ونحن لا بدَّ لنا مع كلِّ إمامٍ من أئمَّة أهل البيت (ع) من وقفةٍ طويلة، نستطيع
من خلالها أن نعرف شيئاً من سيرتهم ومن وصاياهم ومن الأوضاع المحيطة بهم في الحياة
الَّتي عاشوها، حتّى نستطيع أن نستلهم منهم كيف نواجه الحياة في خطِّ الإسلام، وكيف
نتحمَّل الكثير من البلاء ومن المشاكل ومن الأوضاع الصَّعبة فيما تفرضه علينا
التزاماتنا الإسلاميَّة.
الإمام الكاظم (ع) هو من أئمَّة أهل البيت، عاش إمامته بعد وفاة أبيه الإمام جعفر
الصَّادق (ع)، الّذي عرَّف المسلمين بأنَّه الإمام الّذي يرتفع إلى مستوى الثِّقة
والكفاءة في علمه وتقواه ووعيه لأمور زمانه، وأنَّه الإنسان الَّذي يمكن أن يجعل
النَّاس يفهمون كيف يقتربون من الله أكثر، لأنَّ دور أئمّة أهل البيت (ع) في كلِّ
ما عاشوه وقالوه وفعلوه، هو أن يدلّوا النّاس على طريق الله، فهم الدّعاة إليه،
الأدلّاء عليه، الّذين إذا حدَّثوا حدَّثوا عن رسول الله (ص)، وكان أحمد بن حنبل
يروي عن موسى بن جعفر ما عنده من علوم رسول الله، فكان يقول: حدّثني موسى بن جعفر،
قال حدَّثني جعفر بن محمد، حتى قال حدثني رسول الله وجبريل، ثم قال: هذا إسنادٌ لو
ألقي على مجنون لأفاق...
هكذا كان أئمَّة أهل البيت (ع)، لا يتحركون فيما ينصّون عليه من الأحاديث من موقع
النّسب، بل من موقع الكفاءة في العلم والدِّين.
وهكذا انطلق الإمام موسى بن جعفر لينشر العلم والدّين، وكانت السَّاحة العلميَّة
مفتوحة، ولا سيَّما أنَّ أساتذة السَّاحة كانوا من أئمَّة أهل البيت (ع)، فكان
المسلمون مختلفين في مذاهبهم، ولكنّهم كانوا يأخذون العلم منهم.. وهكذا رأينا ابن
حنيفة، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، أخذوا عن الإمام الصّادق (ع).. وكان هناك
انفتاح على العلم كلّه وعلى الإسلام كلّه، ولم يتعقَّد المسلمون من بعضهم البعض،
كما يحدث الآن، فالشّيعة يدرسون في مدارسهم، والسنّة في مدارسهم، أمّا اليوم،
فالمسألة ضاقت كثيراً، لأنَّ نفوسنا تعقَّدت كثيراً.
ولهذا، فإنّنا نرى المؤرّخين الّذين لا يلتزمون بالتشيّع، عندما يتحدَّثون عن
أئمَّة أهل البيت (ع)، يتحدَّثون بطريقة بيان مقامهم الكبير، وهذا هو الّذي يثبت
لنا أنَّ أئمَّة أهل البيت كانوا في الموقع الرّفيع في السَّاحة الإسلاميَّة،
وكانوا محلَّ ثقة الجميع وتعظيمهم.
ومن هنا، كان النَّاس يتعاملون معهم في كثيرٍ من الحالات تعاملاً مميَّزاً، كما لو
كانوا هم الخَلَف في السَّاحة، فعلى الرّغم من أنّه كان هناك خلف من الأمويّين، إلا
أنَّ النّاس كانوا يراجعون الإمام عليّ بن الحسين والإمام الباقر والإمام الصّادق
في كلّ المسائل، كما في المسائل التي تتعلَّق بالموقف السياسي من النّظام القائم.
ومن هنا، كان الأمويّون يضيّقون على أئمّة أهل البيت، وهكذا فعل العبّاسيون، فهم مع
تعظيمهم للأئمَّة، كانوا يقتلونهم ويسجنونهم.
وكان الإمام موسى بن جعفر الكاظم في موقف التحدّي لحكم هارون الرَّشيد، ومن الطبيعيّ
أن يتعرَّض لظلم الحكم العبّاسي، ولكنَّه كان يملك موقعاً قويّاً، بحيث كان الرّشيد
يشعر بالخطر في حال التعرّض له.. فالمسألة ليست أن تحصل على إمكانات النّاس، بل أن
تحصل على قلوبهم، فالأئمَّة (ع) كانوا لا يملكون العناوين السياسيَّة الّتي كانت في
ذلك الوقت، وكان الخلفاء ينصبون الجواسيس حول بيوتهم لمراقبتهم، كما هي المسألة
الآن، فالبعض يخاف على المجاهدين خوفاً من أن يضطهدهم الآخرون، والحكَّام يخافون من
الموثوقين لدى النَّاس. ولهذا، فالحكَّام غالباً لا يضطهدون الّذين يتحركون بشكلٍ
استعراضيّ من دون أن يكون لحركتهم عمق.
وفي أحد الأيّام، قال هارون الرّشيد: أريد أن أسجن موسى بن جعفر، وهكذا أخذ الإمام
وسجنه في البصرة. ولكنّ السجّان بعث لهارون الرّشيد، إمّا أن تطلقه أو أطلقه، فقد
بثثت عليه الجواسيس، فلم أسمع منه إلا التّسابيح، وهو يقول: "اللّهمّ إنّك تعلم
أنّني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت، فلك الحمد".
وبعث لهارون الرَّشيد: "لن ينقضي عنّي يوم من البلاء، إلا وينقضي عنك يوم من
الرّخاء".. حتى دسَّ إليه السّمّ.
وهكذا رأينا أنّ الإمام الكاظم (ع) سجن كما لم يسجن أحد من آبائه وأبنائه، لأنّه
بقي في السّجن مدّة طويلة، وقتل بالسمّ، ونحن لا نريد أن نثير هذه المسألة للألم..
ولكنَّنا نرى أن نأخذ بعض كلمات الإمام وأخلاقه، فالإمام كان يسمَّى كاظم الغيظ،
لأنّه كان يملك الصّدر الواسع الذي يمتصّ كلّ العداوات والبغضاء من حوله.
ويقال إنَّ هناك شخصاً كان يشتم الأئمّة، حتى أتى أصحاب الإمام وطلبوا منه أن يسمح
لهم بقتله، ولكنّ الإمام ذهب إليه وكان في مزرعته، وسأله كم تؤمِّن في زرعك، فقال
مئة دينار، فقال له هذه مئة دينار، وبدأ يحدّثه بطيب الكلام، حتى أتى إلى المسجد،
وأصبح يصلِّي وراء الإمام الكاظم، وقال: "الله يعلم حيث يجعل رسالته".
*من أرشيف خطب الجمعة لسماحته، بتاريخ 3 آذار 1989.