محاضرات
12/01/2025

دروسٌ من فكرِ عليٍّ (ع) في الحرب والحياة

دروسٌ من فكرِ عليٍّ (ع) في الحرب والحياة

في الوصيَّة الَّتي أوصى بها الإمامُ الحسينُ (ع) أخاه محمَّد بن الحنفيَّة عند خروجه، يقول (ع): "إنِّي لمْ أَخْرُجْ أَشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظَالماً".
لقد أراد الحسين (ع) أن يؤكِّدَ الصِّفة الإسلاميَّة في عناصر شخصيَّته، في خروجه على الحاكم الظَّالم، ليدفعَ عن حركته هذه، العناوينَ الَّتي يمكن أن تنطلق بها الحركات الأخرى، فهناك الَّذين يخرجون لينتفضوا على الحكم من أجل طموحاتهم الذاتيَّة، لأنَّهم يريدون أن يكونوا في المواقع العالية على أنقاض الآخرين، سواء كان الآخرون ممن يملكون الشَّرعيَّة والمنهج العادل، أو ممن لا يملكونهما، ليست القضيَّة لديهم هي إنقاذ المجتمع من هذا أو ذاك، فهم لا يفكِّرون في هذا الحاكم ما هي خطَّته وما هو منهجه، بل كلّ ما عندهم أنَّهم يريدون إسقاطه ليجلسوا مكانه، على قاعدة "قم لأجلس مكانك". وهذا ما نلاحظه في الكثيرين ممن يقومون بحركات المعارضة أو بالحركات الانقلابيَّة على هذا النّظام أو ذاك، أو هذا الحاكم أو ذاك، من أجل تضخيم دورهم الشّخصيّ.
الثَّورةُ غير الشَّرعيَّة!
ولعلَّنا نجد الكثيرين في التَّاريخ وفي الواقع المعاصر من أمثال هؤلاء، فنلاحظ أنَّ بعض النَّاس قد يثورون على الشرعيَّة العادلة تلبيةً لبعض ذاتيَّاتهم، وهذا ما لاحظناه في الحركات الَّتي قامت في وجه الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) منذ استُخلِف. ونحن نعرف أنَّ عليّاً (ع) كان يمثِّل الشَّرعيَّة الإسلاميَّة في خلافته على جميع المستويات، فإذا كنَّا نتحدَّث عن الشَّرعيَّة من خلال كتاب الله وسنَّة رسوله، فإنَّ عليّاً (ع) كان يملك هذه الشَّرعيَّة، والآية الكريمة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: 55] الَّتي فسَّرها المفسِّرون من السنَّة والشّيعة بأنَّها نزلت في عليّ (ع)، أثبتت له الولاية. وهكذا في كلِّ الكلمات المتنوّعة الَّتي صدرت عن النبيّ (ص) في شأن عليّ (ع) مما لم يصدر عنه (ص) في أيِّ صحابي آخر. وكانت نهاية المطاف في يوم الغدير، عندما قال رسول الله (ص) لجموع المسلمين العائدين من الحجّ: "مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ"، يعني من كنت أولى به من نفسه، وهو معنى الولاية والحاكميَّة، فعليٌّ أولى به من نفسه، بقرينة أنَّه (ص) قال: "أَلَسْتُ أولى بالمؤمنينَ مِنْ أنفسِهم؟".
فإذا كانت الشَّرعيَّة تنطلق كما هو الرَّأي الشِّيعي الإمامي، فعليٌّ يملك الشَّرعيَّة الإسلاميَّة في خلافته منذ البداية، وإذا قلنا إنَّ الشرعيَّة تنطلق من بيعة المسلمين، فلقد بايع المسلمون عليّاً (ع)، وقد اندفع المسلمون إليه، حتَّى لقد وُطِئَ الحسنان، من جهة اندفاع النَّاس إليه. حتى إنَّه جاء في بعض رسائله إلى معاوية، أنَّه قال له إنَّ الَّذين بايعوني هم الَّذين بايعوا أبا بكر وعمر، يعني إذا كنتم تعتبرون أنَّ البيعة هي أساس الشَّرعيَّة، وتعتبرون أنَّ الشَّرعيَّة لأبي بكر وعمر من خلال بيعة المسلمين لهم، فقد بايعني القوم الَّذين بايعوا أبا بكر وعمر، فإذا ثبتت الشَّرعيَّة لهما، فما هو الأساس للثَّورة عليَّ أو لمعارضتي؟
ولذا يقول (ع): "فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ، نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادَاً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: 83]. بَلى وَالله، لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا. وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا".
فكانت المسألة أنَّ بعض الصَّحابة، ومعهم أمُّ المؤمنين عائشة، انطلقوا إلى البصرة لينتفضوا على عليّ (ع).
نهجُ عليٍّ (ع) تفادي الحربِ
وحاول (ع) أن يتفادى الحرب، لأنَّه لم يكن يفكِّر في أيّ حرب في الواقع الإسلاميّ، بل كان حريصاً على أن يحفظ المسلمين؛ أن يحفظ دماءهم، وأن يحفظ نظامهم، وأن يحفظ قوَّتهم، ولهذا قال: "لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً". ولذلك، عندما كان خارج نطاق الخلافة مع الخلفاء الثَّلاثة الَّذين تقدَّموه، كان يعمل بكلِّ ما عنده من قوَّة في سبيل أن يبعد المسلمين عن الفتنة، وليجنِّبهم الأخطار الَّتي تحيط بهم. حتَّى إنَّه، كما ورد في "نهج البلاغة"، نصح الخليفة الثَّاني في أن لا يذهب إلى الحرب الَّتي كانت تدور بين المسلمين والفرس بناءً على نصيحة قائد الحرب، لأنَّه قال له إنَّنا نخاف عليك أن تُقتَل، وأنت لم تعد تمثِّل نفسك، بل تمثِّل الموقع الإسلاميَّ، بقطع النَّظر عن شرعيَّة هذا الموقع أو عدم شرعيَّته.
وهكذا نرى أنَّه عندما انطلقت الفتنة بين المسلمين في مسألة الهجوم على عثمان، كان عليّ (ع)، بحسب ما تقول كتب السّيرة، يعمل على الدِّفاع عنه، وكان سفيراً بينه وبين المسلمين من أجل إزالة كلِّ الأمور الَّتي كان بعض المسلمين يأخذونها على عثمان.
لذلك، كان عليّ (ع) يعمل على إبقاء الواقع الإسلاميّ سالماً من الفتنة والارتباك، كما كان يعمل على أن يكون سالماً من كلِّ خطوات الظّلم. ولذلك، وقف مع أبي ذرّ الغفاريّ (رض)، عندما قام أبو ذرّ بمعارضة بعض الأمور الَّتي انحرفت عن الخطِّ الإسلاميّ الأصيل، ودعمَهُ، بالرّغم من أنَّ خليفة ذلك الوقت لم يقبل بذلك.
فعليّ (ع) لم يكن الإنسانَ الَّذي يريد أن يحارب المسلمين، ولهذا، كانت أولى التّعليمات الَّتي يوجِّهها (ع) إلى جيشه في كلِّ الحروب الَّتي خاضها: "لَا تَبْدَأوهم بِقِتَالِ"، لأنَّ الإمام، وهو يدفع جيشه، إنّما كان يرغب في أن يكون هذا الجيش عنصرَ ضغط ربَّما يجعل الآخرين يرتدعون عن خطِّ الانحراف والظّلم وإيجاد الفتنة بين المسلمين.
وتنقل بعض الروايات أنَّ عليّاً عندما دفع الجيش إلى صفّين في مواجهته لمعاوية، كان الجيش ينتظر أمره، وكان عليّ (ع) يمتنع عن إصدار الأمر، وبدأ أفراد الجيش يتحدَّثون فيما بينهم، عندما استبطأوا إذنه بالقتال، فقال بعضهم: لماذا لم يأذن لنا عليّ بالقتال وقد جاء بنا لنقاتل؟ لأنّ عليّاً (ع) لم يأت بالجيش من أجل الاستعراض، وإنّما جاء به من أجل القتال، فرأوا أنَّ القضيَّة تدور بين فرضيَّتين؛ الفرضيَّة الأولى أنَّ عليّاً أصبح كبيراً في السّنّ، والإنسان إذا كبرت سنُّه، أحبَّ الحياة أكثر، وكره الموت، ولذا قالوا: أكان ذلك كراهية للموت، أم شكّاً في أهل الشَّام؟
فسمع عليّ (ع)، كما تقول الرّواية، كلامهم، وعظمة عليّ (ع) أنَّه كان الإمام والحاكم الَّذي يُطلع الأمَّة على كلِّ شيء، وكان لا يتعقَّد من نقد، وإن كان عليّ في عصمته فوق النَّقد، وقد سمعتم منّي مراراً أقول إنَّ عليّاً في عناصره الرّوحيَّة، وفي معرفته بالله، وفي إيمانه بالله، هو فوق العصمة، إن كان هناك شيء فوق العصمة، وإن كان بعض المشايخ ينسبون إليَّ، زوراً وبهتاناً، أنّي أقول إنَّ عليّاً ليس معصوماً، هداهم الله.
كان عليّ يعمل على أن يثقِّف النَّاس بكلِّ ما يريد أن يفعله، وكان يريد للنَّاس أن يدرسوا كلَّ خطواته، لأنَّ عليّاً كان يعتبر أنَّ رسالته هي أن يملأ عقول النَّاس بالحقّ، كما يملأ حياتهم بالحقّ، لأنَّه لا يكفي أن تجبر النَّاس كحاكم على أن ينفِّذوا أوامرك، بل لا بدَّ لك أن تقنع النَّاس قبل ذلك بالفكرة، حتَّى ينطلقوا في التَّنفيذ من موقع اقتناعهم، لا من موقع الضَّغط عليهم، لأنَّ الإنسان الَّذي تضغط عليه، يبقى معك ما دام الضَّغط موجوداً، فإذا لم يعد هناك ضغط عليه، ابتعد عنك.
توجيهاتٌ في تربيةِ الأبناء
ولهذا أقول لكم، أيَّها الإخوة والأخوات، عندما تريدون أن توجِّهوا أبناءكم، أقنعوهم بما تريدون توجيههم إليه، حاوروا أبناءكم، وأفهموهم أين الحقّ والباطل في تفكيرهم، وفي علاقاتهم ومواقفهم، حتَّى تضمنوا أن يتحوَّل أبناؤكم إلى أشخاص يملكون الفكرة في وجدانهم كما تملكونها أنتم، ولا تفرضوا عليهم شيئاً من دون إعطائهم الوعي. ولكن - مع الأسف - إنَّ الأب في بعض الحالات، كما الأمّ في بعض الحالات، وحتَّى بعض المسؤولين الاجتماعيِّين، يتصرَّفون مع أبنائهم كما يتصرَّف الدِّيكتاتور مع شعبه، وهم يحاربون الدِّيكتاتور، فالأب يقول لولده أو لابنته ليس لك أيّ كلمة، الكلمة لي، لا أحد يناقشني، أنا من يفرض الرّأي، أنا سيِّد البيت... قد يكون هناك بعض حالات الخطر تستوجب أن نضغط، ولكن أن نضغط ونوجِّه.
ولكنَّنا في الوقت الَّذي نحارب الظَّالمين، قد نكون أظلم منهم، لأنَّك الآن تظلم على قدر ما عندك من سلطة، فتمارس سلطتك على هذه الفراخ الَّتي عندك في البيت، ولو امتلكت سلطة أكبر، لكان ظلمك أكبر.
الإمام عليّ (ع) اقتداءً برسول الله (ص)، كان يهمّه أن يعي النَّاس الفكرة قبل أن يطبِّقوها، ولذلك كان (ع) لا يتعقَّد من ملاحظة، ولا من فكر، ولا من نقد، وهو الَّذي قال لهم: "لَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ"، لا تعتبروني جبّاراً صاحب حكم وصاحب سيف وتخافوا منّي، بل خذوا حرّيّتكم في النَّقد والنَّصيحة، مع أنَّ عليّاً (ع) هو كما قال عنه رسول الله (ص): "أَنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُها".
ردُّ عليٍّ (ع) على الجنود
ولذلك، عندما سمع الإمام (ع) هذا الكلام من جنوده، لم يقل للضبّاط أدِّبوهم، بل وقف خطيباً فيهم وقال لهم: "أمَّا قَوْلُكُمْ: أَكُلُّ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ، فَوَاللَّه - في الكهولة كما في الشَّباب – مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَيَّ - عندما تكون الحركة نحو الموت شرعيَّةً، فليست عندي مشكلة، المهمّ أنّي عندما أستقبل الموت، أن يكون موقفي شرعيّاً يرضي الله، هذا هو الأساس عندي.
وأنا أريدكم أن تفهموا عليّاً جيِّداً، أن تُدخِلوا عليّاً في عقولكم، وأن تُدخِلوه في قلوبكم، ليشرقَ فكر عليّ فيكم، ولتشرقَ روحانيَّة عليّ في قلوبكم، فلا يكون (ع) مجرّد اسم نفتخر به، ولكن رسالة ننطلق من أجل أن نحركها في حياتنا وحياة الآخرين. لذلك عندما قال له رسول الله (ص)، كما تقول بعض الرّوايات: يا عليّ، أَبْكي لما يُسْتَحَلُّ مِنْكَ في هذا الشَّهرِ.. ماذا كان ردّ فعل عليّ (ع)؟ قال له: "وذلكَ في سلامةٍ من ديني؟"، فلا مشكلة في أن أقتل، المهمّ أن أقتل وأنا في سلامة من ديني، وليس هناك انحراف فيه، أريد أن أقابل الله سبحانه وتعالى وهو راض عنّي، لأني أحبُّ الله وأحبُّ أن أنال رضاه ومحبَّته: "فَهَبْني يا إِلـَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نَارِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى كَرامَتِكَ". وأجابه رسول الله (ص): "فِي سَلَامَةٍ مِنْ دِيْنِكَ"، وهو (ع) القائل: "لا أبالي أوقعْتُ على الموْتِ أو وقعَ الموتُ عليَّ".
ويتابع الإمام (ع): "وأَمَّا قَوْلُكُمْ شَكَّاً فِي أَهْلِ الشَّامِ – أنا عندما جئت، كنت أعرف أنَّ الجماعة على باطل وليسوا على حقّ - فَوَاللَّه – افهموا فلسفتي ودوافعي وخطّتي للحرب، أنا لا أدخل الحرب لأقتل النَّاس، لست سفَّاك دماء، لست الإنسان الَّذي يحبّ أن يقتل النَّاس من أجل أن يثبت بطولته وشجاعته – مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلَّا وأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي – فأنا أعتبر الحرب وسيلة ضغط على هؤلاء النَّاس، حتَّى عندما تصل المسألة إلى مستوى الخطر على حياتهم، يدفعهم ذلك إلى التَّفكير الصَّحيح، ومعرفة الحقَّ من الباطل، فيأتون إليَّ - وتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي - أنا عندي النّور؛ نور الإيمان والحقيقة، النّور الَّذي ينطلق من الله سبحانه ومن كتاب الله، وأريد لهذا النّور أن يبصره الآخرون.. بعض النَّاس لا يبصرون النّور لأنَّهم في منطقة الظّلام، أو لأنَّ هناك ضباباً يحجب عنهم هذا النّور، وأنا أردت الحرب من أجل أن تبعد كلَّ ظلام وضباب، حتَّى يعرف النَّاس الضّوء - وذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلَالِهَا – فأنا أحبُّ أن أرشد النَّاس وأهديهم، لا أن أقتلهم - وإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا"، قد تكون مستحقَّة، ولكن مع ذلك، أحبّ أن ينتقلوا من الضَّلال إلى الهدى.
الصَّبرُ في خطِّ الوعظِ
هذا فكر عليّ بن أبي طالب (ع) وفهمه للحرب. ولذلك علينا أن لا نتحمَّس لعليّ (ع) على أنَّه فقط بطلٌ يضرب بالسَّيف، وأنّه إذا ضربَ العدوَّ قصمه نصفين، الإمام عليّ (ع) لم يكن يهمُّه أن يقتل الكافر، بل أن يقتل كفره، حتّى إذا تحوَّل الكافر إلى خطرٍ على النَّاس وعلى الإيمان، ولم يكن من طريقةٍ أخرى، عندَ ذلكَ يقتله، حتَّى يحمي النَّاسَ من كفره، على طريقة نوح (ع)، فهو عندما بقي 950 سنة في دعوته، ولم يستجيبوا له، تعب من الأمر، ودعا الله أن يبيد كلَّ هؤلاء النَّاس {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}[نوح: 26].. لماذا؟ مع أنَّ الأنبياء لا ييأسون ولا يتعقَّدون، ولكن عندما بقي 950 سنة يدعوهم إلى عبادة الله، وهم يقفون ضدَّه ولا يستجيبون، وكان كفرهم يشكِّل خطراً على الواقع، فعند ذلك، لم يعد هناك إلَّا أن يدعو عليهم بالموت، ليتخلَّص الواقع من خطر كفرهم.
في بعض الحالات، عندما يوجِّه أحدٌ موعظة إلى النَّاس ولا يقبلون، يأتي من يقول إنَّ هؤلاء لا ينفع معهم الكلام. بلى، هناك من ينفع معهم الكلام والوعظ، ولكنَّ تأثير البيئة الَّتي يعيشون فيها، والإرث الَّذي يتوارثونه، يجعل عقولهم تتحجَّر.. أنت الآن، عندما تريد أن تحصل على الماء من النَّبع، ويكون هناك حجارة منعت من الوصول إلى الماء، فعليك أن تكسِّر الحجارة لكي تشرب مياهاً صافية.. أيضاً كلّ واحد منَّا، مهما كان وضعه، هناك نبعٌ صافٍ في أعماقه: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفطْرةِ"، هناك نبع خير فيه، ولكن تأتي التَّراكمات؛ حجارة من هنا، وأوساخ من هناك، وتغلق النَّبع... ونحن علينا أن نزيل هذه التراكمات، ونزيل هذه الحجارة حجراً حجراً.
هكذا علينا أن نعظ النَّاس ونرشدهم ونقرِّب أولادنا وبناتنا إلى ما نريد، إنَّ هؤلاء عندهم نبع طاهر وليسوا أشراراً، لكنَّهم بحاجةٍ إلى صبر {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النَّحل: 127]. المهمّ أنَّنا عندما نريد أن نصبر، أن يكون صبرنا لله. وإذا لم يستمع إليك النَّاس وأنت ترشدهم وتعظهم، فلا تتعامل مع الأمر كمسألة شخصيَّة، إنَّ الله يقول للنَّبيِّ (ص): {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّٰالِمِينَ بآياتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام: 33]...
نحن هكذا ينبغي أن نفعل؛ في بيوتنا عندما يعيش أولادنا بعض المشاكل، وفي المجتمع على مستوى علماء الدِّين، وعلى مستوى المسؤولين السياسيّين، ينبغي أن لا ننطلق من موقع عقدة إذا لم يتقبَّلنا النَّاس، بل ينبغي أن نتعلَّم من رسول الله (ص) الَّذي كان يقول: "اللَّهمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُون".. اتركهم وأمهلهم، فلربّما لم تصل الحقيقة إليهم بعد.
لذلك، كان الإمام عليّ (ع) يريد أن يقتل الكفر قبل أن يفكِّر في قتل الكافر، كان يريد أن يقتل الجريمة قبل أن يفكِّر في قتل المجرم، فإذا تحوَّل المجرم والكافر إلى خطر على الأمَّة، عند ذلك يأتي أمر الله.
لذلك، يجب أن نتعلَّم، ونحن نعيش هذا النَّوع من الحقد الَّذي يملأ قلوبنا، ونحن نعيش هذه العصبيَّة الَّتي تجتاح عقولنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، وتسدُّ علينا سبلنا وطرقنا، يجب أن نتعلَّم من عليّ الّذي تعلَّم من رسول الله الَّذي تعلَّم من الله سبحانه وتعالى، كيف نتحدَّث مع النَّاس بعقول مفتوحة تعرف كيف تهندس الطَّريق إلى عقولها، وقلوب مفتوحة تعرف كيف تعطي النَّاس المحبَّة لتجذبهم بها إلى كلمة الحقّ، وكيف تتعامل مع النَّاس بالتَّسامح بدلاً من التَّعقيد. وأعتقد أنَّ هذا هو الَّذي يمكن أن يربط النَّاس بالحقّ ويقودهم إلى الصِّراط المستقيم.
الوعظُ التَّدريجيّ
وهناك نقطة في هذا الإطار، وهي أنَّ بعض النَّاس يفكِّر أنَّه عندما يلقي موعظة أو خطبة أو عندما يتكلَّم مع النّاس، فينبغي أن يصبح المستمع مؤمناً مائة في المائة. ولكن علينا أن نفهم أنَّه لا أنا كواعظ معصوم، ولا النَّاس الَّذين يستمعون إليَّ معصومون، بل إنّي أكون ممنوناً إذا آمن الإنسان الَّذي يستمع إلى الموعظة، ولو بنسبة العشرة في المئة، لأنَّ العشرة في المائة تمهِّد للعشرين في المائة، والعشرين في المائة تمهِّد للثَّلاثين في المائة... ولكن خطِّط، ونبِّه النَّاس دائماً، والله يقول: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى: 9]، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذَّاريات: 55]، يعني أنقذ النَّاس من غفلاتهم.
وأعطيكم مثلاً على المسألة: هناك ما يسمَّى بطولة رفع الأثقال، فترى مَنْ هو قادر على رفع 150 كيلوعراماً، كيف أمكنه فعل هذا؟ في البداية، كان هذا الشَّخص يتدرَّب على رفع خمسة كيلوات فقط، ثمّ عندما قويت عضلاته أكثر، أصبح يحمل عشرة كيلوات، والعشرة تصبح عشرين وثلاثين، وعندما يبقى في عمليَّة تدريب للعضلات، تأخذ هذه العضلات قوّة وتعطي قوَّة، إلى أن يصل إلى رفع المائة كيلو والمائة والخمسين كيلو. وكما عندنا عضلات في أيدينا، عندنا عضلات في عقولنا وفي قلوبنا، وعلينا أن نقوِّي عضلات عقولنا لتصبح أقوى، وعضلات قلوبنا، حتّى تعرف كيف تحمل أثقال المحبَّة بعد أن حملت أثقال الحقد. القلب الَّذي يحمل الحقد قادر على أن يحمل المحبَّة، ولكنَّنا دائماً في حياتنا، ومن منطلق عصبيَّاتنا وحزبيَّاتنا وطائفيَّاتنا، نحاول دائماً أن نتمرَّن على الحقد، كيف نحقد على الآخر، وكيف ندمِّره ونسقطه، ولا ندرِّب أنفسنا على أن نحبَّه. والمحبَّة هي الَّتي تبني الحياة، والحقد هو الَّذي يدمِّرها، لذلك، يقول الإمام عليّ (ع)، وهو إمام المحبَّة: "اُحْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ"، فإذا أردت للآخر أن لا يفكِّر في الشَّرِّ ضدَّك، فلا تفكِّر أنت في الشّرّ، وحاول أن تجعل صدرك صدر الخير لا صدر الشَّرّ. وكما المرض يعدي، الصّحَّة أيضاً تعدي، وخصوصاً صحَّة العقل وصحَّة القلب.
التَّوازنُ في العلاقات
ومع ذلك، يقول الإمام (ع) لنا: لا أريد أن أجعلكم سذَّجاً ومغفَّلين، ولكن أريد منكم عندما تواجهون المشاكل في مجتمعاتكم؛ مشاكلكم في البيت، في المحلَّة، في السياسة، في الاقتصاد... أن لا تغلقوا قلوبكم كلَّها، وأن لا تفتحوها كلَّها.
نحن عادةً إمَّا نفتح قلوبنا إلى حدِّ السَّذاجة، وإمَّا نغلقها إلى أقصى حدّ.. الآن إذا اختلفنا مع أحد، نمتنع عن زيارته، ولا نسلِّم عليه، ولا نتكلَّم معه، ونرفض أيّ علاقة معه، وإذا أحببنا شخصاً، ننفتح عليه كلّ الانفتاح، ونعطيه كلَّ أسرارنا ومحبّتنا، ولا ندرس ما سيحصل في المستقبل نتيجة هذه العلاقة.
الإمام (ع) يريد محبَّة واعيةً عندما تحبّ، وبغضاً واعياً عندما تبغض، أن لا يكون حبّك أعمى ولا بغضك أعمى. يقول (ع): "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا - حبّاً هادئاً وعاقلاً - عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا – يمعنى أن يكون هناك احتياط للمستقبل - وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا – عندما تبغض فلا تبغض بكلِّ قلبك، بل أبغض بنصف قلبك، واجعل النّصف الثَّاني جاهزاً لأن يقبل التَّراجع - عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا".
الابتعادُ عن الحقدِ والعصبيَّة
هذه هي دروس الحياة، وعليّ بن أبي طالب هو أستاذ الحياة، ولكن استفيدوا من هذه المجالس، استفيدوا من كلمات عليّ (ع) الَّتي هي كلمات الله ورسوله، لأنَّ عليّاً يتحدَّث عن الله ورسوله.
أنا أقول مراراً لنفسي ولكم، أنا لست هنا لأخطب فيكم، أنا هنا لنتفاهم معاً كيف يمكن أن نريح أنفسنا ونحن متعبون، من منكم ليس متعباً برزقه، وببعض الجوانب الصّحيَّة أو السياسيَّة؟! فلماذا نريد أن نُتعِبَ أنفسنا أكثر؟ لماذا نخلق في كلِّ يوم مناسبة للتَّعب أكثر؟ الحقد أتعبنا، العداوة أتعبتنا، والبغضاء أتعبتنا، والحسد أتعبنا، والعصبيَّة أتعبتنا، وعلينا أن نعرف كيف نريح أنفسنا في الدّنيا، حتّى نعرف كيف نريح أنفسنا في الآخرة. هل هناك منكم من لا يريد الجنّة، صغارا وكباراً؟ ولكن عندما يريد الواحد منّا أن يعيش في الجنَّة، فعليه أن يعرف أخلاق أهل الجنَّة، فهل تتَّفق أخلاقنا مع أخلاق أهل الجنّة؟ {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[الحجر: 47]. الآن، إذا حشرنا بأحقادنا وبغضائنا وعداواتنا، فكيف ندخل الجنَّة؟! الإمام عليّ (ع) يقول: "أَفَبِهذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ، وَتَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ؟! هَيْهَاتَ! لَا يُخْدَعُ اللهُ عَنْ جَنَّتِهِ".
فلنبدأ بالتدرّب ليس فقط على السِّلاح، أو على هذه المهنة وتلك المهنة، بل أن نتدرَّب على رسالة الحبِّ بعضنا لبعض {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10].
