نلتقي بذكرى وفاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، وعندما نريد أن نتحدّث عن
أئمة أهل البيت(ع)، فإننا نتحدث عن قمم الروح والفكر والجهاد والانفتاح على الواقع
الإسلامي كلّه، من موقع القيادة والريادة والمسؤوليّة.
والإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) عاش مرحلته في حركة العلم في جميع حاجات الناس
آنذاك، وعندما ندرس حركته من خلال الذين تعلّموا منه ورووا عنه، فإننا نجد أن
مدرسته كانت تتميز بالتنوّع في الذين أخذوا منها ما أخذوه من علم، فلم تكن مدرسةً
مذهبية، بحيث تقتصر على الذين يلتزمون بإمامته، بل كان فيها مرجعاً لكل الناس الذين
يتنوّعون في اهتماماتهم.
رواة أحاديثه
وقد ذكر الشيخ المفيد (رحمه الله)، أنّه "قد روى الناس عن أبي الحسن الكاظم (ع)
فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب الله، وكان الناس بالمدينة يسمّونه زين
المجتهدين، وسمّي بالكاظم (والكظم هو الحبس)، لما كظمه من الغيظ وصبر عليه من فعل
الظالمين به، حتى مضى في حبسهم ووثاقهم.
وروى عنه (الخطيب المؤرّخ) في (تاريخ بغداد) و(السماني) في (الرسالة القوامية)،
و(أبو صالح أحمد المؤذن) في (الأربعين)، و(أبو عبدالله بن بطّة) في (الإبانة)،
و(الثعلبي) في (الكشف والبيان)، وكان الإمام (أحمد بن حنبل) ممن روى عنه، قال: "حدّثني
موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد، وهكذا إلى النبي (ص)، ثم قال أحمد: "وهذا
إسنادٌ لو قُرئ على المجنون لأفاق"، لأنه إسناد رفيع ينفتح على هذه الرموز كلها
التي تمثّل الغنى العلميّ والروحيّ كلّه، في مواقع الحياة كلّها، وفي خطوط
المسؤولية كلّها.
وقد كان الإمام (ع) معنيّاً بأن يوجّه الناس إلى أن يسألوا عمّا جهلوه في مواقع
مسؤوليّاتهم المعرفيّة كلها، سواء فيما يجب أن يعتقدوه، أو فيما يجب أن يعيشوه من
المفاهيم العامّة التي تحكم نظرتهم إلى الحياة وإلى الكون وإلى الواقع كلّه،
وتصوراتهم لله تعالى وللنبي (ص) ولخطوط الإسلام الكبرى كلّها...
تجويد القرآن
وعندما ننفذ إلى داخل حياة الإمام الكاظم (ع)، فإننا نقرأ في سيرته أنّه كان أحسن
النّاس صوتاً في القرآن، فكان إذا قرأ القرآن، يقرأه بالصوت الحسن الذي يخشع له
السامعون، ولعلّ ذلك ينطلق من أنّ الصوت الحسن يعطي الكلمة تجسيداً، بحيث تملأ
الكلمة القرآنية عقلك وقلبك، فتتعمّق فيك أكثر مما إذا قرأتها بشكلها الطبيعي
العادي، ولذلك ورد في القرآن قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا}، {وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلًا} ، لأنّ الصّوت بحسب تفاعل الإنسان معه، فقد يجسّد الباطل إذا كان
الكلام يتضمّن الباطل، وقد يجسّد الحقّ إذا كان الكلام يتضمّن الحقّ.
عبادته في السّجن
وعندما يتحدّث المحدثون عن عبادته وهو في السجن، فإنهم يروون عن أحد سجّانيه قوله
لشخص اسمه (عبدالله) قال: "دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح، فقال لي:
أشرف على هذا البيت وانظر ما ترى؟ فقلت: ثوباً مطروحاً، فقال: انظر حسناً، فتأمّلت
فقلت: رجل ساجد، فقال لي: تعرفه؟ هو موسى بن جعفر، أتفقّده اللّيل والنّهار، فلم
أجده في وقت من الأوقات إلا على هذه الحالة؛ إنّه يصلّي الفجر، فيعقّب إلى أن تطلع
الشمس، ثم يسجد، فلايزال ساجداً حتى تزول الشّمس، وقد وكّل من يترصّد أوقات الصلاة"،
لأنّ البيت كما يبدو كان مظلماً "فإذا أخبره، وثب يصلّي من غير تجديد وضوء، وهو
دأبه"، لأنه يعرف أنه لم ينم، "فإذا صلّى العتمة أفطر، ثم يجدّد الوضوء، ثم يسجد،
فلايزال يصلّي في جوف الليل حتى يطلع الفجر".
وقال بعض عيونه: كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه: "اللّهمّ إنّك تعلم أنني كنت
أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت ولك الحمد". فكان يريد أن يعيش مع الله
ليله ونهاره، وأن يناجيه ويبتهل إليه أن يتحدّث معه حديث الحبيب إلى حبيبه، وكانت
أشغاله قد تحول بينه وبين ذلك، وإن كانت أشغاله عبادة متحرّكة مع الله، لكنه أراد
عبادة المناجاة وعبادة الروح وعبادة التفرّغ إلى الله من موقع القلب المفتوح عليه
سبحانه وتعالى.
ولذلك، فإنه يحمد الله على سجنه، كما لو كان نعمة أنعمها الله عليه، وكان يقول في
سجوده: "قَبُحَ الذّنب من عبدك، فليحسُن العفو والتّجاوز من عندك"، وكان يتحدّث لا
عن ذنب، ولكن عن تواضع لله سبحانه وتعالى، وعن استغفار لمعنى الإنسان ومعنى العبد
في داخل ذاته. ومن دعائه: "اللّهمّ إني أسألك الراحة عند الموت، والعفو عند الحساب".
وهذا مما ينبغي لكلّ واحد منا أن يعيشه، لأنّ الإنسان يمرّ بعقبتين عندما يموت، فقد
يموت متعباً من ذنوبه، مرهقاً من خطاياه، قلقاً عل مصيره، وقد يموت تائباً، فإذا
مات مطمئنّاً، فإنه يعيش الراحة في نفسه، ويتقبَّل الموت بفرح، وأمَّا العقبة
الثانية، فهي عند الحساب، لأنّ الذي يحاسب هو الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ
وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} العالم بالسرّ والنجوى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى
ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا
أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}. ولذلك، فالإنسان عندما
يقف أمام ربّه، يشعر بالخوف من الخسارة، إلا أن يأتيه العفو من الله سبحانه وتعالى.
رعايته للفقراء
وكان يتفقّد فقراء أهل المدينة، يحمل إليهم في اللّيل الأشياء العينية والورق وغير
ذلك، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أيّ جهة هو، وكان يصل بالمئة دينار إلى
الثّلاثمئة دينار، وكانت صرار موسى مثلاً.
صورة من أخلاقه
أمّا أخلاقه، فينقل لنا كُتّاب سيرته قصّة ملفتة للنّظر لسعة الصّدر، وفي الأسلوب
العملي لما أراده الله من أن نحوِّل أعداءنا إلى أصدقاء {وَلَا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}. وينقل كُتّاب سيرته كما
جاء في (الإرشاد) لـ(الشيخ المفيد): "إنّ رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة
يؤذي أبا الحسن موسى الكاظم (ع)، ويسبّه إذا رآه ويشتم عليّاً (ع)، فقال له بعض
جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي، وزجرهم أشدّ الزجر،
وسأل عن العمري أين هو، فذكر أنّه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في
مزرعته، فدخل المزرعة بحماره، فصاح العمري، لا توطئ زرعنا، فتوطّأه أبو الحسن
بالحمار، حتى وصل إليه وجلس عنده وباسطه وضاحكه، وقال له: كم غرمت في زرعك هذا، أي
كم صرفت عليه؟ فقال له مائة دينار، قال: وكم ترجو أن تصيب فيه؟" أي تربح، "قال:
أرجو فيه مائتي دينار، قال: خُذ هذا المبلغ وهذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما
ترجو، قال: فقام العمري فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه"، أي عمّا فرط منه من
السوء، "فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف".
قال: وراح إلى المسجد، فوجد العمري جالساً، فلمّا نظر إليه قال: "والله أعلم حيث
يجعل رسالته"، قال فوثب أصحابه إليه، فقالوا ما قصَّتك؟ أي قالت له زمرة الحاقدين:
قد كنت تقول غير هذا. فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن،
فخاصموه وخاصمهم".
وهنا محلّ الشاهد، فالإمام أراد أن يعطي أصحابه درساً في الحُلُم، فلما رجع أبو
الحسن إلى داره، قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: "أيما كان خيراً، ما أردتم
أو ما أردت؟ وإنّني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شرّه".
محادثة العلماء
وكان الإمام الكاظم (ع) يريد من الناس أن يحادثوا العلماء في أيّ علم كانوا فيه، إذ
ليس من الضروري أن يكون العلماء علماء الفقه، وإن الإسلام في الوقت الذي يؤكد على
علم الإنسان الذي يتصل بالعقيدة أو بالشريعة وبجوانب المسؤولية كلها، ويؤكد أيضاً
على كل العلوم التي يحتاجها الإنسان في الحياة فيما يقيم أمره ويقوّي موقعه، ويؤكد
عزّته وحريته وكرامته، كان يقول: "محادثة العالم على المزابل"، يعني لو فرضنا أن
هذا الإنسان المثقف يجلس في مكان مثل المزبلة "خير من محادثة الجاهل على الزرابي"
والزرابي هي البسط والفرش.
وجاء في حديثه عن رسول الله (ص) قال: "دخل رسول الله (ص) المسجد، فإذا جماعة قد
أحاطوا برجل، فقال ما هذا؟ فقيل علّامة، فقال: وما العلاّمة؟ فقالوا له: أعلم الناس
بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والأشعار العربية، فقال رسول الله (ص): ذلك
علمٌ لا يضرّ من جهله"، لأنّه لا يتصل بواقع الحياة، ولا بشيء من مسؤوليتك في
الحياة من حولك، "ولا ينفع من علمه"، وأيضاً لا يزيد في علم الإنسان المسلم، بمعنى
أنه حشو، "إنما العلم ثلاثة: آية محكمة"، بها تستطيع أن تتعرّف كتاب الله وتنتفع به
فيما يملأ عقلك بمعرفة الله وبمعرفة ما يتفرّع عن ذلك كلّه من رسالاته ورسله
وملائكته وما إلى ذلك...
معرفة الحقيقة
وهكذا أعطى الإمام الخطّ في كيفية تعرّف الإنسان الحقيقة الإسلامية، (عن يونس بن
عبد الرحمن) قال: قلت لأبي الحسن الأوّل، وهو الإمام الكاظم، بمَ أوحِّد الله؟ قال:
"يا يونس، لا تكن مبتدعاً، من نظر برأيه هلك"، بعيداً من الكتاب والسنّة، "ومن ترك
أهل بيت نبيِّه ضلّ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر". والمقصود من نظره في رأيه،
هو اعتبار استحساناته الذاتية أساساً لاعتبار الحكم الشّرعي من غير حجة شرعيّة من
كتاب أو سنّة، وهما المصدر الأساس لأحكام الله.
ونلاحظ ـ في هذا المجال ـ أنّ الإمام قد لا يقصد من الموقف السلبي من النظر بالرّأي
لرفض حركة الرأي في الإنسان كوسيلة من وسائل التفكير في معرفة الأشياء، بل إنّه
يريد التأكيد أن الراي في الحكم الشرعي لا بدّ من أن ينطلق من الوسائل التي جعلها
الشارع تأسيساً أو إمضاءً لاستنباطه، والقياس ليس من هذه الوسائل، لأن حجيّته لم
تثبت من كتاب الله وسنّة نبيّه، أمّا ترك أهل البيت في الأخذ منهم مما رووه عن رسول
الله، فيؤدّي إلى الضّلال، لأنهم يملكون الحقيقة مما قاله النبي (ص) في تفسير
القرآن وتشريع الأحكام، لأنّ النبيّ جعلهم حجّة إلى جانب القرآن، وذلك في حديث "الثقلين"،
وهذا هو الخطّ.
بين الرّشيد والكاظم (ع)
وهذه هي بعض المفردات في حياة الإمام الكاظم (ع)، وعلينا أن نعرف أنَّ هذا الإمام
كان يملك امتداداً واسعاً في الواقع الإسلامي، حتى إنّ الرشيد كان يخافه على ملكه
لفرط ما شاهده من إقبال الناس عليه ورجوعهم إليه حتى في حقوقهم الشرعيّة، وكان يرى
في الإمام (ع) قوّة الموقف وصلابته، حتى إنه، وفي مقام استعراضه أمام الناس قرابته
من رسول الله (ص)، فإنه عندما زار المدينة ووقف أمام قبر النبي (ص)، قال: "السلام
عليك يا بن العمّ". وشعر الإمام الكاظم (ع) وهو واقف هناك، أن الرشيد يريد أن يضلّل
الناس بالإيحاء أنه الأقرب إلى رسول الله، وبذلك فهو الأحقّ بالخلافة، ولم يكن
الإمام في مقام استعراض من رسول الله (ص)، لأنه ليس بحاجة إلى ذلك، ولكنه أراد أن
يردّ هذا التحدّي، فوقف على القبر وقال: "السّلام عليك يا أبه"، وكأنه يقول، إذا
كان رسول الله (ص) ابن عمّك، فأنا ابنه، لأني ابن بنته.
وقد قرّر الرشيد إزاء كل هذا الواقع، أن يعتقل الإمام الكاظم (ع)، فوقف أمام قبر
رسول الله (ص)،كما يروي كتّاب السّيرة، وقال أريد أن أعتذر من أمر أنا فاعله، أريد
أن أسجن موسى بن جعفر، لأنه شقّ عصا المسلمين. وهذه هي الكلمة التي يتحرّك بها كلّ
الحكّام الظالمين... باعتبار أنّ الثّورة عليه تمثل تفريق الأمّة.
وهكذا نقل الإمام من سجن إلى سجن، لأن السجّانين كانوا يعترضون على الرشيد بالقول
إننا لم نسمعه يدعو علينا ولا عليك، ولكنه كان يقضي وقته بالعبادة، ونحن لا نتحمّل
ذلك، كما قال أحد أقرباء الرشيد للرشيد، أنه لا يتحمّل بقاءه في سجنه، فنقله من سجن
إلى سجن، حتى وضعه في سجن (السندي بن شاهك)، الّذي وجّه إليه الرشيد التعليمات بأن
يدسّ السمّ للإمام، ولذلك مات الإمام مسموماً بعد أن قضى في سجون الرّشيد مدة طويلة،
وهو الوحيد من الأئمّة الذي استمرّ سجنه هذه المدّة الطويلة، ولكنه لم يضعف ولم
يهِن ولم يلِن، بل بقي في موقع القوّة والصلابة والعنفوان والإخلاص لله تعالى
ولرسوله (ص) وللإسلام وللأمّة كلّها.
وعلينا ـ أيها الأحبة ـ عندما نتذكره، أن نعيش فكره ومواعظه ووصاياه، وأن نحوّل
كثيراً من الخطوط التي خططها ليتحرك الناس في خط الاستقامة إلى برامج عمل في حياتنا،
وهذا هو معنى الولاء للإمامة، الذي هو ليس مجرّد دمعة على المأساة، ولا مجرّد فرح
على الميلاد، بل هو الخطّ العملي الذي هو خطّ الإسلام الأصيل في مسيرة الإنسان إلى
الله عزّ وجلّ.
وهذا هو سرّ الإمام الكاظم (ع)، ونحن نريد من كلّ الذين يثيرون ذكريات الأئمّة (ع)،
أن يربطوا الناس بالخطوط الفكرية والعملية التي انطلقوا بها في الحياة، لأنّ
إمامتهم هي أن يكونوا أمامنا في مسيرة الإسلام التي تبدأ من الله وتنتهي إليه.
*من كتاب "الندوة"، ج 5.