ليكن رمضان مدرسة نتربى فيها أخلاقياً وروحياً

ليكن رمضان مدرسة نتربى فيها أخلاقياً وروحياً

مع إطلالة شهر المغفرة والرحمة.. والعمل:
ليكن رمضان مدرسة نتربى فيها أخلاقياً وروحياً


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

بداية شهر رمضان

أمامنا في هذا اللقاء حديثان، الحديث الأول هو بداية شهر رمضان المبارك. الجميع يعرف أن المبنى الفقهي الذي التزمناه في اجتهادنا، والذي يتفق مع المبنى الذي ارتضاه أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي(قده)، هو أنه ليس من ضرورة للرؤية، بل إن الهلال ظاهرة كونية، والرؤية مجرد وسيلة من وسائل المعرفة، وهناك وسيلة أخرى أكثر دقة من الرؤية وهي الوسيلة العلمية، فالشهر ينتهي عندما يدخل القمر في المحاق، بحيث يختفي ضوؤه تماماً، وإذا خرج القمر من المحاق ـ وهذا ما يسمونه ولادة الهلال ـ وبدأ يختزن كمية من النور بحيث يمكن أن يُرى لولا الموانع الموجودة في الفضاء فيثبت الهلال، وهذه المسألة العلمية أصبحت دقيقة بحيث لا تحتمل الخطأ.

وقد تواصلنا مع بعض الفلكيين الأخصائيين الموثوقين في كندا وأمريكا والكويت، كما أن رأينا هو وحدة الأفق، كما هو رأي السيد الخوئي(قده)، أنه إذا أمكنت الرؤية في بلد نلتقي معه بجزء من الليل يثبت عندنا، وثبت لدينا أن الرؤية ممكنة في بعض البلدان الأمريكية وفي شمال غرب إفريقيا. وعلى ضوء هذا، ومن خلال الدراسات التي استمرت لمدة أسبوع، ثبت لدينا أن أول أيام شهر رمضان هو يوم الجمعة القادم ـ 16 تشرين الثاني ـ لأنه يولد صباح يوم الخميس ويمكن رؤيته في بعض البلدان التي أشرنا إليها، والتي نلتقي معها في جزء من الليل.

ومن الممكن جداً أن يكون هناك رأي آخر للفقهاء الذين يعتمدون على الرؤية، إذا لم تثبت عندهم الرؤية، فمن الممكن أن يكون شهر رمضان عندهم يوم السبت ـ سواء من السنّة أو من الشيعة ـ لذلك فالناس الذين يرجعون إلينا في التقليد يصومون يوم الجمعة على أساس أنه من شهر رمضان، والذين لا يرجعون إلينا في التقليد يمكن أن يصوموا يوم الجمعة على أنه يوم شك أو أن يأتوا به برجاء المطلوبية، المهم أن لا نجعل من مسألة الهلال مسألة تتحرك من خلال العصبيات أو الخلافات، لأنها مسائل اجتهادية، وكلنا نتحرك في طاعة الله ونبحث عن أحكام الله، والجميع عندنا محل احترام، وكل مجتهد معذور باجتهاده، فلا تخضعوا لكل الشياطين الذين يريدون أن يزرعوا الفتنة باسم اختلاف الاجتهادات وما إلى ذلك.

استقبال شهر رمضان

أما الحديث الثاني فهو كيف نستقبل شهر رمضان، ويروي الرواة أن رسول الله(ص) استقبل شهر رمضان مع المسلمين في خطبته التي خطبها في صلاة الجمعة في آخر جمعة من شعبان، ونحن نقرأ هذه الخطبة لنقف عند بعض عناوينها: "أيها الناس، قد أقبل إليكم شهر رمضان بالبركة والرحمة والمغفرة، شهره أبرك الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، وقد دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ـ إذا كنتم تعيشون الإيمان وتنفتحون على خط التقوى ـ ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا ربكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه ـ إذا كنتم في صحة وعافية ولم تكونوا في سفر ـ وتلاوة كتابه، فالشقي من حُرم غفران الله فيه، فاذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، وغضّوا عما لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن الله على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم، فإنها أفضل الساعات ينظر الله عباده فيها بالرحمة، ويجيبهم إذا ناجوه، ويلبّيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.

أيها الناس، من حسّن في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام، ومن خفف فيه عما ملكت يمينه خفف الله حسابه، ومن كفّ فيه شره كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن تطوّع فيه بصلاة كُتب له براءة من النار، ومن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن كثّر فيه من الصلاة ثقّل الله ميزانه يوم تخف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له أجر من ختم القرآن في غيره، ألا إن أبواب الجنة مفتّحة فيه فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وإن أبواب النار مغلقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا الله أن لا يسلّطها عليكم".

قداسة الزمن من عطاءات الله

النقطة الأولى التي نتوقف عندها هي قداسة الزمن، والأزمنة مثل بعضها البعض لا فرق بينها، ولكن ما يعطي الزمن قيمة فيصير زمناً مقدّساً ومباركاً هو من خلال ما يعطيه الله من القيمة، وشهر رمضان أعطاه الله تعالى قيمة مميزة، فهو الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم، والقرآن يمثل الدستور الإلهي للإنسان في كل حركته في الحياة، في الجانب العقيدي والتشريعي والمنهجي. كما أن الله فرض فيه الصوم، وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وحشد فيه الأعمال من صلاة ودعاء وذكر وتلاوة قرآن ومحاسبة للنفس، فكأن الله تعالى أعطى هذا الشهر المبارك ميزة بالمنح التي منحها فيه، مما جعل فيه من الأعمال التي يقرب الإنسان فيها إلى الله إذا أخذ بها، ولذا عبّر رسول الله(ص) عنه بأنه أفضل الشهور، وهو محمّل بهدايا البركة والرحمة والمغفرة..

ونحن ضيوف الله تعالى في العالم، لكن في شهر رمضان هناك دعوة لضيافة خاصة، وأول كرامة الله لنا في هذه الضيافة هي أن الله يريد للإنسان أن يعطيه إيمانه وإخلاصه وإحساسه بالتقوى ليجعل كل حياتنا عبادة، من خلال النفس الذي يتنفّسه الإنسان فيتحوّل إلى تسبيح، ومن خلال النوم الذي يرتاح فيه الإنسان ليتخفف من ثقل العبادة وليستعيد نشاطه في عبادة اليوم القادم، والعمل فيه مقبول والدعاء فيه مستجاب.

تقوية عناصر الإرادة

والشيء الأساس الذي كلّفنا الله به في هذا الشهر هو أن نصوم ونقرأ القرآن، ودور الصوم هو أنه يقوّي لك عناصر الإرادة في شخصيتك، لأن مشكلة الإنسان الذي ينحرف ويبتعد عن مسؤولياته هي أنه لا يملك الإرادة القوية، بحيث يضعف أمام الإغراء والتهويل، لكن عندما يملك إرادة قوية ويتحمل الصبر فإنه يصبح أكثر قوةً وثباتاً، فالصوم الواعي هو الذي ينمّي لك شخصيتك في خطّ الإرادة، كما أن قراءة القرآن ليست مجرد قراءة بسيطة للكلمة، بل هي عمل تثقيفي، لأنّ الله أنزل القرآن من أجل أن يملأ عقولنا بالمعاني التي أنزلها الله في آياته لنتثقف بها، {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، وليسأل الإنسان عن أيّ آية من الآيات التي لا يفهمها، لأننا عندما نأخذ بثقافة القرآن فإننا نصبح مثقفين إسلامياً، والقرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولذلك ينبغي للمسلمين أن يأخذوا بثقافة القرآن قراءة وترتيلاً وفهماً ومعنى..

تذكر يوم القيامة

النقطة الثانية التي نستوحيها من خطبة رسول الله(ص) هي تذكّر يوم القيامة، لأن في الصيام جوعاً وعطشاً بدرجات متفاوتة، فإذا أحسست بالجوع والعطش فتذكّر موقفك يوم القيامة عندما يطول الموقف، وهذا المعنى هو من الأمور الأساسية في الجانب التربوي في حياة الإنسان المسلم، لأن الإنسان عندما يستغرق في الدنيا في علاقاته وشهواته لا يتذكر المسؤولية، أما إذا وضع يوم القيامة نصب عينيه وهو يفكّر بما ينفعه ويضره عند الله تعالى فإنه يسير في الطريق القويم. لذلك، نلاحظ أن أغلب سور القرآن تتحدث عن يوم القيامة، والصوم فرصة ليتذكر الإنسان فيه اليوم الذي يجوع فيه الناس جوعاً غير مألوف.

تربيـة النفس

النقطة الثالثة التي نتوقف عندها هي أن على الإنسان أن يربي نفسه على الأخلاق الفردية والاجتماعية، فيدرّب نفسه على التصدّق على الفقراء والمساكين، والصدقة تدفع البلاء، وتكون بيد الله قبل أن تكون بيد الفقير، والصدقة هي للفقراء الذين {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف}. ومن الأخلاق التي يركّز عليها رسول الله(ص) في خطبته هي توقير الكبار، بمعنى أن على الجيل الجديد أن يوقّر الجيل القديم، والتوقير هو مظهر احترام، أن تحترم سنّه وسبقه لك للإيمان، والكبير يسبقك في التجربة، لهذا على الصغار أن يوقّروا الكبار، وعلى الكبار أن يرحموا الصغار، فيرحموا قلة التجربة عندهم، فلا يعنفوا عليهم، بل يرحموا ظروفهم وأخطاءهم. وعلى الإنسان أن يصل رحمه لأنها تؤدي إلى طول العمر، أما قطيعة الرحم فإنها تؤدي إلى قصر العمر وإلى نتائج سيئة.

وأن نغضّ أبصارنا عما حرّم الله النظر إليه، وأن نغضّ أسماعنا عما حرّم الله الاستماع إليه، وأن نتحنّن على الأيتام الذين هم أمانة الله في المجتمع، فعلينا أن نتكفّل الأيتام، سواء في بيوتهم أو في المبرات التي تؤويهم، ومن تكفّل يتيماً كان مع رسول الله(ص) في الجنة بحسب الحديث المروي عن رسول الله(ص)، لا سيما وأن هناك العديد من مشاريع تكفّل الأيتام، سواء في بيوتهم التي يقوم بها مكتب الخدمات التابع لمؤسستنا، أو في جمعية المبرات الخيرية أو في مؤسسة الشهيد، فالمجتمع عندما يتعاون تزدهر مؤسساته، وإذا توزع هذا الجهد فإن المسؤولية عند ذلك تتوزع ونستطيع بذلك أن نحفظ أيتامنا.

التوبة وتحسين الخلق

ومن الأمور التي ركّز عليها رسول الله في خطبته هي التوبة، أن يتوب الإنسان في هذا الشهر إلى ربه، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وتسجّل لك الملائكة في سجلك "لا حكم عليه"، بشرط أن تندم على ما فعلت وتعزم على عدم العود. ولا بدّ للإنسان أن يدعو الله في أوقات الصلاة، بحيث يضع حاجاته بين يدي الله، لأن أوقات الصلاة هي أفضل الأوقات. وهناك مسألة تحسين الخلق، فعلى الإنسان أن يُحسّن خلقه في هذا الشهر، لأن حسن الأخلاق يدخل الجنة، والجائزة التي يحصل عليها من حسّن في هذا الشهر أخلاقه هو أنه يحصل على جواز مرور على الصراط. وأن يخفف الإنسان عن عمّاله وموظفيه، لأن الله يخفف عنه الحساب جزاء ذلك، وأن يكفّ شرّه عن الناس في شهر رمضان وغيره، لأن الله يكف عنه بذلك غضبه يوم القيامة. وفي شهر رمضان يفتح الله كل أبواب الجنة، فلا تغلقوها على أنفسكم بأعمالكم السيئة، وأبواب النار في هذا الشهر مغلّقة فلا تفتحوها عليكم بأعمالكم السيئة.

هذا الشهر الذي نقبل عليه هو الشهر الذي نعرج فيه إلى الله بأرواحنا وعقولنا وقلوبنا وأعمالنا، فندعو الله أن يوفقنا لصيامه وتلاوة كتابه، والتقرّب إليه بأعمالنا، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر، ونسأل الله أن يجعله شهراً مباركاً فيه الخير والرحمة والمغفرة والنصر والعزة والكرامة لنا ولجميع المسلمين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله فيما تستقبلون من أيام عمركم، اتقوه في أقوالكم وأعمالكم وعلاقاتكم ومعاملاتكم، واتقوا الله في مواقفكم، فلا تؤيدوا إلا من يرضى الله لكم بتأييده، اتقوا الله في أوضاعكم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومن تقوى الله أن تقفوا في وجه المستكبرين، ونحن لا نزال نواجه في هذه المرحلة من حياة المسلمين والمستضعفين الضغط من الاستكبار العالمي الذي يحاول أن يفرض نفسه على حاضرنا ومستقبلنا ليدمّرنا ويمنعنا من إنتاج مستقبلنا بالعزة والحرية والكرامة. لذلك، علينا أن نبقى الأمة التي هي خير أمة أُخرجت للناس، لتأمر بالمعروف، والعدل هو من أعلى أنواع المعروف، وتنهى عن المنكر، والظلم هو من أشد المنكر، فتعالوا لنواجه قضايانا الإسلامية، فماذا هناك؟

إسرائيل جزء من النظام الغربي

الانتفاضة مستمرة في جهادها من أجل التحرير، والكيان الصهيوني مستمر في الاغتيال والقصف والتدمير، والإدارة الأمريكية تتحدث ـ على لسان أحد ممثليها ـ أن الانتفاضة "فعل إرهابي يومي مدروس"، لتدخل الحرب على الانتفاضة في دائرة التحالف الدولي للحرب على ما يسمونه الإرهاب، لا سيما بعد أن تحدث السفير الأمريكي في الكيان الصهيوني عن "إمكانية مشاركة إسرائيل في الحرب الأمريكية على الإرهاب"، على حدّ تعبيره..

أما حديث أمريكا عن التسوية فهو حديث خادع زائف في استئناف المفاوضات، وهكذا كان حديث أكثر من دولة أوروبية حديث نفاق، لأن الغاية من هذه الأحاديث هي تخدير العالم العربي والإسلامي، وسوقه إلى ساحة الطاعة للدخول في التحالف.. ولذلك، فإن الخلاصة السياسية من كل المواقف الغربية ـ الأمريكية والأوروبية ـ هي أن إسرائيل جزء من النظام السياسي الغربي في الاستراتيجية الدولية للمنطقة، ما يجعل منها قاعدة متقدّمة للخطة الموضوعة في تأخير نموّ العالم العربي والإسلامي، وتأكيد الحاجة إلى أن تبقى الواجهة لأية مؤامرة مستقبلية.

وهذا ما ينبغي لنا ـ كعرب ومسلمين ـ أن نتفهّمه، لنحدّق جيداً بالخلفيات السياسية للكلمات والمواقف التي تحاول استغلال الذهنيات الساذجة في الواقع السياسي الذي نعيشه، بحثاً عن الأحلام بعيداً عن كل عناصر الحقيقة.

الانتفاضة هي الخيار الوحيد

إنّ هناك مسألة مهمة لا بدّ أن يعرفها الفلسطينيون، وهي أن المفاوضات ـ لا سيما في المرحلة الحالية ـ لن تؤدي إلى أية نتيجة معقولة في حساب حقوقهم الشرعية، لأن الأرض بيد العدو، ولأن اللعبة السياسية تتحرك في متاهات الأوضاع الدولية، لا سيما في عناوين التحالف الدولي للحرب على الإرهاب، ما يجعل الضغوط الهائلة على الفلسطينيين للقبول بأيّ حلّ، بعد إيقاف الانتفاضة التي لن يُسمح لها بالعودة من جديد، ولن يكون الحلّ إلا إسرائيلياً بمباركة دولية أمريكية.

إن الانتفاضة هي ورقة القوة الوحيدة التي يملكها الفلسطينيون في نطاق اللعبة السياسية لتحقيق الأهداف، وعلى العرب والمسلمين أن يعرفوا ذلك، فلا خيار لهم إلا في الاستمرار ريثما يقتنع العالم المستكبر أن تأييده لإسرائيل في مصادرتها للحق الفلسطيني سوف يحرق الأرض من تحت أقدامه، بالرغم من أيّ حرب متحركة، لأن الأنظمة قد تعطي بيدها إعطاء الذليل، ولكن نبض الشعوب يبقى متحركاً بحرية لتعطيل أكثر من خطة..

وعلى أمريكا وحلفائها أن يعرفوا أن من أسباب ما يسمّونه إرهاباً، والذي يحوّل الواقع إلى فوضى مدمّرة، هو مصادرة حقوق الشعوب، ولا سيما الشعب الفلسطيني، في الحرية والاستقلال، ولن يستطيع أيّ حصار اقتصادي أو أمني أو سياسي أن يمنع الانفجار الذي يمثّل الموت فيه ـ بأية وسيلة ـ حلماً ذهبياً، لا مشكلة في حجم المأساة.

هجمة بربرية على أفغانستان

وفي هذا الجو، فإننا نتصوّر أن هذه الحرب العالمية ضد أفغانستان لن تستطيع أن تصل إلى أهدافها، حتى لو دمّرت كل بلاد الأفغان وقتلت الآلاف من شعبها، لأن تدمير بلد مسلم مستضعف باسم ملاحقة نظام "طالبان" و"القاعدة" و"بن لادن" لا يمكن أن يجد أيّ تبرير لشرعية هذه الحرب في نظر المسلمين، أو حتى العلمانيين الذين يطالبون بحرية الشعوب في تقرير مصيرها.

إننا قد نجد الكثير من المسلمين يختلفون اختلافاً كبيراً مع نظام "طالبان" و"القاعدة" و"بن لادن"، ولا يعتبرونه النظام الإسلامي الذي يمثّل الصورة الحضارية المشرقة للإسلام، ولكنهم لا يوافقون على كل هذه الهجمة البربرية على الشعب الأفغاني، الذي ألقت به الحرب الحاضرة والماضية خارج بلاده، ولا تزال تلاحقه بالقتل للمدنيين بحجة الخطأ، والتدمير لبنيته التحتية باسم مكافحة الإرهاب؟! إن العالم الإسلامي يبحث عن شعار "العدالة بلا حدود" الذي تطرحه أمريكا، فلا يجد له موقعاً في كل هذه الحرب.. ومما يضحك الثكلى أنهم يحدّثونك عن الحضارة والحرية والديمقراطية في كل هذه المأساة الوحشية!!

العالم الإسلامي.. العودة إلى الأصالة

إننا ندعو العالم الإسلامي لأن يعود إلى أصالته وهويته، ويدرس خلفيات هذه المرحلة السياسية الصعبة التي تحاول أن تفرض عليه أكثر من إرهاب أمني وعسكري واقتصادي باسم الحرب على الإرهاب، لا سيما أن أمريكا اعتبرت المقاومة في لبنان إرهاباً، والانتفاضة في فلسطين إرهاباً، لأن الغرب يرى أن من حقه ـ فقط ـ أن يأخذ شرعية المقاومة، كما في تاريخ المقاومة في فرنسا ضد النازي، ولكن لا شرعية للعرب وللمسلمين بالمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي!! إنه منطق لا يجوز لنا أن نقبله وأن نحترمه..

وعلى الدول الإسلامية التي دخلت الحرب مع أمريكا أن تشعر بالعار على مستوى الحاضر والمستقبل، لأنها سوف تواجه لعنة التاريخ على هذه الجريمة العسكرية.. وعلى الشعوب الإسلامية أن تدرك أن أمريكا ليست القضاء والقدر، وأن ما تقرره ليس من الضروري أن يخضع له العالم بالطاعة.

وإننا ـ بهذه المناسبة ـ نقدّر للبنان الرسمي والشعبي، كما نقدّر لسوريا وإيران، هذا الموقف الرافض للمساواة بين المقاومة والإرهاب، والعامل بقوة من أجل حماية المقاومة من أية ضغوط اقتصادية أو سياسية أو أمنية.

وختاماً، لتنطلق كل صرخات الشعوب الحرّة مع المقاومة ضد الإرهاب، ومع المستضعفين الباحثين عن حريتهم ضد المستكبرين.

مع إطلالة شهر المغفرة والرحمة.. والعمل:
ليكن رمضان مدرسة نتربى فيها أخلاقياً وروحياً


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

بداية شهر رمضان

أمامنا في هذا اللقاء حديثان، الحديث الأول هو بداية شهر رمضان المبارك. الجميع يعرف أن المبنى الفقهي الذي التزمناه في اجتهادنا، والذي يتفق مع المبنى الذي ارتضاه أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي(قده)، هو أنه ليس من ضرورة للرؤية، بل إن الهلال ظاهرة كونية، والرؤية مجرد وسيلة من وسائل المعرفة، وهناك وسيلة أخرى أكثر دقة من الرؤية وهي الوسيلة العلمية، فالشهر ينتهي عندما يدخل القمر في المحاق، بحيث يختفي ضوؤه تماماً، وإذا خرج القمر من المحاق ـ وهذا ما يسمونه ولادة الهلال ـ وبدأ يختزن كمية من النور بحيث يمكن أن يُرى لولا الموانع الموجودة في الفضاء فيثبت الهلال، وهذه المسألة العلمية أصبحت دقيقة بحيث لا تحتمل الخطأ.

وقد تواصلنا مع بعض الفلكيين الأخصائيين الموثوقين في كندا وأمريكا والكويت، كما أن رأينا هو وحدة الأفق، كما هو رأي السيد الخوئي(قده)، أنه إذا أمكنت الرؤية في بلد نلتقي معه بجزء من الليل يثبت عندنا، وثبت لدينا أن الرؤية ممكنة في بعض البلدان الأمريكية وفي شمال غرب إفريقيا. وعلى ضوء هذا، ومن خلال الدراسات التي استمرت لمدة أسبوع، ثبت لدينا أن أول أيام شهر رمضان هو يوم الجمعة القادم ـ 16 تشرين الثاني ـ لأنه يولد صباح يوم الخميس ويمكن رؤيته في بعض البلدان التي أشرنا إليها، والتي نلتقي معها في جزء من الليل.

ومن الممكن جداً أن يكون هناك رأي آخر للفقهاء الذين يعتمدون على الرؤية، إذا لم تثبت عندهم الرؤية، فمن الممكن أن يكون شهر رمضان عندهم يوم السبت ـ سواء من السنّة أو من الشيعة ـ لذلك فالناس الذين يرجعون إلينا في التقليد يصومون يوم الجمعة على أساس أنه من شهر رمضان، والذين لا يرجعون إلينا في التقليد يمكن أن يصوموا يوم الجمعة على أنه يوم شك أو أن يأتوا به برجاء المطلوبية، المهم أن لا نجعل من مسألة الهلال مسألة تتحرك من خلال العصبيات أو الخلافات، لأنها مسائل اجتهادية، وكلنا نتحرك في طاعة الله ونبحث عن أحكام الله، والجميع عندنا محل احترام، وكل مجتهد معذور باجتهاده، فلا تخضعوا لكل الشياطين الذين يريدون أن يزرعوا الفتنة باسم اختلاف الاجتهادات وما إلى ذلك.

استقبال شهر رمضان

أما الحديث الثاني فهو كيف نستقبل شهر رمضان، ويروي الرواة أن رسول الله(ص) استقبل شهر رمضان مع المسلمين في خطبته التي خطبها في صلاة الجمعة في آخر جمعة من شعبان، ونحن نقرأ هذه الخطبة لنقف عند بعض عناوينها: "أيها الناس، قد أقبل إليكم شهر رمضان بالبركة والرحمة والمغفرة، شهره أبرك الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، وقد دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ـ إذا كنتم تعيشون الإيمان وتنفتحون على خط التقوى ـ ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا ربكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه ـ إذا كنتم في صحة وعافية ولم تكونوا في سفر ـ وتلاوة كتابه، فالشقي من حُرم غفران الله فيه، فاذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، وغضّوا عما لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن الله على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم، فإنها أفضل الساعات ينظر الله عباده فيها بالرحمة، ويجيبهم إذا ناجوه، ويلبّيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.

أيها الناس، من حسّن في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام، ومن خفف فيه عما ملكت يمينه خفف الله حسابه، ومن كفّ فيه شره كفّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن تطوّع فيه بصلاة كُتب له براءة من النار، ومن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن كثّر فيه من الصلاة ثقّل الله ميزانه يوم تخف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له أجر من ختم القرآن في غيره، ألا إن أبواب الجنة مفتّحة فيه فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وإن أبواب النار مغلقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا الله أن لا يسلّطها عليكم".

قداسة الزمن من عطاءات الله

النقطة الأولى التي نتوقف عندها هي قداسة الزمن، والأزمنة مثل بعضها البعض لا فرق بينها، ولكن ما يعطي الزمن قيمة فيصير زمناً مقدّساً ومباركاً هو من خلال ما يعطيه الله من القيمة، وشهر رمضان أعطاه الله تعالى قيمة مميزة، فهو الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم، والقرآن يمثل الدستور الإلهي للإنسان في كل حركته في الحياة، في الجانب العقيدي والتشريعي والمنهجي. كما أن الله فرض فيه الصوم، وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وحشد فيه الأعمال من صلاة ودعاء وذكر وتلاوة قرآن ومحاسبة للنفس، فكأن الله تعالى أعطى هذا الشهر المبارك ميزة بالمنح التي منحها فيه، مما جعل فيه من الأعمال التي يقرب الإنسان فيها إلى الله إذا أخذ بها، ولذا عبّر رسول الله(ص) عنه بأنه أفضل الشهور، وهو محمّل بهدايا البركة والرحمة والمغفرة..

ونحن ضيوف الله تعالى في العالم، لكن في شهر رمضان هناك دعوة لضيافة خاصة، وأول كرامة الله لنا في هذه الضيافة هي أن الله يريد للإنسان أن يعطيه إيمانه وإخلاصه وإحساسه بالتقوى ليجعل كل حياتنا عبادة، من خلال النفس الذي يتنفّسه الإنسان فيتحوّل إلى تسبيح، ومن خلال النوم الذي يرتاح فيه الإنسان ليتخفف من ثقل العبادة وليستعيد نشاطه في عبادة اليوم القادم، والعمل فيه مقبول والدعاء فيه مستجاب.

تقوية عناصر الإرادة

والشيء الأساس الذي كلّفنا الله به في هذا الشهر هو أن نصوم ونقرأ القرآن، ودور الصوم هو أنه يقوّي لك عناصر الإرادة في شخصيتك، لأن مشكلة الإنسان الذي ينحرف ويبتعد عن مسؤولياته هي أنه لا يملك الإرادة القوية، بحيث يضعف أمام الإغراء والتهويل، لكن عندما يملك إرادة قوية ويتحمل الصبر فإنه يصبح أكثر قوةً وثباتاً، فالصوم الواعي هو الذي ينمّي لك شخصيتك في خطّ الإرادة، كما أن قراءة القرآن ليست مجرد قراءة بسيطة للكلمة، بل هي عمل تثقيفي، لأنّ الله أنزل القرآن من أجل أن يملأ عقولنا بالمعاني التي أنزلها الله في آياته لنتثقف بها، {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، وليسأل الإنسان عن أيّ آية من الآيات التي لا يفهمها، لأننا عندما نأخذ بثقافة القرآن فإننا نصبح مثقفين إسلامياً، والقرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولذلك ينبغي للمسلمين أن يأخذوا بثقافة القرآن قراءة وترتيلاً وفهماً ومعنى..

تذكر يوم القيامة

النقطة الثانية التي نستوحيها من خطبة رسول الله(ص) هي تذكّر يوم القيامة، لأن في الصيام جوعاً وعطشاً بدرجات متفاوتة، فإذا أحسست بالجوع والعطش فتذكّر موقفك يوم القيامة عندما يطول الموقف، وهذا المعنى هو من الأمور الأساسية في الجانب التربوي في حياة الإنسان المسلم، لأن الإنسان عندما يستغرق في الدنيا في علاقاته وشهواته لا يتذكر المسؤولية، أما إذا وضع يوم القيامة نصب عينيه وهو يفكّر بما ينفعه ويضره عند الله تعالى فإنه يسير في الطريق القويم. لذلك، نلاحظ أن أغلب سور القرآن تتحدث عن يوم القيامة، والصوم فرصة ليتذكر الإنسان فيه اليوم الذي يجوع فيه الناس جوعاً غير مألوف.

تربيـة النفس

النقطة الثالثة التي نتوقف عندها هي أن على الإنسان أن يربي نفسه على الأخلاق الفردية والاجتماعية، فيدرّب نفسه على التصدّق على الفقراء والمساكين، والصدقة تدفع البلاء، وتكون بيد الله قبل أن تكون بيد الفقير، والصدقة هي للفقراء الذين {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف}. ومن الأخلاق التي يركّز عليها رسول الله(ص) في خطبته هي توقير الكبار، بمعنى أن على الجيل الجديد أن يوقّر الجيل القديم، والتوقير هو مظهر احترام، أن تحترم سنّه وسبقه لك للإيمان، والكبير يسبقك في التجربة، لهذا على الصغار أن يوقّروا الكبار، وعلى الكبار أن يرحموا الصغار، فيرحموا قلة التجربة عندهم، فلا يعنفوا عليهم، بل يرحموا ظروفهم وأخطاءهم. وعلى الإنسان أن يصل رحمه لأنها تؤدي إلى طول العمر، أما قطيعة الرحم فإنها تؤدي إلى قصر العمر وإلى نتائج سيئة.

وأن نغضّ أبصارنا عما حرّم الله النظر إليه، وأن نغضّ أسماعنا عما حرّم الله الاستماع إليه، وأن نتحنّن على الأيتام الذين هم أمانة الله في المجتمع، فعلينا أن نتكفّل الأيتام، سواء في بيوتهم أو في المبرات التي تؤويهم، ومن تكفّل يتيماً كان مع رسول الله(ص) في الجنة بحسب الحديث المروي عن رسول الله(ص)، لا سيما وأن هناك العديد من مشاريع تكفّل الأيتام، سواء في بيوتهم التي يقوم بها مكتب الخدمات التابع لمؤسستنا، أو في جمعية المبرات الخيرية أو في مؤسسة الشهيد، فالمجتمع عندما يتعاون تزدهر مؤسساته، وإذا توزع هذا الجهد فإن المسؤولية عند ذلك تتوزع ونستطيع بذلك أن نحفظ أيتامنا.

التوبة وتحسين الخلق

ومن الأمور التي ركّز عليها رسول الله في خطبته هي التوبة، أن يتوب الإنسان في هذا الشهر إلى ربه، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وتسجّل لك الملائكة في سجلك "لا حكم عليه"، بشرط أن تندم على ما فعلت وتعزم على عدم العود. ولا بدّ للإنسان أن يدعو الله في أوقات الصلاة، بحيث يضع حاجاته بين يدي الله، لأن أوقات الصلاة هي أفضل الأوقات. وهناك مسألة تحسين الخلق، فعلى الإنسان أن يُحسّن خلقه في هذا الشهر، لأن حسن الأخلاق يدخل الجنة، والجائزة التي يحصل عليها من حسّن في هذا الشهر أخلاقه هو أنه يحصل على جواز مرور على الصراط. وأن يخفف الإنسان عن عمّاله وموظفيه، لأن الله يخفف عنه الحساب جزاء ذلك، وأن يكفّ شرّه عن الناس في شهر رمضان وغيره، لأن الله يكف عنه بذلك غضبه يوم القيامة. وفي شهر رمضان يفتح الله كل أبواب الجنة، فلا تغلقوها على أنفسكم بأعمالكم السيئة، وأبواب النار في هذا الشهر مغلّقة فلا تفتحوها عليكم بأعمالكم السيئة.

هذا الشهر الذي نقبل عليه هو الشهر الذي نعرج فيه إلى الله بأرواحنا وعقولنا وقلوبنا وأعمالنا، فندعو الله أن يوفقنا لصيامه وتلاوة كتابه، والتقرّب إليه بأعمالنا، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر، ونسأل الله أن يجعله شهراً مباركاً فيه الخير والرحمة والمغفرة والنصر والعزة والكرامة لنا ولجميع المسلمين.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله فيما تستقبلون من أيام عمركم، اتقوه في أقوالكم وأعمالكم وعلاقاتكم ومعاملاتكم، واتقوا الله في مواقفكم، فلا تؤيدوا إلا من يرضى الله لكم بتأييده، اتقوا الله في أوضاعكم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومن تقوى الله أن تقفوا في وجه المستكبرين، ونحن لا نزال نواجه في هذه المرحلة من حياة المسلمين والمستضعفين الضغط من الاستكبار العالمي الذي يحاول أن يفرض نفسه على حاضرنا ومستقبلنا ليدمّرنا ويمنعنا من إنتاج مستقبلنا بالعزة والحرية والكرامة. لذلك، علينا أن نبقى الأمة التي هي خير أمة أُخرجت للناس، لتأمر بالمعروف، والعدل هو من أعلى أنواع المعروف، وتنهى عن المنكر، والظلم هو من أشد المنكر، فتعالوا لنواجه قضايانا الإسلامية، فماذا هناك؟

إسرائيل جزء من النظام الغربي

الانتفاضة مستمرة في جهادها من أجل التحرير، والكيان الصهيوني مستمر في الاغتيال والقصف والتدمير، والإدارة الأمريكية تتحدث ـ على لسان أحد ممثليها ـ أن الانتفاضة "فعل إرهابي يومي مدروس"، لتدخل الحرب على الانتفاضة في دائرة التحالف الدولي للحرب على ما يسمونه الإرهاب، لا سيما بعد أن تحدث السفير الأمريكي في الكيان الصهيوني عن "إمكانية مشاركة إسرائيل في الحرب الأمريكية على الإرهاب"، على حدّ تعبيره..

أما حديث أمريكا عن التسوية فهو حديث خادع زائف في استئناف المفاوضات، وهكذا كان حديث أكثر من دولة أوروبية حديث نفاق، لأن الغاية من هذه الأحاديث هي تخدير العالم العربي والإسلامي، وسوقه إلى ساحة الطاعة للدخول في التحالف.. ولذلك، فإن الخلاصة السياسية من كل المواقف الغربية ـ الأمريكية والأوروبية ـ هي أن إسرائيل جزء من النظام السياسي الغربي في الاستراتيجية الدولية للمنطقة، ما يجعل منها قاعدة متقدّمة للخطة الموضوعة في تأخير نموّ العالم العربي والإسلامي، وتأكيد الحاجة إلى أن تبقى الواجهة لأية مؤامرة مستقبلية.

وهذا ما ينبغي لنا ـ كعرب ومسلمين ـ أن نتفهّمه، لنحدّق جيداً بالخلفيات السياسية للكلمات والمواقف التي تحاول استغلال الذهنيات الساذجة في الواقع السياسي الذي نعيشه، بحثاً عن الأحلام بعيداً عن كل عناصر الحقيقة.

الانتفاضة هي الخيار الوحيد

إنّ هناك مسألة مهمة لا بدّ أن يعرفها الفلسطينيون، وهي أن المفاوضات ـ لا سيما في المرحلة الحالية ـ لن تؤدي إلى أية نتيجة معقولة في حساب حقوقهم الشرعية، لأن الأرض بيد العدو، ولأن اللعبة السياسية تتحرك في متاهات الأوضاع الدولية، لا سيما في عناوين التحالف الدولي للحرب على الإرهاب، ما يجعل الضغوط الهائلة على الفلسطينيين للقبول بأيّ حلّ، بعد إيقاف الانتفاضة التي لن يُسمح لها بالعودة من جديد، ولن يكون الحلّ إلا إسرائيلياً بمباركة دولية أمريكية.

إن الانتفاضة هي ورقة القوة الوحيدة التي يملكها الفلسطينيون في نطاق اللعبة السياسية لتحقيق الأهداف، وعلى العرب والمسلمين أن يعرفوا ذلك، فلا خيار لهم إلا في الاستمرار ريثما يقتنع العالم المستكبر أن تأييده لإسرائيل في مصادرتها للحق الفلسطيني سوف يحرق الأرض من تحت أقدامه، بالرغم من أيّ حرب متحركة، لأن الأنظمة قد تعطي بيدها إعطاء الذليل، ولكن نبض الشعوب يبقى متحركاً بحرية لتعطيل أكثر من خطة..

وعلى أمريكا وحلفائها أن يعرفوا أن من أسباب ما يسمّونه إرهاباً، والذي يحوّل الواقع إلى فوضى مدمّرة، هو مصادرة حقوق الشعوب، ولا سيما الشعب الفلسطيني، في الحرية والاستقلال، ولن يستطيع أيّ حصار اقتصادي أو أمني أو سياسي أن يمنع الانفجار الذي يمثّل الموت فيه ـ بأية وسيلة ـ حلماً ذهبياً، لا مشكلة في حجم المأساة.

هجمة بربرية على أفغانستان

وفي هذا الجو، فإننا نتصوّر أن هذه الحرب العالمية ضد أفغانستان لن تستطيع أن تصل إلى أهدافها، حتى لو دمّرت كل بلاد الأفغان وقتلت الآلاف من شعبها، لأن تدمير بلد مسلم مستضعف باسم ملاحقة نظام "طالبان" و"القاعدة" و"بن لادن" لا يمكن أن يجد أيّ تبرير لشرعية هذه الحرب في نظر المسلمين، أو حتى العلمانيين الذين يطالبون بحرية الشعوب في تقرير مصيرها.

إننا قد نجد الكثير من المسلمين يختلفون اختلافاً كبيراً مع نظام "طالبان" و"القاعدة" و"بن لادن"، ولا يعتبرونه النظام الإسلامي الذي يمثّل الصورة الحضارية المشرقة للإسلام، ولكنهم لا يوافقون على كل هذه الهجمة البربرية على الشعب الأفغاني، الذي ألقت به الحرب الحاضرة والماضية خارج بلاده، ولا تزال تلاحقه بالقتل للمدنيين بحجة الخطأ، والتدمير لبنيته التحتية باسم مكافحة الإرهاب؟! إن العالم الإسلامي يبحث عن شعار "العدالة بلا حدود" الذي تطرحه أمريكا، فلا يجد له موقعاً في كل هذه الحرب.. ومما يضحك الثكلى أنهم يحدّثونك عن الحضارة والحرية والديمقراطية في كل هذه المأساة الوحشية!!

العالم الإسلامي.. العودة إلى الأصالة

إننا ندعو العالم الإسلامي لأن يعود إلى أصالته وهويته، ويدرس خلفيات هذه المرحلة السياسية الصعبة التي تحاول أن تفرض عليه أكثر من إرهاب أمني وعسكري واقتصادي باسم الحرب على الإرهاب، لا سيما أن أمريكا اعتبرت المقاومة في لبنان إرهاباً، والانتفاضة في فلسطين إرهاباً، لأن الغرب يرى أن من حقه ـ فقط ـ أن يأخذ شرعية المقاومة، كما في تاريخ المقاومة في فرنسا ضد النازي، ولكن لا شرعية للعرب وللمسلمين بالمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي!! إنه منطق لا يجوز لنا أن نقبله وأن نحترمه..

وعلى الدول الإسلامية التي دخلت الحرب مع أمريكا أن تشعر بالعار على مستوى الحاضر والمستقبل، لأنها سوف تواجه لعنة التاريخ على هذه الجريمة العسكرية.. وعلى الشعوب الإسلامية أن تدرك أن أمريكا ليست القضاء والقدر، وأن ما تقرره ليس من الضروري أن يخضع له العالم بالطاعة.

وإننا ـ بهذه المناسبة ـ نقدّر للبنان الرسمي والشعبي، كما نقدّر لسوريا وإيران، هذا الموقف الرافض للمساواة بين المقاومة والإرهاب، والعامل بقوة من أجل حماية المقاومة من أية ضغوط اقتصادية أو سياسية أو أمنية.

وختاماً، لتنطلق كل صرخات الشعوب الحرّة مع المقاومة ضد الإرهاب، ومع المستضعفين الباحثين عن حريتهم ضد المستكبرين.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية