ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
هدىً وبيّنـات
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان}، هذا الشهر الكريم هو الشهر الذي يريد الله تعالى منا أن نفرغ فيه للعبادة، لزيادة معرفتنا به وطاعتنا له، حتى نملك من ذلك زيادة القرب منه؛ القرب بالروح وبالعقل وبالحركة في كل مواقع الحياة، حتى يتحوّل الإنسان إنساناً ربانياً يعيش لربه، من دون أن يغفل عن حاجاته في حياته.
ويريد الله تعالى منّا، ونحن نفرغ له، أن نفرغ لأنفسنا لنفهمها فهماً دقيقاً تفصيلياً، لماذا؟ لأن المشكلة هي أن ما في داخل هذه النفس قد لا يكون دخلها باختيارنا، فنحن ربما أخذنا ببعض الأخلاق من خلال البيئة التي عشنا فيها ففرضت علينا أخلاقها، وقد تكون أخلاقاً سيئة ولكننا اعتدناها، وربما أخذنا طباعاً من خلال الأجواء التي كنا نعيش فيها مما كان يملكه آباؤنا وأمهاتنا أو مما قرأناه وسمعناه، وربما أخذنا ببعض العادات والتقاليد من خلال ما تأثّرنا به في المجتمع، حتى أننا قد نكتشف أننا نحب بعض الناس من دون الأخذ بالدقة المطلوبة في الحساب، فقد نحبهم لأن أهلنا يحبونهم، ونتعصّب لهم لأن أهلنا يتعصّبون لهم، من دون تدقيق في أن هذا الحبّ أو البغض، هل هو في الخط المستقيم أو ليس في الخط المستقيم؟ والمشكلة هي ما عبّر الله تعالى عنه في بعض آياته عن الأخسرين أعمالاً، فيقول تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً* الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}..
هذا النوع ـ وأقولها لنفسي ولكم ـ من الفوضى النفسية والاجتماعية والسياسية، ومن الضجيج الذي يحيط بنا، والأشغال التي تستهلكنا، هذا كله يشغلنا عن أنفسنا، ولذلك فنحن لا نعرف أنفسنا جيداً، والحديث يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا"، اجلس مع نفسك قبل أن تجلس مع الآخرين لتفهمها بدل أن تخوض معهم في لغو لا ينفع، وخطورة الغفلة عن النفس تنعكس على الدنيا والآخرة، حيث إنك تفقد في الدنيا ميزان الخير والشر والحق والباطل، وأما في الآخرة فإنك لا تجد من يدافع عنك، فلا بدّ أن تجادل عن نفسك. لذلك، يحتاج الإنسان أن يعرف خلفيات أعماله، هل هي خلفيات خير أو شر؟ ويعرف طبيعة أخلاقه هل هي طبائع الإسلام أو الكفر؟ ويعرف طبيعة مواقفه هل هي مواقف إسلامية أو عصبية؟
لذلك، ونحن ندخل شهر رمضان المبارك، علينا أن نقف مع دعاء الإمام زين العابدين(ع) الذي يحدِّد فيه مسؤوليتنا في هذا الشهر، وأنا أؤكد على كل الأخوة والأخوات أن ينفتحوا على الصحيفة السجادية ويهتموا بها، لأنها تعالج قضايا الإنسان في نفسه والمجتمع والمفاهيم الإسلامية العامة، ونحن نحاول في هذه العجالة أن نقرأ بعض فقرات هذا الدعاء، فيقول(ع):
شهر الله
"والحمد لله الذي جعل من تلك السبل ـ الطرق التي تؤدي إلى الله تعالى ـ شهره ـ وهذا ما يؤكد أن شهر رمضان هو شهر الله، وكل الشهور شهور الله، ولكن في شهر رمضان يريد الله للإنسان أن يكون خالصاً له فنسب الشهر إليه ـ شهر الصيام وشهر الإسلام ـ لأن شهر رمضان هو الشهر الذي نزل فيه القرآن، الذي هو كتاب الإسلام، وأراد الله للناس أن يقرأوا القرآن، ويتدبروا فيه، ليحصلوا على ثقافة الإسلام، وأن يمارسوا الإسلام في فرائضه ونوافله، وأن يعيشوا روح الدعوة إلى الإسلام ـ وشهر الطهور ـ الشهر الذي نتطهّر به من كل القذارات الروحية والأخلاقية والنفسية ـ وشهر التمحيص ـ الذي يحاول الإنسان فيه أن يجاهد نفسه، ليحركها في الاتجاه الصحيح ـ وشهر القيام ـ لأن الله أراد لنا أن نقوم إليه في صلاتنا ليلاً ونهاراً ـ الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس ـ القرآن هو كتاب هداية وليس مجرد كتاب نقرأه ـ وبيّنات من الهدى والفرقان، فأبان فضيلته على سائر الشهور ـ بيّن أن هذا الشهر هو أفضل الشهور، كيف؟ ـ بما جعل له من الحرمات الموفورة والفضائل المشهورة فحرّم فيه ما أحلّ في غيره إعظاماً، وحجر فيه المطاعم والمشارب إكراماً، وجعل له وقتاً بيّناً لا يجيز عزّ وجلّ أن يُقدّم قبله ولا يقبل أن يؤخَّر عنه، ثم فضّل ليلة واحدة من لياليه على ألف شهر، وسمّاها ليلة القدر تنزّل الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ـ والروح هو خلق عظيم من الملائكة، وقيل هو جبرائيل مع الملائكة ـ سلام دائم البركة إلى طلوع الفجر، على من يشاء من عباده بما أحكم من قضائه".
معرفة فضل شهر رمضان
ماذا يطلب الإمام زين العابدين(ع) من ربه ويعلّمنا أن نطلبها منه تعالى: "اللهم صلِّ على محمد وآله، وألهمنا معرفة فضله ـ حتى لا نتهاون فيه باللهو واللعب والتجاهر بالإفطار ـ وإجلال حرمته، والتحفّظ مما حظرت فيه، وأعنّا على صيامه بكفّ الجوارح واستعمالها فيه بما يرضيك ـ كل أعضائنا مكلّفة بالكف عن كل محرّم، ولا يكفي أن نمتنع عن الطعام والشراب ـ حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو ـ لأن من علامة المؤمن أنه يعرض عن اللغو ـ ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو ـ إلى ما يشغلنا عن طاعتك بما حرّمته علينا ـ وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور ـ فلا نحرّك بأيدينا ما حرّمته علينا ـ ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور ـ لا نمشي إلى هدف لا يرضاه الله من أماكن الظلم والفجور ـ وحتى لا تعي بطوننا إلا ما أحللت ـ لا ننزل إلى بطوننا إلا الطعام والشراب الحلال ـ ولا ننطق بألسنتنا إلا بما مثّلت، ولا نتكلّف إلا ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلا الذي يقي من عقابك، ثم خلّص ذلك كله من رياء المرائين وسمعة المسمعين، لا نشرك فيه أحداً دونك، ولا نبتغي به مراداً سواك".
الوقوف على مواقيت الصلاة
ثم يقول(ع): "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وقفنا فيه على مواقيت الصلوات الخمس ـ لا نشتغل عنها ببعض أعمالنا، فلا نضيّعها ونهملها ـ بحدودها التي حددت، وفروضها التي فرضت، ووظائفها التي وظّفت، وأوقاتها التي وقّتت، وأنزلنا فيها منزلة المصيبين لمنازلها، الحافظين لأركانها ـ بحيث تكون عندنا ثقافة أحكام الصلاة ـ المؤدين لها في أوقاتها على ما سنّه عبدك ورسولك، صلواتك عليه وآله، في ركوعها وسجودها وجميع فواضلها على أتمّ الطهور ـ أن يكون غسلنا ووضوؤنا صحيحين ـ وأسبغه، وأبين الخشوع وأبلغه".
في العلاقات الاجتماعية
ثم يتعرّض الإمام زين العابدين(ع) للجانب الاجتماعي في شهر رمضان، فيقول: "ووفقنا فيه لأن نصل أرحامنا بالبر والصلة، وأن نتعهد جيراننا بالإفضال والعطية، وأن نخلّص أموالنا من التبعات، وأن نطهّرها بإخراج الزكوات ـ لأن بعض الناس لا يخمّس أمواله إلا إذا أراد أن يذهب إلى الحج، والخمس واجب في أيام الحج وغيره، وكل من لا يخرج المال الشرعي من أمواله متعمداً، فإنه سارق لأموال اليتامى والمساكين ـ وأن نراجع من هاجرنا، وأن ننصف من ظلمنا، وأن نسالم من عادانا، حاشا من عودي لك وفيك ـ ما عدا الأعداء الذين يعادوننا لأننا التزمنا خطك وانتمينا إلى دينك ـ فإنه العدو الذي لا نواليه، والحزب الذي لا نصافيه، وأن نتقرّب إليك فيه من الأعمال الزاكية بما تطهّرنا به من الذنوب وتعصمنا فيه مما نستأنف من العيوب"..
هذا هو المناخ الذي يريدنا الإمام زين العابدين(ع) أن نعيشه في بداية هذا الشهر، وهو يعبّر عن خط رسول الله(ص) وخط آبائه وأجداده(ع). لذلك علينا قبل أن نحضّر مؤونة شهر رمضان أن نبسط مائدة الخير والحق والعدل، وان نتعبأ في هذا الشهر تعبئة روحية، بحيث يرانا الله في مواقع طاعته ولا يرانا في مواقع معصيته.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وحاولوا أن تملأوا الزمن كل الزمن بما يقرّبكم إلى الله في أموركم الخاصة والعامة، فإن الله تعالى لم يترك فعلاً إلا وركَّز فيه حكماً يريدنا أن نطيعه فيه، لذلك لا بدّ لنا أن يكون كل سلوكنا في الخط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي إليه، فقد كان رسول الله(ص) والصفوة الطيبة من أهل بيته(ع) وأصحابه ينطلقون بما يرضي الله ويعيشون الشوق في الحصول على رضاه ولا شيء إلا رضاه، على الرغم مما كانوا يلاقونه من الجهد ومن عنت الجهّال والحاقدين.
لذلك، على الإنسان أن يشعر أن رضى الله فوق كل رضى، لا أن يعمل ليحصل على رضى الناس على حساب رضى الله، لأن هؤلاء الناس لا يملكون له نفعاً ولا ضراً. ليكن كل أمرنا في الحياة في مواقع رضى الله، في البيت والسوق والشارع، وفي مواقع السياسة والاقتصاد، أن يكون كل همّنا ما يرضي الله عنا.. وأن يكون موقفنا مع الحق كله ضد الاستكبار كله، ونحن لا نزال في صراع مع المستكبرين والظالمين، فتعالوا نعرف ماذا هناك.
التزام أميركي بأمن إسرائيل
لا تزال إسرائيل تمارس حريتها في القتل والتدمير وإرهاب الدولة ضد الشعب الفلسطيني، بفعل الحرية الممنوحة لها من الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمنع كل ضغط أو إدانة لها. فبالرغم من قرار الدول المالكة للقرار في مجلس الأمن بالانسحاب من مناطق سلطة الحكم الذاتي، لم تأبه إسرائيل لذلك، ولم يصدر من أمريكا ولا من مجلس الأمن أيّ تأنيب أو إدانة لها، بل كانت الضغوط موجَّهة للفلسطينيين في إيقاف ما يسمّونه العنف الفلسطيني، الذي يعرف الجميع أنه ردّ فعل لعنف الجيش الصهيوني المتحرّك بقرارات "شارون" في القتل بلا رحمة، والتدمير بلا شفقة، والاجتياح بدون أساس.
إن أمريكا المخادعة المنافقة تحرّك الكلمات الضبابية في الجمعية العامة للأمم المتحدة عن التسوية، وعن مشاريع السلام، وعن التخويف من انهيار الأوضاع إذا لم تحدث التسوية، وعن الدولة الفلسطينية الضائعة في ملامحها في متاهات المفاوضات، ودبابات "شارون" تقصف وتقتل وتدمّر، هذا في الوقت الذي ترفض فيه الدوائر الدولية حق المقاومة للفلسطينيين وتعتبره إرهاباً، وتتجاهل إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل.. ويبقى المشروع الأمريكي وراء الكواليس في الواقع هو أمن إسرائيل المطلق، ليبقى الأمن الفلسطيني على الهامش منه..
وأوروبا حائرة، فهي تتقدّم خطوة في اتجاه مصالحها في التسوية، لتتراجع عشر خطوات من خلال غموض الموقف الأمريكي الذي لا يمنحها أية فعالية في الدور الموكل إليها.. وروسيا تبحث عن دور ضائع فقدته منذ زمن، والمسألة كلها كامنة في العجز العربي والضعف الإسلامي بالرغم من قوة الحق عربياً وإسلامياً.. وكل شيء في الهواء، ويبقى الانتظار إلى ما لا نهاية هو سيد الموقف..
والشعب الفلسطيني يتابع انتفاضته، ليبقى هو القوة التي تخترق الأمن الصهيوني أمام القوة الإسرائيلية الوحشية.. وتبقى للشعوب العربية والإسلامية كلمتها في الموقف الذي يعيد للأمة وحدتها في مواجهة التحديات الصهيونية والأمريكية.. وتبقى فلسطين في الوجدان وفي الواقع، فلا يملك أحد إلغاءها من الخريطة مهما امتد الزمن.
الأفغان يعيشون هاجس المصير
وفي التطورات المتسارعة المفاجئة في حرب أفغانستان، بعد تفكك نظام "طالبان"، يدور الجدل حول الحكومة القادمة هناك بين أطراف الصراع، ولكن الحل يبقى ـ في اللعبة الدولية ـ في يد أمريكا التي تملك الجو، وتملك قرار الأمم المتحدة، في الوقت الذي يملك فيه تحالف الشمال الأرض، ولا يزال المشروع في دائرة المصالح الدولية والإقليمية في نطاق شعار "الحرب على الإرهاب"..
والشعب الأفغاني الذي ارتفع عنه القصف الأمريكي الوحشي المدمِّر بشكل جزئي، حائر أمام المستقبل المجهول، في أسئلة كثيرة: ما هي الخطة الجديدة؟ هل كان انسحاب الطالبان من المدن تكتيكياً أو هزيمة؟ وهل تعود الحرب الداخلية من جديد، لا سيما أن الأطراف المتنازعة تختلف في انتماءاتها الإقليمية والدولية وفي خصوصياتها العرقية؟ وهل تتحرك حرب العصابات من جديد؟ وماذا عن باكستان التي تعيش الإرباك السياسي والأمني أمام الخدعة الأمريكية.. وقد دخلت الأمم المتحدة على الخط لتخفف الإحراج الأمريكي الذي يحاول إدارة اللعبة باسم الأمم المتحدة، التي تحوّلت إلى مجلس للأمن القومي الأمريكي؟ وما هي الوسائل الكفيلة بالحل أمام كل التجاذبات والتناقضات؟؟
والسؤال الكبير: لماذا أبعدت أمريكا الأمم المتحدة عن القضية الفلسطينية بالكامل، حتى في بحث جرائم إسرائيل وفي حماية الشعب الفلسطيني منها وترتيب التسوية، بل لم تسمح لأية دولة أخرى بالتدخّل فيها بشكل فاعل، في الوقت الذي يمثّل فيه الصراع العربي ـ الإسرائيلي الموقع المتفجِّر على مستوى المنطقة كلها بما يعرّض المصالح الدولية للخطر، بينما أفسحت المجال للأمم المتحدة للبحث في الحكومة المقبلة لأفغانستان؟؟ إن أمريكا تريد بقاء أفغانستان قاعدة استراتيجية لمصالحها في المنطقة، للحصول على المكاسب الاقتصادية والأمنية والسياسية لممارسة مزيد من الضغط على الدول المحيطة بها، والواقعة في محورها الجغرافي..
إن على المسلمين والعرب والعالم كله أن يعرفوا أن أمريكا لا تهتم بمصالح العالم كله، بل إنها تعمل في نطاق التحالف الدولي ضد ما يسمونه الإرهاب لخدمة مصالحها على حساب مصالح الآخرين.. وإننا نتصوّر أن التناقضات في المصالح الدولية سوف تنفجر بين وقت وآخر، لا سيما أن الشعوب بدأت تعيش القلق على مستقبلها أمام الهجمة الأمريكية.
الخروج من حال اللامبالاة والهزيمة
لا بدّ أن تخرج الشعوب العربية والإسلامية من حالة اللامبالاة والهزيمة النفسية، والخوف من التهويل الأمريكي، والابتعاد عن كل أسباب العنف في العدوان على المدنيين الأبرياء، لأن ذلك مخالف للقيم الإسلامية.. والتأكيد على الوقوف مع المقاومة للاحتلال في لبنان وفلسطين، وفي كل مكان للحرية فيه قضية، وللإسلام وللمستضعفين فيه معركة.
ويبقى لنا ـ في لبنان ـ أن نقف جميعاً مع وحدتنا على المستوى الشعبي كله، بعيداً عن العصبيات الطائفية والمذهبية والحزبية والحرتقات السياسية، لأن هناك أكثر من ضغط أمريكي للّعب على التناقضات والتعقيدات، وهناك أكثر من لعبة دولية على هامش اللوائح الأمريكية.. إن الوحدة هي الخلاص، والشارد من الغنم يبقى طُعمةً للذئاب. |