انحرافُ المسلمينَ عنِ القرآنِ ونهجِهِ في حديثِ عليٍّ (ع)

انحرافُ المسلمينَ عنِ القرآنِ ونهجِهِ في حديثِ عليٍّ (ع)

من كلامٍ لإمامنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، وهو يحدِّثنا عمَّا يأتي بعده من التطوّرات السلبيَّة في واقع المسلمين، من حيث التزامهم بالإسلام، وكيف يبتعدون عن الإسلام في سلوكهم، وفي علاقات بعضهم ببعض، وفي اهتمامهم بالقرآن، وكيف يبتعدون عن الحقّ حتّى يخفَى الحقُّ في الواقع الاجتماعي، وكيف ينفتحونَ على الباطلِ حتّى يكونَ الباطلُ هو الدّستور الَّذي يحكم كلَّ واقعهم القانوني والعرفي والاجتماعي والاقتصادي.
وعليٌّ (ع) ينظرُ بنورِ الله، وهو عندما يتحدَّث عن المستقبل، فكأنَّه يتحدَّث عن الحاضر، وهو القائلُ: "سلوني قبلَ أنْ تفقدوني، فلأنا بطرقِ السَّماءِ أعلمُ منِّي بطرقِ الأرضِ".
تعالوا نستمع إلى عليٍّ (ع)، لنعرفَ أنَّه كان يحدِّثنا عن مجتمعنا الآن، لنعرفَ كيف انحرفَ مجتمعنا عن الإسلام وعن الخطِّ الأصيل، وكيف يمكننا أن نتحرَّك من أجل أن نصلح هذا المجتمع.
الخلْطُ بينَ الحقِّ والباطل
"وَإِنَّهُ سَيَأْتي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ، وَلا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ - عندما تُحدِّثَ النَّاسَ عن الحقِّ، فإنَّ النَّاسَ يرونَ ما تحدَّثْنا به شيئاً غريباً، لأنَّ النَّاسَ ابتعدَتْ عن حقِّ العقيدة، لأنَّه دخلَ على العقيدة ما ليس فيها، من خلال ما أدخله فيها المغالون والمنحرفون وما إلى ذلك. فإذا حدَّثتهم عن الحقّ في العقيدة من حيث ما قاله الله ورسوله، استغربوا منك، لأنهم عاشوا مع الباطل، وإذا حدَّثتهم عن الحقّ في الشَّريعة، قالوا لك هل تأتينا بدين جديد، لأنَّنا لا نعرف الدّين بما تتحدَّث به؟! وهكذا عندما تتحرَّك في الواقع الاجتماعي، لتقول إنَّ الحقَّ مع فلان، والحقَّ مع فلان، فإنَّ الناس يستغربون ذلك، لأنهم أخذوا بالضَّلال باسم الهدى، وبالباطل باسم الحقّ.
وهكذا، نجد أنَّ اللّعبة السياسيّة واللّعبة الاجتماعيّة واللّعبة الثقافيّة، تجعل النَّاس يأخذون الباطل باسم الحقّ، ويرفضون الحقَّ باسم الباطل.
- وَلَا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ - فالكثيرون من الَّذين ينقلون الروايات، يضعونها ويختلقونها، فأنت تقرأ أنَّ رسول الله قال، ولكنَّ رسول الله لم يقل، بل إنَّ هذا الراوي أو ذاك الراوي وضع حديثاً لهذا الشَّخص الّذي يحتاج في سلطته إلى حديث عن رسول الله، حتَّى إنَّ رسول الله (ص) قال: "أيُّها النَّاسُ، قَد كَثُرَتْ عَلَيَّ الكَذَّابَةُ، فمَنْ كَذبَ عَليَّ مُتَعمِّداً، فلْيَتَبوّأْ مقعدَهُ مِنَ النَّار". وقد ابتلي أئمَّة أهل البيت (ع) بالكثير من الكذبة، ومنهم شخصٌ يقال له أبو الخطَّاب، وكان الإمام الرّضا (ع) يقول: "إنَّ أبا الخطَّاب كذب على أبي عبدالله (ع). لعنَ اللهُ أبا الخطَّاب، وكذلك أصحاب أبي الخطَّاب، يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبدالله، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن". فقد كان هؤلاء يستعيرونَ الكتبَ من أصحاب أبي عبد الله (ع)، فيدسّونَ فيها أحاديثَ الغلوِّ والزَّندقةِ وما إلى ذلك، يحيث إنَّكَ عندما تقرأ الكتاب، ترى أنَّ هذا الشَّخص راوٍ موثوق، ولم يكن هناك طبعٌ للكتبِ في ذاك الوقت، فالنَّاس تقرأ في الكتاب عن زرارة، مثلاً، وزرارة من الموثوقين، ولكنَّ الحديث عنه يكون حديثاً مندسَّاً. وكان الشّيعة في ذلك الوقت يأخذون الكتبَ ويعرضونها على الإمام الرّضا (ع)، ليعرفوا الصَّحيح فيها من الخطأ.
إهمالُ كتابِ الله!
وهكذا، نجدُ الكثيرين من الَّذين يحرِّفون كتاب الله عن مواضعه، ويفسِّرونه بغير ظاهره، وبغير ما أنزله الله سبحانه وتعالى، يحرِّفون الكلام، كما كان يفعل اليهود الَّذين يحرِّفون كلام الله عن مواضعه.
- وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ – والكتاب المقصود هو القرآن. يقول إنَّه عندما يأتي مَنْ يتحدَّث عن القرآن في تفسيره الصَّحيح وفي أحكامه وفي مفاهيمه، فالكثيرون ليسوا مستعدّين لأن يستمعوا. نعم، قد يكونون مستعدّين لأن يقبلوا الكتابَ لحناً ونغماً وكلمات، أمَّا الكتاب كفكرٍ ومفاهيم وعقيدة، فهذه سلعة بائرة عندهم.
- وَلا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ – يعني إذا جاء بعض النَّاس، وحاول أن يفسِّر القرآن بتفسير يلتقي مع شهوات البعض، ومع الظَّالمين والمستكبرين، فترى كلَّ النّاس معه، وهذا الشَّيء نعرفه في واقعنا، فإذا كان أحدٌ يقرأ بصوت جميل، بحيث يبعث الطَّرب، فترى الأماكنَ ليس فيها مكانٌ خال، أمَّا إذا كانت الجلسةُ عبارةً عن دعوة لتفسير القرآن، فلن تجدَ أحداً عندها، مع أنَّ القرآنَ هو دستورنا، وهو كتابُ الله وأقدسُ كتابٍ عندنا.. مع ذلك، فإنَّ موضوع تفسير القرآن لا تجد من يستمع إليه، لأنَّنا نريد من القرآن كلماته ولحنه ونغمه، ولا نريد منه معناه وفكره!
انتشارُ المنكَرِ
- وَلا فِي الْبِلاَدِ شَيءٌ أنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ – مثلاً، البنت الَّتي تتحجَّب، ترى الكثيرين ينتقدونها، ويقولون لها لماذا تتحجَّبين؟ لا تزالين صغيرة، وقد لا تجدين من يتزوَّجك ومن يقبل بك، وحتّى بعض الآباء، قد يضرب ابنته إذا تحجَّبت، وكذلك يفعل بعض الأزواج مع زوجاتهم.
- وَلا أَعْرَفَ مِنَ المُنكَرِ! – فالنَّاس صاروا يأخذون بأسباب اللَّهو، بحجَّة المجاملات، أو بحجَّة أنَّ الوقت يفرض علينا ذلك. وعلى هذا الأساس، فإنَّ الأشياء الَّتي استحدثها النَّاس في الضَّلال أصبحت مألوفةً عندنا، والمسائل الَّتي أرادها الله ورسوله أصبحت منكرةً عندنا، فقد تبدّل المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.
غربةُ القرآنِ
- فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ - حتَّى النَّاس الَّذين يحملون الكتابَ ويقرأونَه، هناك من يشتري منهم بآياتِ الله ثمنا ًقليلا،ً يحاولُ أن يجعلَ من القرآن تجارةً يعتاش منها، أو ليحصِّل مركزاً أو موقعاً، هؤلاء يحملون القرآن ولا يعملون به.
- وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ - حتَّى الَّذين يحفظونه، تناسوا العمل به.
- فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ - فعندما يأتي النّاس بكتاب الله كما أنزله الله وبيَّنه وأوضحه، مما يختلف عن عادات النَّاس، عن عادات الجاهليّة وتقاليد الجاهليّة، وعن أوضاع الانحراف، فإنَّ النَّاس ليسوا مستعدِّين لأن يستقبلوا الكتاب وأهله الحقيقيّين، لينسجموا معهم وليستمعوا إليهم.
- وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ لا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ! – فليس لهما مكان، لأنَّ المكانَ للكفرِ وأهلِه، وليس المكانُ للقرآنِ وأهله، وهذا كناية عن عدم أخذ النَّاس بالكتاب واهتمامهم به وعملهم به.
- فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ - فلدى النَّاس آلاف النّسخ الموجودة، ولكنَّه ليس فيهم، فالكتاب بمعناه ليس موجوداً.. نحن نلاحظُ، مثلاً، أنَّ البعض قد يكون لديه عشرون كتاباً للقرآن في بيته، ويعلِّق لوحاتٍ للآيات، ولكنَّ البيتَ ليسَ فيه شيءٌ من القرآن؛ لا في عاداته، ولا في أحكامه، ولا في التزاماته، ولا في علاقاته...
- لِأَنَّ الضَّلاَلَةَ لا تُوَافِقُ الْهُدَى، وَإِنِ اجْتَمَعَا - لأنَّ الكتابَ يدعو إلى الهدى، ولكنَّهم يسيرون في طريق الضَّلال، فالكتابُ يقول لهم لا تكذبوا وهم يكذبون، لا تخونوا وهو يخونون، لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وهم يأكلون الأموال بينهم بالباطل، لا تعتدوا وهم يعتدون على النَّاس، والكتابُ يقول لهم اعدلوا ولو كان ذا قربى وهم لا يعدلون، وهكذا... لذلك الكتاب شيء وهم شيء آخر.
- فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ، وَافْتَرَقُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ – بمعنى أنّهم حاولوا أن يجتمعوا على أن يتفرَّقوا، وافترقوا على أن لا يجتمع بعضهم مع بعض.
- كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ - فالكتاب هو إمامنا الَّذي نسير خلفه، ونتَّبع عقائده وأحكامه وشريعته، ولكنَّنا تركنا الكتاب خلفنا، وأردنا أن يسيرَ الكتابُ وراءنا، ليشرِّع لنا شهواتنا المحرَّمة، وليبرِّر لنا كلَّ ما نتحرَّك فيه من ضلال.
- فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا اسْمُهُ، وَلاَ يَعْرِفُونَ إِلَّا خَطَّهُ وَزَبْرَهُ، وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ – فهؤلاء النَّاس عندما يأتي إليهم الصَّالحون والصَّادقون والسَّائرون على طريق الله، ينكِّلون بهم أبشع تنكيل.
- وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللهِ فِرْيَةً - فعندما جاء الصَّالحون والعلماء المتَّقون، والمبلّغون المستقيمون، وتحدَّثوا للنَّاس بالحقّ، فإنَّ النَّاس يقولون لهم إنَّكم تكذبون على الله.
- وَجَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ العُقُوبةَ السَّيِّئَةَ – فعندما يعملون الحسنة، فإنّهم يواجهونهم بالسيِّئة...
سببُ هلاكِ الأممِ السَّابقة
- وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ – ما سرُّ هلاكهم وابتعادهم عن الله وسقوطهم في جهنَّم؟ - بِطُولِ آمَالِهِمْ - لأنَّهم لم يذكروا الموت، بل انطلقوا بطول الأمل وكأنَّهم لا يموتون، ولذلك استسلموا للحياة الدّنيا، ولم يخطِّطوا للآخرة ويستعدّوا لها - وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ – فهم يغيّبون آجالهم عن فكرهم، حتى إنّهم لا يذكرونها بشيء - حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ – جاءهم الموتُ وهم غافلون عنه - الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ - لأنَّ الإنسانَ إذا مات، لم يعد هناك عذر، لأنَّه أغلقَ كلَّ كتاب الأعمال - وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَالنِّقْمَةُ – كناية عن المصيبة.
القرآنُ دليلُ المؤمنين
- أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللهَ وُفِّقَ - إذا أردت النَّصيحة، فافتح كتاب الله، واطلبْ من الله أن ينصحك فيما تتخبَّط فيه، وفيما تعيش فيه، والله يقدِّم إليك النَّصيحة من آياتِ كتابه.
- وَمَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلاً – في الدّروب الَّتي قد يضيعُ فيها الإنسان - هُدِيَ لِلَّتَي هِيَ أَقْوَمُ – للَّتي هي أكثرُ استقامةً - فَإِنَّ جَارَ اللهِ آمِنٌ – وطبعاً، الله ليس في مكان معيَّن لتجاوره بالمعنى الحقيقيّ، ولكن بمعنى أن تكون إلى جوار الله في تعاليمه وعبادته، يعني أن تكون معه في عبادتك له وفي تقواك وفي التزاماتك، لأنَّ الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا وتحزَنُوا... }[فصِّلت: 30]، إنَّ هؤلاء يأمنون يوم القيامة حيث يخاف النَّاس - وَعَدُوَّهُ خَائِفٌ - لما قدَّم من عمل سيِّئ.
التَّواضعُ أمامَ عظمةِ الله
- وَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ - بعض النَّاس يحاول أن يتحرَّك مع النَّاس كأنَّه في حالة انتفاخ، يبرز أمام النَّاس على أساس أنَّه العظيم، وعلى أساس أنّه الكبير. كنِ الإنسانَ الَّذي يعرفُ عظمةَ الله، يعرفُ أنَّ الله هو مالك كلّ شيء، ويعرف أنَّ الله هو المهيمنُ على كلِّ شيء، وأنَّ الله مَالِكُ الْمُلْكِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَن يشَاءُ، وَينزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن يشَاءُ، وَيُعِزُّ مَن يشَاءُ، وَيُذِلُّ مَن يشَاءُ... مَنْ عَرَفَ عظمةَ الله صغُرَ أمام الله، وصغُرَ كلُّ مَنْ عدا الله في نفسه، وهذا ما عبَّر عنه أمير المؤمنين (ع) في صفة المتَّقين: "عظُمَ الخالقُ في أنفسِهم، فصغُرَ ما دونَهُ في أعينِهم".
فكيف تعظمُ أنفسُهم أمامَ الله؟ كيف يتعظَّمونَ أمامَ الله وهم لا يمثِّلون شيئاً؟! وهذا ما نقرأه في دعاء أبي حمزة الثَّماليّ: "وَما أَنا يا رَبِّ وَما خَطَرِي؟!". من أنا؟ ما قيمتي؟ ما قدري؟ أن تحسَّ بالتَّواضع أمام الله، "كلُّ جليلٍ عندَكَ صغيرٌ، وكلُّ شريفٍ في جنبِ شرفِكَ حقيرٌ".
- فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ - تريد أن تصبح كبيراً وعظيماً، عندما تدرك عظمة الله. إنَّك بقدر ما تتواضع لله تكون عظيماً، لأنَّك إذا تواضعْتَ لله رفعك، وإذا تعاظمْت أمام الله أسقطك، والله هو الَّذي يُعزّ، والله هو الَّذي يذلّ.
- وَسَلاَمَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ – {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ...}[الزّمر: 67]، فعندما تعرف أنَّ قدرة الله هي القدرة الَّتي لا تقف عند حدّ، قل كما قال إبراهيم (ع): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة: 131]، {قُل إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَـالَمِینَ * لَا شَرِیكَ لَهُ وَبِذَ لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ ٱلمُسلِمِینَ}[الأنعام: 162 – 163].
التزامُ طريقِ الحقِّ
- فَلا تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الْأَجْرَبِ، وَالْبَارِي مِنْ ذِي السَّقَمِ - اقبل الحقَّ ولو كان على نفسك، اقبلْه ولو كان مرّاً، ولا تعتبرِ الحقَّ بمثابةِ الأجربِ الَّذي إذا اقتربَ منه الصَّحيحُ نفرَ منه.
- وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ – فانظر إلى النَّاس الَّذين يسيرونَ في طريقِ الغيِّ والضَّلال، لتعرفَ طريقَ الرّشد، لأنَّ الأشياءَ تُعرَفُ بنقائضها.
- وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمَيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ - فالنَّاس الَّذين يمشونَ على خلافِ القرآن، تستطيعونَ أن تعرفوا من السلبيَّات والمشاكل الَّتي تصيبهم، قيمةَ الميثاق القرآني.
- وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذَي نَبَذَهُ. فَالْتَمِسُوا ذلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ - التمسوا معرفةَ القرآن من عندِ أهلِه، ويقال إنَّه يشيرُ بذلك إلى أهل البيت (ع) - فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ – فبهم عاش العلم، وبتعاليمهم مات الجهل- هُمْ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ - لأنَّهم لا يحكمون إلّا بالحقّ، من خلال ما ملكوا من العلم - وَصمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ - لأنَّ صمتَهم ليس صمتَ الجاهل، ولكنَّ صمتَهم صمتُ المفكِّر وصمتُ المتأمّل - وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ – لأنّهم لا يختلف الظَّاهر عن الباطن عندَهم، فهم يعيشون الصِّدق في ذلك كلّه - لا يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَلا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ – فهم يسيرونَ على خطِّه ويلتزمونَ به - فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ - لأنَّه يصدقُ على الله - وَصَامِتٌ نَاطِقٌ"، صامت بكلماته وحروفه، وناطق بتعالميه.
مع عليٍّ (ع) في خطِّ القرآن
أيّها الأحبَّة، هذه كلمات عليّ (ع)، الَّذي يؤكِّد لنا دائماً أنَّ علينا أن نلتزم القرآن، وأن نأخذ القرآن من حمَلَتِهِ الَّذين يملكونَ علمَه وصدقَه ويملكونَ كلَّ آفاقه. وعندما نقرأ القرآن، فعلينا أن نستنطقَ ما فيه مما أمرنا الله به ومما نهانا الله عنه.
إنّ من يقرأ القرآنَ قراءةَ وعيٍ لا يكذب، وإنَّ من يقرأُ القرآنَ قراءةَ وعيٍ لا يخون، ولا يظلم النَّاس، ولا يأكل أموالهم بالباطل، ولا يثير الفتنة بين النَّاس، ولا يثير الأذى في النَّاس، ولا يحاولُ أن يكذبَ ويدسَّ ويفرِّقَ ويعملَ في الاتجاه الَّذي يربكُ الواقعَ العامَّ للنّاس.
أيُّها الأحبَّة، القرآن كتاب الله الصَّامت، والنبيُّ وأهلُ بيته (ع) كتابُ الله النَّاطق، فعلينا أن ننطلق من الثّقلين: "إنِّي تارِكٌ فيكم الثَّقَلَيْنِ، أحَدُهما أكبَرُ مِن الآخَرِ؛ كتابُ اللهِ حبلٌ ممدودٌ مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، وعِتْرتي أهلُ بيتي، وإنَّهما لن يتفرَّقا حتَّى يرِدَا علَيَّ الحوضَ".
وعليٌّ (ع) من أهل هذا البيت، وعلينا عندما نلتزم عليّاً ونلتزم القرآن، أن يكون عليّ (ع) إمامَنا؛ إمامَنا في أفكارنا، وإمامَنا في مسيرتنا، وإمامَنا في علاقاتنا، وإمامَنا في مواقفنا، لأنَّ الإمامةَ تعني أن يسير ونسير معه، وأن يتحرَّك ونتحرَّك معه، وهذا هو سرّ النَّجاة: "عليٌّ معَ الحقِّ، والحقُّ معَ عليٍّ، يدورُ معَهُ حيثُما دارَ".
فإذا أردْتم أن تكونوا معه، فحاولوا أن لا يكون للباطلِ دورٌ في عقولكم وفي قلوبكم وفي حياتكم، لأنَّ عليّاً لا يلتقي بالباطل من قريب أو بعيد، لأنَّه عاش مع الله، وعاش مع القرآن، وذلك بأنَّ الله هو الحقّ، والقرآن هو الحقّ، فعلينا أن نتحرَّك في حقِّ الله ورسوله وأوليائه، وفي حقِّ كتابه.
 
                                                      
                                                                      الخطبة الثانية
 
 
عباد الله، اتَّقوا الله سبحانه وتعالى، فيما كلَّفكم به واستجيبوا له، لأنَّه دعاكم في كتابه إلى ما يحييكم، واعلموا أنَّ الله يحولُ بين المرء وقلبه، وأنَّكم إليه تحشرون. لذلك لا بدَّ للإنسانِ المؤمنِ أن يراقبَ اللهَ في كلِّ قولٍ يقولُه، وفي كلِّ عملٍ يعملُه، وفي كلِّ علاقةٍ يُنشئُها، وفي كلِّ موقفٍ يقفه.
راقبوا الله في كلِّ ذلك، فلا تتحركوا في أيِّ شيءٍ من قولٍ أو فعلٍ، إلَّا إذا علمتم أنَّ الله يرضى بذلك، لأنَّكم عبيدُ الله الَّذين لا يملكونَ من أمرِهم شيئاً إلَّا بما شاء الله.
أيُّها الأحبَّة، لا يقلْ أحدكم أنا حرٌّ عندما يأمره النَّاس بما أمره الله، وينهونَه عمَّا نهى الله، لأنَّك عبدٌ أمام الله، وحرٌّ أمام العالم كلِّه.
ومشكلتنا أنَّنا نعيش العبوديّة أمام النَّاس الَّذين يملكون المال والمناصب والجاه، ونمارسُ الحريَّةَ أمامَ الله سبحانه وتعالى، والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}[الأعراف: 194].
ولهذا، أيُّها الأحبَّة، من موقع حرَّيتنا الَّتي عبَّر عنها الإمام عليّ (ع)، فقال: "لا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً"، لقد خلقَكَ الله حرّاً، وإنَّ حرَّيتَكَ جزء مما يريده الله لك، عندما أراد لك أن تكون حرّاً عزيزاً، فلا يجوز لك أن تستعبدَ نفسَكَ لغيرك.
من هذا الموقعِ، فإنَّ الله لا يريد لنا أن نستعبدَ أنفسنا للمستكبرين، سواء كان استكبارهم استكباراً ماليّاً، أو سياسيّاً، أو كان استكبارهم استكباراً اجتماعيّاً، لأنَّ الله يقول لك: كن الإنسان الَّذي يعيش عزَّةَ نفسه، وأصالةَ نفسه، وحرّيتَه وإنسانيَّتَه، حتى يقف أمام الله حرّاً إلى جانب كلِّ الأحرار. أمَّا إذا خضعْتَ للمستكبرين، وسرْتَ كما يريدون لك أن تسير، فيما تفكِّر فيه، وفيما تنتمي إليه، وفيما تتَّخذه من مواقف، فإنَّ معنى ذلك أنَّك رفضت عبوديتك لله، وأخذت بعبوديَّتك لعباده، وهذا ما عبَّر الإمام زين العابدين (ع) عنه، بقوله: "اللَّهمَّ إنِّي أخلصْتُ بانقطاعي إليْكَ، وأقبلْتُ بكلِّي عليْكَ، وصرفْتُ وجهي عمَّنْ يحتاجُ إلى رفدِكَ، وقلبْتُ مسألتي عمَّنْ لمْ يستغْنِ عَنْ فضلِكَ، ورأيْتُ أنَّ طلَبَ المحتاجِ إلى المحتاجِ سفهٌ مِنْ رأيِهِ، وضلَّةٌ مِنْ عقلِهِ. فكمْ قدْ رأيْتُ، يا إِلَهي، مِنْ أناسٍ طلبُوا العزَّ بغيرِكَ فذلُّوا، ورامُوا الثَّروةَ مِنْ سواكَ فافتقرُوا، وحاولُوا الارتفاعَ فاتَّضعُوا! فصَحَّ بمعاينةِ أمثالِهِم حازمٌ وفَّقَهُ اعتبارُهُ، وأرشدَهُ إلى طريقِ صوابِهِ اختيارُهُ".
أيُّها الأحبَّة، علينا أن نكون الأحرار في دنيانا، ولا نعطي للمستكبرين قيادنا من قريب أو بعيد، لأنَّ المستكبرين لا يريدون إلَّا أن يبعدونا عن الله وعن خطِّ الله، ولا يريدون إلَّا أن يستعبدونا ويصادروا كلَّ قضايانا وكلَّ ثرواتنا، حتَّى نكون مجرَّد عبيد لهم؛ نتحرَّك في خططهم، وننفِّذ ما يريدون.
تعالوا، أيُّها الأحبَّة، لنمارس حرَّيتنا أمام حركة الاستكبار العالمي، فيما يوجِّهه للمسلمين من اضطهاد.
إنَّنا نعيش الآن، كما عشنا في الأسبوع الماضي، عدَّة قضايا إسلاميَّة في العالم الإسلامي، ونحن نقرأ وصيَّة رسول الله (ص): "مَنْ لمْ يهتمَّ بأمرِ المسلمينَ فليسَ منهم".
مأساةُ كوسوفو
لا نزال نقف أمام هذا البلد الإسلاميِّ الجريح، وهو كوسوفو، الَّذي لا تزال اللّعبة الدوليّة، سواء كانت لعبةً أمريكيّة أو أوروبيّة، تتحرَّك من أجل رعاية مصالحها فيه، ومصلحتُها الكبرى هي مع صربيا الَّتي تضطهد هذا الشَّعب المسلم، في كلِّ ما تقوم به من مجازر، وبما تصادره من حرّيته، وبما تمنعه من حقِّ تقرير المصير.
لا تزال اللّعبة الدوليّة الأمريكيّة الروسيّة والأوروبيّة والحلف الأطلسي، يزيدون من عذاب هؤلاء باسم أنّهم يحلّون له مشكلته، ونحن نقرأ أنّهم وجَّهوا إلى صربيا والمسلمين اللَّوم، وساووا بين الضحيَّة والمجرم، وهذا ما نواجهه، ونعرفُ أنَّ هناك عنصريّة خفيَّة تختبئ وراء أغلب خطط المستكبرين، عندما تتعلَّق المسألة ببلد إسلاميّ هنا، وبلد إسلاميّ هناك، ونحن ندعو منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ الَّتي قيل عنها إنَّها ترعى واقع المسلمين، أن يقوموا بالاهتمام الكبير بهذا البلد المحاصَر والمضطهَد، الَّذي يراد تدميره من خلال كلِّ هذه الحرب غير المتكافئة الَّتي تحيط به من كلِّ جانب.
العراقُ بينَ الطَّاغيةِ والاستكبار
وفي الجانب الآخر، ننتقل إلى العراق؛ هذا البلد الجريح الَّذي يعيش أهله بين مطرقة الطَّاغية الحاكم، وبين سندان الاستكبار العالمي. ونحن نلاحظ أنَّ أمريكا تقوم في كلِّ يوم بقصف شماله وجنوبه تحت عناوين متعدِّدة، باسم أنَّها تريد أن تحرِّر شعب العراق من حاكمه، وتضغط على حاكمه، ولكنَّنا نرى أنّهم لا يطلقون صواريخهم على الحاكم ومن معه، ولكنَّهم يطلقونها على المدنيّين الَّذين يموتون في البصرة وفي غيرها، ولا نجد هناك صوتاً قويّاً يرتفع.
إنَّ ما صدر عن مؤتمر وزراء الخارجيَّة العرب، كان صوتاً حييّاً خجولاً، لأنَّه لم يتحدَّث عن عدوانٍ أمريكيّ، ولكنَّه تحدَّث عن عملٍ عسكريّ. ونحن عندما نجد أنَّ أمريكا تذرف دموع التَّماسيح على الشَّعب العراقي، فتقول إنَّها ستدعم المعارضة العراقيَّة، فإنَّنا نسأل: هل هذا للاستهلاك السياسيّ؟ وهل هناك جديّة في الموضوع؟ هل هناك معنى للحديث عن هذا الدَّعم بالطَّريقة الإعلاميَّة الَّتي تكشف الجميع، وتكشف كلَّ الخطط؟ إنَّنا نتصوَّر أنها تريد إسقاط البقيَّة الباقية من المعارضة العراقيَّة، لأنَّ الشَّعب عندما يرى أمريكا تقصفه هنا وهناك، وتقتل أطفاله ونساءه وشيوخه، وهؤلاء يعملونَ معها وينسِّقون، فإنَّ الشَّعب عند ذلك، سوف يفقد ثقته بكلِّ هؤلاء الَّذين يريدون أن يحرِّروا بلدهم باسم مساعدة أمريكا لهم.
إنَّ الشَّعب العراقيَّ هو الَّذي يملك الحقَّ في أن يتحرَّر من حاكمه، ولكنَّ المشكلة أنَّ أمريكا كانت في كلِّ العهود هي الَّتي تحمي الحاكمَ من شعبه، لأنَّ لها شغلاً به هنا وهناك.
لوقفِ القتالِ في إندونيسيا
وإلى جانبِ ذلك، نواجه القتال العنيف في إندونيسيا الَّذي حدث قبل أيَّام بين المسيحيّين والمسلمين في بعض البلاد هناك. إنّنا نقول للمسلمين وللمسيحيّين، أن لا تكون العلاقة بينهم علاقة عنفٍ وحربٍ، بل لا بدَّ أن تكون علاقةً كما أراد الله سبحانه وتعالى، على أساس الوقوف على الكلمة السّواء؛ أن لا نعبد إلَّا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتَّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، أن نقفَ لندعوَ كلَّ العالم إلى توحيد الله، وأن نقف ضدَّ المستكبرين الَّذين يعتبرون أنفسهم أرباباً على العالم، وأن ننطلق فيما اختلفنا فيه على أساس الحوار {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].
إنَّنا ندعوهم إلى أن يغمدوا هذه السّيوف، لأنَّها لن تكون في مصلحة المسيحيّين هناك، ولا في مصلحة المسلمين هناك، بل في مصلحة المستكبرين الَّذين يريدون إسقاط إندونيسيا وكلّ البلاد المستضعفة، سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
الإرهابُ الصّهيونيُّ
أمَّا في فلسطين، فلا تزال حقوق الفلسطينيّين تراوح مكانها، ولا يزال العالم يتفرَّج على كلِّ آلامهم، وعلى كلِّ البيوت المدمَّرة كلَّ يوم، باسم أنها لم تأخذ رخصة، وعلى كلِّ القتلى والشّهداء من الأطفال والنّساء والشّيوخ، من دون أن يقف العالم، سواء كان عالماً أمريكياً أو أوروبياً أو روسياً، بشكلٍ قويٍّ ليضغطَ على إسرائيل من أجلِ أن تمتنعَ عن ذلك.
وهكذا نجد أنَّ إسرائيل لا تزال تقصف بلادنا، سواء في الجنوب، أو في البقاع الغربيّ، وتدمِّر البيوت، وتقتل المدنيّين هنا وهناك. ولكنَّنا لا نسمع احتجاجاً أمريكياً أو أوروبياً، كما لو كانت المسألة من المسائل اليوميَّة الَّتي لا ينبغي الاهتمام بها.
ونحنُ نلاحظُ الآن أنَّ إسرائيل حوَّلت احتلالها للجنوب إلى ورقة انتخابيَّة يلوّحُ بها كلّ مرشَّح للانتخابات هناك، ويتحدَّث هذا عن انسحاب، ويتحدَّث ذاك عن المفاوضات، وقد نفت الحكومة اللّبنانيّة خبر هذه المفاوضات. ونحن نعتقد أنَّ على اللّبنانيّين، حكومةً وشعباً، أن يقفوا ليرفضوا كلَّ خطط العدوّ في إرباك الواقع السياسيّ، أو أيّ واقع أمنيّ هنا وهناك. وعلى الجميع الالتفاتُ جيِّداً إلى التَّغييرات الجديدة في حكومة العدوّ، وخصوصاً في تعيين وزير حرب جديد، مما يمكن أن يقوم بمغامرة مجنونة في الجنوب، من خلالِ ما قد يفكِّرُ فيه من إثباتِ وجودِهِ، ودعم موقف حزبه في الانتخابات.
كنَّا نقول، ولا نزال، ليست هناك أيّ معطياتٍ لعملٍ إسرائيليٍّ كبير في الجنوب، ليس هناك معطيات محليّة في فلسطين، ولا في الواقع العربيّ ولا في الواقع الدّوليّ، ولكنَّ ذلك لا يمنعنا من أن نكون على حذر، لأنَّه ربما تحدث نوبة جنون عندَ هذا الحاكم أو ذاك الحاكم، مما قد يدعوه إلى أن يقوم بمغامرة غير محسوبة، مطمئنّاً إلى أنَّ الاستكبار الدّوليّ، وفي مقدَّمه أمريكا، سوف لن يقوم بأيّ ردِّ فعلٍ ضدَّه.
قضيّةُ الأسرى في سجونِ العدوّ
ونحنُ في هذا الجوّ، نرحِّب بالأسرى العائدين، من خلال هذه الفرصة الَّتي حدثت لهم بلطف الله، وندعو للأسرى الباقين أن يفرِّج الله عنهم. ونحن نعلن ارتياحنا لتصريح رئيس الحكومة اللّبنانيّة، بأنَّ الحكومة تولي هذه القضيَّة اهتماماتها القصوى، وعلينا أن نعتبر هذه القضيّة أولويّةً وطنيّةً يهتمُّ بها الجميع، سياسيّاً وإعلاميّاً، وعلى صعيد اللّقاءات الدبلوماسية والسياسية.
وعلينا أن نتابع الجدل القضائيَّ في إسرائيل بالنّسبة إلى المخطوفين الّذين خطفتهم إسرائيل، كالشَّيخ عبد الكريم عبيد وأبو علي الدّيراني وغيرهما؛ هل يبقون في الاعتقال لأنَّهم اعتبروهم رهائن، أو أنّه يطلَقُ سراحُهم؟ لا بدَّ لنا أن نتابع ذلك، وأن نستغلَّ هذه الفرصة من أجل أن نثير الحركة الدبلوماسيّة والسياسيّة والإعلاميّة في العالم، في مسألة حقوق الإنسان الّتي انتُهِكَت بالنِّسبة إلى هؤلاء، لأنَّ المحامين الَّذين يدافعون عن هؤلاء، يتحدَّثون أمام القضاة بأنَّ إبقاءهم من دون محاكمة، ولمجرَّد كونهم رهائن، هو أمرٌ يتنافى مع حقوق الإنسان.
ولذلك، علينا أن نتابع هذه المسألة، وعلى لبنان الرسميّ أن يقف من أجل أن يثير هذه القضيَّة في العالم، ليثبتَ للعالم أنَّ إسرائيل هي الَّتي تُسقِط حقوق الإنسان هنا وهناك. لتكنَ قضيَّة الأسرى في السجون الإسرائيليَّة القضيَّة الأكثر أهميّة في واقعنا السياسي الرسمي والشعبي على حدٍّ سواء.
مشاكلُ تستدعي الحلولَ
أمَّا على المستوى الدَّاخليّ، وقد أثاروا الحديث عن أموال البلديَّات، والتساؤل: أين ذهبَتْ؟ وهل سُرِقَتْ؟ وكيف اختفَتْ؟ كنَّا نتمنَّى أن تثار هذه القضايا في داخل مواقع القضاء، حتَّى يأخذ القضاء موقفه وحكمه فيها، لأنَّنا تعوَّدنا في العهود السَّابقة، أن يثيرَ هذا المسؤولُ فضيحة ماليَّة، ويثير حديثاً عن سرقات، ويبدأ الجدل السياسيّ فيها، ثمّ يُطوى الملفّ، ليُفتح ملفّ جديد هنا وهناك.
إنّنا نقول: إذا كانت هناك شبهة أو جريمة حول هذه المسألة، وكان عندنا قضاء نزيه، فعلينا أن لا نضع القضيَّة في دائرة الجدل السياسي، بل في دائرة الواقع القضائيّ، لأنَّ إثارة الجدل في الواقع السياسي، يضيِّع القضيَّة، ويحوِّلها إلى مهاترات سياسيَّة.
ولا يزال الشَّعب ينتظر ظهور بوادر مشجِّعة في التَّخطيط الاقتصادي والسياسي والإصلاح الإداري الَّذي نريدُهُ أن يكونَ إصلاحاً حقيقيّاً عادلاً، مرتكزاً على العدالة الدّقيقة، بعيداً من الحساسيّات السياسيّة، وأن لا تكون القضيَّة استبدال مسؤولين في الإدارة، بل تفعيلاً وحفظاً للأموال العامَّة، وضماناً لدورة اقتصاديَّة جديدة تفتح فيها أبواب العمل للمواطنين، وتعود فيها الأولويَّات للشَّأن الاجتماعي.
إنَّنا ننتظر الكثير من هذا العهد، ولا نستعجل الحلول، لأنَّ المشاكل المعقَّدة تتطلّب وقتاً طويلاً، ولكنَّنا نريد حركة التَّخطيط الَّذي يركِّز المسألة على أساس المراحل المدروسة. كما نؤكِّد من جديدٍ أهميَّة تكامل كلِّ القوى في عمليَّة الإصلاح والبناء، بعيداً من الحساسيات الطائفيَّة والسياسيَّة والشخصانيَّة، لأنَّ المرحلة الحاضرة هي مرحلة التَّحدّيات الكبرى على مستوى الدَّاخل والخارج.
فلنبدأ المسيرة الجديدة من أجل المستقبل الكبير للبناء وللتَّحرير.
*  خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 29 – 1 – 1999.
من كلامٍ لإمامنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، وهو يحدِّثنا عمَّا يأتي بعده من التطوّرات السلبيَّة في واقع المسلمين، من حيث التزامهم بالإسلام، وكيف يبتعدون عن الإسلام في سلوكهم، وفي علاقات بعضهم ببعض، وفي اهتمامهم بالقرآن، وكيف يبتعدون عن الحقّ حتّى يخفَى الحقُّ في الواقع الاجتماعي، وكيف ينفتحونَ على الباطلِ حتّى يكونَ الباطلُ هو الدّستور الَّذي يحكم كلَّ واقعهم القانوني والعرفي والاجتماعي والاقتصادي.
وعليٌّ (ع) ينظرُ بنورِ الله، وهو عندما يتحدَّث عن المستقبل، فكأنَّه يتحدَّث عن الحاضر، وهو القائلُ: "سلوني قبلَ أنْ تفقدوني، فلأنا بطرقِ السَّماءِ أعلمُ منِّي بطرقِ الأرضِ".
تعالوا نستمع إلى عليٍّ (ع)، لنعرفَ أنَّه كان يحدِّثنا عن مجتمعنا الآن، لنعرفَ كيف انحرفَ مجتمعنا عن الإسلام وعن الخطِّ الأصيل، وكيف يمكننا أن نتحرَّك من أجل أن نصلح هذا المجتمع.
الخلْطُ بينَ الحقِّ والباطل
"وَإِنَّهُ سَيَأْتي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ، وَلا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ - عندما تُحدِّثَ النَّاسَ عن الحقِّ، فإنَّ النَّاسَ يرونَ ما تحدَّثْنا به شيئاً غريباً، لأنَّ النَّاسَ ابتعدَتْ عن حقِّ العقيدة، لأنَّه دخلَ على العقيدة ما ليس فيها، من خلال ما أدخله فيها المغالون والمنحرفون وما إلى ذلك. فإذا حدَّثتهم عن الحقّ في العقيدة من حيث ما قاله الله ورسوله، استغربوا منك، لأنهم عاشوا مع الباطل، وإذا حدَّثتهم عن الحقّ في الشَّريعة، قالوا لك هل تأتينا بدين جديد، لأنَّنا لا نعرف الدّين بما تتحدَّث به؟! وهكذا عندما تتحرَّك في الواقع الاجتماعي، لتقول إنَّ الحقَّ مع فلان، والحقَّ مع فلان، فإنَّ الناس يستغربون ذلك، لأنهم أخذوا بالضَّلال باسم الهدى، وبالباطل باسم الحقّ.
وهكذا، نجد أنَّ اللّعبة السياسيّة واللّعبة الاجتماعيّة واللّعبة الثقافيّة، تجعل النَّاس يأخذون الباطل باسم الحقّ، ويرفضون الحقَّ باسم الباطل.
- وَلَا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ - فالكثيرون من الَّذين ينقلون الروايات، يضعونها ويختلقونها، فأنت تقرأ أنَّ رسول الله قال، ولكنَّ رسول الله لم يقل، بل إنَّ هذا الراوي أو ذاك الراوي وضع حديثاً لهذا الشَّخص الّذي يحتاج في سلطته إلى حديث عن رسول الله، حتَّى إنَّ رسول الله (ص) قال: "أيُّها النَّاسُ، قَد كَثُرَتْ عَلَيَّ الكَذَّابَةُ، فمَنْ كَذبَ عَليَّ مُتَعمِّداً، فلْيَتَبوّأْ مقعدَهُ مِنَ النَّار". وقد ابتلي أئمَّة أهل البيت (ع) بالكثير من الكذبة، ومنهم شخصٌ يقال له أبو الخطَّاب، وكان الإمام الرّضا (ع) يقول: "إنَّ أبا الخطَّاب كذب على أبي عبدالله (ع). لعنَ اللهُ أبا الخطَّاب، وكذلك أصحاب أبي الخطَّاب، يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبدالله، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن". فقد كان هؤلاء يستعيرونَ الكتبَ من أصحاب أبي عبد الله (ع)، فيدسّونَ فيها أحاديثَ الغلوِّ والزَّندقةِ وما إلى ذلك، يحيث إنَّكَ عندما تقرأ الكتاب، ترى أنَّ هذا الشَّخص راوٍ موثوق، ولم يكن هناك طبعٌ للكتبِ في ذاك الوقت، فالنَّاس تقرأ في الكتاب عن زرارة، مثلاً، وزرارة من الموثوقين، ولكنَّ الحديث عنه يكون حديثاً مندسَّاً. وكان الشّيعة في ذلك الوقت يأخذون الكتبَ ويعرضونها على الإمام الرّضا (ع)، ليعرفوا الصَّحيح فيها من الخطأ.
إهمالُ كتابِ الله!
وهكذا، نجدُ الكثيرين من الَّذين يحرِّفون كتاب الله عن مواضعه، ويفسِّرونه بغير ظاهره، وبغير ما أنزله الله سبحانه وتعالى، يحرِّفون الكلام، كما كان يفعل اليهود الَّذين يحرِّفون كلام الله عن مواضعه.
- وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ – والكتاب المقصود هو القرآن. يقول إنَّه عندما يأتي مَنْ يتحدَّث عن القرآن في تفسيره الصَّحيح وفي أحكامه وفي مفاهيمه، فالكثيرون ليسوا مستعدّين لأن يستمعوا. نعم، قد يكونون مستعدّين لأن يقبلوا الكتابَ لحناً ونغماً وكلمات، أمَّا الكتاب كفكرٍ ومفاهيم وعقيدة، فهذه سلعة بائرة عندهم.
- وَلا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ – يعني إذا جاء بعض النَّاس، وحاول أن يفسِّر القرآن بتفسير يلتقي مع شهوات البعض، ومع الظَّالمين والمستكبرين، فترى كلَّ النّاس معه، وهذا الشَّيء نعرفه في واقعنا، فإذا كان أحدٌ يقرأ بصوت جميل، بحيث يبعث الطَّرب، فترى الأماكنَ ليس فيها مكانٌ خال، أمَّا إذا كانت الجلسةُ عبارةً عن دعوة لتفسير القرآن، فلن تجدَ أحداً عندها، مع أنَّ القرآنَ هو دستورنا، وهو كتابُ الله وأقدسُ كتابٍ عندنا.. مع ذلك، فإنَّ موضوع تفسير القرآن لا تجد من يستمع إليه، لأنَّنا نريد من القرآن كلماته ولحنه ونغمه، ولا نريد منه معناه وفكره!
انتشارُ المنكَرِ
- وَلا فِي الْبِلاَدِ شَيءٌ أنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ – مثلاً، البنت الَّتي تتحجَّب، ترى الكثيرين ينتقدونها، ويقولون لها لماذا تتحجَّبين؟ لا تزالين صغيرة، وقد لا تجدين من يتزوَّجك ومن يقبل بك، وحتّى بعض الآباء، قد يضرب ابنته إذا تحجَّبت، وكذلك يفعل بعض الأزواج مع زوجاتهم.
- وَلا أَعْرَفَ مِنَ المُنكَرِ! – فالنَّاس صاروا يأخذون بأسباب اللَّهو، بحجَّة المجاملات، أو بحجَّة أنَّ الوقت يفرض علينا ذلك. وعلى هذا الأساس، فإنَّ الأشياء الَّتي استحدثها النَّاس في الضَّلال أصبحت مألوفةً عندنا، والمسائل الَّتي أرادها الله ورسوله أصبحت منكرةً عندنا، فقد تبدّل المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.
غربةُ القرآنِ
- فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ - حتَّى النَّاس الَّذين يحملون الكتابَ ويقرأونَه، هناك من يشتري منهم بآياتِ الله ثمنا ًقليلا،ً يحاولُ أن يجعلَ من القرآن تجارةً يعتاش منها، أو ليحصِّل مركزاً أو موقعاً، هؤلاء يحملون القرآن ولا يعملون به.
- وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ - حتَّى الَّذين يحفظونه، تناسوا العمل به.
- فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ - فعندما يأتي النّاس بكتاب الله كما أنزله الله وبيَّنه وأوضحه، مما يختلف عن عادات النَّاس، عن عادات الجاهليّة وتقاليد الجاهليّة، وعن أوضاع الانحراف، فإنَّ النَّاس ليسوا مستعدِّين لأن يستقبلوا الكتاب وأهله الحقيقيّين، لينسجموا معهم وليستمعوا إليهم.
- وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ لا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ! – فليس لهما مكان، لأنَّ المكانَ للكفرِ وأهلِه، وليس المكانُ للقرآنِ وأهله، وهذا كناية عن عدم أخذ النَّاس بالكتاب واهتمامهم به وعملهم به.
- فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ - فلدى النَّاس آلاف النّسخ الموجودة، ولكنَّه ليس فيهم، فالكتاب بمعناه ليس موجوداً.. نحن نلاحظُ، مثلاً، أنَّ البعض قد يكون لديه عشرون كتاباً للقرآن في بيته، ويعلِّق لوحاتٍ للآيات، ولكنَّ البيتَ ليسَ فيه شيءٌ من القرآن؛ لا في عاداته، ولا في أحكامه، ولا في التزاماته، ولا في علاقاته...
- لِأَنَّ الضَّلاَلَةَ لا تُوَافِقُ الْهُدَى، وَإِنِ اجْتَمَعَا - لأنَّ الكتابَ يدعو إلى الهدى، ولكنَّهم يسيرون في طريق الضَّلال، فالكتابُ يقول لهم لا تكذبوا وهم يكذبون، لا تخونوا وهو يخونون، لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وهم يأكلون الأموال بينهم بالباطل، لا تعتدوا وهم يعتدون على النَّاس، والكتابُ يقول لهم اعدلوا ولو كان ذا قربى وهم لا يعدلون، وهكذا... لذلك الكتاب شيء وهم شيء آخر.
- فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ، وَافْتَرَقُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ – بمعنى أنّهم حاولوا أن يجتمعوا على أن يتفرَّقوا، وافترقوا على أن لا يجتمع بعضهم مع بعض.
- كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ - فالكتاب هو إمامنا الَّذي نسير خلفه، ونتَّبع عقائده وأحكامه وشريعته، ولكنَّنا تركنا الكتاب خلفنا، وأردنا أن يسيرَ الكتابُ وراءنا، ليشرِّع لنا شهواتنا المحرَّمة، وليبرِّر لنا كلَّ ما نتحرَّك فيه من ضلال.
- فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا اسْمُهُ، وَلاَ يَعْرِفُونَ إِلَّا خَطَّهُ وَزَبْرَهُ، وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ – فهؤلاء النَّاس عندما يأتي إليهم الصَّالحون والصَّادقون والسَّائرون على طريق الله، ينكِّلون بهم أبشع تنكيل.
- وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللهِ فِرْيَةً - فعندما جاء الصَّالحون والعلماء المتَّقون، والمبلّغون المستقيمون، وتحدَّثوا للنَّاس بالحقّ، فإنَّ النَّاس يقولون لهم إنَّكم تكذبون على الله.
- وَجَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ العُقُوبةَ السَّيِّئَةَ – فعندما يعملون الحسنة، فإنّهم يواجهونهم بالسيِّئة...
سببُ هلاكِ الأممِ السَّابقة
- وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ – ما سرُّ هلاكهم وابتعادهم عن الله وسقوطهم في جهنَّم؟ - بِطُولِ آمَالِهِمْ - لأنَّهم لم يذكروا الموت، بل انطلقوا بطول الأمل وكأنَّهم لا يموتون، ولذلك استسلموا للحياة الدّنيا، ولم يخطِّطوا للآخرة ويستعدّوا لها - وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ – فهم يغيّبون آجالهم عن فكرهم، حتى إنّهم لا يذكرونها بشيء - حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ – جاءهم الموتُ وهم غافلون عنه - الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ - لأنَّ الإنسانَ إذا مات، لم يعد هناك عذر، لأنَّه أغلقَ كلَّ كتاب الأعمال - وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَالنِّقْمَةُ – كناية عن المصيبة.
القرآنُ دليلُ المؤمنين
- أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللهَ وُفِّقَ - إذا أردت النَّصيحة، فافتح كتاب الله، واطلبْ من الله أن ينصحك فيما تتخبَّط فيه، وفيما تعيش فيه، والله يقدِّم إليك النَّصيحة من آياتِ كتابه.
- وَمَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلاً – في الدّروب الَّتي قد يضيعُ فيها الإنسان - هُدِيَ لِلَّتَي هِيَ أَقْوَمُ – للَّتي هي أكثرُ استقامةً - فَإِنَّ جَارَ اللهِ آمِنٌ – وطبعاً، الله ليس في مكان معيَّن لتجاوره بالمعنى الحقيقيّ، ولكن بمعنى أن تكون إلى جوار الله في تعاليمه وعبادته، يعني أن تكون معه في عبادتك له وفي تقواك وفي التزاماتك، لأنَّ الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا وتحزَنُوا... }[فصِّلت: 30]، إنَّ هؤلاء يأمنون يوم القيامة حيث يخاف النَّاس - وَعَدُوَّهُ خَائِفٌ - لما قدَّم من عمل سيِّئ.
التَّواضعُ أمامَ عظمةِ الله
- وَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ - بعض النَّاس يحاول أن يتحرَّك مع النَّاس كأنَّه في حالة انتفاخ، يبرز أمام النَّاس على أساس أنَّه العظيم، وعلى أساس أنّه الكبير. كنِ الإنسانَ الَّذي يعرفُ عظمةَ الله، يعرفُ أنَّ الله هو مالك كلّ شيء، ويعرف أنَّ الله هو المهيمنُ على كلِّ شيء، وأنَّ الله مَالِكُ الْمُلْكِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَن يشَاءُ، وَينزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن يشَاءُ، وَيُعِزُّ مَن يشَاءُ، وَيُذِلُّ مَن يشَاءُ... مَنْ عَرَفَ عظمةَ الله صغُرَ أمام الله، وصغُرَ كلُّ مَنْ عدا الله في نفسه، وهذا ما عبَّر عنه أمير المؤمنين (ع) في صفة المتَّقين: "عظُمَ الخالقُ في أنفسِهم، فصغُرَ ما دونَهُ في أعينِهم".
فكيف تعظمُ أنفسُهم أمامَ الله؟ كيف يتعظَّمونَ أمامَ الله وهم لا يمثِّلون شيئاً؟! وهذا ما نقرأه في دعاء أبي حمزة الثَّماليّ: "وَما أَنا يا رَبِّ وَما خَطَرِي؟!". من أنا؟ ما قيمتي؟ ما قدري؟ أن تحسَّ بالتَّواضع أمام الله، "كلُّ جليلٍ عندَكَ صغيرٌ، وكلُّ شريفٍ في جنبِ شرفِكَ حقيرٌ".
- فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ - تريد أن تصبح كبيراً وعظيماً، عندما تدرك عظمة الله. إنَّك بقدر ما تتواضع لله تكون عظيماً، لأنَّك إذا تواضعْتَ لله رفعك، وإذا تعاظمْت أمام الله أسقطك، والله هو الَّذي يُعزّ، والله هو الَّذي يذلّ.
- وَسَلاَمَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ – {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ...}[الزّمر: 67]، فعندما تعرف أنَّ قدرة الله هي القدرة الَّتي لا تقف عند حدّ، قل كما قال إبراهيم (ع): {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة: 131]، {قُل إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَـالَمِینَ * لَا شَرِیكَ لَهُ وَبِذَ لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ ٱلمُسلِمِینَ}[الأنعام: 162 – 163].
التزامُ طريقِ الحقِّ
- فَلا تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الْأَجْرَبِ، وَالْبَارِي مِنْ ذِي السَّقَمِ - اقبل الحقَّ ولو كان على نفسك، اقبلْه ولو كان مرّاً، ولا تعتبرِ الحقَّ بمثابةِ الأجربِ الَّذي إذا اقتربَ منه الصَّحيحُ نفرَ منه.
- وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ – فانظر إلى النَّاس الَّذين يسيرونَ في طريقِ الغيِّ والضَّلال، لتعرفَ طريقَ الرّشد، لأنَّ الأشياءَ تُعرَفُ بنقائضها.
- وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمَيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ - فالنَّاس الَّذين يمشونَ على خلافِ القرآن، تستطيعونَ أن تعرفوا من السلبيَّات والمشاكل الَّتي تصيبهم، قيمةَ الميثاق القرآني.
- وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذَي نَبَذَهُ. فَالْتَمِسُوا ذلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ - التمسوا معرفةَ القرآن من عندِ أهلِه، ويقال إنَّه يشيرُ بذلك إلى أهل البيت (ع) - فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ – فبهم عاش العلم، وبتعاليمهم مات الجهل- هُمْ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ - لأنَّهم لا يحكمون إلّا بالحقّ، من خلال ما ملكوا من العلم - وَصمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ - لأنَّ صمتَهم ليس صمتَ الجاهل، ولكنَّ صمتَهم صمتُ المفكِّر وصمتُ المتأمّل - وَظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ – لأنّهم لا يختلف الظَّاهر عن الباطن عندَهم، فهم يعيشون الصِّدق في ذلك كلّه - لا يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَلا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ – فهم يسيرونَ على خطِّه ويلتزمونَ به - فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ - لأنَّه يصدقُ على الله - وَصَامِتٌ نَاطِقٌ"، صامت بكلماته وحروفه، وناطق بتعالميه.
مع عليٍّ (ع) في خطِّ القرآن
أيّها الأحبَّة، هذه كلمات عليّ (ع)، الَّذي يؤكِّد لنا دائماً أنَّ علينا أن نلتزم القرآن، وأن نأخذ القرآن من حمَلَتِهِ الَّذين يملكونَ علمَه وصدقَه ويملكونَ كلَّ آفاقه. وعندما نقرأ القرآن، فعلينا أن نستنطقَ ما فيه مما أمرنا الله به ومما نهانا الله عنه.
إنّ من يقرأ القرآنَ قراءةَ وعيٍ لا يكذب، وإنَّ من يقرأُ القرآنَ قراءةَ وعيٍ لا يخون، ولا يظلم النَّاس، ولا يأكل أموالهم بالباطل، ولا يثير الفتنة بين النَّاس، ولا يثير الأذى في النَّاس، ولا يحاولُ أن يكذبَ ويدسَّ ويفرِّقَ ويعملَ في الاتجاه الَّذي يربكُ الواقعَ العامَّ للنّاس.
أيُّها الأحبَّة، القرآن كتاب الله الصَّامت، والنبيُّ وأهلُ بيته (ع) كتابُ الله النَّاطق، فعلينا أن ننطلق من الثّقلين: "إنِّي تارِكٌ فيكم الثَّقَلَيْنِ، أحَدُهما أكبَرُ مِن الآخَرِ؛ كتابُ اللهِ حبلٌ ممدودٌ مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، وعِتْرتي أهلُ بيتي، وإنَّهما لن يتفرَّقا حتَّى يرِدَا علَيَّ الحوضَ".
وعليٌّ (ع) من أهل هذا البيت، وعلينا عندما نلتزم عليّاً ونلتزم القرآن، أن يكون عليّ (ع) إمامَنا؛ إمامَنا في أفكارنا، وإمامَنا في مسيرتنا، وإمامَنا في علاقاتنا، وإمامَنا في مواقفنا، لأنَّ الإمامةَ تعني أن يسير ونسير معه، وأن يتحرَّك ونتحرَّك معه، وهذا هو سرّ النَّجاة: "عليٌّ معَ الحقِّ، والحقُّ معَ عليٍّ، يدورُ معَهُ حيثُما دارَ".
فإذا أردْتم أن تكونوا معه، فحاولوا أن لا يكون للباطلِ دورٌ في عقولكم وفي قلوبكم وفي حياتكم، لأنَّ عليّاً لا يلتقي بالباطل من قريب أو بعيد، لأنَّه عاش مع الله، وعاش مع القرآن، وذلك بأنَّ الله هو الحقّ، والقرآن هو الحقّ، فعلينا أن نتحرَّك في حقِّ الله ورسوله وأوليائه، وفي حقِّ كتابه.
 
                                                      
                                                                      الخطبة الثانية
 
 
عباد الله، اتَّقوا الله سبحانه وتعالى، فيما كلَّفكم به واستجيبوا له، لأنَّه دعاكم في كتابه إلى ما يحييكم، واعلموا أنَّ الله يحولُ بين المرء وقلبه، وأنَّكم إليه تحشرون. لذلك لا بدَّ للإنسانِ المؤمنِ أن يراقبَ اللهَ في كلِّ قولٍ يقولُه، وفي كلِّ عملٍ يعملُه، وفي كلِّ علاقةٍ يُنشئُها، وفي كلِّ موقفٍ يقفه.
راقبوا الله في كلِّ ذلك، فلا تتحركوا في أيِّ شيءٍ من قولٍ أو فعلٍ، إلَّا إذا علمتم أنَّ الله يرضى بذلك، لأنَّكم عبيدُ الله الَّذين لا يملكونَ من أمرِهم شيئاً إلَّا بما شاء الله.
أيُّها الأحبَّة، لا يقلْ أحدكم أنا حرٌّ عندما يأمره النَّاس بما أمره الله، وينهونَه عمَّا نهى الله، لأنَّك عبدٌ أمام الله، وحرٌّ أمام العالم كلِّه.
ومشكلتنا أنَّنا نعيش العبوديّة أمام النَّاس الَّذين يملكون المال والمناصب والجاه، ونمارسُ الحريَّةَ أمامَ الله سبحانه وتعالى، والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}[الأعراف: 194].
ولهذا، أيُّها الأحبَّة، من موقع حرَّيتنا الَّتي عبَّر عنها الإمام عليّ (ع)، فقال: "لا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً"، لقد خلقَكَ الله حرّاً، وإنَّ حرَّيتَكَ جزء مما يريده الله لك، عندما أراد لك أن تكون حرّاً عزيزاً، فلا يجوز لك أن تستعبدَ نفسَكَ لغيرك.
من هذا الموقعِ، فإنَّ الله لا يريد لنا أن نستعبدَ أنفسنا للمستكبرين، سواء كان استكبارهم استكباراً ماليّاً، أو سياسيّاً، أو كان استكبارهم استكباراً اجتماعيّاً، لأنَّ الله يقول لك: كن الإنسان الَّذي يعيش عزَّةَ نفسه، وأصالةَ نفسه، وحرّيتَه وإنسانيَّتَه، حتى يقف أمام الله حرّاً إلى جانب كلِّ الأحرار. أمَّا إذا خضعْتَ للمستكبرين، وسرْتَ كما يريدون لك أن تسير، فيما تفكِّر فيه، وفيما تنتمي إليه، وفيما تتَّخذه من مواقف، فإنَّ معنى ذلك أنَّك رفضت عبوديتك لله، وأخذت بعبوديَّتك لعباده، وهذا ما عبَّر الإمام زين العابدين (ع) عنه، بقوله: "اللَّهمَّ إنِّي أخلصْتُ بانقطاعي إليْكَ، وأقبلْتُ بكلِّي عليْكَ، وصرفْتُ وجهي عمَّنْ يحتاجُ إلى رفدِكَ، وقلبْتُ مسألتي عمَّنْ لمْ يستغْنِ عَنْ فضلِكَ، ورأيْتُ أنَّ طلَبَ المحتاجِ إلى المحتاجِ سفهٌ مِنْ رأيِهِ، وضلَّةٌ مِنْ عقلِهِ. فكمْ قدْ رأيْتُ، يا إِلَهي، مِنْ أناسٍ طلبُوا العزَّ بغيرِكَ فذلُّوا، ورامُوا الثَّروةَ مِنْ سواكَ فافتقرُوا، وحاولُوا الارتفاعَ فاتَّضعُوا! فصَحَّ بمعاينةِ أمثالِهِم حازمٌ وفَّقَهُ اعتبارُهُ، وأرشدَهُ إلى طريقِ صوابِهِ اختيارُهُ".
أيُّها الأحبَّة، علينا أن نكون الأحرار في دنيانا، ولا نعطي للمستكبرين قيادنا من قريب أو بعيد، لأنَّ المستكبرين لا يريدون إلَّا أن يبعدونا عن الله وعن خطِّ الله، ولا يريدون إلَّا أن يستعبدونا ويصادروا كلَّ قضايانا وكلَّ ثرواتنا، حتَّى نكون مجرَّد عبيد لهم؛ نتحرَّك في خططهم، وننفِّذ ما يريدون.
تعالوا، أيُّها الأحبَّة، لنمارس حرَّيتنا أمام حركة الاستكبار العالمي، فيما يوجِّهه للمسلمين من اضطهاد.
إنَّنا نعيش الآن، كما عشنا في الأسبوع الماضي، عدَّة قضايا إسلاميَّة في العالم الإسلامي، ونحن نقرأ وصيَّة رسول الله (ص): "مَنْ لمْ يهتمَّ بأمرِ المسلمينَ فليسَ منهم".
مأساةُ كوسوفو
لا نزال نقف أمام هذا البلد الإسلاميِّ الجريح، وهو كوسوفو، الَّذي لا تزال اللّعبة الدوليّة، سواء كانت لعبةً أمريكيّة أو أوروبيّة، تتحرَّك من أجل رعاية مصالحها فيه، ومصلحتُها الكبرى هي مع صربيا الَّتي تضطهد هذا الشَّعب المسلم، في كلِّ ما تقوم به من مجازر، وبما تصادره من حرّيته، وبما تمنعه من حقِّ تقرير المصير.
لا تزال اللّعبة الدوليّة الأمريكيّة الروسيّة والأوروبيّة والحلف الأطلسي، يزيدون من عذاب هؤلاء باسم أنّهم يحلّون له مشكلته، ونحن نقرأ أنّهم وجَّهوا إلى صربيا والمسلمين اللَّوم، وساووا بين الضحيَّة والمجرم، وهذا ما نواجهه، ونعرفُ أنَّ هناك عنصريّة خفيَّة تختبئ وراء أغلب خطط المستكبرين، عندما تتعلَّق المسألة ببلد إسلاميّ هنا، وبلد إسلاميّ هناك، ونحن ندعو منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ الَّتي قيل عنها إنَّها ترعى واقع المسلمين، أن يقوموا بالاهتمام الكبير بهذا البلد المحاصَر والمضطهَد، الَّذي يراد تدميره من خلال كلِّ هذه الحرب غير المتكافئة الَّتي تحيط به من كلِّ جانب.
العراقُ بينَ الطَّاغيةِ والاستكبار
وفي الجانب الآخر، ننتقل إلى العراق؛ هذا البلد الجريح الَّذي يعيش أهله بين مطرقة الطَّاغية الحاكم، وبين سندان الاستكبار العالمي. ونحن نلاحظ أنَّ أمريكا تقوم في كلِّ يوم بقصف شماله وجنوبه تحت عناوين متعدِّدة، باسم أنَّها تريد أن تحرِّر شعب العراق من حاكمه، وتضغط على حاكمه، ولكنَّنا نرى أنّهم لا يطلقون صواريخهم على الحاكم ومن معه، ولكنَّهم يطلقونها على المدنيّين الَّذين يموتون في البصرة وفي غيرها، ولا نجد هناك صوتاً قويّاً يرتفع.
إنَّ ما صدر عن مؤتمر وزراء الخارجيَّة العرب، كان صوتاً حييّاً خجولاً، لأنَّه لم يتحدَّث عن عدوانٍ أمريكيّ، ولكنَّه تحدَّث عن عملٍ عسكريّ. ونحن عندما نجد أنَّ أمريكا تذرف دموع التَّماسيح على الشَّعب العراقي، فتقول إنَّها ستدعم المعارضة العراقيَّة، فإنَّنا نسأل: هل هذا للاستهلاك السياسيّ؟ وهل هناك جديّة في الموضوع؟ هل هناك معنى للحديث عن هذا الدَّعم بالطَّريقة الإعلاميَّة الَّتي تكشف الجميع، وتكشف كلَّ الخطط؟ إنَّنا نتصوَّر أنها تريد إسقاط البقيَّة الباقية من المعارضة العراقيَّة، لأنَّ الشَّعب عندما يرى أمريكا تقصفه هنا وهناك، وتقتل أطفاله ونساءه وشيوخه، وهؤلاء يعملونَ معها وينسِّقون، فإنَّ الشَّعب عند ذلك، سوف يفقد ثقته بكلِّ هؤلاء الَّذين يريدون أن يحرِّروا بلدهم باسم مساعدة أمريكا لهم.
إنَّ الشَّعب العراقيَّ هو الَّذي يملك الحقَّ في أن يتحرَّر من حاكمه، ولكنَّ المشكلة أنَّ أمريكا كانت في كلِّ العهود هي الَّتي تحمي الحاكمَ من شعبه، لأنَّ لها شغلاً به هنا وهناك.
لوقفِ القتالِ في إندونيسيا
وإلى جانبِ ذلك، نواجه القتال العنيف في إندونيسيا الَّذي حدث قبل أيَّام بين المسيحيّين والمسلمين في بعض البلاد هناك. إنّنا نقول للمسلمين وللمسيحيّين، أن لا تكون العلاقة بينهم علاقة عنفٍ وحربٍ، بل لا بدَّ أن تكون علاقةً كما أراد الله سبحانه وتعالى، على أساس الوقوف على الكلمة السّواء؛ أن لا نعبد إلَّا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتَّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، أن نقفَ لندعوَ كلَّ العالم إلى توحيد الله، وأن نقف ضدَّ المستكبرين الَّذين يعتبرون أنفسهم أرباباً على العالم، وأن ننطلق فيما اختلفنا فيه على أساس الحوار {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[العنكبوت: 46].
إنَّنا ندعوهم إلى أن يغمدوا هذه السّيوف، لأنَّها لن تكون في مصلحة المسيحيّين هناك، ولا في مصلحة المسلمين هناك، بل في مصلحة المستكبرين الَّذين يريدون إسقاط إندونيسيا وكلّ البلاد المستضعفة، سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
الإرهابُ الصّهيونيُّ
أمَّا في فلسطين، فلا تزال حقوق الفلسطينيّين تراوح مكانها، ولا يزال العالم يتفرَّج على كلِّ آلامهم، وعلى كلِّ البيوت المدمَّرة كلَّ يوم، باسم أنها لم تأخذ رخصة، وعلى كلِّ القتلى والشّهداء من الأطفال والنّساء والشّيوخ، من دون أن يقف العالم، سواء كان عالماً أمريكياً أو أوروبياً أو روسياً، بشكلٍ قويٍّ ليضغطَ على إسرائيل من أجلِ أن تمتنعَ عن ذلك.
وهكذا نجد أنَّ إسرائيل لا تزال تقصف بلادنا، سواء في الجنوب، أو في البقاع الغربيّ، وتدمِّر البيوت، وتقتل المدنيّين هنا وهناك. ولكنَّنا لا نسمع احتجاجاً أمريكياً أو أوروبياً، كما لو كانت المسألة من المسائل اليوميَّة الَّتي لا ينبغي الاهتمام بها.
ونحنُ نلاحظُ الآن أنَّ إسرائيل حوَّلت احتلالها للجنوب إلى ورقة انتخابيَّة يلوّحُ بها كلّ مرشَّح للانتخابات هناك، ويتحدَّث هذا عن انسحاب، ويتحدَّث ذاك عن المفاوضات، وقد نفت الحكومة اللّبنانيّة خبر هذه المفاوضات. ونحن نعتقد أنَّ على اللّبنانيّين، حكومةً وشعباً، أن يقفوا ليرفضوا كلَّ خطط العدوّ في إرباك الواقع السياسيّ، أو أيّ واقع أمنيّ هنا وهناك. وعلى الجميع الالتفاتُ جيِّداً إلى التَّغييرات الجديدة في حكومة العدوّ، وخصوصاً في تعيين وزير حرب جديد، مما يمكن أن يقوم بمغامرة مجنونة في الجنوب، من خلالِ ما قد يفكِّرُ فيه من إثباتِ وجودِهِ، ودعم موقف حزبه في الانتخابات.
كنَّا نقول، ولا نزال، ليست هناك أيّ معطياتٍ لعملٍ إسرائيليٍّ كبير في الجنوب، ليس هناك معطيات محليّة في فلسطين، ولا في الواقع العربيّ ولا في الواقع الدّوليّ، ولكنَّ ذلك لا يمنعنا من أن نكون على حذر، لأنَّه ربما تحدث نوبة جنون عندَ هذا الحاكم أو ذاك الحاكم، مما قد يدعوه إلى أن يقوم بمغامرة غير محسوبة، مطمئنّاً إلى أنَّ الاستكبار الدّوليّ، وفي مقدَّمه أمريكا، سوف لن يقوم بأيّ ردِّ فعلٍ ضدَّه.
قضيّةُ الأسرى في سجونِ العدوّ
ونحنُ في هذا الجوّ، نرحِّب بالأسرى العائدين، من خلال هذه الفرصة الَّتي حدثت لهم بلطف الله، وندعو للأسرى الباقين أن يفرِّج الله عنهم. ونحن نعلن ارتياحنا لتصريح رئيس الحكومة اللّبنانيّة، بأنَّ الحكومة تولي هذه القضيَّة اهتماماتها القصوى، وعلينا أن نعتبر هذه القضيّة أولويّةً وطنيّةً يهتمُّ بها الجميع، سياسيّاً وإعلاميّاً، وعلى صعيد اللّقاءات الدبلوماسية والسياسية.
وعلينا أن نتابع الجدل القضائيَّ في إسرائيل بالنّسبة إلى المخطوفين الّذين خطفتهم إسرائيل، كالشَّيخ عبد الكريم عبيد وأبو علي الدّيراني وغيرهما؛ هل يبقون في الاعتقال لأنَّهم اعتبروهم رهائن، أو أنّه يطلَقُ سراحُهم؟ لا بدَّ لنا أن نتابع ذلك، وأن نستغلَّ هذه الفرصة من أجل أن نثير الحركة الدبلوماسيّة والسياسيّة والإعلاميّة في العالم، في مسألة حقوق الإنسان الّتي انتُهِكَت بالنِّسبة إلى هؤلاء، لأنَّ المحامين الَّذين يدافعون عن هؤلاء، يتحدَّثون أمام القضاة بأنَّ إبقاءهم من دون محاكمة، ولمجرَّد كونهم رهائن، هو أمرٌ يتنافى مع حقوق الإنسان.
ولذلك، علينا أن نتابع هذه المسألة، وعلى لبنان الرسميّ أن يقف من أجل أن يثير هذه القضيَّة في العالم، ليثبتَ للعالم أنَّ إسرائيل هي الَّتي تُسقِط حقوق الإنسان هنا وهناك. لتكنَ قضيَّة الأسرى في السجون الإسرائيليَّة القضيَّة الأكثر أهميّة في واقعنا السياسي الرسمي والشعبي على حدٍّ سواء.
مشاكلُ تستدعي الحلولَ
أمَّا على المستوى الدَّاخليّ، وقد أثاروا الحديث عن أموال البلديَّات، والتساؤل: أين ذهبَتْ؟ وهل سُرِقَتْ؟ وكيف اختفَتْ؟ كنَّا نتمنَّى أن تثار هذه القضايا في داخل مواقع القضاء، حتَّى يأخذ القضاء موقفه وحكمه فيها، لأنَّنا تعوَّدنا في العهود السَّابقة، أن يثيرَ هذا المسؤولُ فضيحة ماليَّة، ويثير حديثاً عن سرقات، ويبدأ الجدل السياسيّ فيها، ثمّ يُطوى الملفّ، ليُفتح ملفّ جديد هنا وهناك.
إنّنا نقول: إذا كانت هناك شبهة أو جريمة حول هذه المسألة، وكان عندنا قضاء نزيه، فعلينا أن لا نضع القضيَّة في دائرة الجدل السياسي، بل في دائرة الواقع القضائيّ، لأنَّ إثارة الجدل في الواقع السياسي، يضيِّع القضيَّة، ويحوِّلها إلى مهاترات سياسيَّة.
ولا يزال الشَّعب ينتظر ظهور بوادر مشجِّعة في التَّخطيط الاقتصادي والسياسي والإصلاح الإداري الَّذي نريدُهُ أن يكونَ إصلاحاً حقيقيّاً عادلاً، مرتكزاً على العدالة الدّقيقة، بعيداً من الحساسيّات السياسيّة، وأن لا تكون القضيَّة استبدال مسؤولين في الإدارة، بل تفعيلاً وحفظاً للأموال العامَّة، وضماناً لدورة اقتصاديَّة جديدة تفتح فيها أبواب العمل للمواطنين، وتعود فيها الأولويَّات للشَّأن الاجتماعي.
إنَّنا ننتظر الكثير من هذا العهد، ولا نستعجل الحلول، لأنَّ المشاكل المعقَّدة تتطلّب وقتاً طويلاً، ولكنَّنا نريد حركة التَّخطيط الَّذي يركِّز المسألة على أساس المراحل المدروسة. كما نؤكِّد من جديدٍ أهميَّة تكامل كلِّ القوى في عمليَّة الإصلاح والبناء، بعيداً من الحساسيات الطائفيَّة والسياسيَّة والشخصانيَّة، لأنَّ المرحلة الحاضرة هي مرحلة التَّحدّيات الكبرى على مستوى الدَّاخل والخارج.
فلنبدأ المسيرة الجديدة من أجل المستقبل الكبير للبناء وللتَّحرير.
*  خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 29 – 1 – 1999.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية