الإمام الكاظم(ع).. ولادته وإمامته وصفاته

الإمام الكاظم(ع).. ولادته وإمامته وصفاته

لم يكن الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر أكبر أولاد الإمام الصادق، ولعله كان ثالث أولاده أو رابعهم، وأكبرهم عبد الله الأفطح، وبه كان يكنى. وتشير أكثر الروايات إلى أن الإمام موسى بن جعفر الصادق ولد في الأبواء، وهو مكان يقع بين مكة والمدينة، وفيه قبر آمنة بنت وهب أم النبيّ (ص) في السابع من صفر سنة 128، وأولم الصادق(ع) بعد ولادته، فأطعم الناس ثلاثاً، كما جاء في رواية البرقي في المحاسن، من أم أندلسية، وقيل بربرية يقال لها حميدة، كانت على درجة عالية من الصلاح والتقوى، وبقي مع أبيه نحواً من عشرين عاماً، أدرك فيها عهد الأمويين وهو في دور الاحتضار يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يوم ذاك في سنّ الطفولة، وشاهد وهو في هذه السن وبعدها، وفود العلماء وطلاب العلم من جميع الأقطار تغصّ بهم المدينة، وقد ازدحموا على أبيه شباباً وشيوخاً، وهم ما بين مستمع يأخذ منه العلم والحديث، وبين من يناظره في التوحيد والتشبيه والقدر والإمامة، وغير ذلك من المواضيع التي شاعت في ذلك العصر وتشعّبت فيها الآراء. ومضت العشرون عاماً، وهو إلى جانب أبيه الصادق (ع)، يلقنه من فنون العلم وطرائف الحكمة ما يؤهله إلى الإمامة العامة التي تنتظره في الغد القريب، حتى أصبح وهو في مطلع شبابه مصدر إعجاب العلماء وتقديرهم، وحكماً مفضلاً في حل أكثر المشاكل تعقيداً وتشعباً.

ولعلّ فيما رواه الرواة عن الحوار الذي جرى بينه وبين إمام المذهب الحنفي أبي حنيفة، وشهادة أبي حنيفة له بعد نهاية الحوار، وهو يوم ذاك لم يتخطّ سنّ الصبا، ما يشير إلى ذلك، وحسبما أظن، أن أبا حنيفة وهو جالس ينتظر الإذن بالدخول على الصادق، لقد خرج عليه الإمام موسى بن جعفر، وهو يوم ذاك في سن الصبا، فأراد أن يستحكيه أو يداعبه، فافتتح الحديث معه بالسؤال الأوّل، وحينما رأى العمق والشمول في جواب، تغيرت نظرته إليه، فوجّه إليه السؤال الثاني، وكان من أعقد المسائل، والصراع فيه يوم ذاك على أشدّه بين الفقهاء والمتكلمين وغيرهم، وقد روى الرواة هذا الحوار بينهما على النحو التالي:

فقد جاء في "تحف العقول" للحسن بن علي بن شعبة وغيرها، أنّ أبا حنيفة قال: حججت في أيام أبي عبد الله الصادق (ع)، فلما أتيت المدينة، دخلت داره، وجلست في الدهليز أنتظر إذنه، إذ خرج صبيّ فقلت: أين يحدث الغريب إذا أراد ذلك؟ فنظر إليّ ثم قال: يتوارى خلف الجدار، ويتوقّى أعين الجار وشطوط الأنهار ومساقط الثمار، وأقنية الدور والطرق النافذة والمساجد، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ويرفع ثوبه ويضع بعد ذلك حيث شاء. ومضى أبو حنيفة يقول: فلما سمعت منه ذلك، نبل في عيني، وعظم في قلبي؛ فقلت له: جعلت فداك، ممن المعصية؟ فنظر إليّ وقال: اجلس حتى أخبرك، فجلست مصغياً إليه، فقال: إن المعصية لا بدّ من أن تكون إما من العبد أو من ربه أو منهما جميعاً، فإن كانت من الله، فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله، وإما أن تكون منه ومن العبد، وهو أقوى الشريكين، والقويّ أولى بإنصاف عبده الضعيف والعفو عنه، وإن كانت من العبد وحده، وهوكذلك، فعليه وقع الأمر، وإليه توجّه النهي، فإن عفا عنه فبكرمه وجوده، وإن عاقبه فبذنبه وجريرته. وأضاف إلى ذلك الراوي أن أبا حنيفة قال:

فاستغنيت بما سمعت من الغلام، وانصرفت بدون أن ألقى أبا عبد الله الصادق: وقلت: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

ومهما كان الحال، فقبل أن يتخطّى الإمام سنّ الصبا، تمخضت الأحداث والمعارك الضارية التي استمرت أعواماً بين الأمويين وأخصامهم، الّذين كانوا ينادون باسم العلويّين، ويردّدون على مسامع الناس جرائمهم مع أهل البيت، تمخضت تلك المعارك التي شملت جميع المناطق عن عهد جديد رحّب به المسلمون، وظنوا أنهم سيجدون في ظله حريتهم وكرامتهم وحقوقهم المغتصبة منذ عشرات السنين. ولم تمض سوى سنوات معدودات على العهد الجديد، كان قادته يراقبون فلول أخصامهم، ويمهدون لاستتباب الأمن، وإذا بهم يمثلون أقبح الأدوار التي كان يمثلها قادة العهد البائد في سلوكهم وسيرتهم، وبخاصة مع العلويين وشيعتهم، وحاول المنصور أكثر من مرة أن يفتك بالإمام الصادق (ع)، ولكن الله سبحانه كان يصرفه عنه، كما أشرنا إلى ذلك خلال حديثنا عن سيرته في الفصول السابقة.

لقد بقي الإمام موسى بن جعفر مع أبيه عشرين عاماً، منها خمس سنوات تقريباً من عهد الأمويين، وأربع سنوات ونصف السنة في عهد عبد الله بن محمد بن عليّ الملقب بالسفاح، وتسع سنوات وأشهر في ملك المنصور الدوانيقي، حيث كانت وفاة الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، وعاش بعد أبيه خمسة وثلاثين عاماً مدة إمامته، قضى منها مع المنصور بعد أبيه نحواً من عشر سنوات، ومع ولده محمد الملقب بالمهدي عشر سنين، ومع ولده موسى الهادي سنة واحدة، ومع أخيه هارون الرشيد نحواً من خمسة عشر عاماً، وبنهايتها، كانت وفاته مسموماً في حبسه بواسطة السندي بن شاهك أمير السجن، خلال شهر رجب من سنة 183، كما هو المشهور بين الرواة.

بالإضافة إلى النصوص التي اشتهرت بين الرواة عن النبي في خلفائه الإثني عشر، والتي سمتهم في بعضها بأسمائهم، وفي البعض الآخر اقترنت بالمواصفات التي لا تنطبق على غيرهم، وقد ذكرنا بعض تلك النصوص في الفصل الأوّل من هذا الكتاب، وبالإضافة إلى هذه النصوص، فإن كل إمام من الأئمة الإثني عشر قد نص على خليفته، وأرجع خواص أصحابه إليه.

وقد جاء في الإرشاد للمفيد، أن من الذين رووا عن أبي عبد الله الصادق (ع) صريح النص على إمامة ولده موسى من شيوخ أصحابه وخاصّته وبطانته وثقاته من الفقهاء الصالحين، المفضل بن عمر ومعاذ بن كثير وعبد الرحمن بن الحجاج والفيض بن المختار ويعقوب السراج وسليمان بن خالد وصفوان الجمال، وغيرهم من الأصحاب، كما روي ذلك عن أخويه إسحاق وعلي ابني جعفر (ع)، وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه اثنان، على حدّ تعبير المفيد في إرشاده.

ومضى يقول: فقد روى موسى الصيقل عن المفضل بن عمر أنه قال:كنت عند أبي عبد الله الصادق (ع)، فدخل أبو إبراهيم وهو غلام، فقال لي أبو عبد الله: "استوص به، وضع أمره عند من تثق بهم من أصحابك".

وجاء في رواية شبيب عن معاذ بن كثير أنّه قال: قلت لأبي عبد الله: اسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة، أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها، قال: "قد فعل الله ذلك"، قلت: من هو،جعلت فداك؟ فأشار إلى العبد الصّالح وهو راقد وقال: "هذا الراقد"، وهو يومئذ غلام.

وقال له عبد الرحمن بن الحجاج، وكان قد دخل عليه وهو يدعو، وولده موسى إلى جانبه يؤمن على دعائه، فقال له: جعلت فداك، قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن وليّ الأمر بعدك؟ قال: "يا عبد الرحمن، إنّ موسى قد لبس الدّرع واستوت عليه"، فقلت له: لا أحتاج بعد هذا إلى شي‏ء.

وجاء في رواية ابن حازم أنه قال للإمام الصّادق: إذا حدث عليك ما لا بدّ منه، فلمن الأمر من بعدك؟ فقال له أبو عبد الله: "إذا كان ذلك فهذا صاحبكم"، وضرب بيده على منكب أبي الحسن الأيمن.

وروى محمد بن الوليد عن علي بن جعفر أنه قال: سمعت أبي جعفر بن محمد الصادق يقول لجماعة من أصحابه وخاصّته: "استوصوا بابني موسى خيراً، فإنه أفضل ولدي ومن أخلف من بعدي، وهو القائم مقامي، والحجّة على كافة خلقه بعدي".

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي نصّ بها الإمام الصّادق على إمامته من بعده، وأكثرها بهذا الأسلوب الذي يبدو منه. وكان الإمام يتحاشى فيه الصّراحة أحياناً، خوفاً عليه من السلطات الحاكمة التي كانت تراقبه أشدّ المراقبة في السنين الأخيرة من حياته، كما تؤكد ذلك مواقف المنصور معه، واهتمامه بمعرفة وصيّه عند ما بلغه نبأ وفاته...

لمحات عن كرمه وحلمه وصفاته

لقد اتفق واصفوه بأنّه كان أعبد أهل زمانه، وأزهدهم في الدنيا، وأفقههم وأسخاهم كفّاً وأكرمهم نفساً، وكان يصلّي نوافل الليل إذا دخل ثلثه الأخير، ويستمرّ في الصلاة إلى طلوع الفجر، فإذا جاء وقت صلاة الصبح صلاها، ثم يشرع في الدعاء والبكاء من خشية الله، حتى تخضلّ لحيته بالدموع، ويغشى عليه من خشية الله، وإذا قرأ القرآن يجتمع عليه الناس لحسن صوته، ويبكون أحياناً لخشوعه وبكائه، ولقّبه الناس بالعبد الصّالح، وأصبح يعرف بهذا اللّقب أكثر مما يعرف باسمه وكنيته.

وجاء في كتاب "مطالب السؤال": أنه كان يلقَّب بالصالح والصابر والأمين والكاظم، ويعرف بالعبد الصالح، وسمي الكاظم، لأنّه كظم الغيظ وصبر على ما أحيط به من البلاء، وفي رواية ابن الجوزي في تذكرته، أنه سمي الكاظم، لأنّه كان إذا بلغه عن أحد سوء، بعث إليه بمال يغنيه.

وقد جاء في وصفه عن شقيق البلخي، كما في رواية ابن الجوزي، أنه قال: خرجت حاجّاً سنة تسع وأربعين ومائة، فنزلت القادسية، وإذا بشابّ حسن الوجه، شديد السّمرة، عليه ثوب صوف، مشتمل بشملة، وفي رجليه نعلان، فجلس منفرداً عن الناس، فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفية يريد أن‏ يكون كلاً على الناس، والله لأمضينّ إليه وأوبخنّه. فدنوت منه، فلما رآني مقبلاً، قال: يا شقيق، اجتنبوا كثيراً من الظنّ إن بعض الظن إثم. فقلت في نفسي هذا عبد صالح قد نطق بما في خاطري، لألحقنه وأسأله أن يجالسني، فغاب عن عيني، فلما نزلنا واقصة، إذا به يصلّي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تنحدر على خدّيه، فقلت في نفسي امض إليه واعتذر منه، فأوجز في صلاته وقال: يا شقيق، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} فقلت: هذا من الأبدال، قد تكلم عن سري مرتين. فلما نزلنا زيالاً، إذا به قائم على البئر، وبيده ركوة يريد أن يستقي الماء، فسقطت الركوة في البئر، فرفع طرفه إلى السماء وقال:

أنت ربي إذا ظمئت إلى الماء وقوتي إذا أردت الطعام

فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها، فأخذ الركوة وملأها، وتوضّأ وصلى أربع ركعات، ثم مال إلى كثيب رمل هناك، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب، فقلت: أطعمني من فضل ما رزقك الله وما أنعم عليك، فقال: يا شقيق، لم تزل نعم اللّه علينا ظاهرة وباطنة، فأحسن ظنّك بربّك. ثم ناولني الركوة، فشربت منها، فإذا سويق وسكر ما شربت والله ألذّ منه ولا أطيب ريحاً، فشبعت ورويت، وأقمت أياماً لا أشتهي الطعام ولا الشراب. ثم لم أره حتى دخلت مكّة، فرأيته ليلة إلى جانب قبة الشراب نصف اللّيل يصلي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل، فلما طلع الفجر، جلس في مصلاه يسبّح، فلما انتهى، قام إلى صلاة الفجر، وطاف بالبيت سبعاً وخرج، فتبعته لأعرف أين يذهب، فإذا له حاشية وأموال وغلمان، وهو على خلاف ما رأيته في الطّريق، ودار به الناس يسلّمون عليه ويتبرّكون به، فقلت لبعضهم:

من هذا؟ فقال: هو موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع).

والحديث المذكور من حيث وصفه لعبادة الإمام وانقطاعه الى الله‏ سبحانه، موافق لما أجمع عليه واصفوه من المحدثين وغيرهم، فلا يضرّه ضعف سنده، ولا ميول راويه البلخي إلى التصوف، ولا اشتماله على تلك الكرامة، لأن الروايات الشيعية والسنية تنسب له ولغيره من أئمة أهل البيت ما هو أعظم منها، وليس بكثير على من استجاب لله وأطاعه، أن يستجيب الله لطلبه ودعائه، وأن يكون في عونه. على أن التصديق والإيمان بهذه الكرامات ليس من ضرورات التشيع لأهل البيت، كما أجمع واصفوه على أنّه كان أعبد أهل زمانه، فقد أجمعوا على أنه كان واسع العطاء، يعطي القريب والبعيد، لا تنقص صراره عن ثلاثمائة دينار، وقد قال أهل زمانه: عجباً لمن جاءته صرار موسى بن جعفر وشكا الفقر.

وجاء في "تاريخ بغداد" للخطيب، أنه كان سخياً كريماً، يصرّ ثلاثمائة دينار وأربعمائة دينار، ويخرج بها ليلاً يوزعها على بيوت المحتاجين، وكان يضرب المثل بصراره.

وروى البغدادي في تاريخه عن محمد بن عبد الله البكري أنّه قال: قدمت المدينة أطلب بها ديناً، فأعياني، فقلت: لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر وشكوت إليه ذلك، فأتيته في ضيعته، فابتدأني بالسؤال عن حاجتي، وذكرت له قصّتي، فدخل إلى بيته وخرج منه مسرعاً، وقال لغلامه: اذهب، فلمّا ذهب الغلام، مدّ يده ودفع لي صرّةً فيها ثلاثمائة دينار، فركبت دابتي وانصرفت...

*من كتاب "سيرة الأئمة الإثني عشر(ع)"، ج 2.

لم يكن الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر أكبر أولاد الإمام الصادق، ولعله كان ثالث أولاده أو رابعهم، وأكبرهم عبد الله الأفطح، وبه كان يكنى. وتشير أكثر الروايات إلى أن الإمام موسى بن جعفر الصادق ولد في الأبواء، وهو مكان يقع بين مكة والمدينة، وفيه قبر آمنة بنت وهب أم النبيّ (ص) في السابع من صفر سنة 128، وأولم الصادق(ع) بعد ولادته، فأطعم الناس ثلاثاً، كما جاء في رواية البرقي في المحاسن، من أم أندلسية، وقيل بربرية يقال لها حميدة، كانت على درجة عالية من الصلاح والتقوى، وبقي مع أبيه نحواً من عشرين عاماً، أدرك فيها عهد الأمويين وهو في دور الاحتضار يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يوم ذاك في سنّ الطفولة، وشاهد وهو في هذه السن وبعدها، وفود العلماء وطلاب العلم من جميع الأقطار تغصّ بهم المدينة، وقد ازدحموا على أبيه شباباً وشيوخاً، وهم ما بين مستمع يأخذ منه العلم والحديث، وبين من يناظره في التوحيد والتشبيه والقدر والإمامة، وغير ذلك من المواضيع التي شاعت في ذلك العصر وتشعّبت فيها الآراء. ومضت العشرون عاماً، وهو إلى جانب أبيه الصادق (ع)، يلقنه من فنون العلم وطرائف الحكمة ما يؤهله إلى الإمامة العامة التي تنتظره في الغد القريب، حتى أصبح وهو في مطلع شبابه مصدر إعجاب العلماء وتقديرهم، وحكماً مفضلاً في حل أكثر المشاكل تعقيداً وتشعباً.

ولعلّ فيما رواه الرواة عن الحوار الذي جرى بينه وبين إمام المذهب الحنفي أبي حنيفة، وشهادة أبي حنيفة له بعد نهاية الحوار، وهو يوم ذاك لم يتخطّ سنّ الصبا، ما يشير إلى ذلك، وحسبما أظن، أن أبا حنيفة وهو جالس ينتظر الإذن بالدخول على الصادق، لقد خرج عليه الإمام موسى بن جعفر، وهو يوم ذاك في سن الصبا، فأراد أن يستحكيه أو يداعبه، فافتتح الحديث معه بالسؤال الأوّل، وحينما رأى العمق والشمول في جواب، تغيرت نظرته إليه، فوجّه إليه السؤال الثاني، وكان من أعقد المسائل، والصراع فيه يوم ذاك على أشدّه بين الفقهاء والمتكلمين وغيرهم، وقد روى الرواة هذا الحوار بينهما على النحو التالي:

فقد جاء في "تحف العقول" للحسن بن علي بن شعبة وغيرها، أنّ أبا حنيفة قال: حججت في أيام أبي عبد الله الصادق (ع)، فلما أتيت المدينة، دخلت داره، وجلست في الدهليز أنتظر إذنه، إذ خرج صبيّ فقلت: أين يحدث الغريب إذا أراد ذلك؟ فنظر إليّ ثم قال: يتوارى خلف الجدار، ويتوقّى أعين الجار وشطوط الأنهار ومساقط الثمار، وأقنية الدور والطرق النافذة والمساجد، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ويرفع ثوبه ويضع بعد ذلك حيث شاء. ومضى أبو حنيفة يقول: فلما سمعت منه ذلك، نبل في عيني، وعظم في قلبي؛ فقلت له: جعلت فداك، ممن المعصية؟ فنظر إليّ وقال: اجلس حتى أخبرك، فجلست مصغياً إليه، فقال: إن المعصية لا بدّ من أن تكون إما من العبد أو من ربه أو منهما جميعاً، فإن كانت من الله، فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله، وإما أن تكون منه ومن العبد، وهو أقوى الشريكين، والقويّ أولى بإنصاف عبده الضعيف والعفو عنه، وإن كانت من العبد وحده، وهوكذلك، فعليه وقع الأمر، وإليه توجّه النهي، فإن عفا عنه فبكرمه وجوده، وإن عاقبه فبذنبه وجريرته. وأضاف إلى ذلك الراوي أن أبا حنيفة قال:

فاستغنيت بما سمعت من الغلام، وانصرفت بدون أن ألقى أبا عبد الله الصادق: وقلت: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

ومهما كان الحال، فقبل أن يتخطّى الإمام سنّ الصبا، تمخضت الأحداث والمعارك الضارية التي استمرت أعواماً بين الأمويين وأخصامهم، الّذين كانوا ينادون باسم العلويّين، ويردّدون على مسامع الناس جرائمهم مع أهل البيت، تمخضت تلك المعارك التي شملت جميع المناطق عن عهد جديد رحّب به المسلمون، وظنوا أنهم سيجدون في ظله حريتهم وكرامتهم وحقوقهم المغتصبة منذ عشرات السنين. ولم تمض سوى سنوات معدودات على العهد الجديد، كان قادته يراقبون فلول أخصامهم، ويمهدون لاستتباب الأمن، وإذا بهم يمثلون أقبح الأدوار التي كان يمثلها قادة العهد البائد في سلوكهم وسيرتهم، وبخاصة مع العلويين وشيعتهم، وحاول المنصور أكثر من مرة أن يفتك بالإمام الصادق (ع)، ولكن الله سبحانه كان يصرفه عنه، كما أشرنا إلى ذلك خلال حديثنا عن سيرته في الفصول السابقة.

لقد بقي الإمام موسى بن جعفر مع أبيه عشرين عاماً، منها خمس سنوات تقريباً من عهد الأمويين، وأربع سنوات ونصف السنة في عهد عبد الله بن محمد بن عليّ الملقب بالسفاح، وتسع سنوات وأشهر في ملك المنصور الدوانيقي، حيث كانت وفاة الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، وعاش بعد أبيه خمسة وثلاثين عاماً مدة إمامته، قضى منها مع المنصور بعد أبيه نحواً من عشر سنوات، ومع ولده محمد الملقب بالمهدي عشر سنين، ومع ولده موسى الهادي سنة واحدة، ومع أخيه هارون الرشيد نحواً من خمسة عشر عاماً، وبنهايتها، كانت وفاته مسموماً في حبسه بواسطة السندي بن شاهك أمير السجن، خلال شهر رجب من سنة 183، كما هو المشهور بين الرواة.

بالإضافة إلى النصوص التي اشتهرت بين الرواة عن النبي في خلفائه الإثني عشر، والتي سمتهم في بعضها بأسمائهم، وفي البعض الآخر اقترنت بالمواصفات التي لا تنطبق على غيرهم، وقد ذكرنا بعض تلك النصوص في الفصل الأوّل من هذا الكتاب، وبالإضافة إلى هذه النصوص، فإن كل إمام من الأئمة الإثني عشر قد نص على خليفته، وأرجع خواص أصحابه إليه.

وقد جاء في الإرشاد للمفيد، أن من الذين رووا عن أبي عبد الله الصادق (ع) صريح النص على إمامة ولده موسى من شيوخ أصحابه وخاصّته وبطانته وثقاته من الفقهاء الصالحين، المفضل بن عمر ومعاذ بن كثير وعبد الرحمن بن الحجاج والفيض بن المختار ويعقوب السراج وسليمان بن خالد وصفوان الجمال، وغيرهم من الأصحاب، كما روي ذلك عن أخويه إسحاق وعلي ابني جعفر (ع)، وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه اثنان، على حدّ تعبير المفيد في إرشاده.

ومضى يقول: فقد روى موسى الصيقل عن المفضل بن عمر أنه قال:كنت عند أبي عبد الله الصادق (ع)، فدخل أبو إبراهيم وهو غلام، فقال لي أبو عبد الله: "استوص به، وضع أمره عند من تثق بهم من أصحابك".

وجاء في رواية شبيب عن معاذ بن كثير أنّه قال: قلت لأبي عبد الله: اسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة، أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها، قال: "قد فعل الله ذلك"، قلت: من هو،جعلت فداك؟ فأشار إلى العبد الصّالح وهو راقد وقال: "هذا الراقد"، وهو يومئذ غلام.

وقال له عبد الرحمن بن الحجاج، وكان قد دخل عليه وهو يدعو، وولده موسى إلى جانبه يؤمن على دعائه، فقال له: جعلت فداك، قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن وليّ الأمر بعدك؟ قال: "يا عبد الرحمن، إنّ موسى قد لبس الدّرع واستوت عليه"، فقلت له: لا أحتاج بعد هذا إلى شي‏ء.

وجاء في رواية ابن حازم أنه قال للإمام الصّادق: إذا حدث عليك ما لا بدّ منه، فلمن الأمر من بعدك؟ فقال له أبو عبد الله: "إذا كان ذلك فهذا صاحبكم"، وضرب بيده على منكب أبي الحسن الأيمن.

وروى محمد بن الوليد عن علي بن جعفر أنه قال: سمعت أبي جعفر بن محمد الصادق يقول لجماعة من أصحابه وخاصّته: "استوصوا بابني موسى خيراً، فإنه أفضل ولدي ومن أخلف من بعدي، وهو القائم مقامي، والحجّة على كافة خلقه بعدي".

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي نصّ بها الإمام الصّادق على إمامته من بعده، وأكثرها بهذا الأسلوب الذي يبدو منه. وكان الإمام يتحاشى فيه الصّراحة أحياناً، خوفاً عليه من السلطات الحاكمة التي كانت تراقبه أشدّ المراقبة في السنين الأخيرة من حياته، كما تؤكد ذلك مواقف المنصور معه، واهتمامه بمعرفة وصيّه عند ما بلغه نبأ وفاته...

لمحات عن كرمه وحلمه وصفاته

لقد اتفق واصفوه بأنّه كان أعبد أهل زمانه، وأزهدهم في الدنيا، وأفقههم وأسخاهم كفّاً وأكرمهم نفساً، وكان يصلّي نوافل الليل إذا دخل ثلثه الأخير، ويستمرّ في الصلاة إلى طلوع الفجر، فإذا جاء وقت صلاة الصبح صلاها، ثم يشرع في الدعاء والبكاء من خشية الله، حتى تخضلّ لحيته بالدموع، ويغشى عليه من خشية الله، وإذا قرأ القرآن يجتمع عليه الناس لحسن صوته، ويبكون أحياناً لخشوعه وبكائه، ولقّبه الناس بالعبد الصّالح، وأصبح يعرف بهذا اللّقب أكثر مما يعرف باسمه وكنيته.

وجاء في كتاب "مطالب السؤال": أنه كان يلقَّب بالصالح والصابر والأمين والكاظم، ويعرف بالعبد الصالح، وسمي الكاظم، لأنّه كظم الغيظ وصبر على ما أحيط به من البلاء، وفي رواية ابن الجوزي في تذكرته، أنه سمي الكاظم، لأنّه كان إذا بلغه عن أحد سوء، بعث إليه بمال يغنيه.

وقد جاء في وصفه عن شقيق البلخي، كما في رواية ابن الجوزي، أنه قال: خرجت حاجّاً سنة تسع وأربعين ومائة، فنزلت القادسية، وإذا بشابّ حسن الوجه، شديد السّمرة، عليه ثوب صوف، مشتمل بشملة، وفي رجليه نعلان، فجلس منفرداً عن الناس، فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفية يريد أن‏ يكون كلاً على الناس، والله لأمضينّ إليه وأوبخنّه. فدنوت منه، فلما رآني مقبلاً، قال: يا شقيق، اجتنبوا كثيراً من الظنّ إن بعض الظن إثم. فقلت في نفسي هذا عبد صالح قد نطق بما في خاطري، لألحقنه وأسأله أن يجالسني، فغاب عن عيني، فلما نزلنا واقصة، إذا به يصلّي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تنحدر على خدّيه، فقلت في نفسي امض إليه واعتذر منه، فأوجز في صلاته وقال: يا شقيق، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} فقلت: هذا من الأبدال، قد تكلم عن سري مرتين. فلما نزلنا زيالاً، إذا به قائم على البئر، وبيده ركوة يريد أن يستقي الماء، فسقطت الركوة في البئر، فرفع طرفه إلى السماء وقال:

أنت ربي إذا ظمئت إلى الماء وقوتي إذا أردت الطعام

فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها، فأخذ الركوة وملأها، وتوضّأ وصلى أربع ركعات، ثم مال إلى كثيب رمل هناك، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب، فقلت: أطعمني من فضل ما رزقك الله وما أنعم عليك، فقال: يا شقيق، لم تزل نعم اللّه علينا ظاهرة وباطنة، فأحسن ظنّك بربّك. ثم ناولني الركوة، فشربت منها، فإذا سويق وسكر ما شربت والله ألذّ منه ولا أطيب ريحاً، فشبعت ورويت، وأقمت أياماً لا أشتهي الطعام ولا الشراب. ثم لم أره حتى دخلت مكّة، فرأيته ليلة إلى جانب قبة الشراب نصف اللّيل يصلي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل، فلما طلع الفجر، جلس في مصلاه يسبّح، فلما انتهى، قام إلى صلاة الفجر، وطاف بالبيت سبعاً وخرج، فتبعته لأعرف أين يذهب، فإذا له حاشية وأموال وغلمان، وهو على خلاف ما رأيته في الطّريق، ودار به الناس يسلّمون عليه ويتبرّكون به، فقلت لبعضهم:

من هذا؟ فقال: هو موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع).

والحديث المذكور من حيث وصفه لعبادة الإمام وانقطاعه الى الله‏ سبحانه، موافق لما أجمع عليه واصفوه من المحدثين وغيرهم، فلا يضرّه ضعف سنده، ولا ميول راويه البلخي إلى التصوف، ولا اشتماله على تلك الكرامة، لأن الروايات الشيعية والسنية تنسب له ولغيره من أئمة أهل البيت ما هو أعظم منها، وليس بكثير على من استجاب لله وأطاعه، أن يستجيب الله لطلبه ودعائه، وأن يكون في عونه. على أن التصديق والإيمان بهذه الكرامات ليس من ضرورات التشيع لأهل البيت، كما أجمع واصفوه على أنّه كان أعبد أهل زمانه، فقد أجمعوا على أنه كان واسع العطاء، يعطي القريب والبعيد، لا تنقص صراره عن ثلاثمائة دينار، وقد قال أهل زمانه: عجباً لمن جاءته صرار موسى بن جعفر وشكا الفقر.

وجاء في "تاريخ بغداد" للخطيب، أنه كان سخياً كريماً، يصرّ ثلاثمائة دينار وأربعمائة دينار، ويخرج بها ليلاً يوزعها على بيوت المحتاجين، وكان يضرب المثل بصراره.

وروى البغدادي في تاريخه عن محمد بن عبد الله البكري أنّه قال: قدمت المدينة أطلب بها ديناً، فأعياني، فقلت: لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر وشكوت إليه ذلك، فأتيته في ضيعته، فابتدأني بالسؤال عن حاجتي، وذكرت له قصّتي، فدخل إلى بيته وخرج منه مسرعاً، وقال لغلامه: اذهب، فلمّا ذهب الغلام، مدّ يده ودفع لي صرّةً فيها ثلاثمائة دينار، فركبت دابتي وانصرفت...

*من كتاب "سيرة الأئمة الإثني عشر(ع)"، ج 2.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية