ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 22 رمضان 1404هـ/ الموافق: 22/6/1986م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، ومما جاء فيها:
في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان، كانت شهادة الإمام علي(ع) بعد أن ضربه عبد الرّحمن بن ملجم على رأسه وهو يصلّي، وعلينا أن نتوقَّف عند هذه الذّكرى طويلاً، لأنَّ الوقفة مع عليّ(ع) هي وقفة مع الفكر والإيمان والمسؤوليَّة والحياة المنفتحة والواعية، والَّتي يعيش فيها النّاس مع عليّ(ع)، فلا يشعرون بأنَّ ما يعيشونه هو في التّاريخ، بل في الحياة، لأنَّ الإمام عليّاً(ع) يتكلَّم مع الحقيقة، والحقيقة لا زمن لها.
وصيّة عليّ لولديه
ونحن عند الحديث عن الإمام عليّ(ع)، سنتوقَّف أمام وصيَّته لكلِّ من سمعها، وهي وصيّة عامَّة وليست وصيَّة خاصَّة، لأنَّ عليّاً(ع) شخصيَّة عامّة، ومسؤوليّته هي مسؤوليّة الإنسان الّذي يعطي الرّسالة للحياة كلّها، لتسير على هدي الإسلام.
وكان من وصيَّته، بعد أن التفت إلى ولديه الحسن والحسين: "... قولا بالحقّ، واعملا بالأجر، وكونا للظّالم خصماً وللمظلوم عوناً، أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم... والله الله في الأيتام... والله الله في جيرانكم، فإنَّهم وصية نبيِّكم... والله الله في القرآن... والله الله في الصَّلاة، فإنَّها عمود دينكم... والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم... وعليكم بالتَّواصل والتّباذل، وإيّاكم والتَّقاطع..."[1].
هذه وصيَّة عليّ(ع)، ولهذه الوصيَّة أبعاد في الحياة بالنّظر إلى المسؤوليّات التي يتحمَّلها الإنسان، ولها أبعاد في الوضع الاجتماعيّ، وأبعاد في الحالات الإنسانيَّة الصَّعبة والمواقف العباديَّة، ولهذا فإنَّ هذه الوصيَّة تمثّل في مجالاتها العامَّة البرنامج العمليّ الّذي يحكم حياتنا في جميع شؤونها.
ولنتوقَّف وقفات قصيرة مع هذه الكلمات، ولننطلق من خلالها إلى واقعنا الحاليّ، لأنَّ علياً(ع) يريد لكلماته أن تتحرَّك في الواقع. ولنعش مع الوصيَّة:
التّقوى والوقوف مع الحقّ
"أوصيكم بتقوى الله"، لأنَّ تقوى الله هي سرّ الإيمان وأساسه، وهي الَّتي تقول لك إنَّ عليك عندما تنطلق في الحياة، أن تفكِّر في الله قبل التَّفكير في أيِّ إنسان، وأن تحاسب نفسك أمام الله، فتقوى الله هي الرّوحيَّة الَّتي يجب أن نعيشها.
ثم أشار الإمام عليّ(ع) إلى ضرورة عدم طلب الدّنيا والاستجابة لها، لأنَّ الدّنيا تأخذ من الإنسان دينه وصدقه وإخلاصه، والإمام عليّ(ع) يقصد بالدّنيا شهواتها وحرامها وما لا يريده الله فيها، وليس المراد من ذلك، الدّنيا بجهادها ومسؤوليَّتها.
"قولا بالحقّ"، لتكن كلمة الحقّ هي الكلمة الّتي تنطلق منكما، لأنَّ الوقوف مع الله يعني الوقوف مع الحقِّ والإيمان، والإيمان يعني الارتباط بالحقّ والالتزام به على مختلف المستويات، وعلينا أن لا نجامل أحداً بالحقّ وعلى حسابه، لأنَّ الباطل هو الَّذي سيربح السَّاحة عند ذلك.
"واعملا بالأجر"، علينا أن نعمل لتحصيل مرضاة الله أوّلاً وأخيراً، وأن لا نفكِّر في القضايا على أساس النَّزوات والشَّهوات.
نصرة المظلومين
"كونا للظّالم خصماً وللمظلوم عوناً"، علينا أن لا نعاون الظَّالم، لأنَّه لا يجوز لنا أن نعاونه، ولا يجوز لنا أن نكون حياديّين بين الظَّالم والمظلوم، سواء كان الظّالم أو المظلوم فرداً أو شعباً أو أمّةً أو دولةً، فعلينا أن نقف وقفة إيجابيَّة، ونفكِّر في كلِّ طاقاتنا، حتى نُضعف الظَّالم ونعاون المظلوم، كلٌّ بحسب قدرته.