ونبقى مع عليّ والحسين (ع) لنهتدي بهما، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 18/ 3/ 2002م.
في الوصيَّة الَّتي أوصى بها الإمامُ الحسينُ (ع) أخاه محمَّد بن الحنفيَّة عند خروجه، يقول (ع): "إنِّي لمْ أَخْرُجْ أَشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظَالماً".
لقد أراد الحسين (ع) أن يؤكِّدَ الصِّفة الإسلاميَّة في عناصر شخصيَّته، في خروجه على الحاكم الظَّالم، ليدفعَ عن حركته هذه، العناوينَ الَّتي يمكن أن تنطلق بها الحركات الأخرى، فهناك الَّذين يخرجون لينتفضوا على الحكم من أجل طموحاتهم الذاتيَّة، لأنَّهم يريدون أن يكونوا في المواقع العالية على أنقاض الآخرين، سواء كان الآخرون ممن يملكون الشَّرعيَّة والمنهج العادل، أو ممن لا يملكونهما، ليست القضيَّة لديهم هي إنقاذ المجتمع من هذا أو ذاك، فهم لا يفكِّرون في هذا الحاكم ما هي خطَّته وما هو منهجه، بل كلّ ما عندهم أنَّهم يريدون إسقاطه ليجلسوا مكانه، على قاعدة "قم لأجلس مكانك". وهذا ما نلاحظه في الكثيرين ممن يقومون بحركات المعارضة أو بالحركات الانقلابيَّة على هذا النّظام أو ذاك، أو هذا الحاكم أو ذاك، من أجل تضخيم دورهم الشّخصيّ.
الثَّورةُ غير الشَّرعيَّة!
ولعلَّنا نجد الكثيرين في التَّاريخ وفي الواقع المعاصر من أمثال هؤلاء، فنلاحظ أنَّ بعض النَّاس قد يثورون على الشرعيَّة العادلة تلبيةً لبعض ذاتيَّاتهم، وهذا ما لاحظناه في الحركات الَّتي قامت في وجه الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) منذ استُخلِف. ونحن نعرف أنَّ عليّاً (ع) كان يمثِّل الشَّرعيَّة الإسلاميَّة في خلافته على جميع المستويات، فإذا كنَّا نتحدَّث عن الشَّرعيَّة من خلال كتاب الله وسنَّة رسوله، فإنَّ عليّاً (ع) كان يملك هذه الشَّرعيَّة، والآية الكريمة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: 55] الَّتي فسَّرها المفسِّرون من السنَّة والشّيعة بأنَّها نزلت في عليّ (ع)، أثبتت له الولاية. وهكذا في كلِّ الكلمات المتنوّعة الَّتي صدرت عن النبيّ (ص) في شأن عليّ (ع) مما لم يصدر عنه (ص) في أيِّ صحابي آخر. وكانت نهاية المطاف في يوم الغدير، عندما قال رسول الله (ص) لجموع المسلمين العائدين من الحجّ: "مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ"، يعني من كنت أولى به من نفسه، وهو معنى الولاية والحاكميَّة، فعليٌّ أولى به من نفسه، بقرينة أنَّه (ص) قال: "أَلَسْتُ أولى بالمؤمنينَ مِنْ أنفسِهم؟".
فإذا كانت الشَّرعيَّة تنطلق كما هو الرَّأي الشِّيعي الإمامي، فعليٌّ يملك الشَّرعيَّة الإسلاميَّة في خلافته منذ البداية، وإذا قلنا إنَّ الشرعيَّة تنطلق من بيعة المسلمين، فلقد بايع المسلمون عليّاً (ع)، وقد اندفع المسلمون إليه، حتَّى لقد وُطِئَ الحسنان، من جهة اندفاع النَّاس إليه. حتى إنَّه جاء في بعض رسائله إلى معاوية، أنَّه قال له إنَّ الَّذين بايعوني هم الَّذين بايعوا أبا بكر وعمر، يعني إذا كنتم تعتبرون أنَّ البيعة هي أساس الشَّرعيَّة، وتعتبرون أنَّ الشَّرعيَّة لأبي بكر وعمر من خلال بيعة المسلمين لهم، فقد بايعني القوم الَّذين بايعوا أبا بكر وعمر، فإذا ثبتت الشَّرعيَّة لهما، فما هو الأساس للثَّورة عليَّ أو لمعارضتي؟
ولذا يقول (ع): "فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ، نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادَاً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: 83]. بَلى وَالله، لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا. وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا".
فكانت المسألة أنَّ بعض الصَّحابة، ومعهم أمُّ المؤمنين عائشة، انطلقوا إلى البصرة لينتفضوا على عليّ (ع).
نهجُ عليٍّ (ع) تفادي الحربِ
وحاول (ع) أن يتفادى الحرب، لأنَّه لم يكن يفكِّر في أيّ حرب في الواقع الإسلاميّ، بل كان حريصاً على أن يحفظ المسلمين؛ أن يحفظ دماءهم، وأن يحفظ نظامهم، وأن يحفظ قوَّتهم، ولهذا قال: "لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً". ولذلك، عندما كان خارج نطاق الخلافة مع الخلفاء الثَّلاثة الَّذين تقدَّموه، كان يعمل بكلِّ ما عنده من قوَّة في سبيل أن يبعد المسلمين عن الفتنة، وليجنِّبهم الأخطار الَّتي تحيط بهم. حتَّى إنَّه، كما ورد في "نهج البلاغة"، نصح الخليفة الثَّاني في أن لا يذهب إلى الحرب الَّتي كانت تدور بين المسلمين والفرس بناءً على نصيحة قائد الحرب، لأنَّه قال له إنَّنا نخاف عليك أن تُقتَل، وأنت لم تعد تمثِّل نفسك، بل تمثِّل الموقع الإسلاميَّ، بقطع النَّظر عن شرعيَّة هذا الموقع أو عدم شرعيَّته.
وهكذا نرى أنَّه عندما انطلقت الفتنة بين المسلمين في مسألة الهجوم على عثمان، كان عليّ (ع)، بحسب ما تقول كتب السّيرة، يعمل على الدِّفاع عنه، وكان سفيراً بينه وبين المسلمين من أجل إزالة كلِّ الأمور الَّتي كان بعض المسلمين يأخذونها على عثمان.
لذلك، كان عليّ (ع) يعمل على إبقاء الواقع الإسلاميّ سالماً من الفتنة والارتباك، كما كان يعمل على أن يكون سالماً من كلِّ خطوات الظّلم. ولذلك، وقف مع أبي ذرّ الغفاريّ (رض)، عندما قام أبو ذرّ بمعارضة بعض الأمور الَّتي انحرفت عن الخطِّ الإسلاميّ الأصيل، ودعمَهُ، بالرّغم من أنَّ خليفة ذلك الوقت لم يقبل بذلك.
فعليّ (ع) لم يكن الإنسانَ الَّذي يريد أن يحارب المسلمين، ولهذا، كانت أولى التّعليمات الَّتي يوجِّهها (ع) إلى جيشه في كلِّ الحروب الَّتي خاضها: "لَا تَبْدَأوهم بِقِتَالِ"، لأنَّ الإمام، وهو يدفع جيشه، إنّما كان يرغب في أن يكون هذا الجيش عنصرَ ضغط ربَّما يجعل الآخرين يرتدعون عن خطِّ الانحراف والظّلم وإيجاد الفتنة بين المسلمين.
وتنقل بعض الروايات أنَّ عليّاً عندما دفع الجيش إلى صفّين في مواجهته لمعاوية، كان الجيش ينتظر أمره، وكان عليّ (ع) يمتنع عن إصدار الأمر، وبدأ أفراد الجيش يتحدَّثون فيما بينهم، عندما استبطأوا إذنه بالقتال، فقال بعضهم: لماذا لم يأذن لنا عليّ بالقتال وقد جاء بنا لنقاتل؟ لأنّ عليّاً (ع) لم يأت بالجيش من أجل الاستعراض، وإنّما جاء به من أجل القتال، فرأوا أنَّ القضيَّة تدور بين فرضيَّتين؛ الفرضيَّة الأولى أنَّ عليّاً أصبح كبيراً في السّنّ، والإنسان إذا كبرت سنُّه، أحبَّ الحياة أكثر، وكره الموت، ولذا قالوا: أكان ذلك كراهية للموت، أم شكّاً في أهل الشَّام؟
فسمع عليّ (ع)، كما تقول الرّواية، كلامهم، وعظمة عليّ (ع) أنَّه كان الإمام والحاكم الَّذي يُطلع الأمَّة على كلِّ شيء، وكان لا يتعقَّد من نقد، وإن كان عليّ في عصمته فوق النَّقد، وقد سمعتم منّي مراراً أقول إنَّ عليّاً في عناصره الرّوحيَّة، وفي معرفته بالله، وفي إيمانه بالله، هو فوق العصمة، إن كان هناك شيء فوق العصمة، وإن كان بعض المشايخ ينسبون إليَّ، زوراً وبهتاناً، أنّي أقول إنَّ عليّاً ليس معصوماً، هداهم الله.
كان عليّ يعمل على أن يثقِّف النَّاس بكلِّ ما يريد أن يفعله، وكان يريد للنَّاس أن يدرسوا كلَّ خطواته، لأنَّ عليّاً كان يعتبر أنَّ رسالته هي أن يملأ عقول النَّاس بالحقّ، كما يملأ حياتهم بالحقّ، لأنَّه لا يكفي أن تجبر النَّاس كحاكم على أن ينفِّذوا أوامرك، بل لا بدَّ لك أن تقنع النَّاس قبل ذلك بالفكرة، حتَّى ينطلقوا في التَّنفيذ من موقع اقتناعهم، لا من موقع الضَّغط عليهم، لأنَّ الإنسان الَّذي تضغط عليه، يبقى معك ما دام الضَّغط موجوداً، فإذا لم يعد هناك ضغط عليه، ابتعد عنك.
توجيهاتٌ في تربيةِ الأبناء
ولهذا أقول لكم، أيَّها الإخوة والأخوات، عندما تريدون أن توجِّهوا أبناءكم، أقنعوهم بما تريدون توجيههم إليه، حاوروا أبناءكم، وأفهموهم أين الحقّ والباطل في تفكيرهم، وفي علاقاتهم ومواقفهم، حتَّى تضمنوا أن يتحوَّل أبناؤكم إلى أشخاص يملكون الفكرة في وجدانهم كما تملكونها أنتم، ولا تفرضوا عليهم شيئاً من دون إعطائهم الوعي. ولكن - مع الأسف - إنَّ الأب في بعض الحالات، كما الأمّ في بعض الحالات، وحتَّى بعض المسؤولين الاجتماعيِّين، يتصرَّفون مع أبنائهم كما يتصرَّف الدِّيكتاتور مع شعبه، وهم يحاربون الدِّيكتاتور، فالأب يقول لولده أو لابنته ليس لك أيّ كلمة، الكلمة لي، لا أحد يناقشني، أنا من يفرض الرّأي، أنا سيِّد البيت... قد يكون هناك بعض حالات الخطر تستوجب أن نضغط، ولكن أن نضغط ونوجِّه.
ولكنَّنا في الوقت الَّذي نحارب الظَّالمين، قد نكون أظلم منهم، لأنَّك الآن تظلم على قدر ما عندك من سلطة، فتمارس سلطتك على هذه الفراخ الَّتي عندك في البيت، ولو امتلكت سلطة أكبر، لكان ظلمك أكبر.
الإمام عليّ (ع) اقتداءً برسول الله (ص)، كان يهمّه أن يعي النَّاس الفكرة قبل أن يطبِّقوها، ولذلك كان (ع) لا يتعقَّد من ملاحظة، ولا من فكر، ولا من نقد، وهو الَّذي قال لهم: "لَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ"، لا تعتبروني جبّاراً صاحب حكم وصاحب سيف وتخافوا منّي، بل خذوا حرّيّتكم في النَّقد والنَّصيحة، مع أنَّ عليّاً (ع) هو كما قال عنه رسول الله (ص): "أَنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُها".
ردُّ عليٍّ (ع) على الجنود
ولذلك، عندما سمع الإمام (ع) هذا الكلام من جنوده، لم يقل للضبّاط أدِّبوهم، بل وقف خطيباً فيهم وقال لهم: "أمَّا قَوْلُكُمْ: أَكُلُّ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ، فَوَاللَّه - في الكهولة كما في الشَّباب – مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَيَّ - عندما تكون الحركة نحو الموت شرعيَّةً، فليست عندي مشكلة، المهمّ أنّي عندما أستقبل الموت، أن يكون موقفي شرعيّاً يرضي الله، هذا هو الأساس عندي.
وأنا أريدكم أن تفهموا عليّاً جيِّداً، أن تُدخِلوا عليّاً في عقولكم، وأن تُدخِلوه في قلوبكم، ليشرقَ فكر عليّ فيكم، ولتشرقَ روحانيَّة عليّ في قلوبكم، فلا يكون (ع) مجرّد اسم نفتخر به، ولكن رسالة ننطلق من أجل أن نحركها في حياتنا وحياة الآخرين. لذلك عندما قال له رسول الله (ص)، كما تقول بعض الرّوايات: يا عليّ، أَبْكي لما يُسْتَحَلُّ مِنْكَ في هذا الشَّهرِ.. ماذا كان ردّ فعل عليّ (ع)؟ قال له: "وذلكَ في سلامةٍ من ديني؟"، فلا مشكلة في أن أقتل، المهمّ أن أقتل وأنا في سلامة من ديني، وليس هناك انحراف فيه، أريد أن أقابل الله سبحانه وتعالى وهو راض عنّي، لأني أحبُّ الله وأحبُّ أن أنال رضاه ومحبَّته: "فَهَبْني يا إِلـَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نَارِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى كَرامَتِكَ". وأجابه رسول الله (ص): "فِي سَلَامَةٍ مِنْ دِيْنِكَ"، وهو (ع) القائل: "لا أبالي أوقعْتُ على الموْتِ أو وقعَ الموتُ عليَّ".
ويتابع الإمام (ع): "وأَمَّا قَوْلُكُمْ شَكَّاً فِي أَهْلِ الشَّامِ – أنا عندما جئت، كنت أعرف أنَّ الجماعة على باطل وليسوا على حقّ - فَوَاللَّه – افهموا فلسفتي ودوافعي وخطّتي للحرب، أنا لا أدخل الحرب لأقتل النَّاس، لست سفَّاك دماء، لست الإنسان الَّذي يحبّ أن يقتل النَّاس من أجل أن يثبت بطولته وشجاعته – مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلَّا وأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي – فأنا أعتبر الحرب وسيلة ضغط على هؤلاء النَّاس، حتَّى عندما تصل المسألة إلى مستوى الخطر على حياتهم، يدفعهم ذلك إلى التَّفكير الصَّحيح، ومعرفة الحقَّ من الباطل، فيأتون إليَّ - وتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي - أنا عندي النّور؛ نور الإيمان والحقيقة، النّور الَّذي ينطلق من الله سبحانه ومن كتاب الله، وأريد لهذا النّور أن يبصره الآخرون.. بعض النَّاس لا يبصرون النّور لأنَّهم في منطقة الظّلام، أو لأنَّ هناك ضباباً يحجب عنهم هذا النّور، وأنا أردت الحرب من أجل أن تبعد كلَّ ظلام وضباب، حتَّى يعرف النَّاس الضّوء - وذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلَالِهَا – فأنا أحبُّ أن أرشد النَّاس وأهديهم، لا أن أقتلهم - وإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا"، قد تكون مستحقَّة، ولكن مع ذلك، أحبّ أن ينتقلوا من الضَّلال إلى الهدى.
الصَّبرُ في خطِّ الوعظِ
هذا فكر عليّ بن أبي طالب (ع) وفهمه للحرب. ولذلك علينا أن لا نتحمَّس لعليّ (ع) على أنَّه فقط بطلٌ يضرب بالسَّيف، وأنّه إذا ضربَ العدوَّ قصمه نصفين، الإمام عليّ (ع) لم يكن يهمُّه أن يقتل الكافر، بل أن يقتل كفره، حتّى إذا تحوَّل الكافر إلى خطرٍ على النَّاس وعلى الإيمان، ولم يكن من طريقةٍ أخرى، عندَ ذلكَ يقتله، حتَّى يحمي النَّاسَ من كفره، على طريقة نوح (ع)، فهو عندما بقي 950 سنة في دعوته، ولم يستجيبوا له، تعب من الأمر، ودعا الله أن يبيد كلَّ هؤلاء النَّاس {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}[نوح: 26].. لماذا؟ مع أنَّ الأنبياء لا ييأسون ولا يتعقَّدون، ولكن عندما بقي 950 سنة يدعوهم إلى عبادة الله، وهم يقفون ضدَّه ولا يستجيبون، وكان كفرهم يشكِّل خطراً على الواقع، فعند ذلك، لم يعد هناك إلَّا أن يدعو عليهم بالموت، ليتخلَّص الواقع من خطر كفرهم.
في بعض الحالات، عندما يوجِّه أحدٌ موعظة إلى النَّاس ولا يقبلون، يأتي من يقول إنَّ هؤلاء لا ينفع معهم الكلام. بلى، هناك من ينفع معهم الكلام والوعظ، ولكنَّ تأثير البيئة الَّتي يعيشون فيها، والإرث الَّذي يتوارثونه، يجعل عقولهم تتحجَّر.. أنت الآن، عندما تريد أن تحصل على الماء من النَّبع، ويكون هناك حجارة منعت من الوصول إلى الماء، فعليك أن تكسِّر الحجارة لكي تشرب مياهاً صافية.. أيضاً كلّ واحد منَّا، مهما كان وضعه، هناك نبعٌ صافٍ في أعماقه: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفطْرةِ"، هناك نبع خير فيه، ولكن تأتي التَّراكمات؛ حجارة من هنا، وأوساخ من هناك، وتغلق النَّبع... ونحن علينا أن نزيل هذه التراكمات، ونزيل هذه الحجارة حجراً حجراً.
هكذا علينا أن نعظ النَّاس ونرشدهم ونقرِّب أولادنا وبناتنا إلى ما نريد، إنَّ هؤلاء عندهم نبع طاهر وليسوا أشراراً، لكنَّهم بحاجةٍ إلى صبر {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النَّحل: 127]. المهمّ أنَّنا عندما نريد أن نصبر، أن يكون صبرنا لله. وإذا لم يستمع إليك النَّاس وأنت ترشدهم وتعظهم، فلا تتعامل مع الأمر كمسألة شخصيَّة، إنَّ الله يقول للنَّبيِّ (ص): {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّٰالِمِينَ بآياتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام: 33]...
نحن هكذا ينبغي أن نفعل؛ في بيوتنا عندما يعيش أولادنا بعض المشاكل، وفي المجتمع على مستوى علماء الدِّين، وعلى مستوى المسؤولين السياسيّين، ينبغي أن لا ننطلق من موقع عقدة إذا لم يتقبَّلنا النَّاس، بل ينبغي أن نتعلَّم من رسول الله (ص) الَّذي كان يقول: "اللَّهمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُون".. اتركهم وأمهلهم، فلربّما لم تصل الحقيقة إليهم بعد.
لذلك، كان الإمام عليّ (ع) يريد أن يقتل الكفر قبل أن يفكِّر في قتل الكافر، كان يريد أن يقتل الجريمة قبل أن يفكِّر في قتل المجرم، فإذا تحوَّل المجرم والكافر إلى خطر على الأمَّة، عند ذلك يأتي أمر الله.
لذلك، يجب أن نتعلَّم، ونحن نعيش هذا النَّوع من الحقد الَّذي يملأ قلوبنا، ونحن نعيش هذه العصبيَّة الَّتي تجتاح عقولنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، وتسدُّ علينا سبلنا وطرقنا، يجب أن نتعلَّم من عليّ الّذي تعلَّم من رسول الله الَّذي تعلَّم من الله سبحانه وتعالى، كيف نتحدَّث مع النَّاس بعقول مفتوحة تعرف كيف تهندس الطَّريق إلى عقولها، وقلوب مفتوحة تعرف كيف تعطي النَّاس المحبَّة لتجذبهم بها إلى كلمة الحقّ، وكيف تتعامل مع النَّاس بالتَّسامح بدلاً من التَّعقيد. وأعتقد أنَّ هذا هو الَّذي يمكن أن يربط النَّاس بالحقّ ويقودهم إلى الصِّراط المستقيم.
الوعظُ التَّدريجيّ
وهناك نقطة في هذا الإطار، وهي أنَّ بعض النَّاس يفكِّر أنَّه عندما يلقي موعظة أو خطبة أو عندما يتكلَّم مع النّاس، فينبغي أن يصبح المستمع مؤمناً مائة في المائة. ولكن علينا أن نفهم أنَّه لا أنا كواعظ معصوم، ولا النَّاس الَّذين يستمعون إليَّ معصومون، بل إنّي أكون ممنوناً إذا آمن الإنسان الَّذي يستمع إلى الموعظة، ولو بنسبة العشرة في المئة، لأنَّ العشرة في المائة تمهِّد للعشرين في المائة، والعشرين في المائة تمهِّد للثَّلاثين في المائة... ولكن خطِّط، ونبِّه النَّاس دائماً، والله يقول: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}[الأعلى: 9]، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذَّاريات: 55]، يعني أنقذ النَّاس من غفلاتهم.
وأعطيكم مثلاً على المسألة: هناك ما يسمَّى بطولة رفع الأثقال، فترى مَنْ هو قادر على رفع 150 كيلوعراماً، كيف أمكنه فعل هذا؟ في البداية، كان هذا الشَّخص يتدرَّب على رفع خمسة كيلوات فقط، ثمّ عندما قويت عضلاته أكثر، أصبح يحمل عشرة كيلوات، والعشرة تصبح عشرين وثلاثين، وعندما يبقى في عمليَّة تدريب للعضلات، تأخذ هذه العضلات قوّة وتعطي قوَّة، إلى أن يصل إلى رفع المائة كيلو والمائة والخمسين كيلو. وكما عندنا عضلات في أيدينا، عندنا عضلات في عقولنا وفي قلوبنا، وعلينا أن نقوِّي عضلات عقولنا لتصبح أقوى، وعضلات قلوبنا، حتّى تعرف كيف تحمل أثقال المحبَّة بعد أن حملت أثقال الحقد. القلب الَّذي يحمل الحقد قادر على أن يحمل المحبَّة، ولكنَّنا دائماً في حياتنا، ومن منطلق عصبيَّاتنا وحزبيَّاتنا وطائفيَّاتنا، نحاول دائماً أن نتمرَّن على الحقد، كيف نحقد على الآخر، وكيف ندمِّره ونسقطه، ولا ندرِّب أنفسنا على أن نحبَّه. والمحبَّة هي الَّتي تبني الحياة، والحقد هو الَّذي يدمِّرها، لذلك، يقول الإمام عليّ (ع)، وهو إمام المحبَّة: "اُحْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ"، فإذا أردت للآخر أن لا يفكِّر في الشَّرِّ ضدَّك، فلا تفكِّر أنت في الشّرّ، وحاول أن تجعل صدرك صدر الخير لا صدر الشَّرّ. وكما المرض يعدي، الصّحَّة أيضاً تعدي، وخصوصاً صحَّة العقل وصحَّة القلب.
التَّوازنُ في العلاقات
ومع ذلك، يقول الإمام (ع) لنا: لا أريد أن أجعلكم سذَّجاً ومغفَّلين، ولكن أريد منكم عندما تواجهون المشاكل في مجتمعاتكم؛ مشاكلكم في البيت، في المحلَّة، في السياسة، في الاقتصاد... أن لا تغلقوا قلوبكم كلَّها، وأن لا تفتحوها كلَّها.
نحن عادةً إمَّا نفتح قلوبنا إلى حدِّ السَّذاجة، وإمَّا نغلقها إلى أقصى حدّ.. الآن إذا اختلفنا مع أحد، نمتنع عن زيارته، ولا نسلِّم عليه، ولا نتكلَّم معه، ونرفض أيّ علاقة معه، وإذا أحببنا شخصاً، ننفتح عليه كلّ الانفتاح، ونعطيه كلَّ أسرارنا ومحبّتنا، ولا ندرس ما سيحصل في المستقبل نتيجة هذه العلاقة.
الإمام (ع) يريد محبَّة واعيةً عندما تحبّ، وبغضاً واعياً عندما تبغض، أن لا يكون حبّك أعمى ولا بغضك أعمى. يقول (ع): "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا - حبّاً هادئاً وعاقلاً - عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا – يمعنى أن يكون هناك احتياط للمستقبل - وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْناً مَا – عندما تبغض فلا تبغض بكلِّ قلبك، بل أبغض بنصف قلبك، واجعل النّصف الثَّاني جاهزاً لأن يقبل التَّراجع - عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا".
الابتعادُ عن الحقدِ والعصبيَّة
هذه هي دروس الحياة، وعليّ بن أبي طالب هو أستاذ الحياة، ولكن استفيدوا من هذه المجالس، استفيدوا من كلمات عليّ (ع) الَّتي هي كلمات الله ورسوله، لأنَّ عليّاً يتحدَّث عن الله ورسوله.
أنا أقول مراراً لنفسي ولكم، أنا لست هنا لأخطب فيكم، أنا هنا لنتفاهم معاً كيف يمكن أن نريح أنفسنا ونحن متعبون، من منكم ليس متعباً برزقه، وببعض الجوانب الصّحيَّة أو السياسيَّة؟! فلماذا نريد أن نُتعِبَ أنفسنا أكثر؟ لماذا نخلق في كلِّ يوم مناسبة للتَّعب أكثر؟ الحقد أتعبنا، العداوة أتعبتنا، والبغضاء أتعبتنا، والحسد أتعبنا، والعصبيَّة أتعبتنا، وعلينا أن نعرف كيف نريح أنفسنا في الدّنيا، حتّى نعرف كيف نريح أنفسنا في الآخرة. هل هناك منكم من لا يريد الجنّة، صغارا وكباراً؟ ولكن عندما يريد الواحد منّا أن يعيش في الجنَّة، فعليه أن يعرف أخلاق أهل الجنَّة، فهل تتَّفق أخلاقنا مع أخلاق أهل الجنّة؟ {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}[الحجر: 47]. الآن، إذا حشرنا بأحقادنا وبغضائنا وعداواتنا، فكيف ندخل الجنَّة؟! الإمام عليّ (ع) يقول: "أَفَبِهذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ، وَتَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ؟! هَيْهَاتَ! لَا يُخْدَعُ اللهُ عَنْ جَنَّتِهِ".
فلنبدأ بالتدرّب ليس فقط على السِّلاح، أو على هذه المهنة وتلك المهنة، بل أن نتدرَّب على رسالة الحبِّ بعضنا لبعض {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10].
ونبقى مع عليّ والحسين (ع) لنهتدي بهما، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 18/ 3/ 2002م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية