{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
قبل أيَّام، مرَّت علينا ذكرى وفاة الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع)، حسب بعض الرّوايات.
ونحن بحاجة دائماً إلى أن نقفَ بينَ وقتٍ وآخر مع أئمَّة أهل البيت (ع)، لنتعرَّف بعضاً من سيرتهم وأخلاقيَّاتهم وكلماتهم، ولنزدادَ معرفةً بمقامهم، لأنَّهم يمثِّلون في عقيدتنا الخطَّ الإسلاميَّ الأصيل، باعتبار أنَّهم خلفاء رسول الله وأوصياؤه.
موضعُ تقديرِ الأمَّةِ
والإمام الرّضا (ع) هو الإمام الثَّامن من أئمَّة أهل البيت (ع)، وقد ملأ المرحلة الَّتي عاشها علماً، حتَّى اعترف بعلمه وفضله التَّابعون له وغير التَّابعين، وقد قال بعض معاصريه وهو يتحدَّث عنه: "ما رأيْتُ أعلمَ من عليِّ بنِ موسى الرّضا (ع)، ولا رآهُ عالمٌ إلَّا شهدَ له بمثلِ شهادتي، ولقدْ جمعَ المأمونُ في مجالسَ له ذواتِ عددٍ علماءَ الأديانِ، وفقهاءَ الشَّريعةِ والمتكلِّمين، فغلبَهم عن آخرِهم، حتَّى ما بقيَ أحدٌ منهم إلَّا أقرَّ له بالفضلِ، وأقرَّ على نفسِهِ بالقصورِ".
ويقول بعض الرّواة عنه: "جمعْتُ مِنْ مسائلِهِ، ممَّا سُئِلَ عنه وأجابَ فيه، ثمانيةَ عشرَ ألفَ مسألةٍ".
وقد كان موضع تقدير الأمَّة في مختلف مواقعها، حتّى إنَّه عندما ذهب إلى إيران بدعوة من المأمون، بعد أن كان يعدُّ لولاية العهد، كانت الجماهير تستقبله في كلِّ بلد استقبالاً حاشداً كبيراً، وتطلب منه أن يحدِّثها عن آبائه وأجداده في حديثهم عن رسول الله (ص). وينقل الرواة أنَّه اجتمع هناك الآلاف من النَّاس وهم يقولون له: حدِّثْنا يا بنَ رسولِ الله، فبدأ يحدّثهم، قال (ع): "حدَّثَني أبي موسى بنُ جعفر، قالَ: حدَّثَني أبي جعفرُ بنُ محمَّدٍ، قالَ: حدَّثَني أبي محمَّدُ بنُ عليٍّ، قالَ: حدَّثَني أبي عليُّ بنُ الحسينِ، قالَ: حدَّثَني أبي الحسينُ بنُ عليٍّ، قالَ: حدَّثَني أبي عليُّ بنُ أبي طالبٍ (ع)، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ (ص): يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: لا إلهَ إلَّا الله حصني، فمَنْ دخلَهُ أَمِنَ من عذابي". ثمَّ التفت إليهم الإمام (ع)، وقد أطلَّ برأسه من المحمل، كما يرويها بعض الرّواة، وقال: "بشرطِها وشروطِها، وأنا من شروطِها".
ولعلَّ حاجة المأمون إلى أن يولِّيَه ولاية العهد من بعده، بعد أن حاربه أهله وأبناء عمِّه في صراعه مع أخيه محمَّد الأمين، فباعتبار ما يملكه الإمام (ع) من امتدادٍ جماهيريٍّ في الواقع الإسلاميّ كلِّه. وقد اختلفت الرِّوايات في تفسير قبول الإمام (ع) ولايةَ العهد، مما يطول المقام بذكره، ولكنَّ الإمام (ع) في كلِّ سيرته في تلك المرحلة، وما قبل تلك المرحلة، كان يمثِّل رسول الله (ص) في كلِّ صفاته الخاصَّة والعامَّة. وننقل هنا صورة لأخلاقيَّته الاجتماعيّة والذاتيَّة.
من أخلاقيَّاتِ الإمامِ (ع)
ينقل بعض الرّواة المعاصرين له، وهو إبراهيم بن العبَّاس، قال: "مَا رأيْتُ أبا الحسنِ الرِّضا (ع) جفا أحداً بكلمةٍ قطُّ – أي أنَّه لم يتكلَّم بأيِّ كلام جافٍ أو قاسٍ مع أحد قطّ - ولا رأيْتُهُ قطعَ على أحدٍ كلامَهُ حتَّى يفرغَ منْه - كان إذا تحدَّث معه شخص، تركه يسترسل في كلامه، فلا يقطع عليه كلامه - وما ردَّ أحداً عن حاجةٍ يقدرُ عليْها - إذا قصده النَّاس في حاجاتهم، وكان قادراً على قضائها، فإنَّه لا يردّ أحداً عن حاجته - ولا مدَّ رجليْهِ بينَ يدَيْ جليسٍ لهُ قطُّ - كان يحترم جلساءه، فلا يمدُّ رجليه أمامهم - ولا اتَّكأَ بينَ يدَيْ جليسٍ له قطُّ – وهذا أيضاً من الاحترام والتّوقير لجلسائه - ولا رأيتُهُ شتمَ أحداً مِنْ مواليهِ ومماليكِهِ قطُّ – حتَّى لو أساؤوا إليه، أو أتوا بشيءٍ يستوجب ذلك - ولا رأيْتُهُ تَفلَ قطُّ – كان لا يتجاهر بذلك - ولا رأيتُهُ يقهقِهُ في ضحكِهِ قطُّ، بلْ كانَ ضحكُهُ التَّبسُّمُ – فعندما كان يضحك، لم يكن يرسل صوتاً في ضحكته - وكان إذا خلا ونُصِبَتْ مائدتُه، أجلسَ معَهُ على مائدتِهِ مماليكَهُ ومواليه، حتَّى البوَّابَ والسَّائسّ - لأنَّه كان يحترم الناس، من دون مراعاة للجانب الطبقيّ.
ولذلك قال بعض النَّاس: "كنت مع الرّضا (ع) في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السّودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة؟ فقال (ع): مَهْ، إنَّ الرَّبَّ تباركَ وتعالَى واحدٌ، والأمّ واحدةٌ، والأب واحدٌ، والجزاء بالأعمالِ"، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13].
فهؤلاء قد يكونون في مستوى طبقيّ معيَّن، أو قد يكونون من العبيد، فيما هي قضيّة السّادة والعبيد آنذاك، لكنَّهم في إنسانيَّتهم مخلوقون لله كما أنا مخلوق {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى}[الحجرات: 13]، وأمّنا وأبونا واحد، فما الَّذي يميِّزهم عنَّي، ليس هناك ميزة، وإنَّما الميزة بالأعمال، فإذا كان لي عمل أكثر منهم، فعندئذٍ أتميّز عنهم. هكذا كانت سيرته (ع).
- وكان (ع) قليلَ النَّومِ باللَّيل، كثيرَ السَّهرِ، يحيي أكثرَ لياليهِ من أوَّلِها إلى الصّبحِ، وكانَ كثيرَ الصِّيامِ، فلا يفوتُهُ صيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ في الشَّهرِ، ويقولُ: ذلكَ صومُ الدَّهرِ، وكانَ (ع) كثيرَ المعروفِ والصَّدقةِ في السّرِّ، وأكثرُ ذلك يكونُ منه في اللَّيالي المظلمةِ، فمَنْ زعمَ أنَّه رأى مثلَهُ في فضلِهِ، فلا تصدِّقوه". فهو يقول إنَّ الرّضا (ع) هو الشَّخص الوحيد في كلِّ عصره بهذه الصّفات.
ونحن نريد أن نتوقَّف عند بعض كلماته (ع)، حتَّى نستطيع أن نستفيد في دروسه من حياتنا الاجتماعيَّة.
المقياسُ في العبادة
من بعض الكلمات المرويَّة عنه (ع): "ليسَ العبادةُ كثرةَ الصَّلاةِ والصَّومِ، وإنَّما العبادةُ كثرةُ التفكّرِ في أمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ". فالإمام (ع) يقول إنَّ المقياس في العبادة ليس كثرة صلاتك وصومك، لأنَّك ربَّما تكثر صلاتك أو يكثر صومك من دون وعي ومعرفة، لأنَّ العبادة معناها الخضوع لله، ومسألة الخضوع تتَّصل بالعقل، فأنت الآن بمقدار ما تعرف الله أكثر في عقلك، يخشع عقلك له، ويخضع عقلك له. ولذلك العبادة هي الخضوع لله في قلبك، بأن يخشع قلبك لذكر الله {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأنفال: 2]. ولذلك، لا يمكن أن يرتجف قلبك بذكر الله ويخشع له، إلَّا إذا كنت عارفاً به سبحانه.
ولذلك، يقول الإمام (ع) إنَّ على الإنسان أن يقضي وقته في التفكّر في أمر الله؛ أن تتفكَّر في عظمة الله من خلال عظمة خلقه في كلِّ أسرار الخلق، وأن تتفكَّر في نعم الله عليك، فإذا ازدادَ تفكيرُكَ في ذلك كلِّه، عند ذلك، تكبر معرفة الله في عقلك، فيخشع عقلك لذكر الله، وتكبر عظمة الله في قلبك، فيخشع قلبك لذكر الله. وعلى هذا الأساس، إذا عظم الله في قلبك وفي عقلك، عند ذلك تكون صلاتك صلاة الإنسان الخاشع لربِّه، الخاضع بين يديه. أمَّا الإنسان الَّذي لا يعرف الله، ولا تتربَّى عظمة الله في نفسه، فإنَّه قد يصلِّي، ولكنَّه لا يعرف من صلاته أيّ شيء.
إنَّ عالم العبادة عالم داخليّ؛ أن يصلِّي عقلك، وأن يصلِّي قلبك، وأن تصلّي أحاسيسك ومشاعرك، ليتمثَّل ذلك في صلاتك، في لسانك، أو في بدنك.
التَّوسعةُ على العيال
ويحدِّثنا (ع) عن صاحب النِّعمة، وهو الَّذي وسَّع الله عليه في ماله، فيقول (ع) إنَّه إذا وسَّع الله عليك في مالك، فإنَّ ذلك يحمِّلك مسؤوليَّة أن توسِّع على عيالك، لأنَّ بعض النَّاس، يعطيه الله، ولكنَّه يبخل على عياله. وأنا دائماً أُسأَلُ من قبل الكثير من الزَّوجات، أنَّ زوجها لديه مال كثير، ولكنَّه يقتّر على عياله، يحرم زوجته وأولاده ويعطيهم أقلَّ المصروف. ولذلك هناك من الزَّوجات مَن تسأل فيما إذا كان يجوز أن تأخذَ من جيب زوجها لتشتري حاجات البيت، وليس لنفسها. وهذا يحدث باعتبار أنَّ صاحب العائلة يبخل على عياله، مع أنَّ الله رزقه، لو أنَّه لم يكن قادراً على الإنفاق فلا مشكلة {ليُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}[الطّلاق: 7]، ولكن إذا وسَّع الله عليك، فلماذا تضيِّق على عيالك؟!
يقول الإمام الرِّضا (ع)، حسب هذه الرّواية - وهناك من النَّاس من يزور الإمام الرِّضا (ع)، وينفق المال، وعندما يأتي إلى بيته، يقتِّر على عياله -: "صَاحِبُ النِّعْمَةِ يَجِبُ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى عِيَالِهِ". والسَّبب، أنَّ الله عندما يعطيك، إذا كنت صاحب عائلة، فإنَّه لا يعطيك رزقَك فقط، بل يعطيك رزقَك ورزقَ عائلتك، لأنّك عندما تحمَّلْتَ مسؤوليَّة عائلتك، معناه أنَّ اللهَ عندما يعطيك، يعطيك أنت ويعطي عيالك وزوجتك، لأنَّ الله جعل رزقهم على يدك. لذلك، فإنَّك عندما تقتر عليهم، تقتر من مالهم وليس من مالك، لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النّور: 33]، فالله فرض عليك أن توسِّع على عيالك.
بعض النَّاس يوسِّع الله عليه، ولكن يصرف أمواله في القمار، أو يصرفها في اللَّهو والعربدة وعلى النّساء والخمر، وما إلى ذلك. أتعرفون ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنَّه يسرق حليبَ أطفاله، ويسرق لقمةَ أطفاله، وثيابَ أطفاله، ويسرق قسط المدرسة الَّذي يحتاجونه، معنى ذلك أنّك سارقٌ لصٌّ تسرق الضّعفاء الَّذين هم بين يديك.
هذا معنى أن يعطيه الله، وأن يصرف ما يعطيه الله لحسابه وحساب عياله: "إنَّ المعونةَ تأتي العبدَ منَ اللهِ على قدرِ المؤونةِ".
وهذه النّقطة يجب أن تُفهَم، أيُّها الأحبَّة، لا تجعلوا نساءكم يشعرن بضيق وضغط عليهنَّ وعلى أطفالهنَّ، حتَّى تضطرَّ الزَّوجة أن تأخذ من جيب زوجها، فتقع هي في إشكال شرعيّ، وتواجه أنت واقعاً غير جيِّد: "صاحبُ النِّعمةِ يجبُ أن يوسِّعَ على عيالِهِ".
النَّظافةُ خلقُ الأنبياءِ
ومن كلمات الإمام الرَّضا (ع)، وهي موجَّهة إلى واقع المسلمين في شوارعهم وفي قراهم، وفي بيوتهم وفي أجسادهم: "مِنْ أخلاقِ الأنبياءِ التَّنظيفُ"، وعندنا حديثٌ يقول: "النَّظافةُ مِنَ الإيمانِ". ومعنى ذلك، أنَّ خلقَ الأنبياء وسيرةَ الأنبياء، والأئمَّة (ع) هم في صراطِ الأنبياء، والمؤمنونَ أيضاً في خطِّ الأنبياء، أنَّه لا بدَّ أن يحافظوا على النَّظافة؛ أن ينظِّفوا أجسادَهم وثيابَهم، وأن ينظِّفوا بيوتَهم وشوارعَهم وقراهم، وما إلى ذلك، باعتبار أنَّ هذا يمثِّل المظهرَ الحضاريَّ المشرقَ للإسلام وللإيمان وللمسلمين وللمؤمنين.
ائتمانُ الخائنِ!
ومن كلمةٍ له (ع) تعالج قضايا بعض النَّاس الَّذين يأتمنون بعض الأشخاص من دون تدقيق، ومن دون دراسة، ومن دون أن يسألوا عن أمانتهم، وبعد ذلك، يخونه هؤلاء الَّذين ائتمنهم، فيقول: تعالوا وانظروا إلى هؤلاء الأمناء كيف خانوا، فالإمام (ع) يقول: "ما خانَكَ الأمينُ، ولكن ائتمَنْتَ الخائنَ"، الأمين لا يخون، ولكن ربَّما أنَّك أنت لا تميِّز بين الأمين وغير الأمين، لربّما لا تدرس أنت هذا الإنسان الَّذي تأتمنه على مالك أو على سرِّك، أو تأتمنه على عرضك، أو تأتمنه على وطنك... بل تؤخذ بالأشياء الظَّاهريَّة وبالأمور السَّطحيَّة، فأنت الَّذي لا تدقِّق في الأمور والأشخاص.
وهذا موجود، أيُّها الأحبَّة، في واقعنا، وهذا حصل مع كثير من النَّاس، عندما صار البعض يقول للنَّاس: أعطني أموالك وأعطيك ربحاً 75%.. فكِّر بعقلك؛ من الَّذي يستطيع أن يربح 10% في هذه الأيَّام والظّروف؟! يمكن أن يعطيك في الشَّهر الأوَّل والثَّاني، ولكن بعدها ستخسر أموالك...
لا تقل: فلان خانني، فلان أكل مالي، ولكن هل درست فلاناً، ودرست قضيَّة المعاملة، هل هي معاملة معقولة أم لا؟! هناك تجَّار كبار يقولون لك إنَّ ربحهم هو بالكاد 5 ٪، فكيف يعطيك هذا 20٪ أو 30٪ أو 40٪، من أين يأتي بهم؟! ولكن ليس هناك وعي للأشياء.
الإمام (ع) يقول لك عندما تأتمن أحداً على مالك، أو على سرِّك، أو على سياستك، عندما تعطي صوتك لهذا أو لذاك، تحت عنوان أنَّ العائله تريده، أو أنَّ الضّيعة تريده، أو أنَّ الجماعة الفلانيَّة تريده.. تذكَّر أنَّ صوتك أمانة، وسيحاسبك الله عليه غداً بكلِّ التَّأثيرات السَّلبيَّة، سواء كان الصَّوت للبلديَّة أو للنّيابة أو للمخاتير، أو أيّ شيء من الأشياء...
أيضاً، عندما تزوِّج ابنتك، فلا تقل هذا ابن أخي، وهذا ابن عمّي، وهذا نعرف أباه.. بل ادرسه هو بنفسه واعرفه هو: "إذا جاءَكُم من ترضونَ خلقَهُ ودينَهُ فزوِّجوه..."، وليس من إذا جاءكم من ترضون ماله، أو من ترضون نسبه، أو من ترضون وجاهتَه، لأنَّ ابنتك لن تعيش مع آبائه وأجداده لتقول إنَّ هذا نسب عريق، ولن تعيش مع خزائن أمواله، بل ستعيش مع أخلاقه، لأنَّ الإنسان خلق ودين...
فلا تقل إنَّ الأمين خانني، بل أنت ائتمنت الخائن، ولا تقل إنَّ المؤمن خانني، فهذا ليس مؤمناً، وأنت لم تدرسه، وقد ورد عن أهل البيت (ع): "لا تنظروا إلى كثرةِ صلاتِهم وصومِهم، وكثرةِ الحجِّ والمعروفِ، وطنطنتِهم باللَّيلِ، ولكن انظرُوا إلى صِدقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ"، فالمؤمن من إذا قال صدق، وإذا ائْتُمِنَ وفى.
خيارُ العبادِ
سُئِلَ الإمام (ع) عن خيار العباد، فقال: "الَّذينَ إذا أحسنُوا استبشُروا – إذا صدر عنه خير وإحسان في علاقته مع ربِّه، وفي علاقته مع النّاس، وفي مسؤوليّته في الحياة، يفرح ويستبشر بالخير الصَّادر عنه.
- وإذا أساؤُوا استغفرُوا – فإذا حصلَتْ منه إساءة إلى الله، في أيِّ عملٍ فيه معصية لله، فرأساً، بمجرَّد أن ينتبه إلى إساءته، يستغفر الله {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201]، ولا ينتظر عشرين سنة أو ثلاثين سنة ليتوب، كما يفعل بعض النَّاس... وأنا أختار لكم هذا البيت:
لا تقلْ في غدٍ أتوبُ لعلَّ الـ غدَ يأتي وأنتَ تحتَ التّرابِ
- وإذا أُعْطوا شَكَروا - فإذا أعطاهم أحد شيئاً شكروه، لأنَّ على الإنسان أن يشكر الخالق ويشكر المخلوق؛ إذا أعطاهم الله شكروه بالخير والعمل، وإذا أعطاهم النَّاس شكروه بما ينبغي أن يشكروا به.
- وإذا ابتُلُوا صَبَرُوا - فلا يجزع عندما تأتيه المشاكل والابتلاءات، والإمام عليّ (ع) يقول: "الصَّبر منَ الإيمانِ بمنزلةِ الرَّأسِ منَ الجسدِ، فكما لا خيرَ في جسدٍ لا رأسَ معَهُ، لا خيرَ في إيمانٍ لا صبرَ معَهُ".
- وإذا غَضِبوا غَفَروا"، يبادرون الشَّخص بالعفو عنه فيما عمله بالنِّسبة إليهم.
الأعظمُ أجراً منَ المجاهدِ
ثمَّ يقول أيضاً، وهذه إشارة لكلِّ العمَّال، ولكلِّ التجَّار، ولكلِّ العاملين في سبيل عيالهم، مع المحافظة على خطِّ التَّقوى في كلِّ عملهم وتجارتهم وسعيهم: "إنَّ الَّذي يطلبُ من فضلٍ يكفُّ به عيالَهُ، أعظمُ أجراً منَ المجاهدِ في سبيلِ اللهِ"، لأنَّ ذاكَ المجاهدَ يسدُّ ثغرةً في مواجهة العدوّ، ولكن هذا يسدُّ ثغرةً في الواقع الاجتماعي، ويجعل المجتمع يعيش القوَّة، لأنَّ كلّ إنسان يعمل ويجاهد ويقوم بمسؤوليَّته تجاه عياله، بما يحقِّق لهم الاكتفاء الذَّاتي، يجعل المجتمع مجتمعاً قويّاً، لأنَّ مجتمع الكفاية هو مجتمع لا يحتاج إلى الآخرين، وعندما يستغني المجتمع عن الآخرين، فلا يمكن أن يخضع لهم.
حُسْنُ استثمارِ العمرِ
قيل له: كيف أصبحْت؟ ولاحظوا كيف يريدُ لنا الإمام أن نفكِّر، وما الأشياء الَّتي ينبغي أن نفكّر فيها. فنحن إذا سألنا أحد: كيف أصبحت، نقول: الحمد لله، والأمور تمام، والصّحّة جيّدة، والأولاد تعلَّموا... ألا نفكِّر هكذا؟ انظروا إلى الإمام كيف يفكِّر.
قيل له: كيف أصبحت؟ فقال (ع): "أصبحْتُ بأجلٍ منقوصٍ - فقد أعطاني الله أجلاً ينقص كلَّ يوم، كما تنزل كلّ يوم ورقة من الروزنامة، فالرّوزنامة في أوَّل السنة تكون مليئة بالأوراق، ثمَّ تسقط منها في كلِّ يوم ورقة، هذه الورقة الَّتي تنزل من الرّوزنامة تنزل من عمرك - وعملٍ محفوظٍ - لأنَّ كلَّ واحد له متلقّيان {عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق: 17]، "وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَيَّ مَعَ جَوارِحِي" - والموتُ في رقابِنا - محيطٌ بنا، لا نعرف متى يحضر - والنَّارُ من ورائِنا – إذا عصينا - ولا ندري ما يُفعلُ بنا"، في المستقبل.
على الإنسان أن يعيش كلَّ يوم على أنَّ هذا العمر ينقص، فقبل أن يذهب هذا اليوم من عمري، عليّ أن أملأه بما يرضي الله سبحانه وتعالى، وأن أعتصره حتّى يبقى لي عملي، وأكون ممن ينطبق عليه قول الله سبحانه: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46].
ثلاثةٌ مقرونةٌ بثلاثة
ثمَّ يقول الإمام (ع) فيما روي عنه: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ أمر بثلاثةٍ مقرونٍ بها ثلاثةٌ أخرى: أمرَ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ – ألا تقرأون في القرآن: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 43]؟ - فَمَنْ صلَّى ولمْ يزكِّ لَمْ تُقبَلْ صلاتُهُ – وانتبهوا إلى هذه المسألة كثيرًا، فهناك من يصلِّي صلاة اللَّيل، وعندما تأتي قصَّة الزّكاة يتمنَّع - وأمَرَ بالشُّكْرِ له وللوالديْن - {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان: 14] - فمَنْ لمْ يشكرْ والديْهِ لم يشكرِ اللهَ – وهناك حديث: "مَنْ لمْ يشكرِ المخلوقَ لم يشكرِ الخالقَ" - وأمرَ باتّقاءِ اللهِ وصلةِ الرَّحم - {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النّساء: 1] - فمن لم يصلْ رحمَهُ، لم يتَّقِ اللهَ عزَّ وجلَّ".
وكان من دعائه: "اللَّهمَّ أعطني الهدى، وثبِّتْني عليْهِ، واحشرْني عليْهِ، آمناً أمنَ مَنْ لا خوفَ عليه، ولا حزنَ ولا جزعَ، إنَّك أهلُ التَّقوى وأهلُ المغفرة".
اتّباعُ نهجِ الإمامِ (ع)
أيُّها الأحبَّة، هذه هي دروس أهل البيت (ع) الَّتي ترتفع بوعينا وروحانيَّتنا وأخلاقيَّتنا، لنكون قريبين إلى الله، حاصلين على رضاه، وذلك هو معنى الولاية لأهل البيت (ع)، أن نتَّبعهم في كلِّ ما قدَّموه لنا من تعاليم ومواعظ ونصائح، فإذا ذكرتم الإمام الرِّضا (ع)، وإذا ذهبتم إلى زيارته، وإذا وقفتم أمام قبره، فتذكَّروا كيف كان يريد للنَّاس أن يكونوا قريبين إلى الله، موحِّدين فيما بينهم، عاملين بطاعة الله، لتقبل زيارتكم، ولتقبل ولايتكم.
الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في ما تقبلون عليه مما حملكم الله مسؤوليَّته، في أموركم الخاصَّة وفي أموركم العامَّة. ومن التَّقوى، أن يكون لك تقوى الفكر، بحيث يكون فكرك منفتحاً على كلِّ خطوط مسؤوليَّتك، لتكون واعياً لكلِّ ما تخطِّط له، ولكلِّ ما تتحرَّك فيه، ولكلِّ ما تنشئه من علاقات، وما تؤكِّده من مواقف.
ومن التقوى، أن يكون كلّ عضو من أعضاء جسدك تقيّاً، بحيث يلتزم بما أحلَّ الله ليفعله، وبما حرَّم الله ليتركه، أن تكون التقوى في كلِّ أمورك الخاصَّة والعامَّة، في الأمور الماديَّة والمعنويَّة، وفي الأمور السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة.
وفي ضوء هذا، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن نتحرَّك في خطِّ كلِّ مسؤوليَّاتنا عن أنفسنا، وعن أهالينا، وعن النَّاس من حولنا، وعن المسلمين في سائر أنحاء العالم، وعن المستضعفين هنا وهناك، كلٌّ بحسب طاقته، وكلٌّ بحسب حاجته.
ومن التَّقوى أن نهتمَّ بأمور المسلمين، لأنَّ ذلك هو علامة إسلامنا، فإنَّ من لم يهتمَّ بأمور المسلمين فليس بمسلم.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ أن نعرف ماذا هناك، لنتَّخذ الموقف على أساس ذلك.
خطّةُ تهويدِ القدس
لا تزال الخطَّة الإسرائيليَّة في تهويد القدس تتحرَّك بكلِّ قوَّة، من خلال الاستيطان في القدس الشرقيَّة، وهدم منازل الفلسطينيِّين بحجَّة عدم الحصول على الرّخصة في بنائها، ومن خلال توسيع حدودها، بضمِّ بعض الضفَّة الغربيَّة إليها، وإدخال مستوطنات اليهود المحيطة بها فيها، من أجل أن يتحوَّل الفلسطينيّون إلى أقليّة.
أمَّا أمريكا، فإنَّها تضع المسألة في دائرة التَّأثير في عملية التسوية فحسب، ولا تستنكرها من ناحية المبدأ كعمل عدوانيّ ضدَّ الفلسطينيّين، ما يوحي بأنَّ الموقف الأمريكيَّ يعمل على إفساح المجال لإسرائيل لاستكمال خطَّتها التهويديَّة للقدس، تنفيذاً لقرار الكونغرس الأمريكي الَّذي اعترف بها كعاصمة أبديَّة موحَّدة لإسرائيل. وقد أعلنت وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة أخيراً معارضتها لطرح موضوع القدس في مجلس الأمن، لأنَّ ذلك - حسب زعمها - سيؤدِّي إلى نتائج معاكسة، ولن يساعد عمليَّة السَّلام، كما تقول. والمقصود بذلك، منع أيِّ إدانة دوليَّة لإسرائيل، ما يعطِّل الخطَّة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة المشتركة في حصول إسرائيل على ما تريده من القدس، وقد اتَّصلت وزيرة الخارجيَّة الأمريكيَّة بياسر عرفات في شأن هذه المسألة، في عمليَّة ضغط أمريكيّ عليه.
تناغمٌ أمريكيٌّ صهيونيّ
وإلى جانب ذلك، تبقى اللّعبة الإسرائيليّة في التجاذب الشكلي بينها وبين أمريكا، حول نسبة الانسحاب من الضفّة الغربيَّة الَّتي اقترحتها أمريكا، وامتنعت عنها إسرائيل، ولم تضغط أمريكا عليها، وإن تحدَّثت بشكل سلبيّ. ومؤخَّراً، أطلقت إسرائيل مشروع الاستفتاء على نسبة الانسحاب، من أجل تقطيع الوقت، والحصول على صمتٍ دوليّ على انتهاكات إسرائيل، ودعوةٍ لانضباط الفلسطينيّين أكثر. والغريب، أنَّ البعض من العرب يتحدَّث وكأنَّ كلَّ الآمال العربيَّة باتت معلَّقةً على هذا الاستفتاء الَّذي لم يحدِّد العدوّ طبيعته من حيث إنّه ملزم أو غير ملزم.
وهكذا يستمرُّ العدوّ في عرض عضلاته، حتَّى وصل إلى حدِّ تهديد الأمم المتَّحدة بحرمانها من أيِّ دور لها في عمليَّة التسوية، في حال وافقت على رفع مستوى تمثيل منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة، وقال مسؤول في وزارة الخارجيَّة الصّهيونيَّة، إنَّ كلَّ تحرّك للأمم المتحدة، وكلّ مرَّة تريد أن تكون ضالعةً بشكلٍ ما، حتَّى ولو بأعينها وآذانها في المنطقة، يمكننا أن نمنعه. وقد تدخَّلت أمريكا أخيراً، وقالت بأنَّها تعارض رفع تمثيل منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة في الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة، بحجَّة أنَّها تسيء إلى السَّلام، لأنَّ كلَّ ما تطلبه إسرائيل يمثِّل الأساس القانوني، والمطلب الَّذي يجب أن يراعى من قبل الأمم المتَّحدة.
وهكذا يستمرُّ العدوُّ، ولا تحرِّك أمريكا ساكناً، ولا تفرض أيَّ عقوبة على إسرائيل لانتهاكها قرارات الأمم المتَّحدة، ولكنَّها تتشدَّد في العقوبات ضدَّ العراق، بحجَّة أنَّه سلَّح رؤوس صواريخه بغاز الأعصاب، مع العلم أنَّ النظام العراقي استطاع إضعاف العالم العربي والإسلامي كلِّه، في الخضوع للأمم المتَّحدة شكلاً، وللولايات المتَّحدة مضموناً.
غيابٌ عربيٌّ في الموقف
إنَّ المشكلة هي أنَّ العرب في أكثريَّتهم السَّاحقة، لا يحركون ساكناً ضدّ ما يحدث، إلَّا بالاحتجاج الفارغ من أيّ موقف، كما حدث في اجتماع مؤتمر وزراء الإعلام العرب، حتَّى إنَّ الَّذين عملوا على خطِّ التَّطبيع الاقتصادي من دول الخليج وغيره، لم يتراجعوا قيد شعرة، وإنَّ الَّذين صالحوا العدوَّ، لم يقوموا بعمليَّة ضغط من أيّ جهةٍ كانت.
إنَّ السؤال الَّذي يفرض نفسه: أين أصبحت لجنة القدس؟ وما الموقف الجدّيّ للجامعة العربيَّة؟ وهل بقي شيء من القوَّة لهذه الجامعة الَّتي لا تستطيع أن تجمع العرب في قمَّة واحدة في أشدّ حالات التحدّي، ولا تملك أيّ فرصة لحلّ القضايا العربيّة الداخليّة؟ وماذا تعمل منظَّمة المؤتمر الإسلامي، الَّتي لا تمثّل صفةُ الإسلام شيئاً في مضمونها الحركي السياسي، لأنَّ الكثيرين من دولها خاضعون للسياسة الأمريكيَّة، وبالتَّالي للسياسة الصهيونيَّة، بشكلٍ غير مباشر.
إنَّ المرحلة تحتاج إلى موقفٍ للضَّغط لا للاحتجاج، وللقوَّة لا للضّعف، فهل يستيقظ النَّائمون؟ إنَّ الشعوب العربيَّة جاهزة للتحرّك، ولكن هل يقف حكَّامها إلى جانب طموحاتها وعنفوانها التَّأريخي المتحرّك نحو المستقبل؟!
غزلٌ أمريكيٌّ لإيران!
ومن جانب آخر، العلاقات بين أمريكا وإيران، فإنَّ الغزل الأمريكي في اللّغة التصالحيَّة مع إيران، لا يبعث على الاطمئنان، وإن كان يوحي بمناخ جديد للسياسة الأمريكيّة، لأنَّ الأسلوب الأمريكي السياسي، يلعب اللّعبة المزدوجة في العلاقات الدوليَّة، من أجل المزيد من اللّعب على الخطوط المحليَّة والإقليميَّة في إيران، والدخول على خطِّ الاتجاهات السياسيَّة الداخليَّة، من أجل العمل على اختراق بعض مواقعها.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ أمريكا تعمل الآن على التحرّك بسرعة، من أجل تجاوز سياستها في العقوبات الاقتصاديَّة ضدّ إيران، لأنَّها خسرت الكثير، في الوقت الَّذي استطاعت إيران الحصول على مكاسب اقتصاديَّة وسياسيَّة وعسكريَّة في أكثر من موقع دوليّ، بفعل الوعي للحاجات الدوليَّة للسوق الإيرانيَّة من جهة، وللموقع الاستراتيجي لإيران من جهة أخرى.
إنَّ إيرانَ لا تواجه الموقف من موقع الضّعف في مسألة العلاقات مع أمريكا، لأنَّها استطاعَتْ أن تحقِّقَ الكثيرَ من عناصرِ القوَّةِ بنفسها، مع كلِّ هذا الحصار، ولذلك، فإنَّها تتحدَّث بمنطق القوّة الواعي للتَّعقيدات الواقعيَّة في الأرض السياسيَّة. وإذا كانت أمريكا قد تحدَّثت في خطابها مع إيران، بأنَّها تريد أفعالاً لا أقوالاً، فقد ردَّت عليها إيران بالمثل، بأنَّها لا تكتفي بسماع الأقوال من واشنطن، بل لا بدَّ من اقترانها بالأفعال، وفي مقدَّمها الإفراج عن الأرصدة، وتغيير الموقف العدائي من إيران، ولكن لا تزال مشكلة أمريكا هي أنَّ اليهود هم الَّذين يضعون لها سياستها العربيَّة والإسلاميّة.
إنَّنا نعتقد أنَّ مرونة الخطاب الإسلامي السياسي الحضاري في إيران، لا يمثِّل تنازلاً عن الثَّوابت، ولكنَّه يمثّل حركيّة واقعيّة في انتقاء الأسلوب الأحسن المنفتح على المصالح الإسلاميَّة الحقيقيَّة في العلاقات الدوليَّة، على المستوى الشعبي في حوار الشعوب، وعلى المستوى السياسي في حوار الدول.
عودةُ الأسرى والشُّهداء
أمَّا على المستوى اللّبناني، فإنَّنا نرحِّب بعودة الشّهداء الأعزّاء الَّذين تعيش قلوبنا كلَّ الحزن لفراقهم، وتعيش عقولنا كلَّ الاعتزاز بمواقفهم، نرحِّب بعودتهم إلى الأرض الطيِّبة الَّتي جاهدوا في سبيل تحريرها وعزَّتها وكرامتها، كما نرحِّب بعودة أبنائنا من الشَّباب المجاهدين الأسرى الَّذين عاشوا في سجون العدوّ زهرة عمرهم، فالبعض منهم مرَّت عليه أكثر من 13 سنة، والبعض منهم عشر سنوات، وما إلى ذلك، بحيث إنّهم فقدوا زهرة عمرهم وشبابهم، وعاشوا منفصلين عن مجتمعهم، وعاشوا غياباً عن كلِّ ما في المجتمع، لأنَّ من وحشيَّة العدوّ، ولا سيَّما في معتقل الخيام، أنَّه يفصل المعتقلين عن كلِّ واقعهم، بحيث يخرجون من المعتقل، إذا خرجوا، من دون أن يعرفوا ماذا حدث في كلِّ هذه السنين.
إنَّنا نرحب بعودتهم وبعودة الشباب المجاهدين الأسرى، الَّذين عاشوا المعاناة الروحيَّة والجهاديَّة، والصَّبر الواعي، والصّمود في وجه إغراءات العدوّ، فعادوا من الأسر أبطالاً لم تستطع وحشيَّة العدوّ أن تنال من إرادتهم وعزيمتهم.
وإنَّنا ندعو الله سبحانه وتعالى أن يفرِّج عن الأسرى الباقين الَّذين لا يزالون يعيشون مرارةَ الاعتقال في سجون العدوِّ الوحشيَّة، وعلينا أن ندعو لهم دائماً بأن يفكَّ الله أسرهم.
وإنَّنا ندعو الشَّعب كلَّه إلى الاحتفال بعودتهم، لأنّهم دافعوا عن قضايا الجميع، عندما دافعوا عن عزَّة الوطن وكرامته. وقد تمثَّلت الوحدة الوطنيَّة بالأمس في الموقف الشَّعبي والرسمي الموحَّد في استقبال الشّهداء في المطار. وعلى الدَّولة أن تحفظ حقوقهم الماديَّة والمعنويَّة بعد عودتهم، ولا فرق بين الأسرى والشّهداء في رعايتهم ورعاية عوائلهم.
وإنَّنا في الوقت نفسه، نقدِّر العمليَّة النوعيَّة الناجحة الَّتي قام بها المجاهدون في المقاومة الإسلاميَّة ضدَّ العدوّ المحتلّ، وأنزلت بجنوده خسائر فادحة.
التَّفجيرات.. والسِّلم الأهليّ
وأخيراً، إنَّ التَّفجيرات الدَّاخليَّة التي لا تزال تشغل الوسط السياسيّ والأمنيّ والشَّعبي كلَّه، تخدم العدوَّ الَّذي قد يخطِّط لأكثر من عمليَّة أمنيَّة في الدَّاخل بواسطة عملائه، بشكلٍ غير مباشر، لإرباك الواقع المحلّيّ في واقع السِّلم الأهليّ. وعلى الجميع أن يكون كلُّ واحد منهم خفيراً، لأنَّه من غير المسموح شرعاً ووطنيّاً، عودة الاهتزاز الأمني الدَّاخلي، بأيّ طريقة تحصل، ومن أيِّ جهة كانت، فإنَّ الَّذين يلعبون بالنَّار سوف يحترقون بها، وإنَّ السِّلم الأهليَّ أمانة الله في أعناق الجميع.
أيّها النَّاس، اتَّقوا الله في عباده وبلاده، فإنَّكم مسؤولون حتَّى عن البقاع والبهائم.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 26/ 06/ 1998م.
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
قبل أيَّام، مرَّت علينا ذكرى وفاة الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع)، حسب بعض الرّوايات.
ونحن بحاجة دائماً إلى أن نقفَ بينَ وقتٍ وآخر مع أئمَّة أهل البيت (ع)، لنتعرَّف بعضاً من سيرتهم وأخلاقيَّاتهم وكلماتهم، ولنزدادَ معرفةً بمقامهم، لأنَّهم يمثِّلون في عقيدتنا الخطَّ الإسلاميَّ الأصيل، باعتبار أنَّهم خلفاء رسول الله وأوصياؤه.
موضعُ تقديرِ الأمَّةِ
والإمام الرّضا (ع) هو الإمام الثَّامن من أئمَّة أهل البيت (ع)، وقد ملأ المرحلة الَّتي عاشها علماً، حتَّى اعترف بعلمه وفضله التَّابعون له وغير التَّابعين، وقد قال بعض معاصريه وهو يتحدَّث عنه: "ما رأيْتُ أعلمَ من عليِّ بنِ موسى الرّضا (ع)، ولا رآهُ عالمٌ إلَّا شهدَ له بمثلِ شهادتي، ولقدْ جمعَ المأمونُ في مجالسَ له ذواتِ عددٍ علماءَ الأديانِ، وفقهاءَ الشَّريعةِ والمتكلِّمين، فغلبَهم عن آخرِهم، حتَّى ما بقيَ أحدٌ منهم إلَّا أقرَّ له بالفضلِ، وأقرَّ على نفسِهِ بالقصورِ".
ويقول بعض الرّواة عنه: "جمعْتُ مِنْ مسائلِهِ، ممَّا سُئِلَ عنه وأجابَ فيه، ثمانيةَ عشرَ ألفَ مسألةٍ".
وقد كان موضع تقدير الأمَّة في مختلف مواقعها، حتّى إنَّه عندما ذهب إلى إيران بدعوة من المأمون، بعد أن كان يعدُّ لولاية العهد، كانت الجماهير تستقبله في كلِّ بلد استقبالاً حاشداً كبيراً، وتطلب منه أن يحدِّثها عن آبائه وأجداده في حديثهم عن رسول الله (ص). وينقل الرواة أنَّه اجتمع هناك الآلاف من النَّاس وهم يقولون له: حدِّثْنا يا بنَ رسولِ الله، فبدأ يحدّثهم، قال (ع): "حدَّثَني أبي موسى بنُ جعفر، قالَ: حدَّثَني أبي جعفرُ بنُ محمَّدٍ، قالَ: حدَّثَني أبي محمَّدُ بنُ عليٍّ، قالَ: حدَّثَني أبي عليُّ بنُ الحسينِ، قالَ: حدَّثَني أبي الحسينُ بنُ عليٍّ، قالَ: حدَّثَني أبي عليُّ بنُ أبي طالبٍ (ع)، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ (ص): يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: لا إلهَ إلَّا الله حصني، فمَنْ دخلَهُ أَمِنَ من عذابي". ثمَّ التفت إليهم الإمام (ع)، وقد أطلَّ برأسه من المحمل، كما يرويها بعض الرّواة، وقال: "بشرطِها وشروطِها، وأنا من شروطِها".
ولعلَّ حاجة المأمون إلى أن يولِّيَه ولاية العهد من بعده، بعد أن حاربه أهله وأبناء عمِّه في صراعه مع أخيه محمَّد الأمين، فباعتبار ما يملكه الإمام (ع) من امتدادٍ جماهيريٍّ في الواقع الإسلاميّ كلِّه. وقد اختلفت الرِّوايات في تفسير قبول الإمام (ع) ولايةَ العهد، مما يطول المقام بذكره، ولكنَّ الإمام (ع) في كلِّ سيرته في تلك المرحلة، وما قبل تلك المرحلة، كان يمثِّل رسول الله (ص) في كلِّ صفاته الخاصَّة والعامَّة. وننقل هنا صورة لأخلاقيَّته الاجتماعيّة والذاتيَّة.
من أخلاقيَّاتِ الإمامِ (ع)
ينقل بعض الرّواة المعاصرين له، وهو إبراهيم بن العبَّاس، قال: "مَا رأيْتُ أبا الحسنِ الرِّضا (ع) جفا أحداً بكلمةٍ قطُّ – أي أنَّه لم يتكلَّم بأيِّ كلام جافٍ أو قاسٍ مع أحد قطّ - ولا رأيْتُهُ قطعَ على أحدٍ كلامَهُ حتَّى يفرغَ منْه - كان إذا تحدَّث معه شخص، تركه يسترسل في كلامه، فلا يقطع عليه كلامه - وما ردَّ أحداً عن حاجةٍ يقدرُ عليْها - إذا قصده النَّاس في حاجاتهم، وكان قادراً على قضائها، فإنَّه لا يردّ أحداً عن حاجته - ولا مدَّ رجليْهِ بينَ يدَيْ جليسٍ لهُ قطُّ - كان يحترم جلساءه، فلا يمدُّ رجليه أمامهم - ولا اتَّكأَ بينَ يدَيْ جليسٍ له قطُّ – وهذا أيضاً من الاحترام والتّوقير لجلسائه - ولا رأيتُهُ شتمَ أحداً مِنْ مواليهِ ومماليكِهِ قطُّ – حتَّى لو أساؤوا إليه، أو أتوا بشيءٍ يستوجب ذلك - ولا رأيْتُهُ تَفلَ قطُّ – كان لا يتجاهر بذلك - ولا رأيتُهُ يقهقِهُ في ضحكِهِ قطُّ، بلْ كانَ ضحكُهُ التَّبسُّمُ – فعندما كان يضحك، لم يكن يرسل صوتاً في ضحكته - وكان إذا خلا ونُصِبَتْ مائدتُه، أجلسَ معَهُ على مائدتِهِ مماليكَهُ ومواليه، حتَّى البوَّابَ والسَّائسّ - لأنَّه كان يحترم الناس، من دون مراعاة للجانب الطبقيّ.
ولذلك قال بعض النَّاس: "كنت مع الرّضا (ع) في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السّودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة؟ فقال (ع): مَهْ، إنَّ الرَّبَّ تباركَ وتعالَى واحدٌ، والأمّ واحدةٌ، والأب واحدٌ، والجزاء بالأعمالِ"، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13].
فهؤلاء قد يكونون في مستوى طبقيّ معيَّن، أو قد يكونون من العبيد، فيما هي قضيّة السّادة والعبيد آنذاك، لكنَّهم في إنسانيَّتهم مخلوقون لله كما أنا مخلوق {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى}[الحجرات: 13]، وأمّنا وأبونا واحد، فما الَّذي يميِّزهم عنَّي، ليس هناك ميزة، وإنَّما الميزة بالأعمال، فإذا كان لي عمل أكثر منهم، فعندئذٍ أتميّز عنهم. هكذا كانت سيرته (ع).
- وكان (ع) قليلَ النَّومِ باللَّيل، كثيرَ السَّهرِ، يحيي أكثرَ لياليهِ من أوَّلِها إلى الصّبحِ، وكانَ كثيرَ الصِّيامِ، فلا يفوتُهُ صيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ في الشَّهرِ، ويقولُ: ذلكَ صومُ الدَّهرِ، وكانَ (ع) كثيرَ المعروفِ والصَّدقةِ في السّرِّ، وأكثرُ ذلك يكونُ منه في اللَّيالي المظلمةِ، فمَنْ زعمَ أنَّه رأى مثلَهُ في فضلِهِ، فلا تصدِّقوه". فهو يقول إنَّ الرّضا (ع) هو الشَّخص الوحيد في كلِّ عصره بهذه الصّفات.
ونحن نريد أن نتوقَّف عند بعض كلماته (ع)، حتَّى نستطيع أن نستفيد في دروسه من حياتنا الاجتماعيَّة.
المقياسُ في العبادة
من بعض الكلمات المرويَّة عنه (ع): "ليسَ العبادةُ كثرةَ الصَّلاةِ والصَّومِ، وإنَّما العبادةُ كثرةُ التفكّرِ في أمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ". فالإمام (ع) يقول إنَّ المقياس في العبادة ليس كثرة صلاتك وصومك، لأنَّك ربَّما تكثر صلاتك أو يكثر صومك من دون وعي ومعرفة، لأنَّ العبادة معناها الخضوع لله، ومسألة الخضوع تتَّصل بالعقل، فأنت الآن بمقدار ما تعرف الله أكثر في عقلك، يخشع عقلك له، ويخضع عقلك له. ولذلك العبادة هي الخضوع لله في قلبك، بأن يخشع قلبك لذكر الله {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأنفال: 2]. ولذلك، لا يمكن أن يرتجف قلبك بذكر الله ويخشع له، إلَّا إذا كنت عارفاً به سبحانه.
ولذلك، يقول الإمام (ع) إنَّ على الإنسان أن يقضي وقته في التفكّر في أمر الله؛ أن تتفكَّر في عظمة الله من خلال عظمة خلقه في كلِّ أسرار الخلق، وأن تتفكَّر في نعم الله عليك، فإذا ازدادَ تفكيرُكَ في ذلك كلِّه، عند ذلك، تكبر معرفة الله في عقلك، فيخشع عقلك لذكر الله، وتكبر عظمة الله في قلبك، فيخشع قلبك لذكر الله. وعلى هذا الأساس، إذا عظم الله في قلبك وفي عقلك، عند ذلك تكون صلاتك صلاة الإنسان الخاشع لربِّه، الخاضع بين يديه. أمَّا الإنسان الَّذي لا يعرف الله، ولا تتربَّى عظمة الله في نفسه، فإنَّه قد يصلِّي، ولكنَّه لا يعرف من صلاته أيّ شيء.
إنَّ عالم العبادة عالم داخليّ؛ أن يصلِّي عقلك، وأن يصلِّي قلبك، وأن تصلّي أحاسيسك ومشاعرك، ليتمثَّل ذلك في صلاتك، في لسانك، أو في بدنك.
التَّوسعةُ على العيال
ويحدِّثنا (ع) عن صاحب النِّعمة، وهو الَّذي وسَّع الله عليه في ماله، فيقول (ع) إنَّه إذا وسَّع الله عليك في مالك، فإنَّ ذلك يحمِّلك مسؤوليَّة أن توسِّع على عيالك، لأنَّ بعض النَّاس، يعطيه الله، ولكنَّه يبخل على عياله. وأنا دائماً أُسأَلُ من قبل الكثير من الزَّوجات، أنَّ زوجها لديه مال كثير، ولكنَّه يقتّر على عياله، يحرم زوجته وأولاده ويعطيهم أقلَّ المصروف. ولذلك هناك من الزَّوجات مَن تسأل فيما إذا كان يجوز أن تأخذَ من جيب زوجها لتشتري حاجات البيت، وليس لنفسها. وهذا يحدث باعتبار أنَّ صاحب العائلة يبخل على عياله، مع أنَّ الله رزقه، لو أنَّه لم يكن قادراً على الإنفاق فلا مشكلة {ليُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}[الطّلاق: 7]، ولكن إذا وسَّع الله عليك، فلماذا تضيِّق على عيالك؟!
يقول الإمام الرِّضا (ع)، حسب هذه الرّواية - وهناك من النَّاس من يزور الإمام الرِّضا (ع)، وينفق المال، وعندما يأتي إلى بيته، يقتِّر على عياله -: "صَاحِبُ النِّعْمَةِ يَجِبُ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى عِيَالِهِ". والسَّبب، أنَّ الله عندما يعطيك، إذا كنت صاحب عائلة، فإنَّه لا يعطيك رزقَك فقط، بل يعطيك رزقَك ورزقَ عائلتك، لأنّك عندما تحمَّلْتَ مسؤوليَّة عائلتك، معناه أنَّ اللهَ عندما يعطيك، يعطيك أنت ويعطي عيالك وزوجتك، لأنَّ الله جعل رزقهم على يدك. لذلك، فإنَّك عندما تقتر عليهم، تقتر من مالهم وليس من مالك، لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النّور: 33]، فالله فرض عليك أن توسِّع على عيالك.
بعض النَّاس يوسِّع الله عليه، ولكن يصرف أمواله في القمار، أو يصرفها في اللَّهو والعربدة وعلى النّساء والخمر، وما إلى ذلك. أتعرفون ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنَّه يسرق حليبَ أطفاله، ويسرق لقمةَ أطفاله، وثيابَ أطفاله، ويسرق قسط المدرسة الَّذي يحتاجونه، معنى ذلك أنّك سارقٌ لصٌّ تسرق الضّعفاء الَّذين هم بين يديك.
هذا معنى أن يعطيه الله، وأن يصرف ما يعطيه الله لحسابه وحساب عياله: "إنَّ المعونةَ تأتي العبدَ منَ اللهِ على قدرِ المؤونةِ".
وهذه النّقطة يجب أن تُفهَم، أيُّها الأحبَّة، لا تجعلوا نساءكم يشعرن بضيق وضغط عليهنَّ وعلى أطفالهنَّ، حتَّى تضطرَّ الزَّوجة أن تأخذ من جيب زوجها، فتقع هي في إشكال شرعيّ، وتواجه أنت واقعاً غير جيِّد: "صاحبُ النِّعمةِ يجبُ أن يوسِّعَ على عيالِهِ".
النَّظافةُ خلقُ الأنبياءِ
ومن كلمات الإمام الرَّضا (ع)، وهي موجَّهة إلى واقع المسلمين في شوارعهم وفي قراهم، وفي بيوتهم وفي أجسادهم: "مِنْ أخلاقِ الأنبياءِ التَّنظيفُ"، وعندنا حديثٌ يقول: "النَّظافةُ مِنَ الإيمانِ". ومعنى ذلك، أنَّ خلقَ الأنبياء وسيرةَ الأنبياء، والأئمَّة (ع) هم في صراطِ الأنبياء، والمؤمنونَ أيضاً في خطِّ الأنبياء، أنَّه لا بدَّ أن يحافظوا على النَّظافة؛ أن ينظِّفوا أجسادَهم وثيابَهم، وأن ينظِّفوا بيوتَهم وشوارعَهم وقراهم، وما إلى ذلك، باعتبار أنَّ هذا يمثِّل المظهرَ الحضاريَّ المشرقَ للإسلام وللإيمان وللمسلمين وللمؤمنين.
ائتمانُ الخائنِ!
ومن كلمةٍ له (ع) تعالج قضايا بعض النَّاس الَّذين يأتمنون بعض الأشخاص من دون تدقيق، ومن دون دراسة، ومن دون أن يسألوا عن أمانتهم، وبعد ذلك، يخونه هؤلاء الَّذين ائتمنهم، فيقول: تعالوا وانظروا إلى هؤلاء الأمناء كيف خانوا، فالإمام (ع) يقول: "ما خانَكَ الأمينُ، ولكن ائتمَنْتَ الخائنَ"، الأمين لا يخون، ولكن ربَّما أنَّك أنت لا تميِّز بين الأمين وغير الأمين، لربّما لا تدرس أنت هذا الإنسان الَّذي تأتمنه على مالك أو على سرِّك، أو تأتمنه على عرضك، أو تأتمنه على وطنك... بل تؤخذ بالأشياء الظَّاهريَّة وبالأمور السَّطحيَّة، فأنت الَّذي لا تدقِّق في الأمور والأشخاص.
وهذا موجود، أيُّها الأحبَّة، في واقعنا، وهذا حصل مع كثير من النَّاس، عندما صار البعض يقول للنَّاس: أعطني أموالك وأعطيك ربحاً 75%.. فكِّر بعقلك؛ من الَّذي يستطيع أن يربح 10% في هذه الأيَّام والظّروف؟! يمكن أن يعطيك في الشَّهر الأوَّل والثَّاني، ولكن بعدها ستخسر أموالك...
لا تقل: فلان خانني، فلان أكل مالي، ولكن هل درست فلاناً، ودرست قضيَّة المعاملة، هل هي معاملة معقولة أم لا؟! هناك تجَّار كبار يقولون لك إنَّ ربحهم هو بالكاد 5 ٪، فكيف يعطيك هذا 20٪ أو 30٪ أو 40٪، من أين يأتي بهم؟! ولكن ليس هناك وعي للأشياء.
الإمام (ع) يقول لك عندما تأتمن أحداً على مالك، أو على سرِّك، أو على سياستك، عندما تعطي صوتك لهذا أو لذاك، تحت عنوان أنَّ العائله تريده، أو أنَّ الضّيعة تريده، أو أنَّ الجماعة الفلانيَّة تريده.. تذكَّر أنَّ صوتك أمانة، وسيحاسبك الله عليه غداً بكلِّ التَّأثيرات السَّلبيَّة، سواء كان الصَّوت للبلديَّة أو للنّيابة أو للمخاتير، أو أيّ شيء من الأشياء...
أيضاً، عندما تزوِّج ابنتك، فلا تقل هذا ابن أخي، وهذا ابن عمّي، وهذا نعرف أباه.. بل ادرسه هو بنفسه واعرفه هو: "إذا جاءَكُم من ترضونَ خلقَهُ ودينَهُ فزوِّجوه..."، وليس من إذا جاءكم من ترضون ماله، أو من ترضون نسبه، أو من ترضون وجاهتَه، لأنَّ ابنتك لن تعيش مع آبائه وأجداده لتقول إنَّ هذا نسب عريق، ولن تعيش مع خزائن أمواله، بل ستعيش مع أخلاقه، لأنَّ الإنسان خلق ودين...
فلا تقل إنَّ الأمين خانني، بل أنت ائتمنت الخائن، ولا تقل إنَّ المؤمن خانني، فهذا ليس مؤمناً، وأنت لم تدرسه، وقد ورد عن أهل البيت (ع): "لا تنظروا إلى كثرةِ صلاتِهم وصومِهم، وكثرةِ الحجِّ والمعروفِ، وطنطنتِهم باللَّيلِ، ولكن انظرُوا إلى صِدقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ"، فالمؤمن من إذا قال صدق، وإذا ائْتُمِنَ وفى.
خيارُ العبادِ
سُئِلَ الإمام (ع) عن خيار العباد، فقال: "الَّذينَ إذا أحسنُوا استبشُروا – إذا صدر عنه خير وإحسان في علاقته مع ربِّه، وفي علاقته مع النّاس، وفي مسؤوليّته في الحياة، يفرح ويستبشر بالخير الصَّادر عنه.
- وإذا أساؤُوا استغفرُوا – فإذا حصلَتْ منه إساءة إلى الله، في أيِّ عملٍ فيه معصية لله، فرأساً، بمجرَّد أن ينتبه إلى إساءته، يستغفر الله {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}[الأعراف: 201]، ولا ينتظر عشرين سنة أو ثلاثين سنة ليتوب، كما يفعل بعض النَّاس... وأنا أختار لكم هذا البيت:
لا تقلْ في غدٍ أتوبُ لعلَّ الـ غدَ يأتي وأنتَ تحتَ التّرابِ
- وإذا أُعْطوا شَكَروا - فإذا أعطاهم أحد شيئاً شكروه، لأنَّ على الإنسان أن يشكر الخالق ويشكر المخلوق؛ إذا أعطاهم الله شكروه بالخير والعمل، وإذا أعطاهم النَّاس شكروه بما ينبغي أن يشكروا به.
- وإذا ابتُلُوا صَبَرُوا - فلا يجزع عندما تأتيه المشاكل والابتلاءات، والإمام عليّ (ع) يقول: "الصَّبر منَ الإيمانِ بمنزلةِ الرَّأسِ منَ الجسدِ، فكما لا خيرَ في جسدٍ لا رأسَ معَهُ، لا خيرَ في إيمانٍ لا صبرَ معَهُ".
- وإذا غَضِبوا غَفَروا"، يبادرون الشَّخص بالعفو عنه فيما عمله بالنِّسبة إليهم.
الأعظمُ أجراً منَ المجاهدِ
ثمَّ يقول أيضاً، وهذه إشارة لكلِّ العمَّال، ولكلِّ التجَّار، ولكلِّ العاملين في سبيل عيالهم، مع المحافظة على خطِّ التَّقوى في كلِّ عملهم وتجارتهم وسعيهم: "إنَّ الَّذي يطلبُ من فضلٍ يكفُّ به عيالَهُ، أعظمُ أجراً منَ المجاهدِ في سبيلِ اللهِ"، لأنَّ ذاكَ المجاهدَ يسدُّ ثغرةً في مواجهة العدوّ، ولكن هذا يسدُّ ثغرةً في الواقع الاجتماعي، ويجعل المجتمع يعيش القوَّة، لأنَّ كلّ إنسان يعمل ويجاهد ويقوم بمسؤوليَّته تجاه عياله، بما يحقِّق لهم الاكتفاء الذَّاتي، يجعل المجتمع مجتمعاً قويّاً، لأنَّ مجتمع الكفاية هو مجتمع لا يحتاج إلى الآخرين، وعندما يستغني المجتمع عن الآخرين، فلا يمكن أن يخضع لهم.
حُسْنُ استثمارِ العمرِ
قيل له: كيف أصبحْت؟ ولاحظوا كيف يريدُ لنا الإمام أن نفكِّر، وما الأشياء الَّتي ينبغي أن نفكّر فيها. فنحن إذا سألنا أحد: كيف أصبحت، نقول: الحمد لله، والأمور تمام، والصّحّة جيّدة، والأولاد تعلَّموا... ألا نفكِّر هكذا؟ انظروا إلى الإمام كيف يفكِّر.
قيل له: كيف أصبحت؟ فقال (ع): "أصبحْتُ بأجلٍ منقوصٍ - فقد أعطاني الله أجلاً ينقص كلَّ يوم، كما تنزل كلّ يوم ورقة من الروزنامة، فالرّوزنامة في أوَّل السنة تكون مليئة بالأوراق، ثمَّ تسقط منها في كلِّ يوم ورقة، هذه الورقة الَّتي تنزل من الرّوزنامة تنزل من عمرك - وعملٍ محفوظٍ - لأنَّ كلَّ واحد له متلقّيان {عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق: 17]، "وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَيَّ مَعَ جَوارِحِي" - والموتُ في رقابِنا - محيطٌ بنا، لا نعرف متى يحضر - والنَّارُ من ورائِنا – إذا عصينا - ولا ندري ما يُفعلُ بنا"، في المستقبل.
على الإنسان أن يعيش كلَّ يوم على أنَّ هذا العمر ينقص، فقبل أن يذهب هذا اليوم من عمري، عليّ أن أملأه بما يرضي الله سبحانه وتعالى، وأن أعتصره حتّى يبقى لي عملي، وأكون ممن ينطبق عليه قول الله سبحانه: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46].
ثلاثةٌ مقرونةٌ بثلاثة
ثمَّ يقول الإمام (ع) فيما روي عنه: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ أمر بثلاثةٍ مقرونٍ بها ثلاثةٌ أخرى: أمرَ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ – ألا تقرأون في القرآن: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 43]؟ - فَمَنْ صلَّى ولمْ يزكِّ لَمْ تُقبَلْ صلاتُهُ – وانتبهوا إلى هذه المسألة كثيرًا، فهناك من يصلِّي صلاة اللَّيل، وعندما تأتي قصَّة الزّكاة يتمنَّع - وأمَرَ بالشُّكْرِ له وللوالديْن - {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان: 14] - فمَنْ لمْ يشكرْ والديْهِ لم يشكرِ اللهَ – وهناك حديث: "مَنْ لمْ يشكرِ المخلوقَ لم يشكرِ الخالقَ" - وأمرَ باتّقاءِ اللهِ وصلةِ الرَّحم - {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النّساء: 1] - فمن لم يصلْ رحمَهُ، لم يتَّقِ اللهَ عزَّ وجلَّ".
وكان من دعائه: "اللَّهمَّ أعطني الهدى، وثبِّتْني عليْهِ، واحشرْني عليْهِ، آمناً أمنَ مَنْ لا خوفَ عليه، ولا حزنَ ولا جزعَ، إنَّك أهلُ التَّقوى وأهلُ المغفرة".
اتّباعُ نهجِ الإمامِ (ع)
أيُّها الأحبَّة، هذه هي دروس أهل البيت (ع) الَّتي ترتفع بوعينا وروحانيَّتنا وأخلاقيَّتنا، لنكون قريبين إلى الله، حاصلين على رضاه، وذلك هو معنى الولاية لأهل البيت (ع)، أن نتَّبعهم في كلِّ ما قدَّموه لنا من تعاليم ومواعظ ونصائح، فإذا ذكرتم الإمام الرِّضا (ع)، وإذا ذهبتم إلى زيارته، وإذا وقفتم أمام قبره، فتذكَّروا كيف كان يريد للنَّاس أن يكونوا قريبين إلى الله، موحِّدين فيما بينهم، عاملين بطاعة الله، لتقبل زيارتكم، ولتقبل ولايتكم.
الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في ما تقبلون عليه مما حملكم الله مسؤوليَّته، في أموركم الخاصَّة وفي أموركم العامَّة. ومن التَّقوى، أن يكون لك تقوى الفكر، بحيث يكون فكرك منفتحاً على كلِّ خطوط مسؤوليَّتك، لتكون واعياً لكلِّ ما تخطِّط له، ولكلِّ ما تتحرَّك فيه، ولكلِّ ما تنشئه من علاقات، وما تؤكِّده من مواقف.
ومن التقوى، أن يكون كلّ عضو من أعضاء جسدك تقيّاً، بحيث يلتزم بما أحلَّ الله ليفعله، وبما حرَّم الله ليتركه، أن تكون التقوى في كلِّ أمورك الخاصَّة والعامَّة، في الأمور الماديَّة والمعنويَّة، وفي الأمور السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة.
وفي ضوء هذا، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن نتحرَّك في خطِّ كلِّ مسؤوليَّاتنا عن أنفسنا، وعن أهالينا، وعن النَّاس من حولنا، وعن المسلمين في سائر أنحاء العالم، وعن المستضعفين هنا وهناك، كلٌّ بحسب طاقته، وكلٌّ بحسب حاجته.
ومن التَّقوى أن نهتمَّ بأمور المسلمين، لأنَّ ذلك هو علامة إسلامنا، فإنَّ من لم يهتمَّ بأمور المسلمين فليس بمسلم.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ أن نعرف ماذا هناك، لنتَّخذ الموقف على أساس ذلك.
خطّةُ تهويدِ القدس
لا تزال الخطَّة الإسرائيليَّة في تهويد القدس تتحرَّك بكلِّ قوَّة، من خلال الاستيطان في القدس الشرقيَّة، وهدم منازل الفلسطينيِّين بحجَّة عدم الحصول على الرّخصة في بنائها، ومن خلال توسيع حدودها، بضمِّ بعض الضفَّة الغربيَّة إليها، وإدخال مستوطنات اليهود المحيطة بها فيها، من أجل أن يتحوَّل الفلسطينيّون إلى أقليّة.
أمَّا أمريكا، فإنَّها تضع المسألة في دائرة التَّأثير في عملية التسوية فحسب، ولا تستنكرها من ناحية المبدأ كعمل عدوانيّ ضدَّ الفلسطينيّين، ما يوحي بأنَّ الموقف الأمريكيَّ يعمل على إفساح المجال لإسرائيل لاستكمال خطَّتها التهويديَّة للقدس، تنفيذاً لقرار الكونغرس الأمريكي الَّذي اعترف بها كعاصمة أبديَّة موحَّدة لإسرائيل. وقد أعلنت وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة أخيراً معارضتها لطرح موضوع القدس في مجلس الأمن، لأنَّ ذلك - حسب زعمها - سيؤدِّي إلى نتائج معاكسة، ولن يساعد عمليَّة السَّلام، كما تقول. والمقصود بذلك، منع أيِّ إدانة دوليَّة لإسرائيل، ما يعطِّل الخطَّة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة المشتركة في حصول إسرائيل على ما تريده من القدس، وقد اتَّصلت وزيرة الخارجيَّة الأمريكيَّة بياسر عرفات في شأن هذه المسألة، في عمليَّة ضغط أمريكيّ عليه.
تناغمٌ أمريكيٌّ صهيونيّ
وإلى جانب ذلك، تبقى اللّعبة الإسرائيليّة في التجاذب الشكلي بينها وبين أمريكا، حول نسبة الانسحاب من الضفّة الغربيَّة الَّتي اقترحتها أمريكا، وامتنعت عنها إسرائيل، ولم تضغط أمريكا عليها، وإن تحدَّثت بشكل سلبيّ. ومؤخَّراً، أطلقت إسرائيل مشروع الاستفتاء على نسبة الانسحاب، من أجل تقطيع الوقت، والحصول على صمتٍ دوليّ على انتهاكات إسرائيل، ودعوةٍ لانضباط الفلسطينيّين أكثر. والغريب، أنَّ البعض من العرب يتحدَّث وكأنَّ كلَّ الآمال العربيَّة باتت معلَّقةً على هذا الاستفتاء الَّذي لم يحدِّد العدوّ طبيعته من حيث إنّه ملزم أو غير ملزم.
وهكذا يستمرُّ العدوّ في عرض عضلاته، حتَّى وصل إلى حدِّ تهديد الأمم المتَّحدة بحرمانها من أيِّ دور لها في عمليَّة التسوية، في حال وافقت على رفع مستوى تمثيل منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة، وقال مسؤول في وزارة الخارجيَّة الصّهيونيَّة، إنَّ كلَّ تحرّك للأمم المتحدة، وكلّ مرَّة تريد أن تكون ضالعةً بشكلٍ ما، حتَّى ولو بأعينها وآذانها في المنطقة، يمكننا أن نمنعه. وقد تدخَّلت أمريكا أخيراً، وقالت بأنَّها تعارض رفع تمثيل منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة في الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة، بحجَّة أنَّها تسيء إلى السَّلام، لأنَّ كلَّ ما تطلبه إسرائيل يمثِّل الأساس القانوني، والمطلب الَّذي يجب أن يراعى من قبل الأمم المتَّحدة.
وهكذا يستمرُّ العدوُّ، ولا تحرِّك أمريكا ساكناً، ولا تفرض أيَّ عقوبة على إسرائيل لانتهاكها قرارات الأمم المتَّحدة، ولكنَّها تتشدَّد في العقوبات ضدَّ العراق، بحجَّة أنَّه سلَّح رؤوس صواريخه بغاز الأعصاب، مع العلم أنَّ النظام العراقي استطاع إضعاف العالم العربي والإسلامي كلِّه، في الخضوع للأمم المتَّحدة شكلاً، وللولايات المتَّحدة مضموناً.
غيابٌ عربيٌّ في الموقف
إنَّ المشكلة هي أنَّ العرب في أكثريَّتهم السَّاحقة، لا يحركون ساكناً ضدّ ما يحدث، إلَّا بالاحتجاج الفارغ من أيّ موقف، كما حدث في اجتماع مؤتمر وزراء الإعلام العرب، حتَّى إنَّ الَّذين عملوا على خطِّ التَّطبيع الاقتصادي من دول الخليج وغيره، لم يتراجعوا قيد شعرة، وإنَّ الَّذين صالحوا العدوَّ، لم يقوموا بعمليَّة ضغط من أيّ جهةٍ كانت.
إنَّ السؤال الَّذي يفرض نفسه: أين أصبحت لجنة القدس؟ وما الموقف الجدّيّ للجامعة العربيَّة؟ وهل بقي شيء من القوَّة لهذه الجامعة الَّتي لا تستطيع أن تجمع العرب في قمَّة واحدة في أشدّ حالات التحدّي، ولا تملك أيّ فرصة لحلّ القضايا العربيّة الداخليّة؟ وماذا تعمل منظَّمة المؤتمر الإسلامي، الَّتي لا تمثّل صفةُ الإسلام شيئاً في مضمونها الحركي السياسي، لأنَّ الكثيرين من دولها خاضعون للسياسة الأمريكيَّة، وبالتَّالي للسياسة الصهيونيَّة، بشكلٍ غير مباشر.
إنَّ المرحلة تحتاج إلى موقفٍ للضَّغط لا للاحتجاج، وللقوَّة لا للضّعف، فهل يستيقظ النَّائمون؟ إنَّ الشعوب العربيَّة جاهزة للتحرّك، ولكن هل يقف حكَّامها إلى جانب طموحاتها وعنفوانها التَّأريخي المتحرّك نحو المستقبل؟!
غزلٌ أمريكيٌّ لإيران!
ومن جانب آخر، العلاقات بين أمريكا وإيران، فإنَّ الغزل الأمريكي في اللّغة التصالحيَّة مع إيران، لا يبعث على الاطمئنان، وإن كان يوحي بمناخ جديد للسياسة الأمريكيّة، لأنَّ الأسلوب الأمريكي السياسي، يلعب اللّعبة المزدوجة في العلاقات الدوليَّة، من أجل المزيد من اللّعب على الخطوط المحليَّة والإقليميَّة في إيران، والدخول على خطِّ الاتجاهات السياسيَّة الداخليَّة، من أجل العمل على اختراق بعض مواقعها.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ أمريكا تعمل الآن على التحرّك بسرعة، من أجل تجاوز سياستها في العقوبات الاقتصاديَّة ضدّ إيران، لأنَّها خسرت الكثير، في الوقت الَّذي استطاعت إيران الحصول على مكاسب اقتصاديَّة وسياسيَّة وعسكريَّة في أكثر من موقع دوليّ، بفعل الوعي للحاجات الدوليَّة للسوق الإيرانيَّة من جهة، وللموقع الاستراتيجي لإيران من جهة أخرى.
إنَّ إيرانَ لا تواجه الموقف من موقع الضّعف في مسألة العلاقات مع أمريكا، لأنَّها استطاعَتْ أن تحقِّقَ الكثيرَ من عناصرِ القوَّةِ بنفسها، مع كلِّ هذا الحصار، ولذلك، فإنَّها تتحدَّث بمنطق القوّة الواعي للتَّعقيدات الواقعيَّة في الأرض السياسيَّة. وإذا كانت أمريكا قد تحدَّثت في خطابها مع إيران، بأنَّها تريد أفعالاً لا أقوالاً، فقد ردَّت عليها إيران بالمثل، بأنَّها لا تكتفي بسماع الأقوال من واشنطن، بل لا بدَّ من اقترانها بالأفعال، وفي مقدَّمها الإفراج عن الأرصدة، وتغيير الموقف العدائي من إيران، ولكن لا تزال مشكلة أمريكا هي أنَّ اليهود هم الَّذين يضعون لها سياستها العربيَّة والإسلاميّة.
إنَّنا نعتقد أنَّ مرونة الخطاب الإسلامي السياسي الحضاري في إيران، لا يمثِّل تنازلاً عن الثَّوابت، ولكنَّه يمثّل حركيّة واقعيّة في انتقاء الأسلوب الأحسن المنفتح على المصالح الإسلاميَّة الحقيقيَّة في العلاقات الدوليَّة، على المستوى الشعبي في حوار الشعوب، وعلى المستوى السياسي في حوار الدول.
عودةُ الأسرى والشُّهداء
أمَّا على المستوى اللّبناني، فإنَّنا نرحِّب بعودة الشّهداء الأعزّاء الَّذين تعيش قلوبنا كلَّ الحزن لفراقهم، وتعيش عقولنا كلَّ الاعتزاز بمواقفهم، نرحِّب بعودتهم إلى الأرض الطيِّبة الَّتي جاهدوا في سبيل تحريرها وعزَّتها وكرامتها، كما نرحِّب بعودة أبنائنا من الشَّباب المجاهدين الأسرى الَّذين عاشوا في سجون العدوّ زهرة عمرهم، فالبعض منهم مرَّت عليه أكثر من 13 سنة، والبعض منهم عشر سنوات، وما إلى ذلك، بحيث إنّهم فقدوا زهرة عمرهم وشبابهم، وعاشوا منفصلين عن مجتمعهم، وعاشوا غياباً عن كلِّ ما في المجتمع، لأنَّ من وحشيَّة العدوّ، ولا سيَّما في معتقل الخيام، أنَّه يفصل المعتقلين عن كلِّ واقعهم، بحيث يخرجون من المعتقل، إذا خرجوا، من دون أن يعرفوا ماذا حدث في كلِّ هذه السنين.
إنَّنا نرحب بعودتهم وبعودة الشباب المجاهدين الأسرى، الَّذين عاشوا المعاناة الروحيَّة والجهاديَّة، والصَّبر الواعي، والصّمود في وجه إغراءات العدوّ، فعادوا من الأسر أبطالاً لم تستطع وحشيَّة العدوّ أن تنال من إرادتهم وعزيمتهم.
وإنَّنا ندعو الله سبحانه وتعالى أن يفرِّج عن الأسرى الباقين الَّذين لا يزالون يعيشون مرارةَ الاعتقال في سجون العدوِّ الوحشيَّة، وعلينا أن ندعو لهم دائماً بأن يفكَّ الله أسرهم.
وإنَّنا ندعو الشَّعب كلَّه إلى الاحتفال بعودتهم، لأنّهم دافعوا عن قضايا الجميع، عندما دافعوا عن عزَّة الوطن وكرامته. وقد تمثَّلت الوحدة الوطنيَّة بالأمس في الموقف الشَّعبي والرسمي الموحَّد في استقبال الشّهداء في المطار. وعلى الدَّولة أن تحفظ حقوقهم الماديَّة والمعنويَّة بعد عودتهم، ولا فرق بين الأسرى والشّهداء في رعايتهم ورعاية عوائلهم.
وإنَّنا في الوقت نفسه، نقدِّر العمليَّة النوعيَّة الناجحة الَّتي قام بها المجاهدون في المقاومة الإسلاميَّة ضدَّ العدوّ المحتلّ، وأنزلت بجنوده خسائر فادحة.
التَّفجيرات.. والسِّلم الأهليّ
وأخيراً، إنَّ التَّفجيرات الدَّاخليَّة التي لا تزال تشغل الوسط السياسيّ والأمنيّ والشَّعبي كلَّه، تخدم العدوَّ الَّذي قد يخطِّط لأكثر من عمليَّة أمنيَّة في الدَّاخل بواسطة عملائه، بشكلٍ غير مباشر، لإرباك الواقع المحلّيّ في واقع السِّلم الأهليّ. وعلى الجميع أن يكون كلُّ واحد منهم خفيراً، لأنَّه من غير المسموح شرعاً ووطنيّاً، عودة الاهتزاز الأمني الدَّاخلي، بأيّ طريقة تحصل، ومن أيِّ جهة كانت، فإنَّ الَّذين يلعبون بالنَّار سوف يحترقون بها، وإنَّ السِّلم الأهليَّ أمانة الله في أعناق الجميع.
أيّها النَّاس، اتَّقوا الله في عباده وبلاده، فإنَّكم مسؤولون حتَّى عن البقاع والبهائم.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 26/ 06/ 1998م.