ويجب علينا أن لا نسمع لمن يقول إنَّ الظّالمين يملكون قوَّة، فحتى لو كان الظّالم قويّاً، فإنّ علينا أن نواجهه بقوّة، وبشكلٍ موحَّد، لأنَّ الظّالم يكون قويّاً إذا كنّا أفراداً وإذا واجهناه كأفراد، والمطلوب أن نوحِّد طاقاتنا في مواجهته، لأنَّ الظّلم يربح من حياد المحايدين، ولأنَّ أيَّ قوّة تقف بشكل حياديّ تُربح الظالم.
لذلك، فإنَّ الإسلام لا يوافق على وقوف الإنسان حياديّاً في المعركة بين الظّالم والمظلوم، فمسؤوليَّتنا وواجبنا هو مواجهة الظّالمين وإضعافهم وتقوية المظلومين، وكأنَّ الإمام عليّاً(ع) يقول لنا: "أيّها النّاس، كونوا للظّالمين في الدَّاخل خصوماً"، ولا يخدّروكم بإعلامهم وإشاعاتهم وبما يثيرونه من إشاعاتٍ أو محاولات تهويل، حتى نستطيع أن نسقط كلَّ مظاهر الهيمنة والتسلّط الّتي تحاول أن تحوِّلنا إلى عبيد، وكأنَّ الإمام عليّاً(ع) يقول لنا: كونوا لإسرائيل خصماً لإضعاف جبروتها وقوَّتها، وعلينا مواجهتها بكلِّ ما لدينا من قوّة، وعندها ستنتهي أسطورة إسرائيل، كما انتهت أسطورة الجنديّ الّذي لا يقهر، والسَّلام الذي لا يفهم.
كونوا للاستعمار خصماً بأشكاله كافَّة، والنِّداء موجَّه إلى كلِّ إنسان، ليكون خصماً للاستعمار بأشكاله كافّة؛ أن نكون أخصاماً للاستعمار في مواقفنا وأساليب عملنا، وأعواناً للمظلوم، وعلينا أن نترك العلاقات الشخصيَّة مع الزّعماء التّقليديّين والسياسيّين، والتي تؤدّي إلى تأييد الظالم، وأن لا نجامل أحداً، وأن نُفهم الجميع أنَّ تأييدنا لهم يتمّ على أساس ارتباط هؤلاء بالعدل، فإذا تركوا العدل والحقّ، فيجب أن نتركهم، وعلينا أن نرتبط بالأشخاص على أساس العدل والحق، وأن نتخلَّص من عبوديّة الأشخاص الذين يجرّوننا إلى المسلخ أحياناً ليذبحونا، وأن ننتبه لكي لا يحوِّلونا إلى عبيدٍ لمواقفهم وأشخاصهم، فنحن لا نريد أصناماً تعبدها الأمَّة، بل نريد قيادات ترتبط بها الأمَّة، وتعمل ـ القيادات ـ من أجلها.
التمسّك بالوحدة
إذا كان الظَّالم شخصاً في التّاريخ أو الحاضر، فعلينا أن نرفضه، وأن نقف مع الرَّسول والأئمَّة، وأن نراقب الله في كلِّ أعمالنا وكلّ تصرّفاتنا. أوصيكم بالوحدة لكي لا نعيش الفوضى والتمزّق، وعلينا أن ننظِّم مجتمعنا؛ أن ننظِّم أمورنا ونصلح ذات بيننا، وننطلق في هذا الخطّ، فإذا تحركنا على أساس مسؤوليَّاتنا، لا على أساس أنانيّاتنا أو شهواتنا، فعلينا أن نجمّد الخلافات الجانبيَّة لنتّحد على أساس القضايا الكبيرة.
وعندما يريد الأعداء أن يهزموا الأمَّة، فإنَّ عليها أن تتوحَّد في مواجهة الأعداء، لذلك نقول، كما ذكرنا سابقاً: ليس هناك الآن أيّ مجالٍ لأن نثير أيَّ حساسيّات، فهذا حرام، ولا مجال لكي نثير أيَّ خلافاتٍ جانبيَّة، فهذا حرام.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[2]، هذا هو شعار المرحلة، فنحن إخوة لكلِّ مسلم، وعلينا أن نطرح شعار إخوّة الإسلام وإخوّة الإيمان، حتى لو كان المؤمن مخطئاً في بعض انتماءاته أو تصرّفاته بشكلٍ لا يخرج من الإيمان أو الإسلام.
هكذا أوصانا رسول الله؛ أوصانا أن نفهم جيِّداً موقع الإخوَّة في الإسلام، وأن نفهم كيف يحاول أعداء الله أن يفرِّقوا بين المؤمنين وبين المسلمين، وهنا نجد أنَّ الخطَّة تسير في خطَّين: خطٍّ داخل التجمّعات المؤمنة بين المقاتلين والعاملين في سبيل الله، إذ إنَّ هناك لعبةً جهنميَّةً إسرائيليَّةً وأميركيَّةً وحزبيَّةً من أجل إغراق السَّاحة كلِّها، ويجب أن نكون أذكياء لمواجهة ذلك.
وهناك خطّة أخرى ترعاها أجهزة رسميَّة وحزبيَّة وإسرائيليَّة، وهي لعبة الفتنة بين السنَّة والشّيعة، وإثارة الأوضاع في بيروت الغربيَّة، من خلال إثارة الإشاعات بالانفجار الأمنيّ، رغم أنّه ليس هناك واقع لذلك، فهناك بعض المشاكل، ولكن ليس هناك شيء مما يتحدَّثون عنه. إنهم يريدون إثارة الإشاعات وتحقيقها من خلال تحريك الحساسيّات، فهناك لعبة جهنميَّة لإثارة السنَّة ضدّ الشّيعة والشّيعة ضدّ السنّة، وعلينا أن نستفيد من دعوة الإمام عليّ(ع) لنا، لتقوى الله، وتنظيم أمورنا، وإصلاح ذات بيننا، وإصلاح واقعنا الدّاخلي، لنمنع الفتنة. وإصلاح ذات البين أفضل من الصَّلاة المستحبَّة.
حفظ الأيتام والجيران
وبعد ذلك، بتابع الإمام عليّ(ع) في خطبته إثارة القضايا الداخليَّة، كقضيَّة الأيتام الّتي يتحمَّل المجتمع المسؤوليّة عنهم لتربيتهم وتنشئتهم تنشئة منظَّمة، فعلينا أن نشعر بمسؤوليَّتنا تجاه الأيتام كأفرادٍ وكمؤسَّسات، وأن نشجِّع المؤسَّسات التي ترعى الأيتام، وأن نتحمَّل مسؤوليَّة تربية يتيمٍ أو أكثر، بأن نتحمَّل مصاريف هذا اليتيم، وكأنَّنا رزقنا ولداً يضاف إلى أولادنا، ويجب أن لا نضع الحجج لكي لا نهتمّ بهم.
وبعد ذلك، تأتي قضيَّة الجيران، لأنّهم وصيَّة النبيّ، فإنَّ الجار في كلِّ مجتمعٍ هو من يجاورنا لمسافة أربعين بيتاً، والجار له حقٌّ علينا، حتى لو كان مسلماً أو كافراً. وعلى هذا الأساس، ينبغي أن نعرف مسؤوليَّتنا أمام كلِّ الّذين يجاوروننا، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيِّين، فلا يحقُّ لنا أن نخطف أحداً، أو نعتدي على الَّذين يعيشون بيننا، لأنهم جيراننا، وعلينا أن نحفظهم. وعلى هذا الأساس، نعلن من موقع المسؤوليَّة، أنَّ علينا أن نحافظ على كلِّ النّاس الذين يعيشون بيننا، حتى نقول للآخرين إنَّ الإسلام لا يتعقَّد من الَّذين يعيشون معه، بل إنَّ مسؤوليَّة المسلم المحافظة على الآخرين.
فعمليَّة خطف المسيحيّين الّذين يعيشون بيننا غير مبرَّرة إسلاميّاً، ونحن مسؤولون عن أعراضهم وبيوتهم ومنازلهم، وإذا اضطهد الآخرون المسلمين، فعلينا أن لا نقوم بما يقومون به، وبهذا نفوِّت الفرصة على جميع الَّذين يحاولون أن يصوِّروا المسلمين بالصّورة الإرهابيَّة التي لا شغل لها إلا السَّرقة والتَّفجير. كما أنَّ الإسلام حمى المسيحيِّين طيلة حكمه، والدَّليل على ذلك، أنَّ البلاد الّتي حكمها ما زال يعيش فيها المئات والألوف والملايين من اليهود والمسيحيّين. علينا أن لا تكون أعمالنا وروحيَّتنا كأعمال المعتدين، وعلينا أن نفهم أنَّ الجار الكافر له الحقّ علينا في حفظه.
وقد ركَّز الإمام عليّ(ع) بعد ذلك على الاهتمام بالصَّلاة والقرآن، فلا يسبقنا بالعمل بهما غيرنا، وعلينا الاهتمام بالبيت الحرام، فلا نتركه ما بقينا.
الجهاد بالنَّفس والمال
"الله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم"، فعلينا أن نشعر بمسؤوليَّتنا في الجهاد بالمال والنَّفس واللِّسان، ولا بدَّ لنا من أن نكون مجاهدين، فمعنى أن نكون مسلمين، أن نكون مجاهدين عبر ما نستطيع، إمَّا بالمال أو بالنّفس أو باللّسان، وعلينا أن نجاهد في كلِّ موقعٍ من مواقع الحياة، لأنَّنا إذا تركنا الجهاد، فسيقوى الآخرون علينا، ويسحقون وجودنا وإرادتنا، وإذا فكَّر كلّ واحدٍ منَّا بنفسه وبيته ولم يهتمّ بالجهاد، فسوف يتغلَّب الآخرون علينا.
وعندما نعيش فكرة الجهاد، فعلينا أن نعيش جوَّ المساندة والدَّعم لأولئك الذين يجاهدون بأنفسهم وأموالهم وألسنتهم في الجنوب والبقاع الغربي، الَّذين يحاولون أن يهزموا العدوّ، أولئك العلماء والنّساء والشّباب المجاهدين، الَّذين استطاعوا أن يهزموا غطرسة الكيان الصهيوني وكلّ عنفوانه وأسطورته الّتي لا تقهر، وأن يحقِّقوا للنَّاس الشّعور الكبير بأنهم يستطيعون مواجهة إسرائيل.
إنّنا نحيّي كلّ المجاهدين، ولا بدَّ من أن ندعمهم بالمال والسَّلام والأنفس، وعلينا أن ندافع عنهم ونقف وقفة إجلالٍ أمامهم، ولا ننسى في هذا المجال أن نحيّي علماء جبل عامل، الّذين لم يهدأوا في اللّيل ولا في النّهار، ولم يتوقّفوا عن توعية النّاس ومتابعة عمليّة الجهاد، بالرّغم من كلّ الأخطار.
ولا نزال نذكر الشّيخ الشّهيد راغب حرب، الَّذي واجهه الأعداء، فلم يستطيعوا أن يواجهوه فاغتالوه، ونوجّه التحيّة إلى الشيخ محرم العارفي، والشيخ عباس حرب، والشّيخ عبد الكريم شمس الدّين. ولا ننسى العلماء الصّامدين هناك، والعلماء الّذين أبعدوا عن الجنوب وحاولوا اغتيالهم، ولا ننسى أن نوجِّه التحيّة إلى الشيخ علي ياسين والشيخ يوسف دعموش، اللّذين وقفا الوقفة البطوليّة مع إخوانهم، فأُبعدوا عن الجنوب، لكنَّ علماءنا مهما أبعدتهم إسرائيل عن أرض الجهاد، فلا بدَّ من أنهم سيعودون إلى الجنوب، وسينطلق كلّ شبابنا وكلّ أفرادنا في الجنوب ليقفوا مع علمائهم، ليعودوا إلى كلّ مواقعهم ظافرين منتصرين بإذن الله، وعلينا عند ذلك أن ننتقل لمواجهة الاستكبار العالمي وعملائه.
علينا أن لا نقيم الاحتفالات فقط، كما ينطلق البعض من الّذين يجمعون المال باسم المقاومة الوطنيَّة، ولا يصل إلى المقاومة الإسلاميّة أيّ شيء، علينا أن لا نتاجر بالمقاومة وبالمجاهدين، لأنَّ إسرائيل لن تخرج بالأساليب الدّبلوماسيّة، لأنها لعبت على هذه الوسائل، وإسرائيل تنهزم إذا ضربناها بكلِّ قوَّة، وعبر كلِّ مواقفنا، وستزول إسرائيل وغيرها من خلال ضرباتنا بإذن الله.
علينا أن نستجيب للإمام عليّ(ع) بالجهاد، وشرط الجهاد هو وحدة الكلمة، ووحدة الموقف، ووحدة المعركة، والإمام عليّ(ع) يدعونا إلى الوحدة حتى لو اختلفنا مع بعضنا البعض، فعلينا بالتّواصل دائماً، وعلينا أن نظلَّ مجاهدين ومناضلين في وجه كلِّ المستكبرين والظّالمين.
[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 77.
[2] [الحجرات: 10].