خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
القى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (دام ظله) خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الامامين الحسنين (ع) ، في حارة حريك ، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ،
وجاء في خطبته الأولى :
بسم الله الرحمن الرحيموالصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين
امتداد الإمامة
في هذه الأيام نلتقي بمناسبة ذكرى ولادة الإمام الثامن من أئمة أهل البيت (ع) الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، ونحن عندما نلتقي بذكرى أيّ إمام من أئمتنا فلا بدّ لنا ان نعيش مع سيرته ومع كلماته ووصاياه وتعاليمه ومواعظه وإرشاداته، لأن إمامتهم (ع) تمتد في مدى حياتنا باعتبار انهم لا يتحركون في نطاق المرحلة التي عاشوا فيها، بل ينطلقون مع الحياة كلها، فالرسالة الإسلامية هي رسالة الله تعالى الى الناس جميعاً في الزمن كله وفي المدى كله.
لقد عاش الإمام الرضا (ع) بعد أبيه الإمام موسى بن جعفر (ع)، وامتد تأثيره في الحياة الإسلامية كلها وفي الواقع الإسلامي كله، فكان الناس يردون اليه ليتعلّموا منه، وكان يواجه كل القضايا التي تتحرك في المرحلة التي عاش فيها من قضايا الصراع الفكري والتنوع الديني، فكان (ع) يجلس الى النصارى والى اليهود والصابئة والملاحدة ليناقشهم وليدخل معهم في حديث الإسلام مناقشاً أديانهم وأفكارهم، وكانوا - حسب شهادة الناس الذين عاصروه وعاصروا تلك الحوارات - لا يملكون جواباً أمامه بل يسكتون سكوت الانسان الذي لا يرى لديه أية حجة في الردّ عليه..
ولاية العهد
وكانت أهم المحطات في حياة الإمام الرضا (ع) مسألة ولاية الـعـهد التي أراد الـمأمون - الخليفة العباسي - له ان يرضى بها، وكان الإمام الرضا (ع) يعرف انها لن تتم له لأن المأمون كانت له دواعيه وظروفه التي دفعته الى ذلك، وقَبِل الإمام هذه الولاية تحت ظروف خاصة فرضت عليه القبول، وربما رأى (ع) انها قد تمنحه حرية الحركة في بثّ علوم الإسلام في خط اهل البيت (ع) في الناسن من خلال هذا الـمـوقـع وهو ولاية الـعـهـد، والمـسـألة عـنـده - وعندنا - هي ان منصب الخلافة له، لأنه الإمام المفترض طاعته حتى على المأمون وغيره.. واستطاع الإمام الرضا (ع) ان ينشر علوم اهل البيت (ع) التي هي علوم رسول الله (ص) لأن حديثهم حديث رسول الله، ولأن توجيهاتهم وتعليماتهم هي توجيهات وتعليمات رسول الله، وقد انتقل (ع) الى رحاب ربه في زمن المأمون، وهناك حديث كثير في الروايات عن ان المأمون دسّ اليه السم، وهذا ما ينكره المأمون، ويتحفظ بعض المؤرخين في ذلك.
العقل صديق لا يخذل
ونحن في مناسبة ولادة الإمام الرضا (ع) نريد ان نستمع اليه ليحدثنا، مما يمكن له ان يبني لنا حياتنا ويوجهها في الاتجاه السليم، وقد قلنا أكثر من مرة ان معنى ان نكون اتباع اهل البيت (ع) هو ان نعمل بما علمونا إياه في سيرتهم وفي كلماتهم، ان هذا هو معنى التشيّع والارتباط بالأئمة (ع)، ليعيشوا في داخل حياتنا من خلال كلماتهم وتعاليمهم. ومن بعض كلمات الإمام الرضا (ع) التي كان يحدث بها أصحابه: "صديق كل امرئ عقله وعدوّه جهله"، ان الإمام يريد ان يؤكد لنا قيمة العقل لدى الإنسان، والعقل هو هذه القوة المفكرة التي تحسب للإنسان حسابات الأشياء بكل دقة، والتي يحصل عليها الإنسان من خلال ما يتأمله ويتعلمه وما يجربه. عندما يعيش الإنسان مع عقله فان عليه ان يسأله عن كل خطوة يخطوها وعن كل كلمة يتكلمها وعن كل علاقة ينشئها، فان عقلك هو الصديق الذي لا يخذلك لأنه يحسب لك حساب الأرباح والخسائر، وعندما يحدثك عن الأرباح والخسائر فانه لا يحدثك عن أرباح الدنيا وخسائرها فحسب، ولكنه يحدثك بالإضافة الى ذلك عن أرباح الآخرة وخسائرها، لأن العقل يريد لك السعادة والخط المستقيم لحياتك في الدنيا والآخرة. لذلك، عقلك صديقك فلا تترك صديقك ولا تنفصل عنه ولا تتبع غريزتك والجهل الذي يفرضه الناس عليك. عندما تختلط عليك الأمور اسأل عقلك، وعندما تضيع ملامح الطريق اسأل عقلك وحاول ان تستعين على عقلك بالشورى فيما تشاور به الرجال، حتى ينضم عقلك الى عقول الآخرين، وقد ورد في الحديث: "من شاور الرجال شاركها في عقولها".
مجتمع الجهلة هالك
هناك عقل وهناك جهل، والله تعالى جعل العقل حجة علينا يوم القيامة، فان الله سبحانه يحتج علينا بعقولنا ووجداننا، {وقالوا لو كنا نسمع او نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم - انهم كانوا لا يعقلون ولا يسمعون الكلمة العاقلة من العقلاء عندما تنفذ اليهم - فسحقاً لأصحاب السعير}، وقد حدثنا الله تعالى عن الذين لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها. فلننطلق بكل هدوء من اجل ان نستعمل عقولنا فنتحاور من خلال عقولنا ونخطط الخطط من خلالها، لأن مشكلتنا في واقعنا الذي نعيش فيه ان الجهلة الذين قد يملكون قوة المال او السلاح او السلطة هم الذين يفرضون علينا جهلهم ويثيرون المأساة في حياتنا من خلال جهلهم. لذلك، لينطلق اهل العقل في المجتمع من اجل ان يجعلوا العقل هو السبيل الذي يلتقي عليه الجميع، وعلينا ان ننمي عقولنا فلا نقرأ إلا ما يفيدها ولا ننظر إلا الى ما يموّن عقولنا ولا نستمع إلا الى ما يرفع مستوى عقولنا، وقد قال الله تعالى: {فبشّر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}. لا تمكّنوا الجهلة من السيطرة على المجتمع، لأن المجتمع الذي يقوده الجهلة هو مجتمع يسير الى الهلاك.
استعمال العدل مؤذن بدوام النعمة
وكان الإمام الرضا (ع) يقول: "استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة ولا حول ولا قوة إلا بالله"، عندما تستعمل العدل في حياتك فتكون عادلاً مع نفسك فلا تظلمها بالكفر والفسق والضلال، وتكون عادلاً مع اهلك فلا تظلمهم بسلطتك، وتكون عادلاً مع ربك فلا تشرك به شيئاً، وتكون عادلاً مع الناس فتعطي لكل ذي حق حقه، ان تعيش العدل في كل حياتك بحيث تنظر ان لك حقاً وللناس حقاً، وانك اذا اردت للناس ان يعطوك ما لك من حق فعليك ان تعطي الناس ما لهم عليك من حق، هذا هو العدل، ان تكون متوازناً في نظرتك الى نفسك والى الناس. ثم، استعمال الإحسان، كن الإنسان الإنسان الذي يعيش مع الناس في الحياة ويحاول ان يُحسن اليهم، كما قال الله تعالى: {وأحسن كما أحسن الله اليك}، فاذا كنت تحب ان يُحسن الناس اليك، ان يبروك، ان يتعاملوا معك برفق ومحبة، فحاول ان تُحسن للناس لأن الإحسان أمر الله الذي يحب للناس ان يفعلوه، كما ان العدل هو امر الله الذي يحب للناس ان يفعلوه، والإمام (ع) يحدثنا انك كلما كانت العادل أكثر - في نفسك وبيتك وفي محل تجارتك وفي الناس - وإذا كنت المحسن اكثر، فان الله تعالى سيديم نعمته عليك لأنه سبحانه سوف يشكر لك ذلك، ومعنى شكر الله انه تعالى يزيد في نعمتك ويديم هذه النعمة.
الحسّاد صغار العقول وضعاف الإيمان
وينقل الإمام الرضا (ع) في بعض كلماته عن رسول الله (ص) حديثه فيما يتحرك به الناس، فيقول: "حدثني أبي عن أبائه عن عليّ (ع) قال: قال رسول الله (ص): دبّ اليكم داء الأمم قبلكم: البغضاء والحسد"، والنبي (ص) يتحدث وهو يراقب أمته التي أراد ان يبني قاعدتها على المحبة والتراحم، ولكنه (ص) رأى ان الناس من حوله يعيشون البغضاء من خلال عصبية عائلية او شخصية او ما الى ذلك من العصبيات التي تثير الحقد في النفوس. ان النبي (ص) يقول: ان هذا المرض الذي أردت ان انقذكم منه قد دبّ اليكم فأصبحتم تتباغضون وانتم المسلمون، وتتحاقدون وانتم المؤمنون، يحمل كل واحد منكم روح التدمير والإسقاط للآخر، فأصبحتم تحسدون بعضكم بعضاً ويتحرك الحسد من اجل ان يجعلكم تبغون على بعضكم البعض، ولو كنتم مؤمنين بالله جيداً لعرفتم ان الله تعالى اذا أعطى بعضكم نعمة فانه يمكن ان يعطيكم هذه النعمة من دون ان يزيلها عن الناس الآخرين، فلماذا تضيّق رحمة الله؟ لماذا تريد ان تحصرها في نفسك؟ قل لربك: يا ربِ، أعطني كما أعطيت فلاناً وأبقِ له نعمته لأنك الواسع في رزقك ولأن خزائنك لا تنفذ.
لذلك، الحسّاد هم اناس صغار العقول وضعاف الإيمان، لأن الإنسان الذي يتمنى زوال نعمة غيره ليحصل عليها عليه ان يعرف ان الله تعالى يعطيه ويعطي غيره، كما خلقه وخلق غيره، وقد جاء شخص الى رسول الله (ص) يستأذنه بالدعاء له ولنفسه، فقال: اللهم اغفر لي ومحمداً ولا تغفر لأحد غيرنا، فقال له رسول الله (ص): "يا هذا، لقد ضيّقت واسعاً"، لأن رحمة الله وسعت كل شيء.. والحسد يوحي بضعف الهمة لأن فلاناً عمل واجتهد واستطاع ان يصل، فاعمل - ايها الحاسد - فقد تصل الى ما وصل اليه او الى مستوى آخر، بالإضافة الى ان الحسد يأكل قلب الإنسان وراحته وروحه.. وقد تحدث الإمام الرضا (ع) عن هذا الموضوع في زمانه، ولكنه يتحدث عن زماننا أيضاً لأن كثيراً من مشاكلنا واختلافاتنا وبغينا على بعضنا انما ينطلق من هذه البغضاء التي تحصل بين المسلمين والمؤمنين، والحسد الذي يتحرك في قلب المجتمع المؤمن، والشيطان يضحك مقهقهاً انه استطاع ان يُبعدنا عن أخوّة الإيمان ومحبته.
التواضع ومعرفة النفس
وجاء في كلام الإمام الرضا (ع) وقد سأله شخص عن حدّ التواضع الذي هو من الصفات الطيبة الحسنة التي يريد الله تعالى للناس ان يعملوا على اساسها، فقال: "التواضع درجات، منها ان يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم"، قد يستعرض الإنسان عضلاته أمام الناس وينفخ شخصيته، لكنه عندما يجلس مع نفسه فانه يفهمها لأن الانسان مكشوف امام نفسه ويعرف نقاط ضعفه، والإمام (ع) يريد للإنسان ان يجلس مع نفسه ليدرس نقاط ضعفه وقوته.. ومشكلة الكثيرين بيننا انهم لا يدرسون انفسهم ولا يعرفونها، لذلك، ادرس نفسك فاذا وجدت نقطة ضعف فحاول ان تحوّلها الى نقطة قوة، واذا وجدت نقطة قوة فحاول ان تزيدها وتنميها، فاذا عرفنا انفسنا فاننا نعرف كيف نتعامل مع بعضنا البعض، وقد ورد في دعاء "مكارم الأخلاق" - الذي أوصي بقـراءته كل يوم لأنه يـمثل البرنامج الأخلاقي الإسلامي - عن الإمام زين العابدين (ع): "اللهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها"..
كيف ينبغي للشيعي ان يكون؟
وهناك حديث عن الإمام الرضا (ع) يبيّن من خلاله كيف ينبغي للشيعي ان يكون، فيقول: "كثيراً ما كنت أسمع أبي يقول: ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدّرات - النساء - في خدورهن بورعه، وليس من أوليائنا وهو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم من خلق الله أورع منه"، فكم شيعي لدينا بحسب هذا الحديث؟! ومعنى ذلك ان التشيع ليس عصبية ولكنه خط ينطلق في الاسلام كله من خلال تقوى الله وطاعته والسير في خط هداه. وكان (ع) يقول: "المؤمن الذي إذا أحسن استبشر - لأنه أطاع الله - وإذا اساء استغفر، والمسلم الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده، وليس منا مَن لم يأمن جاره بوائقه - شرّه - ودواهيه".
هذا هو خط أهل البيت (ع)، ان تكون الإنسان المؤمن الذي اذا عشت مع الناس كنت بَرَكة عليهم ورحمة لهم، وكنت الانسان الذي ينشر المحبة بدلاً من البغضاء، والأخوّة بدلاً من العداوة، وان تكون الإنسان الذي يُحسن الى المجتمع، وقد سأل شخص الإمام الرضا (ع): من أحسن الناس معاشاً؟ فقال (ع): "من حَسُن معاش غيره في معاشه"، من تتحرك معيشته لتغمر غيره فيعلّم الجاهلين أو يغني الفقراء وما الى ذلك، وسأله: من أسوأ الناس معاشاً؟ فقال (ع): "من لم يعش معاش غيره في معاشه".. فالمعيشة الهانئة هي ذلك الشعور الجميل الذي يغمر الإنسان عندما يضع رأسه على الوسادة، فيتذكر بان هناك حزيناً قد فرّحه وكئيباً رفع كآبته ومحتاجاً قضى له حاجته، ويشعر بانه استطاع ان يكون نسمة عليلة ونوراً يشرق في الناس.. المال يذهب والجاه يفنى وتبقى هذه اللمسات الإنسانية الحلوة التي تنفتح من قلب الإنسان الى الله تعالى، وهي التي يحملها الإنسان الىقبره ويوم حشره، لذلك، فلنسارع الى عمل الخير وقضاء حوائج الناس ونشر المحبة والتوفيق والصلح بينهم.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في الاستقامة على خط الاسلام، في خط اهل البيت (ع) الذين قال رسول الله (ص) فيهم: "مثل اهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى"، فان اهل البيت (ع) لا يريدون لنا إلا السير على الخط المستقيم في خط الاسلام من اجل ان نحصل على رضوان الله وترتفع درجاتنا عنده، وعلينا ان نتقي الله سبحانه في كل ما يواجهنا من قضايا الاسلام والمسلمين، لأن ذلك يمثل مسؤوليتنا في ان نتعاون ونتكاتف في ان نردّ للمظلومين ظلامتهم وان نواجه الظالمين بموقف واحد وصوت واحد، وان نعالج قضايانا بكل حكمة وثبات وقوة وتخطيط، فماذا هناك؟
واجب التصدي لجريمة اغتيال السيد الصدر
لا تزال قضية العراق تتحرك في دائرة المأساة التي يعيشها الشعب العراقي، بين حصار دولي تتزعمه أمريكا وقصف متواصل لمواقعه، وحكم بوليسي يتمثل في نظامه الذي يتحرك بالقبضة الحديدية الضالعة في الاغتيالات المتحركة في أكثر من جريمة، ولا سيما في عمليات اغتيال المراجع الدينية التي كان آخرها عملية اغتيال السيد محمد الصدر لمجرد جرأته على انتقاد النظام. وقد قام النظام بدفنه ليلاً ولم يمكّن احداً من تشييع جنازته، بل أتى بعائلته وبقية اولاده قبل الفجر من أجل ان يشهدوا دفنه ليلاً، كدفن جدته الزهراء (ع) ليلاً، وكان وصيتها ان تُدفن (ع) ليلاً احتجاجاً، ولكن دفنه ليلاً كان إخفاءاً للجريمة، وقد سمعنا ان زوجته قد تُوفيت بعد استشهاده بثلاثة أيام بفعل الصدمة التي ألمّت بها..
ومن اللافت أننا شهدنا سكوتاً عالمياً عن هذه الجريمة البشعة التي لا تمثل جريمة خاصة بل جريمة عامة تمثلت في اغتيال حوزة النجف الأشرف التاريخية، والتي تخضع منذ مدة طويلة إلى عملية قتل منظّم لعلمائها ومراجعها وتهجير متواصل لطلابها.. إننا ندعو المسلمين والأحرار في العالم للتصدي لهذه الجريمة الوحشية التي يمارسها النظام العراقي ضد مراجع المسلمين وعلمائهم، ثم يحاول التملص منها بطريقة مكشوفة، بالإضافة إلى ما يصيب الشعب العراقي من ظلم وتجويع وتشريد وحصار إقتصادي في أكثر من موقع.
المماطلة مستمرة حيال "كوسوفو"
وفي هذا الجو، لا بدّ من التطلع إلى قضية المسلمين في "كوسوفو"، والى التسويف والمماطلة الدولية حيال مأساتهم، فقد أحرز الصرب المعتدون انتصاراً في المفاوضات التي ترعاها دول حلف شمالي الأطلسي، ولم يحصل الألبان المسلمون فيها على شيء، ولا تزال الحرب تفتك بكل الناس هناك، مما يؤدي إلى مزيد من القتل والتشريد من دون أيّ حلّ سياسي.. وقد كان الحلف الأطلسي يهدد الصرب بضربات عسكرية إذا لم يخضعوا للرغبة الدولية ولكن لم يحدث أيّ شيء، بل المزيد من تضييع القضية ومحاولة إيصال الأمور إلى ما يشبه النتائج في البوسنة والهرسك، مما يجعل المعاناة مستمرة في واقع المسلمين هناك، ولم نجد للدول الإسلامية أيّ دور فاعل في هذه القضية الإسلامية.
إيران: الوعي الشعبي شرط إنجاح التجربة
وعندما نتوقف عند محطة الإنتخابات البلدية في إيران، فإننا نقدّر تصريح السيد خاتمي القائل بأن "إيران ليست في حاجة إلى أجهزة شرطة القبضة الحديدية وإثارة الرعب في قلوب الناس، وان ما نحتاجه إلى وزارة استخبارات تمثل النور والعقل المدبّر".. إننا نرى في هذا الموقف استعداداً لإنجاح قضية الحريات السياسية بالمستوى الذي لا تلجأ الدولة فيه إلى العنف، ولكن ذلك يحتاج إلى المزيد من الوعي الشعبي الإسلامي الذي لا بدّ له من التحديق بالأخطار المحيطة بإيران من جهة، ومن مراهنة الإستكبار العالمي على ان الإسلام لا يملك إنجاح التجربة الإسلامية للدولة القائمة على الحرية المسؤولة والعدل الشامل.. إننا نريد للشعب الإيراني المسلم ان يفهم ان وحدته في دائرة التنوع، وتكامله في رعاية المرحلة هما الشرط الأساس في استمرار الثورة على خط المستقبل في مواقع القوة والتقدّم والنجاح.
تمييع أمريكي لقضية "أرنون"
أما في لبنان، فلا تزال قضية بلدة "أرنون" في احتلال العدو لها تخضع للتمييع الأمريكي الذي ضغط على لبنان لتأخير تقديم الشكوى إلى مجلس الأمن، تحت وعدٍ بحلّ القضية دبلوماسياً وتهديد باستعمال حق النقض "الفيتو" ضد ذلك، بعد فشل لجنة تفاهم نيسان في الحلّ، ولكن أمريكا السائرة ابداً في دعم إسرائيل ورفض الضغط عليها بأية وسيلة، لا سيما في مرحلة انتخاباتها المقبلة، لا يمكن ان تساعد لبنان على الحلّ إلا إذا قدّم تنازلاً سياسياً أو امنياً لحساب الخطة الأمريكية المستمرة والداعمة لبقاء الإحتلال الصهيوني في لبنان، إلا في نطاق التسوية، لا سيما وان أمريكا هي التي تتحرك في رفض تنفيذ القرار 425 بعيداً عن التسوية.
المقاومة الإسلامية تُسقط استراتيجية العدو
وقد استطاعت المقاومة الإسلامية القيام بردّ قوي فاعل على العدو في إسقاط مقولته العسكرية المتمثلة في شعار "نيران أغزر من أجل إصابات أقل"، وذلك بالإيقاع بضباطه وجنوده في الوحدة التي تضم ثلاثين عنصراً من الوحدات الصهيونية الخاصة التي يعتبرها العدو الأكثر كفاءة في القتال، وبذلك عاد المأزق السياسي داخل كيان العدو بين فريق يريد الإنسحاب من دون قيد او شرط للتخلص من كل هذه الخسائر وبين فريق يطلب الإنسحاب ولكن في إطار مفاوضات مع سوريا ولبنان. ونحن عندما ندرس الألطاف والتوفيقات الربانية للمجاهدين فاننا نستحضر قول الله لرسوله: {وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى}، لأن الله تعالى بألطافه قد يهيئ ظروفاً لم تكن محسوبة للمجاهدين. وقد لاحظنا ان الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية تحدث عن الأسف للخسارة في الأرواح ودعا إلى ضبط النفس، في الوقت الذي لم يتحدث فيه بكلمة واحدة بالأسف لخسارة لبنان أرواح المدنيين الذين تقتلهم أو تجرحهم القذائف الإسرائيلية.
الشكوى لمجلس الأمن تفضح الدور الأمريكي
إننا نعتقد ان على الدولة اللبنانية المضي في تقديم الشكوى إلى مجلس الأمن، للإستمرار في فضح الدور الأمريكي الذي يدأب لاستعمال حق النقض ضد أيّ شكوى لبنانية، وللتهديد المبطّن للبنان في أيّ حركة للحصول على التأييد الدولي في رفض الإحتلال.. وعلى الشعب اللبناني الوقوف مع أهلنا في "أرنون" ليعرف العالم ان اللبنانيين موحَدون في دعم أية قرية تتعرض للإحتلال أو للقصف والتهجير، بالإضافة إلى دعم المجاهدين والوقوف معهم في خط المواجهة، فان ذلك يمكن ان يترك تأثيره على الرأي العام العالمي، فان وحدة اللبنانيين تمثل أعظم الأسلحة في مواجهة العدو. وعلينا ان نفهم ان لجنة المراقبة لم يعد لها أية فاعلية، بل تحوّلت بفعل التنسيق الإسرائيلي - الأمريكي في داخلها إلى مركز لتدوين الشكاوى والإعلان عنها فقط، والسؤال: هل ان هناك خطة لتحويلها إلى لجنة ترتيبات أمنية في المستقبل القريب؟!
مواجهة العدو بمتابعة الإصلاح
وعلى الحكم والحكومة الردّ بالأفعال على وزير حرب العدو الذي يقول: "ليس في لبنان دولة"، للإثبات للعدو بأن في لبنان دولة تسهر على قضايا شعبها في كل صغيرة وكبيرة، وأنها لن تتوانى عن متابعة مسيرة التحرير جنباً إلى جنب مع المقاومة، وتهيئة كل الظروف الداخلية لإنجاح هذه المسيرة، ولن يكون ذلك إلا بمتابعة الخطوات الإصلاحية وحلّ المعضلة الإقتصادية أو التخفيف من وطأتها، وإعادة الدورة الإقتصادية في مجالات الزراعة والصناعة، ومحاصرة البطالة، ولن يكون ذلك إلا بوقف السجالات الداخلية وانخراط المعارضة والموالاة في مسيرة الإصلاح والبناء، وليكن لكلٍ موقعه ودرجته بالمستوى الذي يخدم فيه شعبه ووطنه.
خطبتا صلاة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
القى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (دام ظله) خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الامامين الحسنين (ع) ، في حارة حريك ، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ،
وجاء في خطبته الأولى :
بسم الله الرحمن الرحيموالصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين
امتداد الإمامة
في هذه الأيام نلتقي بمناسبة ذكرى ولادة الإمام الثامن من أئمة أهل البيت (ع) الإمام علي بن موسى الرضا (ع)، ونحن عندما نلتقي بذكرى أيّ إمام من أئمتنا فلا بدّ لنا ان نعيش مع سيرته ومع كلماته ووصاياه وتعاليمه ومواعظه وإرشاداته، لأن إمامتهم (ع) تمتد في مدى حياتنا باعتبار انهم لا يتحركون في نطاق المرحلة التي عاشوا فيها، بل ينطلقون مع الحياة كلها، فالرسالة الإسلامية هي رسالة الله تعالى الى الناس جميعاً في الزمن كله وفي المدى كله.
لقد عاش الإمام الرضا (ع) بعد أبيه الإمام موسى بن جعفر (ع)، وامتد تأثيره في الحياة الإسلامية كلها وفي الواقع الإسلامي كله، فكان الناس يردون اليه ليتعلّموا منه، وكان يواجه كل القضايا التي تتحرك في المرحلة التي عاش فيها من قضايا الصراع الفكري والتنوع الديني، فكان (ع) يجلس الى النصارى والى اليهود والصابئة والملاحدة ليناقشهم وليدخل معهم في حديث الإسلام مناقشاً أديانهم وأفكارهم، وكانوا - حسب شهادة الناس الذين عاصروه وعاصروا تلك الحوارات - لا يملكون جواباً أمامه بل يسكتون سكوت الانسان الذي لا يرى لديه أية حجة في الردّ عليه..
ولاية العهد
وكانت أهم المحطات في حياة الإمام الرضا (ع) مسألة ولاية الـعـهد التي أراد الـمأمون - الخليفة العباسي - له ان يرضى بها، وكان الإمام الرضا (ع) يعرف انها لن تتم له لأن المأمون كانت له دواعيه وظروفه التي دفعته الى ذلك، وقَبِل الإمام هذه الولاية تحت ظروف خاصة فرضت عليه القبول، وربما رأى (ع) انها قد تمنحه حرية الحركة في بثّ علوم الإسلام في خط اهل البيت (ع) في الناسن من خلال هذا الـمـوقـع وهو ولاية الـعـهـد، والمـسـألة عـنـده - وعندنا - هي ان منصب الخلافة له، لأنه الإمام المفترض طاعته حتى على المأمون وغيره.. واستطاع الإمام الرضا (ع) ان ينشر علوم اهل البيت (ع) التي هي علوم رسول الله (ص) لأن حديثهم حديث رسول الله، ولأن توجيهاتهم وتعليماتهم هي توجيهات وتعليمات رسول الله، وقد انتقل (ع) الى رحاب ربه في زمن المأمون، وهناك حديث كثير في الروايات عن ان المأمون دسّ اليه السم، وهذا ما ينكره المأمون، ويتحفظ بعض المؤرخين في ذلك.
العقل صديق لا يخذل
ونحن في مناسبة ولادة الإمام الرضا (ع) نريد ان نستمع اليه ليحدثنا، مما يمكن له ان يبني لنا حياتنا ويوجهها في الاتجاه السليم، وقد قلنا أكثر من مرة ان معنى ان نكون اتباع اهل البيت (ع) هو ان نعمل بما علمونا إياه في سيرتهم وفي كلماتهم، ان هذا هو معنى التشيّع والارتباط بالأئمة (ع)، ليعيشوا في داخل حياتنا من خلال كلماتهم وتعاليمهم. ومن بعض كلمات الإمام الرضا (ع) التي كان يحدث بها أصحابه: "صديق كل امرئ عقله وعدوّه جهله"، ان الإمام يريد ان يؤكد لنا قيمة العقل لدى الإنسان، والعقل هو هذه القوة المفكرة التي تحسب للإنسان حسابات الأشياء بكل دقة، والتي يحصل عليها الإنسان من خلال ما يتأمله ويتعلمه وما يجربه. عندما يعيش الإنسان مع عقله فان عليه ان يسأله عن كل خطوة يخطوها وعن كل كلمة يتكلمها وعن كل علاقة ينشئها، فان عقلك هو الصديق الذي لا يخذلك لأنه يحسب لك حساب الأرباح والخسائر، وعندما يحدثك عن الأرباح والخسائر فانه لا يحدثك عن أرباح الدنيا وخسائرها فحسب، ولكنه يحدثك بالإضافة الى ذلك عن أرباح الآخرة وخسائرها، لأن العقل يريد لك السعادة والخط المستقيم لحياتك في الدنيا والآخرة. لذلك، عقلك صديقك فلا تترك صديقك ولا تنفصل عنه ولا تتبع غريزتك والجهل الذي يفرضه الناس عليك. عندما تختلط عليك الأمور اسأل عقلك، وعندما تضيع ملامح الطريق اسأل عقلك وحاول ان تستعين على عقلك بالشورى فيما تشاور به الرجال، حتى ينضم عقلك الى عقول الآخرين، وقد ورد في الحديث: "من شاور الرجال شاركها في عقولها".
مجتمع الجهلة هالك
هناك عقل وهناك جهل، والله تعالى جعل العقل حجة علينا يوم القيامة، فان الله سبحانه يحتج علينا بعقولنا ووجداننا، {وقالوا لو كنا نسمع او نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم - انهم كانوا لا يعقلون ولا يسمعون الكلمة العاقلة من العقلاء عندما تنفذ اليهم - فسحقاً لأصحاب السعير}، وقد حدثنا الله تعالى عن الذين لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها. فلننطلق بكل هدوء من اجل ان نستعمل عقولنا فنتحاور من خلال عقولنا ونخطط الخطط من خلالها، لأن مشكلتنا في واقعنا الذي نعيش فيه ان الجهلة الذين قد يملكون قوة المال او السلاح او السلطة هم الذين يفرضون علينا جهلهم ويثيرون المأساة في حياتنا من خلال جهلهم. لذلك، لينطلق اهل العقل في المجتمع من اجل ان يجعلوا العقل هو السبيل الذي يلتقي عليه الجميع، وعلينا ان ننمي عقولنا فلا نقرأ إلا ما يفيدها ولا ننظر إلا الى ما يموّن عقولنا ولا نستمع إلا الى ما يرفع مستوى عقولنا، وقد قال الله تعالى: {فبشّر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}. لا تمكّنوا الجهلة من السيطرة على المجتمع، لأن المجتمع الذي يقوده الجهلة هو مجتمع يسير الى الهلاك.
استعمال العدل مؤذن بدوام النعمة
وكان الإمام الرضا (ع) يقول: "استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة ولا حول ولا قوة إلا بالله"، عندما تستعمل العدل في حياتك فتكون عادلاً مع نفسك فلا تظلمها بالكفر والفسق والضلال، وتكون عادلاً مع اهلك فلا تظلمهم بسلطتك، وتكون عادلاً مع ربك فلا تشرك به شيئاً، وتكون عادلاً مع الناس فتعطي لكل ذي حق حقه، ان تعيش العدل في كل حياتك بحيث تنظر ان لك حقاً وللناس حقاً، وانك اذا اردت للناس ان يعطوك ما لك من حق فعليك ان تعطي الناس ما لهم عليك من حق، هذا هو العدل، ان تكون متوازناً في نظرتك الى نفسك والى الناس. ثم، استعمال الإحسان، كن الإنسان الإنسان الذي يعيش مع الناس في الحياة ويحاول ان يُحسن اليهم، كما قال الله تعالى: {وأحسن كما أحسن الله اليك}، فاذا كنت تحب ان يُحسن الناس اليك، ان يبروك، ان يتعاملوا معك برفق ومحبة، فحاول ان تُحسن للناس لأن الإحسان أمر الله الذي يحب للناس ان يفعلوه، كما ان العدل هو امر الله الذي يحب للناس ان يفعلوه، والإمام (ع) يحدثنا انك كلما كانت العادل أكثر - في نفسك وبيتك وفي محل تجارتك وفي الناس - وإذا كنت المحسن اكثر، فان الله تعالى سيديم نعمته عليك لأنه سبحانه سوف يشكر لك ذلك، ومعنى شكر الله انه تعالى يزيد في نعمتك ويديم هذه النعمة.
الحسّاد صغار العقول وضعاف الإيمان
وينقل الإمام الرضا (ع) في بعض كلماته عن رسول الله (ص) حديثه فيما يتحرك به الناس، فيقول: "حدثني أبي عن أبائه عن عليّ (ع) قال: قال رسول الله (ص): دبّ اليكم داء الأمم قبلكم: البغضاء والحسد"، والنبي (ص) يتحدث وهو يراقب أمته التي أراد ان يبني قاعدتها على المحبة والتراحم، ولكنه (ص) رأى ان الناس من حوله يعيشون البغضاء من خلال عصبية عائلية او شخصية او ما الى ذلك من العصبيات التي تثير الحقد في النفوس. ان النبي (ص) يقول: ان هذا المرض الذي أردت ان انقذكم منه قد دبّ اليكم فأصبحتم تتباغضون وانتم المسلمون، وتتحاقدون وانتم المؤمنون، يحمل كل واحد منكم روح التدمير والإسقاط للآخر، فأصبحتم تحسدون بعضكم بعضاً ويتحرك الحسد من اجل ان يجعلكم تبغون على بعضكم البعض، ولو كنتم مؤمنين بالله جيداً لعرفتم ان الله تعالى اذا أعطى بعضكم نعمة فانه يمكن ان يعطيكم هذه النعمة من دون ان يزيلها عن الناس الآخرين، فلماذا تضيّق رحمة الله؟ لماذا تريد ان تحصرها في نفسك؟ قل لربك: يا ربِ، أعطني كما أعطيت فلاناً وأبقِ له نعمته لأنك الواسع في رزقك ولأن خزائنك لا تنفذ.
لذلك، الحسّاد هم اناس صغار العقول وضعاف الإيمان، لأن الإنسان الذي يتمنى زوال نعمة غيره ليحصل عليها عليه ان يعرف ان الله تعالى يعطيه ويعطي غيره، كما خلقه وخلق غيره، وقد جاء شخص الى رسول الله (ص) يستأذنه بالدعاء له ولنفسه، فقال: اللهم اغفر لي ومحمداً ولا تغفر لأحد غيرنا، فقال له رسول الله (ص): "يا هذا، لقد ضيّقت واسعاً"، لأن رحمة الله وسعت كل شيء.. والحسد يوحي بضعف الهمة لأن فلاناً عمل واجتهد واستطاع ان يصل، فاعمل - ايها الحاسد - فقد تصل الى ما وصل اليه او الى مستوى آخر، بالإضافة الى ان الحسد يأكل قلب الإنسان وراحته وروحه.. وقد تحدث الإمام الرضا (ع) عن هذا الموضوع في زمانه، ولكنه يتحدث عن زماننا أيضاً لأن كثيراً من مشاكلنا واختلافاتنا وبغينا على بعضنا انما ينطلق من هذه البغضاء التي تحصل بين المسلمين والمؤمنين، والحسد الذي يتحرك في قلب المجتمع المؤمن، والشيطان يضحك مقهقهاً انه استطاع ان يُبعدنا عن أخوّة الإيمان ومحبته.
التواضع ومعرفة النفس
وجاء في كلام الإمام الرضا (ع) وقد سأله شخص عن حدّ التواضع الذي هو من الصفات الطيبة الحسنة التي يريد الله تعالى للناس ان يعملوا على اساسها، فقال: "التواضع درجات، منها ان يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم"، قد يستعرض الإنسان عضلاته أمام الناس وينفخ شخصيته، لكنه عندما يجلس مع نفسه فانه يفهمها لأن الانسان مكشوف امام نفسه ويعرف نقاط ضعفه، والإمام (ع) يريد للإنسان ان يجلس مع نفسه ليدرس نقاط ضعفه وقوته.. ومشكلة الكثيرين بيننا انهم لا يدرسون انفسهم ولا يعرفونها، لذلك، ادرس نفسك فاذا وجدت نقطة ضعف فحاول ان تحوّلها الى نقطة قوة، واذا وجدت نقطة قوة فحاول ان تزيدها وتنميها، فاذا عرفنا انفسنا فاننا نعرف كيف نتعامل مع بعضنا البعض، وقد ورد في دعاء "مكارم الأخلاق" - الذي أوصي بقـراءته كل يوم لأنه يـمثل البرنامج الأخلاقي الإسلامي - عن الإمام زين العابدين (ع): "اللهم لا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها"..
كيف ينبغي للشيعي ان يكون؟
وهناك حديث عن الإمام الرضا (ع) يبيّن من خلاله كيف ينبغي للشيعي ان يكون، فيقول: "كثيراً ما كنت أسمع أبي يقول: ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدّرات - النساء - في خدورهن بورعه، وليس من أوليائنا وهو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم من خلق الله أورع منه"، فكم شيعي لدينا بحسب هذا الحديث؟! ومعنى ذلك ان التشيع ليس عصبية ولكنه خط ينطلق في الاسلام كله من خلال تقوى الله وطاعته والسير في خط هداه. وكان (ع) يقول: "المؤمن الذي إذا أحسن استبشر - لأنه أطاع الله - وإذا اساء استغفر، والمسلم الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده، وليس منا مَن لم يأمن جاره بوائقه - شرّه - ودواهيه".
هذا هو خط أهل البيت (ع)، ان تكون الإنسان المؤمن الذي اذا عشت مع الناس كنت بَرَكة عليهم ورحمة لهم، وكنت الانسان الذي ينشر المحبة بدلاً من البغضاء، والأخوّة بدلاً من العداوة، وان تكون الإنسان الذي يُحسن الى المجتمع، وقد سأل شخص الإمام الرضا (ع): من أحسن الناس معاشاً؟ فقال (ع): "من حَسُن معاش غيره في معاشه"، من تتحرك معيشته لتغمر غيره فيعلّم الجاهلين أو يغني الفقراء وما الى ذلك، وسأله: من أسوأ الناس معاشاً؟ فقال (ع): "من لم يعش معاش غيره في معاشه".. فالمعيشة الهانئة هي ذلك الشعور الجميل الذي يغمر الإنسان عندما يضع رأسه على الوسادة، فيتذكر بان هناك حزيناً قد فرّحه وكئيباً رفع كآبته ومحتاجاً قضى له حاجته، ويشعر بانه استطاع ان يكون نسمة عليلة ونوراً يشرق في الناس.. المال يذهب والجاه يفنى وتبقى هذه اللمسات الإنسانية الحلوة التي تنفتح من قلب الإنسان الى الله تعالى، وهي التي يحملها الإنسان الىقبره ويوم حشره، لذلك، فلنسارع الى عمل الخير وقضاء حوائج الناس ونشر المحبة والتوفيق والصلح بينهم.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في الاستقامة على خط الاسلام، في خط اهل البيت (ع) الذين قال رسول الله (ص) فيهم: "مثل اهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى"، فان اهل البيت (ع) لا يريدون لنا إلا السير على الخط المستقيم في خط الاسلام من اجل ان نحصل على رضوان الله وترتفع درجاتنا عنده، وعلينا ان نتقي الله سبحانه في كل ما يواجهنا من قضايا الاسلام والمسلمين، لأن ذلك يمثل مسؤوليتنا في ان نتعاون ونتكاتف في ان نردّ للمظلومين ظلامتهم وان نواجه الظالمين بموقف واحد وصوت واحد، وان نعالج قضايانا بكل حكمة وثبات وقوة وتخطيط، فماذا هناك؟
واجب التصدي لجريمة اغتيال السيد الصدر
لا تزال قضية العراق تتحرك في دائرة المأساة التي يعيشها الشعب العراقي، بين حصار دولي تتزعمه أمريكا وقصف متواصل لمواقعه، وحكم بوليسي يتمثل في نظامه الذي يتحرك بالقبضة الحديدية الضالعة في الاغتيالات المتحركة في أكثر من جريمة، ولا سيما في عمليات اغتيال المراجع الدينية التي كان آخرها عملية اغتيال السيد محمد الصدر لمجرد جرأته على انتقاد النظام. وقد قام النظام بدفنه ليلاً ولم يمكّن احداً من تشييع جنازته، بل أتى بعائلته وبقية اولاده قبل الفجر من أجل ان يشهدوا دفنه ليلاً، كدفن جدته الزهراء (ع) ليلاً، وكان وصيتها ان تُدفن (ع) ليلاً احتجاجاً، ولكن دفنه ليلاً كان إخفاءاً للجريمة، وقد سمعنا ان زوجته قد تُوفيت بعد استشهاده بثلاثة أيام بفعل الصدمة التي ألمّت بها..
ومن اللافت أننا شهدنا سكوتاً عالمياً عن هذه الجريمة البشعة التي لا تمثل جريمة خاصة بل جريمة عامة تمثلت في اغتيال حوزة النجف الأشرف التاريخية، والتي تخضع منذ مدة طويلة إلى عملية قتل منظّم لعلمائها ومراجعها وتهجير متواصل لطلابها.. إننا ندعو المسلمين والأحرار في العالم للتصدي لهذه الجريمة الوحشية التي يمارسها النظام العراقي ضد مراجع المسلمين وعلمائهم، ثم يحاول التملص منها بطريقة مكشوفة، بالإضافة إلى ما يصيب الشعب العراقي من ظلم وتجويع وتشريد وحصار إقتصادي في أكثر من موقع.
المماطلة مستمرة حيال "كوسوفو"
وفي هذا الجو، لا بدّ من التطلع إلى قضية المسلمين في "كوسوفو"، والى التسويف والمماطلة الدولية حيال مأساتهم، فقد أحرز الصرب المعتدون انتصاراً في المفاوضات التي ترعاها دول حلف شمالي الأطلسي، ولم يحصل الألبان المسلمون فيها على شيء، ولا تزال الحرب تفتك بكل الناس هناك، مما يؤدي إلى مزيد من القتل والتشريد من دون أيّ حلّ سياسي.. وقد كان الحلف الأطلسي يهدد الصرب بضربات عسكرية إذا لم يخضعوا للرغبة الدولية ولكن لم يحدث أيّ شيء، بل المزيد من تضييع القضية ومحاولة إيصال الأمور إلى ما يشبه النتائج في البوسنة والهرسك، مما يجعل المعاناة مستمرة في واقع المسلمين هناك، ولم نجد للدول الإسلامية أيّ دور فاعل في هذه القضية الإسلامية.
إيران: الوعي الشعبي شرط إنجاح التجربة
وعندما نتوقف عند محطة الإنتخابات البلدية في إيران، فإننا نقدّر تصريح السيد خاتمي القائل بأن "إيران ليست في حاجة إلى أجهزة شرطة القبضة الحديدية وإثارة الرعب في قلوب الناس، وان ما نحتاجه إلى وزارة استخبارات تمثل النور والعقل المدبّر".. إننا نرى في هذا الموقف استعداداً لإنجاح قضية الحريات السياسية بالمستوى الذي لا تلجأ الدولة فيه إلى العنف، ولكن ذلك يحتاج إلى المزيد من الوعي الشعبي الإسلامي الذي لا بدّ له من التحديق بالأخطار المحيطة بإيران من جهة، ومن مراهنة الإستكبار العالمي على ان الإسلام لا يملك إنجاح التجربة الإسلامية للدولة القائمة على الحرية المسؤولة والعدل الشامل.. إننا نريد للشعب الإيراني المسلم ان يفهم ان وحدته في دائرة التنوع، وتكامله في رعاية المرحلة هما الشرط الأساس في استمرار الثورة على خط المستقبل في مواقع القوة والتقدّم والنجاح.
تمييع أمريكي لقضية "أرنون"
أما في لبنان، فلا تزال قضية بلدة "أرنون" في احتلال العدو لها تخضع للتمييع الأمريكي الذي ضغط على لبنان لتأخير تقديم الشكوى إلى مجلس الأمن، تحت وعدٍ بحلّ القضية دبلوماسياً وتهديد باستعمال حق النقض "الفيتو" ضد ذلك، بعد فشل لجنة تفاهم نيسان في الحلّ، ولكن أمريكا السائرة ابداً في دعم إسرائيل ورفض الضغط عليها بأية وسيلة، لا سيما في مرحلة انتخاباتها المقبلة، لا يمكن ان تساعد لبنان على الحلّ إلا إذا قدّم تنازلاً سياسياً أو امنياً لحساب الخطة الأمريكية المستمرة والداعمة لبقاء الإحتلال الصهيوني في لبنان، إلا في نطاق التسوية، لا سيما وان أمريكا هي التي تتحرك في رفض تنفيذ القرار 425 بعيداً عن التسوية.
المقاومة الإسلامية تُسقط استراتيجية العدو
وقد استطاعت المقاومة الإسلامية القيام بردّ قوي فاعل على العدو في إسقاط مقولته العسكرية المتمثلة في شعار "نيران أغزر من أجل إصابات أقل"، وذلك بالإيقاع بضباطه وجنوده في الوحدة التي تضم ثلاثين عنصراً من الوحدات الصهيونية الخاصة التي يعتبرها العدو الأكثر كفاءة في القتال، وبذلك عاد المأزق السياسي داخل كيان العدو بين فريق يريد الإنسحاب من دون قيد او شرط للتخلص من كل هذه الخسائر وبين فريق يطلب الإنسحاب ولكن في إطار مفاوضات مع سوريا ولبنان. ونحن عندما ندرس الألطاف والتوفيقات الربانية للمجاهدين فاننا نستحضر قول الله لرسوله: {وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى}، لأن الله تعالى بألطافه قد يهيئ ظروفاً لم تكن محسوبة للمجاهدين. وقد لاحظنا ان الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية تحدث عن الأسف للخسارة في الأرواح ودعا إلى ضبط النفس، في الوقت الذي لم يتحدث فيه بكلمة واحدة بالأسف لخسارة لبنان أرواح المدنيين الذين تقتلهم أو تجرحهم القذائف الإسرائيلية.
الشكوى لمجلس الأمن تفضح الدور الأمريكي
إننا نعتقد ان على الدولة اللبنانية المضي في تقديم الشكوى إلى مجلس الأمن، للإستمرار في فضح الدور الأمريكي الذي يدأب لاستعمال حق النقض ضد أيّ شكوى لبنانية، وللتهديد المبطّن للبنان في أيّ حركة للحصول على التأييد الدولي في رفض الإحتلال.. وعلى الشعب اللبناني الوقوف مع أهلنا في "أرنون" ليعرف العالم ان اللبنانيين موحَدون في دعم أية قرية تتعرض للإحتلال أو للقصف والتهجير، بالإضافة إلى دعم المجاهدين والوقوف معهم في خط المواجهة، فان ذلك يمكن ان يترك تأثيره على الرأي العام العالمي، فان وحدة اللبنانيين تمثل أعظم الأسلحة في مواجهة العدو. وعلينا ان نفهم ان لجنة المراقبة لم يعد لها أية فاعلية، بل تحوّلت بفعل التنسيق الإسرائيلي - الأمريكي في داخلها إلى مركز لتدوين الشكاوى والإعلان عنها فقط، والسؤال: هل ان هناك خطة لتحويلها إلى لجنة ترتيبات أمنية في المستقبل القريب؟!
مواجهة العدو بمتابعة الإصلاح
وعلى الحكم والحكومة الردّ بالأفعال على وزير حرب العدو الذي يقول: "ليس في لبنان دولة"، للإثبات للعدو بأن في لبنان دولة تسهر على قضايا شعبها في كل صغيرة وكبيرة، وأنها لن تتوانى عن متابعة مسيرة التحرير جنباً إلى جنب مع المقاومة، وتهيئة كل الظروف الداخلية لإنجاح هذه المسيرة، ولن يكون ذلك إلا بمتابعة الخطوات الإصلاحية وحلّ المعضلة الإقتصادية أو التخفيف من وطأتها، وإعادة الدورة الإقتصادية في مجالات الزراعة والصناعة، ومحاصرة البطالة، ولن يكون ذلك إلا بوقف السجالات الداخلية وانخراط المعارضة والموالاة في مسيرة الإصلاح والبناء، وليكن لكلٍ موقعه ودرجته بالمستوى الذي يخدم فيه شعبه ووطنه.