ألقى سماحة العلامة السيّد محمّد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ 13/10/1406هـ/ بحضور حشدٍ من المؤمنين. ومما جاء في الخطبة:
قبل أن نتحدَّث عن حرب الخندق الَّتي قادها رسول الله(ص) ضدّ مشركي مكّة، سنسأل: ما هي عبرتنا ودرسنا من حرب الخندق، نحن المسلمين الَّذين يقفون في خطِّ المواجهة والتّحدّي، والَّذين يعمل الجميع، من كفَّار ومشركين وطواغيت ودول صغيرة وكبيرة، على أن يحاصرونا من جميع الجهات، ويسمحوا لهذه القوَّة بأن تتقدَّم وتنطلق وتمتدّ؛ هذا الحصار الَّذي تجتمع فيه كلّ الدّول قبل أشهر؟ ماذا كان يعمل رسل الولايات المتَّحدة الأميركيَّة في العالم؟ إنهم يريدون أن يطبقوا الحصار على الحالة الإسلاميّة التي انطلقت من قلب الثورة الإسلاميّة في إيران، لتقول للعالم إنَّ الإسلام انطلق، وإننا نريد أن ننطلق إلى العالم كما انطلق رسول الله، ليدعو النّاس إلى العدل، فلا سلطة لظالم، وليدعو النّاس إلى الحقّ، فلا سلطة لباطل، إنَّ الإسلام يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وإنَّ الإسلام يواجه التّحدّيات.
يريدون إسلاماً وديعاً!
وهكذا كانوا يحاولون أن يدحضوا الإسلام ليؤذوه، يريدونه إسلاماً وديعاً، إذا ضربه الإنسان على خدّه يمدّ إليه عنقه ويقول له اذبحني، لكي لا يزعج أصحاب السّموّ والجلالة، ولكنَّهم شعروا بأنَّ هذا الجيل من المسلمين الّذي شاهد سقوط كلِّ الطّروحات الأخرى، ورأى الإسلام وحده هو الخلاص، وهو الَّذي لا يحجب عنه أيّة قضيَّة من قضاياه، شعروا بأنَّ المساجد بدأت تحرّك النّاس نحو معترك الحياة، وانطلقت لتجعل الإنسان يستلهم من الله ما يربطه بالنَّاس والحياة.
إنَّ المساجد انطلقت، كما كانت في زمن رسول الله(ص)، لتعطي الإنسان القوّة والشّعور بالمسؤوليّة، ولذلك، بدأوا يحاصرون الإسلام ويبحثون عن الكلمات الَّتي يحاصرونه بها، وجاءت كلمات التطرّف والإرهاب والتعصّب لتحاصر المسلمين الملتزمين حتّى يكرههم الناس، وانطلقوا بعد ذلك في عمليّة حصار مخابرات بنشر الإشاعات الكاذبة، ثم في الزّوايا بدأ حصار الخطّ، وبدأوا يثقّفون اليمين واليسار كلّهم، ويتّفقون على محاربة هؤلاء الّذين لا يرضون بديلاً من الجهاد.
وبدأت القضايا في داخل الكواليس الحزبيَّة والمخابرات والسياسة الإقليميَّة والدّوليَّة، لا بدَّ من أن تلزَّم المسألة لفريقٍ لضرب الحالة الإسلاميَّة، وما زالت القصَّة تدور وراء الكواليس، ولا تزال المسألة تتمثّل بمعركةٍ هنا ومجالٍ هناك، لأنَّ هذه الحالة الرّافضة للوجود الإسرائيليّ والاستعماريّ والظّلم الدَّاخلي في العمق، تخرّب عليهم الكثير من الأمور الّتي يراد أن يرتّبوها مع الاستعمار.. لهذا، لا بدَّ من التخلّص من هؤلاء ليخلو الجوّ للمعتدلين، والكثيرون من النّاس خافوا، وزاغت الأبصار، وابتلي المؤمنون، وكان التّهويل في كلّ مرّة بأنّ الأميركي سيهجم على الضّاحية وبيروت.. ومرّت الأيام ولم يهجموا.
ولكن من يملك الرّؤية الحقيقيّة الصّادقة ليقول كما قال المؤمنون مع رسول الله: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ}[1]، لقد وعدنا الله بأن تكون حياتنا جهاداً، لأنَّ الكفر لن يتركنا نرتاح، لهذا فقد أراد الله للمسلمين أن يعدّوا ما يستطيعون من قوّة ليكونوا الأقوياء في حربهم وسلمهم وسياستهم وحياتهم الاجتماعيّة، فلا خيار للمؤمن إلا أن يكون قويّاً، لأنّ أية حالة استضعاف سوف تفسح المجال لكلِّ الطاعة لكي تطبَّق على المسلمين، إنهم يخافون أن ينطلق الإسلام كمعادلةٍ فكريّةٍ وسياسيّة جديدة.
التّخطيط لمواجهة العدوّ
إنهم ينطلقون من كلّ وعّاظ السلاطين الَّذين يعطونهم فتاوى تعطي بيعهم بلاد المسلمين للاستعمار شرعيَّة، ويقولون إنهم يعظونهم انطلاقاً من العقل، ولكن إذا كنت عاقلاً وهناك من يريد أن يضرَّك، فهل من العقل أن ترفع له العشر، أم أنَّ العقل يقول حاول أن تستعدّ، وأن تتحرَّك سياسيّاً وأمنيّاً، حتّى لا يستطيع العدوّ أن يحاصرك في أيِّ جانب؟! نحن نريد السِّلم الَّذي يؤكّد لنا حريّتنا وعزّتنا ورسالتنا ومصداقيَّتنا، لهذا، فإنَّ العقل يقودنا إلى أن نأخذ بالقوَّة، ولا نأخذ بالضَّعف، وإلى أن لا نهرب من السَّاحة عندما ينطلق الآخرون لحصارنا.
ليس معنى أن تنطلق للثّورة أن تنطلق بطريقة عشوائيَّة، بل أن تحكم الخطَّة، حتى لا يكون هناك أيّة نظرة يمكن أن تفسح للعدوّ التّسلّل منها.
ماذا يريد العدوّ؟ إنّه يريد ثروتك، وكلّ مشكلتنا في هذه المنطقة من العالم، أنّنا نملك بترولاً ومواقع استراتيجيّة، لكنّ مشكلتنا أنهم يعتقدون أنَّ ثرواتنا هي ثرواتهم، ولا يحقّ لنا أن نستثمرها، والحقّ الوحيد لنا هو أن نستثمر بضاعتنا ونسبِّح بحمد سياستهم.
وإسرائيل تريد منَّا أن نكون عقلاء، وهي تتوجَّه إلى أهل الشَّريط الحدوديّ وتقول لهم: ماذا تفيدكم الثَّورة والمواجهة؟! كلوا جيِّداً، واشربوا جيِّداً، ولكن بشرط أن تكونوا تحت سلطتنا، فلا كرامة ولا حريّة ولا عزّة لكم من دوننا، فاليهوديّ هو الأصل، وإذا وافقتم، فيمكن أن تذهبوا لتعملوا في إسرائيل، بينما يفرَّغ شبابنا للحرب بعد ذلك!! ونقول إنّ كلّ شخصٍ يذهب ليعمل في إسرائيل، فإنّه يساهم في تجنيد يهوديٍّ للحرب ضدّنا، لأنّه بذلك يساعد في تفريغ شبابهم وبناتهم للحرب ضدّنا.
إسرائيل تريد أن تفرّغ كلَّ شعبها ليكون جيشاً كبيراً يستولي على كلِّ مقدّرات المنطقة، ويستغلّ العقل ليمنعك من قتال إسرائيل، ثمّ لتنطلق وتقاتل أهلك بالنّيابة عن إسرائيل. لهذا فإنّ كلّ هؤلاء الَّذين ينتمون إلى ما يسمّى جيش لبنان الجنوبي، الّذين ساروا مع مخطَّطات إسرائيل، ويقاتلون أهلهم بالنِّيابة عنها، إنَّ هؤلاء يعتبرون أكثر خسَّةً وخيانةً من الجيش الإسرائيليّ...
لا بدَّ من أنَّكم سمعتم عن إحراق المحاصيل الزّراعيَّة، والمجازر الّتي ارتكبت في رشاف والطّيري، وربما هناك ضحايا لم تحدَّد حتى الآن. إسرائيل تتحرَّك حتى تخوّف أهل القرى لتهجيرهم، وحتى تخلق في تلك المنطقة مشكلةً شيعيَّة ـ مسيحيَّة، على أساس أنَّ هناك جماعةً من عملاء إسرائيل يقولون إنَّ المسيحيّين هم الّذين فعلوا ذلك. إنَّ إسرائيل إذا اضطرّت إلى الانسحاب، ستترك مشاكل طائفيَّة في تلك المنطقة، كما عملت في الجبل ومناطق أخرى، لأنّه ربما تأتي ظروف تقودها إلى الانسحاب، ولهذا نحن قلنا لأهالي عين إبل ورميش وغيرهم، لا تسيروا في المخطّط الإسرائيلي، لا تتحركوا على أساسه، إنّ شراركم ومجرموكم يتحرّكون بطريقة وبأخرى في سبيل أن يصنعوا المجازر الوحشيَّة الَّتي يمثَّل فيها بالضّحايا بأبشع تمثيل، وهو ما جعلنا نتمثَّل حرب السنتين عندما كان يُقتل النّاس على المتحف، عندما كانوا يأتون من النّبعة، ويمثّل بهم شرّ تمثيل.
إنَّنا نقول لكم: لقد تعايشنا معكم، وكنّا نحترم هذا التَّعايش، لأنَّ إسلامنا علَّمنا ذلك، ونحن نصرّ على أن نعيش مع الذين لا يريدون أن يعتدوا على النّاس، لكن لا تحرقوا أنفسكم بالنّار، نحن لا نريد أن يحكم عليكم، ولكنّ المعطيات والأدلّة تشير إلى أنَّ هذه المجازر كانت ردّ فعل على مقتل أحد جنود جيش لحد، ومن مصلحتكم أن تستعجلوا وتحقِّقوا في الأمر، إنَّ هذه المجازر هي نذير فتنةٍ تريد أن تخلط الأوراق في المنطقة.
إنَّ علينا أن نواجه الواقع كلّه، وقد عرفنا جيّداً من خلال الممارسات الإسرائيليَّة، ما معنى الجنديّ الإسرائيليّ وخطط إسرائيل الَّتي تحاول أن تغضب النّاس المسالمين، لأنها لا تستطيع أن تواجه المجاهدين. واعرفوا أنَّ إسرائيل لن تتركنا نرتاح، حتى لو لم يكن لها ما تريد مما يحاول الكثيرون أن يثيروه من ترتيبات، أو أنّها ترتاح قليلاً لتشغلنا بعد ذلك، حتى تستطيع أن تنفذ إلى وضعٍ جديدٍ يتيح لها أن تحتلَّ الأرض من جديد.
لإغلاق ملفّ الحرب
إنَّ علينا أن نعرف من معركة "الأحزاب" (الخندق)، كيف نواجه كلَّ هذه المؤامرات. اثبتوا وكونوا قوّةً واحدة، حاولوا أن تقفوا ضدّ كلّ الّذين يريدون أن يضرّوا بكم. إنّا علينا أن نكون واعين لهذه اللّعبة، فعندما تأتيكم أيّة إشاعة ادرسوها جيّداً، لأنَّ الإشاعات هي جزء من الأساليب الّتي يحاربنا العدوّ بها، كما يشيع العدوّ من أنّه سينسحب، ولكن ليست هناك معطيات سياسيّة تجعلنا نؤكّد ذلك.. كما أنَّهم عندما يثيرون الخوف، يريدون منّا أن نفقد أعصابنا حتى نتساقط. لهذا، يجب أن يكون عندكم وعي سياسيّ حتى تواجهوا القضايا بدراسة وتفهموها.
وهكذا، لا بدَّ من أن تفهموا الواقع بشكلٍ مدروس. إنّنا نتمنّى أن تنجح الخطّة التي تختصر لنا المعارك الحزبيّة والمذهبيّة، وتجعل الناس يعيشون الأمن في بيروت الغربيّة والضّاحية الجنوبيّة، ونحب أن يأخذ أمن النّاس حريّته ومجراه، حتى يأمن الناس على أعراضهم ودمائهم، ويتحرّك الجميع لمواجهة القضايا الكبرى.
ولكنَّنا نشعر بأنَّ هذه الخطَّة التي نرجو لها النَّجاح، لم يكن لها سقف سياسيّ كبير، ولهذا نحن نخشى أن تسقط. ثم إنّ هذا الاتّفاق الَّذي حصل لم يلحظ مسألة المخيّمات بعمق، وإنما جعلها على هامش مسألة بيروت الغربيَّة، ونحن نعرف أنّ مسألة حرب المسلمين من المسائل السياسيَّة الأساسيَّة في حركة النّصر العربي ـ العربي والفلسطيني، وتطلّ على بعدٍ دوليّ، ولهذا فإذا كنّا نريد أن نغلق ملفّ حرب المخيّمات، فإنَّ علينا أن نضع له خطّةً كاملة، لا مجرّد أن نجعله هامشاً من هوامش بيروت الغربيّة. ولهذا فإنّنا نشعر بأنّ هناك نوعاً من الاستسلام والفرار من هذه الحرب، وأن تكون المخيّمات خطّ تماس، يتحرَّك حيث يريدون أن يتحرّك، ويهدأ حيث يريدون أن يهدأ.
وما دام الجميع يقولون إنَّه لا مجال للحسم في حرب المخيَّمات وخطوط التماس، فلماذا لا نحاول أن ندرس المسألة بطريقةٍ توفِّر علينا الكثير من الضّحايا؟! إنها حرب مفروضة، وعلى الجميع أن ينطلقوا في سبيل إغلاق هذا الملفّ، لأنّه لن يفيد أحداً، بل يحقِّق بعض المواقع لبعض الأشخاص والسياسات، ولكنّها مواقع لا تستطيع أن تثبت أو أن تثبت أصحابها. إنَّ هذه الحرب هي جرح نازف يعطينا كلّ يوم شهيداً وجريحاً ودماراً جديداً.
نقول للفلسطينيّين: ما مصلحتكم في أن تقنصوا أو تقتلوا طفلاً أو شيخاً؟ وما مصلحة النّاس هنا أن يقنصوا الأبرياء الّذين قضي عليهم في كلِّ زمان ومكان أن يكونوا الوقود لكلّ نار يريد أن ينطلق بها الأقوياء؟!
نقول لكلّ من يملك إمكانيّة المساهمة: أغلقوا ملفّ هذه الحرب قبل أن تحرق كلّ شيء يعيش في حياتنا، وإذا كنّا جميعاً متّفقين على أنَّ إسرائيل هي المستفيد، فلماذا لا نوقفها؟
نحن نعرف أنَّ الجميع في مأزق، وأنَّ الكثيرين، ولا سيَّما في الضَّاحية، لا يعرفون كيف يخرجون من المأزق، لأنَّ المؤامرة تواجههم من كلِّ مكان. علينا أن نغلق أيضاً ملفّ الخطف كلّه، ونحن سعيدون بأنّ كلّ عمليّات الخطف التي حصلت مؤخَّراً سوّيت، ونتمنّى على الجميع أن يغلقوا هذا الملفّ، لأنَّنا مهما خطفنا، فلن نحلّ مشكلة المخطوفين، لأنَّها مشكلة سياسيَّة ومشكلة لبنان كلّه، لأنّنا عندما نخطف أناساً، فإنّ معنى ذلك أننا نشارك في خلق واقعٍ سياسيٍّ وأمنيّ لا يخدم واقع لبنان والمسلمين.
إنَّنا نقدِّر الروحيَّة والمشاعر الَّتي تعيش عند هؤلاء الَّذين تضغط عليهم الأوضاع السياسيَّة والأمنيَّة والإنسانيَّة، فتدفعهم إلى أن يقوموا بأعمالٍ ليسوا مقتنعين بها، ولكنّ الله علّمنا أن نقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[2]، ونقول للنّصارى: عندما يُخطَف أيّ شخص منكم، فإنَّ كلّ الفعاليّات تقف وقفة رجل واحد حتى تدافع عن هذا المخطوف المسيحي ليرجع إلى أهله، لكن ما بالكم هناك في المنطقة الأخرى، وأنتم تعيشون هناك؟! هناك مأساة أكثر من 2000 مخطوف لا يعرف أين مصيرهم ومستقبلهم، فإذا كنتم قد قتلتموهم فأفصحوا عنهم، وإذا كانوا موجودين فأفصحوا عنهم، أما آن الوقت لأن تتركوهم؟!
إنّكم مهما قلتم عن هذه المنطقة بأنها غابة، ولكنّكم تحتفظون بمخطوفين مسلمين أبرياء، لهذا إذا كان شعاركم المحبَّة، فإنَّ المحبَّة تعني أن لا تحتفظوا بالأبرياء.
[1] [الأحزاب: 22].
[2] [الأنعام: 164].