلك، فالدين لا يلغي تفكير الإنسان واستمتاعه بالجمال، ولكنّه يقول له كن إنساناً بكلّ غرائزك، بكلّ أفراحك وأحزانك، كن إنسان القيمة، كن إنسان الحياة، فالحياة لا ترتكز إلّا على أساس القيمة، كن إنسان القيمة لتكون إنسان الحياة في خطّ القيمة. ولا أعتقد أنَّ مسألة أن يعيش الإنسان حياته تتنافر مع أن يعيش قيمه.. حتى الشّعراء، فأنا عندما مارست التجربة الشعريّة، كنت أعيش هذه الهواجس، حتى هواجس التطلّع في الوجود. وأذكر في هذا السّياق بعضاً مما نظمته في الخمسينات في قصيدة "صوفيّة شاعر":

ربِّ إني وفي انتفاضات آهاتي جراح، وفي حشاي نصولُ

أتلظّى بين الجحيم وفي روحي نداء إليك كيف السّبيلُ

تاه بي عالمي إلى حيث لا أدري، فدنياي وحشة وذهولُ

ودعاء في هدأة اللّيل يستهديك، والدّرب موحش مجهولُ

كيف أسمو إلى الحقيقة حراً وكياني مقيَّد مغلولُ

وحياتي شلو تناهبه الرّيح، وألوى بجانبيه الذّبولُ؟

- العمر لحظات

س: تدعو في كتابك "على شاطئ الوجدان" إلى استغلال حاضرنا، والاحتفاء باللّحظة الرّاهنة من دون الالتفات إلى الزّمن المقبل.. كيف تقارب ذلك من كونك رجل دين؟

ج: الغد هو مجموعة اللّحظات، وعلى الإنسان أن يعيش لحظته، أن يمسك بها حتى لا تهرب منه، بل أن يعتصر اللّحظة حتى يبقي للمستقبل شيئاً، وهذا ما يعالجه القرآن الكريم عندما يتحدّث عن القصّة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف: 111]، إنه يقول لا تنفتح على التاريخ لتتسلّى أو لتلهو به، لكن اعتصره وأبق للمستقبل شيئاً منه. إنّ العمر لحظات، ولذلك يكون قد فاتنا الكثير إذا أفسحنا في المجال للحظة أن تهرب منا من دون أن نحدّق فيها وأن نعتصرها، حينها، سوف لن نستطيع أن نعطي المستقبل شيئاً من لحظات الماضي.

- التَّوق الحقيقي

س: تتحدّث في بعض شعرك عن حزن شديد يقابله فرح شديد، مثلاً تقول: "شاعر رنّح الخيال جناحيه بأطياف عالم فيّاح".. وتقول: "لك اليوم فافرح به ما غد سوى حلمٍ كالصّدى المهمل".. فأين يكمن توقك الحقيقيّ الّذي يملي عليك كشاعر؟

ج: كإنسان أعيش الفرح والحزن، ولكنّ حزني ليس حزناً يقتل مشاعري وأحاسيسي، وليس فيه أيّ إحباط، بل إنّ للحزن لذّته عندما نعانيه.. وللحياة لذّتها في المعاناة.

أقول في قصيدة تعود إلى زمن الخمسينات، وهي قصيدة وجدانيّة فلسفيّة:

أنا يا ليلاي مهما يعتصرُ من دمائي اللّيلُ في عسفِ التجنّي

فدمي قيثارةٌ تعزفُ لي أغنياتِ النّورِ في فجرِ التّمنّي

وأنا ـ عبر المدى ـ ما ضرَّني أنّني وحدي أحيا وأغنّي

أزرعُ النّشوةَ في دنيا غدي وأثيرُ النّورَ في أطيافِ جفني

وأناجيكَ وحولي جنّةٌ من رؤى فنٍّ.. ومن أطيابِ حسنِ

فأنا أخلقُ وحدي جنّتي فأرى اللذّةَ في أعماقِ حزني

فتعالي نقطع العمرَ معاً بين لهوٍ.. وعذابٍ وتغنّي

فهوانا لم يعدْ أسطورةً في خيالٍ.. يبدعُ النّجوى وظنِّ

- لا خطوط حمراء

س: تقول في إحدى قصائدك عن الشّاعر: "حرّ الضّمير، تثور في أعماقه حريّة طافت على تبيانه". ألا تتعارض هذه الحريّة وما تفترضه من أسئلة وجوديّة ملحّة ودقيقة، مع ما يفرضه الدّين من محاذير وممنوعات وخطوط حمر؟

ج: لا أتصوَّر أنّ الدّين يفرض خطوطاً حمراً على الشَّاعر الذي يعيش دينه في الإسلام. سبق أن قلت: لا بدَّ للشّاعر أن يبني عقله وقلبه على أساس مبادئه وقيمه، وأن لا يكون هنالك انفصام بين الذّات والفعل، ولذلك فمن الطبيعيّ أن يعيش الإنسان حرّيته في نطاق فكره.

إنّ كلّ من يمارس الحريّة، إنما يمارسها من خلال العناصر التي ترتكز عليها الحريَّة، إنّه يعيش حريّته من خلال حركته الوجدانيّة والعقليّة والفكريّة، ولا يدخل في حريّته بالمطلق.

إنّ الصورة التي يطرحها السّؤال عمّا يسمّى "رجل الدّين"، هي صورة قاتمة لا تعكس حقيقة ما يمثّل هذا الإنسان في إنسانيّته.

- العمامة زيّ تقليديّ

س: "والعمامة" أو "الجبّة"، ألا ترمز بطريقة أو بأخرى إلى تكبيل المشاعر؟

ج: العمامة هي مجرّد زيّ تقليديّ، والمهمّ ألا يعيش الإنسان في داخل نفسه مقيَّد العقل والرّوح.

س: ولكنّها تضفي على رجل الدين رهبةً ما؟

ج: قد تكون رهبةً للآخر، لكنّني وأنا في هذا الموقع، وأعتقد أنّه موقع تحيط به الكثير من الهالات، لا أستمدّ شخصيّتي من هذا الاعتبار، بل أحسّ بإنسانيّتي تتحرّك بشكل عفويّ جداً. ولذلك أنا لا أشعر بأيّ قيد يقيد هذه الإنسانيّة في علاقتي بالناس الآخرين.

أنا أجلس مع الذين يؤمنون بالدّين، ومع الذين يكفرون به، وأتحدّث معهم بشكل طبيعيّ جدّاً. أنا لا أشعر بوجود حاجز بيني وبين أيّ إنسان، حتى وإن كنت أختلف معه في الفكر، لأنّني أعتقد أنّه إذا كان من حقّي الاختلاف مع الآخر، فلماذا لا يكون للآخر الحقّ في أن يختلف معي؟!

- الإنسانيّة أوّلاً

س: لستم تعيشون، إذاً، في برجٍ عاجيّ؟

ج: أشعر بأنّني لا أزال أعيش إنسانيّتي في الإنسان الآخر. إنني الآن، وأنا في هذا الموقع، أجلس مع الطّفل وأحدّثه بلغة طفولته، وأجلس مع الشابّ وأحدّثه عن تطلّعات الشّباب، لأنّني ألاحق تطلّعات الشّباب، حتى إنّني أقرأ ما لا يقرأ من أجل أن أكتشف الخلفيّات التي تؤثّر في ثقافة الشّباب وفي وجدانهم وحركتهم.

إنَّ على الإنسان الذي يحمل رسالة أن يتعلّم منها، لذا أشعر بنفسي تلميذاً لكلّ من ألتقيه، فلكلّ إنسان تجربته، وحتى تجربة الأطفال، لعلّ فيها بعض الأشياء التي تضيء فكرة هنا أو هناك، وخصوصاً لأولئك الذين بإمكانهم أن يعيشوا حتى العفويّة، فتقفز فكرة من داخل أعماقهم ومن داخل فطرتهم لتمثّل الحقيقة.

س: أعلى هذا النّهج ـ في رأيك ـ يمكن أن ينضج فكر الإنسان ووعيه؟

ج: من الطبيعي أن ينطلق الإنسان الذي يعيش قلق المعرفة ويبحث عنها في كلّ مكان، إلى آفاق الحياة، فالحياة تتطوَّر باطّراد وتنفتح على الجديد، ولست أفهم أن يكون الإنسان معلّماً من دون أن يعلم ما عنده ويتعلَّم ما عند سواه.

- شعرٌ معقَّد!

س: تقول: "لم أقرأ حتى الآن أيّ شيء يمكن أن يعبِّر عن العمق الإنساني في المحنة". ألا يعني كلامك هذا نسفاً لبعض التجارب الشعريّة المتميّزة؟

ج: تحدّثت عن العمق الإنساني، كنت أتحدّث عن جوهر الإنسان الذي يعبّر عمّا يمثّل العناصر الحقيقيّة للإنسانيّة. لقد عاش الشعراء تجربة عبّروا فيها عن المشاعر والأحاسيس السطحية التي تلامس السطحي في الإنسان ولا تلامس عمقه. ولكنَّ ذلك لا يخلو من بعض اللّمحات الإنسانيّة بين تجربة وأخرى. وأحبّ أن أؤكّد ما قرأته من بعض الترجمات العربيّة لأشعار طاغور، وفي بعض أشعار لامرتين، وفي بعض اللّمحات من الشّعر العربي، ولكني كنت أبحث عن جوهر الإنسان، بحيث إذا تمثّلت هذه التّجربة، تمثّل الإنسان فيها.

س: لكنّ قلّة من الشّعراء المعاصرين تتوصَّل إلى لمس العمق الإنساني الذي تتكلّمون عنه؟

ج: قلت إنَّ هناك بعض اللّمحات، حتى لدى الشّعراء المعاصرين، ولا أزعم أنّني قرأت كلّ الشّعر المعاصر لأحكم عليه. ولكنَّ مشكلة الشّعر العربي الحديث الذي يعبَّر عنه بشعر الحداثة، هي ما يسمَّى في علم البلاغة بالتّعَقيد المعنويّ الّذي يجعل القارئ يعيش في متاهة الفاصل بين معنى اللّفظ في اللّغة، وبين ما يختزنه الشَّاعر من معنى، لأنه يمرّ بالكثير من اللّوازم التي تتبع بعضها بعضاً، بحيث قد يتعسَّر على الذي لا يعرف اصطلاحات الشَّاعر أن يفهم مقصوده. ونحن نعرف أنَّ الشّعر يمثّل حركة الإحساس في الإنسان، في تمثّلاته الفكريّة والتجريبيّة، ولا يكون مجرَّد رموز لحالات وتعقيدات.

س: ربما كانت ذات الشّاعر تحمل هذه التّعقيدات، فالشّاعر بطبيعة الحال إنسان يعيش فوضى حواسّ ومشاعر وحياة؟

ج: حتى هذه الفوضى تحتاج إلى صيغة فنيّة يمكن أن يفهمها القارئ، لا أن يقضي القارئ وقتاً طويلاً لإيجاد الرّابط بين الكلمة والمعنى في قلب الشاعر.

- عصر البساطة

س: هل تعتقد أنّ عصرنا الحاليّ معقَّد بعض الشّيء، وقد يحتاج إلى شعر ينسجم مع إيقاعه؟

ج: أنا لا أتصوّر أنّ العصر هو عصر معقَّد، بل إنه يتطوّر نحو البساطة.

س: كيف؟

ج: البساطة التي تجعل الإنسان يتجاوز الكثير من التَّعقيدات الاجتماعيّة التي كان يتمثّلها الإنسان في الماضي، والقيود التي تحكم العلاقات بين إنسان وآخر في وسائل العيش أو وسائل الاتّصال وما إلى ذلك.. إنّ العصر أصبح يتحرّك نحو البساطة.

- حريّة.. وضوابط

س: ألا تعتقدون، سماحة السيّد، أنّ القيود أحياناً تكبّل الإنسان، لكنّها تنظّمه بعض الشّيء ولو جاءت بالإكراه، بينما الإنسان الّذي يتمتَّع بمساحة من الحريّة ـ مهما يكن حجمها ـ يضيع ويتوه؟

ج: عندما نتحدث عن الحريّة، لا نتحدَّث عن حريَّة منفردة، بل عن حرية إنسانيَّة، وهي الحريَّة التي تلتقي بمصالح الإنسان وقضاياه الحيويَّة في الحياة، ومن الطبيعي أنّ الحريّة في هذا الإطار، تمثّل حالة حركيّة في الحياة لا بدّ من أن تخضع لبعض الضّوابط.

- الالتزام في الشِّعر!

س: ما مفهومك للشِّعر الملتزم؟ وهل له معايير عامَّة، في رأيك؟

ج: الشّعر الملتزم هو الشِّعر الذي يعبِّر عن قضيَّة ومشاعر وواقع. والالتزام ليس شيئاً يتكلَّفه الإنسان، وإلا لما كان الفنّ فناً. الالتزام هو ما يعيشه الإنسان، بحيث تتحرَّك القضيَّة في مشاعره لتتحوّل إلى حالة فنيّة إبداعية تناسب فكره ونفسه، تماماً كما هو انسياب الضّوء من الشّمس والماء من الينبوع. ولا أتصوّر الالتزام في أن يفرض على الشّاعر شيء منه، فالشاعر إنسان كأيّ إنسان آخر، لا بدّ له أن يلتزم في عيشه للحياة؛ قد يلتزم الدّين، وقد يلتزم نهجاً سياسياً، وقد لا يفعل، وقد يلتزم الحريّة، وقد يلتزم الجمال... لهذا، فإن الالتزام ليس مسألة تعيش خارج نطاق الإنسان، بمعنى لكي تكون إنساناً، لا بدّ أن يكون لك موقف مما تنفتح الحياة عليه أو تتنوّع فيه.

ولذلك، لا بدَّ أن يكون الفنّ تعبيراً عن التزامك الذي هو تعبير عن إنسانيّتك المسؤولة في الحياة، وعندما يتنوّع مضمون الالتزام بين السلبي والإيجابي، لا بدّ أن يكون لنا موقف في رفض هذا الالتزام وفي القبول به تبعاً لالتزامنا. ولكنّ الشّعر يبقى شعراً حتى لو كنت لا ترتاح لمضمونه من الناحية الفكريّة.

س: ولكن ثمة من يقول إنَّه في مواجهة سؤال "التزام الشّعر"، لا بدَّ من مغامرة فكريّة مستقلَّة يقام بها لذاتها، ليكون الشِّعر أكثر إبداعاً؟

ج: علينا أن نحدِّد ما هو الالتزام؛ الالتزام هو تطلّعات الإنسان، أهدافه، نظرته إلى الواقع وتفاعله معه ومع الحياة، مع الخطوط الفكريَّة ومع القضايا المصيريَّة. لذلك، فإنّ مسألة أن تكون مسؤولاً، هي أن يكون ثمة مضمون لحركة إنسانيَّتك في الواقع أو في الإنسان الآخر. ولهذا، فإن الالتزام يختلف حسب اختلاف الأفق الّذي يعيشه الإنسان والتجربة التي يتمثّلها.

س: وهنا ربما تكمن أهميّة الشّعر الذي يميّز شاعراً من آخر؟

ج: الشّعر هو مرآة نفس الشّاعر.. إنه مرآة الشّاعر في تأمّلاته وفي تجاربه، لذلك، فإنه لا ينفصل عن إنسانيّة الإنسان، من الطبيعي أنّنا نتحدّث عن الشاعر الذي يعيش شعره، لا الشّاعر الذي يتكلّف شعره، بحيث يتحوَّل إلى نظام لما يريده الآخرون، أو لما يتحرَّك به الواقع من حوله من دون أن يلامس حسّه.

- الموقع.. والنّاس

س: ما معنى أن يقوم رجل الدّين، صاحب المؤلّفات المتميّزة، وهو المرجع الدّيني والروحي والسياسي، على أعتاب العقد السّابع من العمر، بالإعلان عن ذاته من خلال قصائد كتب بعضها في مقتبل العمر؟ هل يعني ذلك أنّ الإعلان عن الذّات بالشّعر هو خصوصيّة لا يمنحها "الديني" أو السياسي؟

ج: لا أؤمن بتعليب الإنسان في الموقع الّذي يعيش فيه، أن يكون الإنسان مرجعاً أو ذا موقع رسمي أو اجتماعي أو سياسي لا يعني أن يعلَّب، بحيث يضغط الموقع على إنسانيّته.

من الطبيعي أن يعبّر الإنسان عن أحاسيسه، لأنَّ أيَّ موقع يتّخذه هو حركة في تطوّرات حياته، ولهذا من الطبيعيّ أن يعبِّر عن نفسه بالشّعر وبالقطعة الأدبيّة النثريّة أو بالخطابة.

ربما كانت التقاليد تفرض على الإنسان في موقع ديني مميّز أن يظهر على الناس من خلال الهالة.. أنا أرفض الهالة، إنّني أحبّ في كلّ مراحل حياتي، منذ الطّفولة وحتى الكهولة، أن أعيش نفسي، لأنّني لا أحبّ أن أكون مرائياً، ولا أحبّ أن أبرز إلى الناس من خلال كلّ هذه الجدران السَّميكة التي تفصل النّاس عمّا أعيشه وأتطلّع إليه. إنّني لا أعتقد أنَّ التزامي الدّيني يبعدني عن التزامي الإنساني، وأنَّ موقعي المرجعي يبعدني عن التزامي بالحياة وبالنّاس لأعيش كأيّ واحد منهم، ونحن نقرأ في حياة النبيّ محمّد (ص)، في ما ينقله بعض أصحابه عنه، أنّه كانت لديه هذه النظرة الإنسانيّة التي كان يعيشها ويتحرَّك بها مع الناس، ونقرأ كذلك عنه في القرآن الكريم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة: 128].

لقد كان النبيّ يتحدّث ويتحرّك مع النّاس بكلّ عفويّته وتواضعه، لذلك كان النّاس يتحرّكون معه بطريقة قد لا تتناسب مع موقعه، فقد كان بعضهم يأتي إلى خارج بيته ويخاطبه بصوت عال: "يا محمّد"، حتى نزلت الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}[الحجرات: 4]، باعتبار أنّ عفويّته وتواضعه، يجعلان النّاس لا يشعرون بوجود حاجز بينه وبينهم. حتى إننا نقرأ في بعض سيرته، أنّه كان يحطّم الحواجز التي يتصوّر الناس وجودها بينهم وبينه، فقد شاهدته امرأة فارتعدت من هيبته، فقال لها: "لا عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكّة".. فلكي يبسّط العلاقة بينه وبينها، قال لها أنت كأمّي، ليس هناك حاجز بيني وبينك.. كان يسعى إلى أن يؤنسن العلاقات، بحيث لا يشعر النَّاس بوجود أيّ حاجز بينه وبينهم، ليكلّموه بصراحة، ويسألوه بحريّة، من دون أن يتمثَّلوا موقعه ليكون الموقع حاجزاً بين الطرفين. ولذلك أعتقد أنّ التقاليد التي وضعتها التفاعلات الحضاريّة لدى علماء الدين، أبعدتهم عن اللّقاء بالناس بطريقة عفويّة إنسانيّة، ولذلك ابتعدوا عن أن يفهموا الناس، أو أن يفهمهم الناس بشكل دقيق.

س: أنت لا تعيش في شخصيّتين يقتضيهما الشّعر والدّين؟

ج: أنا لا أحبّ أن أعيش في شخصيّتين؛ شخصيّة باطنيّة وأخرى خارجيّة، ولا أريد أن أكون مزدوج الشخصيّة أنطلق إلى الناس بوجهين أو بلسانين.

أريد أن أكون نفسي، ليحكم النّاس عليّ سلباً أو إيجاباً من خلال نفسي التي تبرز أمامهم بطريقة فيها الكثير من وضوح الرّؤية.

- علاقة الحبّ بالموت!

س: هل يشبه الحبّ عندك الموت في مراحله المتسلسلة؟

ج: الحبّ يمثّل هذا الاستغراق الإنساني المطلق في ما نحبّ وفي من نحبّ، بحيث لا يتحسّس الإنسان حياته، فكأنّه يعطي كلّ حياته كما تعطي الفراشة كلّ حياتها في محبّتها للنّور. لذلك، يختزن الحبّ شيئاً من الموت من جهة أنّه يعطي كلّ الحياة، بحيث لا يحسّ الإنسان، وهو يحبّ، باختياريّة في مشاعره وأحاسيسه تجاه حياته؛ إنّه يذوب في إحساسه تماماً كما تذوب الفراشة في النّور، فتفقد ذاتها عنده.

س: في ضوء ذلك، ما تعريفكم للحبّ؟

ج: الحبّ لا يمكن أن يُعرَّف؛ إنّه يُعاش، إننا لا نستطيع التَّعبير عن العطر كما هو حقاً، ولو جئنا بألف قصيدة في وصف العطر، لما استطعنا أن نتحسَّس العطر كما عندما نشمّه في الوردة.

س: أسألك بطريقة أخرى، ما الأعراض التي تنتابنا عندما نحبّ؟

ج: إنّه هذا التّوق الإنساني لما يحبّ ولمن يحبّ، بحيث يشعر الإنسان بأنّ ذاته تحوّلت إلى شيء في الآخر وابتعدت عن شيئيّاتها في داخله؛ إنه يعيش في الآخر، يتطلّع إليه، يهفو إليه، تتحرّك أحاسيسه في كلّ معانيه التي يتمثّلها في وجدانه.

س: وهل صحيح أنّ الإنسان الذي يعيش الحبّ يقترب أكثر من الله؟

ج: عندما يعيش الإنسان الحبّ، فإنه يقترب من المطلق، وعندما يقترب من المطلق، فإنّه يقترب من الله، لأنّ الإنسان يتمثّل الحبّ في بعض العناصر الموجودة في المحبوب، ومن الطبيعيّ أنّ الإنسان عندما يتمثّل هذه العناصر المحدودة في هذا أو ذاك، لا بدّ له أن يتمثّلها في الله المطلق. إنّ الذي يتجاوز الجمال المحدود في ذاته، يتجاوز كلّ العناصر الأخرى التي يحبّها الإنسان في الإنسان أمام الله.

- فقدان العدالة

س: تصرّح بفقدان العدالة الإنسانيّة، وأنّك لا تجد لها أثراً في حياتنا المعاصرة.. إذاً أين نعيش؟ ومن نحن؟!

ج: إننا نعيش أنانيّتنا الذاتيّة التي لا تنفتح على الإنسان الآخر، بل تحاول أن تضطهده عندما تصطدم عناصر الذّات لدينا بعناصر الذات لديه.

لست ضدّ الإحساس بـ"الأنا" في وجدان الإنسان الفرد، لأنّ "الأنا" هي التي تحرّكه نحو كلّ طموحاته، وهي التي تقوده إلى الإبداع، وهي التي تحميه من كلّ ما يمكن أن يعتدي على حياته أو يقتله. إنّ "الأنا" هي عنصر إيجابيّ في حياة الإنسان، ولكن السلبيّة في "الأنا" تكمن في عدوانيّتها، عندما تتحوّل إلى حالة مغلقة، وعندما تحوّل صاحبها إلى مخلوق يعيش في سجن ذاته، بحيث لا يتصوّر العالم إلا من خلال هذا السّجن الشخصي في كلّ عناصره الشخصيّة.

لهذا، فإنّ هذه الذاتيّة المغلقة أو الأنانيّة العدوانيّة هي التي حطّمت العدالة في واقعنا الاجتماعيّ، لأنّنا أصبحنا نعيش في معادلة "أنا لا الآخر" بدلاً من "أنا والآخر". لكنّنا لا بدّ أن نعيش في حياتنا هذا الإدراك الإنساني في مسألة العدالة، لنجرّب أن نخفّف شيئاً من هذا الظّلم، ولنعطي شيئاً من تجربة العدالة. إنّ وجود السلبيّات في الحياة لا يعني أن نسقط أمامها، فلا بدّ لنا أن نقتحمها لنحوّلها إلى إيجابيّات، أو لنخفّف من تأثيراتها السلبيّة في الإنسان وفي الواقع.

- تنظيم الأنانيّة

س: لكن هل تحتمل الحياة اليوم مزيداً من العدوانيّة و"الأنوات" الذاتيّة المغلقة؟

ج: هناك نقطة تخفّف من هذا التّأثير السلبيّ في حركة الوجود، وهي أنّ العدوانيّة المطلقة ربما تتحوّل ضدّ صاحبها، ولذلك بدأ الإنسان يشعر بأنّ عليه أن ينظّم حياته مع حياة الآخر، لأنّ أنانيّته الذاتيّة تصطدم بأنانيّة الآخر الذاتيّة، لذلك فإنّ استمرار الحياة عندنا هو في هذه التوازنات بين الذات والذات الأخرى، والتي قد تتحوّل إلى توازنات بين مجتمع ومجتمع آخر، أو بين محور دولي ومحور دولي آخر... وهكذا.

ولعلّ هذا مما خلقه الله في طبيعة الإنسان من عناصر الإحساس بحماية نفسه من الآخر، لأنّه ليس موجوداً وحده في العالم، بل إنّ العالم يمثّل وجوده ووجود الآخر. ومن هنا، لا بدّ له أن يعيش وجوده في وجود الآخر، بمقدار ما يحمي وجود الآخر بوجوده.

س: وكيف يلعب الدّين دوره هنا؟

ج: إنّ دور الدّين هو أن يقتحم النفس الإنسانيّة ليخلق فيها هذا النوع من التّوازن.. إنّ من خصوصيّة الإسلام هو هذا التّوازن بين المادّة والروح، وبين الفردية والجماعيّة، وبين العقل والغريزة. لذلك، فإنّ دور الدّين هو أن يطهّر الإنسان من القذارات الروحيّة والماديّة التي قد تحوّله إلى وحش، إلى حالة حيوانيّة وحشيّة في مواجهة الآخر. إنّ قيمة الدين في كونه يعمّق في الإنسان إحساسه بإنسانيّته في إنسانيّة الآخر، أي يتمثّل نفسه في الآخر، بحيث يتطلّع إلى الآخر في تلك الدّائرة التي يتطلّع فيها إلى نفسه: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها". وفي حديث نبويّ شريف آخر: "يا بنيّ، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها".

- الدّين.. والمشاكل الوجوديّة

س: هل تعتقدون أنّ التجربة الإنسانيّة عبر التاريخ برهنت أنّ الدّين استطاع أن يقدّم حلولاً للمشاكل الوجوديّة؟

ج: لم يستطع الدّين تحويل الإنسان إلى ملاك يحلّق في المطلق، لكنّه استطاع أن يضع بعض النماذج التي يتمثّل فيها شيء من هذه الملائكيّة.

ليس الدين أمراً مفروضاً على الإنسان في تكوينه، بل إنّه مسألة تتحرّك في عقل الإنسان لتصطدم بغرائزه، ولتنفتح على كلّ ما حوله ومن حوله، وهذا ما جاء في الآية الكريمة: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}[يوسف: 53].

لذلك، فإن تمثّل الإنسان للدّين تجربة صعبة لا بدّ أن يواجهها بالكثير من المعاناة، ولذلك اعتبرت هذه المعاناة النفسانيّة التي يربي فيها الإنسان نفسه، هي الجهاد الأكبر، فعندما يقتحم الإنسان نفسه ليكون مدّعياً أو مدَّعى عليه، يكون مجاهداً يعيش الشّيء وضدّه، وقد يسقط الإنسان أمام هذا النّوع من الصّراع النفساني تحت تأثير البيئة والعناصر المحيطة به.

- هل من قصائد مخفيّة؟

س: بعد كلّ ما ذكرتموه سماحة السيّد، أسألكم ثانيةً، هل طمست ممارستكم الدينيّة هويتكم الشعريّة؟

ج: لقد عشت الدّين في الهواء الطّلق، وفي الصّحو المبدع، ولذلك عشت الشّعر ليتنفّس في رحاب الله، ولذا لم يبتعد إحساسي الشّعري عن إحساسي الدّيني.

س: هل من قصائد كتبتها وأخفيتها، وربما يكون بعض منها متناقضاً مع مكانتك الدينيّة؟

ج: نشرت كلّ قصائدي، بما فيها تلك التي لا تتناسب مع موقعي الدّيني، ومن ذلك ديوان "على شاطئ الوجدان".

- ورقة التّوت!

س: هل يعتبر السيّد فضل الله أنّه "تعرّى" تماماً أمام نفسه وأمام قرّائه من خلال شعره؟

ج: من الطبيعي أنّ الإنسان يتجدّد ويتطوّر، فأنا في هذه المرحلة من حياتي، أختلف عن المرحلة التي عشتها سابقاً.

س: وهل ثمة بعض خجل من شيءٍ ما في مرحلة عشتها في السّابق؟

ج: أنا لا أخجل مما عشته، ولكنّي قد أخجل مما أعتبره خطأً، أخجل لأني كنت أحبّ ألا يكون وقد كان. ولذلك، لم أخف هذه الأخطاء، بل عرضتها على الناس، واعترفت بأنني تطوّرت وقمت بعمليّة نقد ذاتي.

س: ألا تحتفظون سماحة السيد "بورقة توت" ما؟

ج: من الطبيعي أن هناك من الأمور التي تدخل في حساب الأحاسيس، ولا سيّما أمام ضعف النّفس، مما لا يبديه الإنسان للآخر. وليس من المفروض أن نعيش نقاط الضّعف التي يختزنها الإنسان بين وقت وآخر مع النّاس، لأنها لا تهمّ الناس، ولا تدخل في مسؤوليّة الإنسان، إنّ على الإنسان أن يقدّم مما في نفسه للنّاس مما يتصل بحياتهم، أمّا الأشياء التي لا تتّصل بحياة الناس، كأن يشتهي هذه الأكلة أو تلك، هذا الشّراب أو ذاك، أو ينفتح على هذه اللذّة أو على تلك الشّهوة، فهذه ليست من اهتمامات النّاس.

وربما يحتاج الإنسان إلى أن يعيش بعض خصوصيّاته، ليتحسّس نفسه في ذاته، لأنه عندما يطرح كلّ نفسه للنّاس، فإنه يفقد استقلاله الذّاتي، ولذلك يحتاج إلى أن يعيش شيئاً من هذه الاستقلاليّة.

س: وكم تدوم لحظات الضّعف التي قد تعيشونها؟

ج: بمقدار ما أكتشف سلبيّاتها.

س: ربما تدوم طويلاً؟!

ج: قد تدوم طويلاً، لأنّ الإنسان ضعيف {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}[النساء: 28]..

- تفاوت فنّيّ

س: نلاحظ تفاوتاً في مستوى قصائدكم من الناحية الفنيّة، كيف تفسّر هذا التفاوت؟

ج: من الطبيعي لمن يعيش التجربة الشعريّة، أن يعيشها في تنوّع من حركة الشّعور أو من طبيعة التجربة، فقد تضعف التجربة، وقد يتيه الشّعور والإحساس في بعض الحالات.. ولهذا من الصّعب في دراسة تجربة أيّ شاعر أو أيّ أديب، أن يجد الإنسان تجاربه متساوية في مستواها الإبداعي.

س: وهل يحدث هذا التفاوت حتى على الصعيد التقني.. ألا يرتبط العمل "تقنياً" بمعايير ثابتة؟

ج: كما يعيش الإنسان نقاط ضعفه في ذاته، قد يعيش نقاط ضعفه في فنّه، وهذا ما يعبّر عنه في أمثال عربيّة بالقول: "إنّ السيف قد ينبو، وإن الجواد قد يكبو".

- شعورٌ بالغربة!

س: يقال: "بدأ الشّعر غريباً وغريباً سيعود الشّعر"، على الرّغم من كلّ المصالحة التي تعيشها مع ذاتك، هل لا تزال تتحسّس طعم الغربة؟ وهل ما زلت تصارعها، أم أنّك تأكّدت من أنها جزء من ذاتك؟

ج: قد يشعر الإنسان بالغربة عندما يعيش بعض تطلّعات أو آفاق أو أحلام لا يجد لها فرصة للتّحقيق واقعياً، فيشعر بأنّه يغرّد خارج سربه، أو يعيش خارج موطنه، لأنّ الموطن ليس أرضاً يعيش الإنسان فيها، ولكنّه الأفق الداخلي الذي يعيش في عقله وقلبه وإحساسه وشعوره.

س: إذاً تعيش الغربة على الرّغم من كلّ الظروف المحيطة؟

ج: أعيش الكثير من الغربة، والكثير من الأحاسيس الّتي تنبع من الوجدان الذي يقوم بجولة دائمة في مفردات الواقع.

س: بلا جواز سفر؟

ج: حركة الإنسان في عالم الفكر والإحساس لا تحتاج إلى جواز سفر، لأنّها تتجاوز الحدود، ولا تعترف بالمواقع الجغرافيّة.

س: لكنّها جولة تبدو باهظة الثّمن؟!

ج: من الطبيعي أن يكون كلّ شيء يدخل في العنصر الإنساني الحيويّ غالي الثّمن.

- شعر.. رسم.. وموسيقى!

س: لمن تقرأ من الشّعراء، وبمن تأثّرت؟

ج: لم أتأثّر بشاعر معيّن على النّحو الذي أعتبر نفسي فيه من مدرسته، ولكنّي قرأت لأكثر الشّعراء في مرحلة الشباب. لقد قرأت مبكراً الأخطل الصّغير وأحمد شوقي، ولشعراء لبنانيّين مثل الياس أبو شبكة، وقرأت الجواهري، ومن الأقدمين المتنبي وأبو تمام والبحتري وسواهم.. وأنا لا أزال معنيّاً بأن أقرأ كلّ تجربة شعريّة، حسب ما يسمح به وقتي الآن.

س: ما هو المشترك بين هؤلاء الذين قرأت لهم؟

ج: لا أظنّ أنّ شيئاً مشتركاً بينهم، "فهم في كلّ واد يهيمون" (يضحك).

س: كشاعر، ما مدى علاقتك بسائر الفنون الأخرى، كالرّسم والموسيقى والغناء؟

ج: لا أملك موهبة الرّسم، ولكني أتفاعل مع الرّسم، وكذلك لم أعش تجربة موسيقيّة، لأنّ الظروف لم تهيّئ لي ذلك، ففي بدايات حياتي، كنا نقتدي بالفتوى التي تحرّم الموسيقى جملةً وتفصيلاً، ولكنّي في اجتهاداتي، أجد أنّ الموسيقى المحرَّمة هي التي تثير الغرائز، وتقمع النفس بالعنف وما إلى ذلك، أمّا الموسيقى الهادئة والمنفتحة التي تحلّق بالإنسان في أجواء الروح، فأمر مختلف تماماً.

س: ما رأيك بأغاني محمد عبد الوهاب وأمّ كلثوم.. ألم تسمعها؟

ج: لم أعش هذه التّجربة.. ولم أعرفها بكامل معناها..

- شاعر من دون قصيدة!

س: ماذا ينقص رجل الدين إذا لم يكن شاعراً؟ وماذا ينقص الشّاعر لو لم يتّكئ على الدّين؟

ج: لا أعتقد أنّ الجانب التعبيريّ هو كلّ شيء، فربما يكون الإنسان شاعراً من دون أن يكتب بيتاً واحداً من الشّعر، وقد يجعله ما يعيشه من الإحساس بالوجود وبالجمال وبحركة الحياة وبمعنى الإنسانيّة، مبدعاً في شاعريّته. الشعورية ـ إذا جاز التّعبير ـ أكثر من كتابة الشّعر في حدّ ذاته. وقد يعيش الشاعر آفاقاً من الشّعر في تأمّلاته وتطلّعاته وأحاسيسه أكثر مما يكتب.. وقد قرأت لبعض الشعراء الرّمزيين: ربّ ورقة يضعها شاعر أمامه ليكتب عليها شعراً، فيستعصي عليه الشّعر، قد تكون أجمل من أبدع قصيدة ينظمها. وأعتقد أنّ القصد هو أنّ هذه الرّوح الشّاعرة تريد أن تنسكب في الورق، لكنّ الحواجز تحول يبنها وبينه، هذا القول يعبّر عما يختزنه الشّاعر من القصائد في داخل شعوره، مما لا يملك أن يعبّر عنه بالكلمة.

س: إذاً، يمكن لرجل الدّين أن يكون شاعراً بتدفّق مشاعره وأحاسيسه، وأن يكون الشّاعر رجل دين بإنسانيّته؟

ج: إنّ الدّين الذي يحلّق بالإنسان في آفاق المطلق، وفي رحاب الله خالق الجمال والطبيعة والإنسان.. إنّ هذا الدّين هو الذي يفجّر الشّعر في نفسه إذا عاشه الإنسان في آفاقه، ولم يعشه في الدّوائر المغلقة التي تحبسه في داخل قمقم لا ينفتح على الهواء.

- المرأة الإنسانة والدّور

س: كيف ينظر السيّد فضل الله إلى المرأة الملهمة؟

ج: تختلف النّظرة إلى المرأة من موقع إلى آخر، فثمّة نظرة إلى المرأة من موقع حركة الحيوان في حسّه، وهناك نظرة إليها من خلال حركة الإنسان في وعيه. إنّ الإنسان قد يلتقي بالمرأة في حركة الحيوان في حسّه، ولكنّ ذلك لا يدوم، لأنّه مجرّد لحظة، على عكس ما يحدث عندما يعيش الإنسان الجمال في معناه الرّوحيّ، لينفتح به على الآفاق التي تتمثّل فيها عناصره، عندما يتمثّل إنسانيّة المرأة، والنقاء والطّهر والصّفاء فيها، بحيث إنّه ينطلق من جمال الجسد إلى روحيّة الجمال، وهذا ما عبّر عن بعضه الشّاعر "الأخطل الصغير".

س: والأمّ.. كيف تصفها؟

ج: لا أستطيع التعبير عن الأمّ، لأنها هذا الينبوع المتدفّق الذي يعطي من دون أن يسأل إلى أين يتّجه العطاء، إنها ينبوع يعطي بكلّيته. إنّ الأمّ تعطي الجنين من دمها وغذائها وقوّتها وحياتها وآلامها وأحلامها، ما يجعله ينمو في هذا الجوّ داخل الرّحم، ثم عندما تضعه وتحتضنه وترضعه، فإنها تعطيه كلّ روحها ونفسها، بحيث يرتضع الحليب من ثديها وهو يعيش روحها في الحليب. لذا، نجد أنّ الإرضاع الطبيعي لا يمنح الطفل الغذاء فقط، ولكنّه يمنحه كلّ الدّفقات من الحنان والإنسانيّة والروحيّة التي تنساب إليه من أمّه وهي ترضعه. وهكذا تعيش الأمّ بالمستوى الذي تفقد فيه ذاتها مع ولدها.

حين توفّيت أمّي سنة 1992م، رثيتها في قصيدة "رحماك في روح أمّي"، فقلت:

وتبقى الحياة

وتهرب منّي جمالاتها

حكاياتها

في طفولة عمري

غنائيّة الهدهدات الحميمة

أراجيح روحي التي يشهق الضّياء

بهزّاتها

ويغفو العبير

على وحيها الضّائع الأمنيات

وأمضي

وترحل بي الذّكريات

تغيب طويلاً بوعي الضّباب

وتشرق بسمةً...

س: وكيف ترى إلى دور المرأة في المجتمع؟

ج: إنّ المرأة إنسان لا بدَّ أن يعيش دور الإنسان كلّه في المجتمع، مع الخصوصيات التي تتمثّل في معناها كامرأة، كما أنّ الرّجل لا بدّ أن يعيش دوره كإنسان في المجتمع مع خصوصيّاته كرجل: يقول الله جلّ جلاله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}[الأعراف: 189]. إذاً هناك شيء من المرأة في الرّجل، وشيء من الرّجل في المرأة {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}[البقرة: 187].

س: هل تؤمن بالمساواة بين الرّجل والمرأة؟

ج: إنَّ علينا أوّلاً تحديد معنى المساواة، هل تعني مساواة المرأة للرّجل أن تعيش المرأة ذكورة الرّجل، أو أن يعيش الرّجل أنوثة المرأة؟! إنّ ذلك لا يعني المساواة، بل يعني فقدان الشخصيّة في الآخر، وأن لا يكون الإنسان نفسه.

إنَّ المساواة هي أن تأخذ المرأة حقوقها في إنسانيّتها، وأن يأخذ الرّجل حقوقه في إنسانيّته، وألا يكون الرّجل سيّد المرأة الذي يلغي شخصيّتها، وألا تكون المرأة ظلاً للرّجل، بحيث تذوب شخصيّتها فيه. المساواة هي أن تعيش المرأة أنوثتها في إنسانيّتها، وأن يعيش الرّجل ذكوريّته في إنسانيّته، لتتكامل الإنسانيّة في هذين النَّوعين بعلاقة الذّكورة والأنوثة التي قد تميّز كلّاً منهما ببعض الأحاسيس والمشاعر والأدوار التي تتمثّل في امتداد الجنس البشري، حيث تمتزج المادّة بالرّوح في ذلك كلّه.

إنّ على الرّجل أن يعترف بإنسانيّة المرأة كإنسان له عقل وإرادة وحريّة في النطاق الذي تتحرّك فيه الحريّة في خطّ المسؤوليّة، كما تعترف المرأة للرّجل بذلك. وبعبارة أخرى، أن يعترف كلّ منهما بالخصوصيّات التي تمثّل تنوّعه الذّاتي.

- بين حجاب المرأة وتسليعها!

س: هل يلتقي رجل الدّين والشّاعر في شخص فضل الله حيال النّظرة إلى حجاب المرأة؟

ج: عندما أتمثّل المرأة إنساناً، فأنا لا أرى الحجاب مسيئاً إلى إنسانيّتها، بل إنّني قد أتمثّل "ضدّ الحجاب" في أنّه يسيء إلى إنسانيّتها، لأنه يجعلها من ضمن ما يختزنه الرّجل من نظرته إلى المرأة في الإطار الجنسي.

إنّ خروج المرأة سافرة بالطّريقة التي تعارف عليها النّاس، قد يجعل الرّجل يتصوّرها كأنثى لا كإنسانة، كما أنّ المرأة أصبحت تشعر من خلال وسائل الحضارة الحديثة (الإعلام والرواية والقصّة) بأنوثتها أكثر مما تشعر بإنسانيّتها. لذلك، فإنّ الحجاب المعتدل قد يغرس في نفس المرأة معنى الإنسان، وأنها ليست مجرَّد جسد، بل إنسان يمتلك عقلاً، ويجتذب نظرة الناس إليه في عقله وإنسانيّته وليس في جسده.

س: كيف تنظر إلى استخدام المرأة اليوم كسلعة ترويجيّة في وسائل الإعلام؟

ج: إننا نرفض ذلك، لأنّ ذلك يوحي للمرأة وللرَّجل بأنَّ الجسد هو القيمة وليس العقل.

س: هل بإمكان المرأة أن تكافح "تسليعها" من خلال الحجاب فقط؟

ج: الحجاب إحدى الوسائل، لكنّنا لا نعتقد أنّ الحجاب يعصم المرأة، ولكنّه يهيّئ بعض المناخات. لذلك، لطالما قلت من قبيل الطّرفة: "إنّ الحجاب هو أمر يسلّم به الجميع، ولكنّ الفرق في قطع الثّياب".

- حلم السيّد..

س: أخيراً، بماذا يحلم السيّد فضل الله وهو في هذا العمر؟!

ج: أحلم بأن أبقى في روحيّة العطاء للإنسان الآخر، أحبّ أن تكون حياتي متحرّكة في الإنسان الآخر، أن أعطي الفكر والرّوح والحياة، حيث يتحرّك الزّمن في رحلة العمر، فلا تفلت منه لحظة من دون عطاء.

إنّني وأنا في هذه المرحلة من العمر، لا أشعر بأيّ لذّة حسيّة، أو بأيّ جانب حسّي، ولكن لذّتي في كيف أعطي أكثر، وكيف أنتج أكثر، كيف أكتب وأفكّر وأحاضر وأعظ، وكيف أعيش مع الله.

س: هل تعتبرون أنّكم في هذا العمر وصلتم إلى قمّة النّضج؟

ج: لا أعتقد أنّ بإمكان الإنسان الوصول إلى قمّة النّضج.. إنّني أشعر بأنني أتعلّم من كلّ من ألتقي، ومن كلّ ما ألتقي، وأعتقد أنّ الإنسان الذي يشعر بأنّه وصل إلى دور المعلّم، وفقد دور التّلميذ، يبدأ بالتراجع.

* مقابلة أجرتها مجلّة الخليج الثقافي مع سماحته، بتاريخ: 8/1/2001م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية