الانطلاق مع الإسلام في حركة إنسانيَّة عالميَّة

الانطلاق مع الإسلام في حركة إنسانيَّة عالميَّة

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 24/8/1409هـ/ الموافق: 31 آذار 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، وقد جاء فيها:

ربما تكون هذه الجمعة آخر خطبةٍ من شعبان، لأنَّ شعبان إذا كان ناقصاً، فالجمعة القادمة هي أوَّل أيّام شهر رمضان، وإذا كان تامّاً، فإنَّ السَّبت الَّذي يأتي بعدها هو أوَّل شهر رمضان..

شهر التّعبئة الرّوحيّة

وقد ورد في حديث السّيرة النّبويَّة الشّريفة، أنَّ رسول الله(ص) استقبل شهر رمضان في آخر جمعة من شهر شعبان، ليعرِّف المسلمين كيف يستقبلون هذا الشَّهر المبارك، وكيف يعيشون آفاقه، وكيف يتحركون فيه، لأنَّ هذا الشَّهر ليس شهر الصَّوم فحسب، ولكنّه الشَّهر الّذي يريد الله من الإنسان فيه أن يعيش التّعبئة الروحيّة والفكريّة الّتي تجعل منه مسلماً في وعيه لكلِّ مسؤوليّاته تجاه ربّه وتجاه الناس.. ولهذا، فإنَّ الله يريد لك أن تعيش روحيَّتك في صلاتك وصومك، وحركيَّتك في الجهاد في سبيل الله.

إنَّ الله لا يريد أن نواجه هذه الأزمنة أو الأعمال أو الأمكنة الشّرعيَّة مواجهةً تقليديّةً لا روح فيها، بل يريد الله لك أن تتفهَّمها في كلِّ الأجواء الّتي تبني لك شخصيَّتك، لتكون عبد الله في كلِّ ما تتحرَّك فيه، لأنَّ قصَّتنا مع الله سبحانه وتعالى تتحرَّك في خطّين، أن تكون عبد الله في كلّ أمورك، والحرّ أمام النّاس في كلّ أمورك... فتعالوا إلى رسول الله لنرى كيف يقدِّم لنا شهر رمضان:

"يا أيّها النّاس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرَّحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند الله أفضل الشّهور... هو شهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة الله... أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة...".

هذا هو الفصل الأوَّل من الخطبة الَّذي يريدكم الرّسول(ص) أن تشعروا فيه بأنّه شهر البركة والرحمة والمغفرة.. أيّها المذنبون، أيّها الخاطئون، تعالوا إلى ضيافة الله في هذا الشَّهر..

ثم يبدأ الفصل الثّاني، فصل التّعليمات: "واذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه..."، انطلق من خلال جوعك في هذا اليوم القصير، للتَّفكير في يوم القيامة إذا وقفت بين يدي الله، "يوم لا ظلّ إلا ظله"، حيث يطول عناء الإنسان ويطول حسابه. فكّر في جوع يوم القيامة كيف تكون الشَّبعان هناك إذا كانت أعمالك صالحة، وكيف تكون الريّان هناك إذا كانت حسناتك كثيرة..

تحمّل مسؤوليَّة الإسلام

"أيّها النَّاس، إنَّ أبواب الجنان في هذا الشَّهر مفتَّحة، فاسألوا ربَّكم أن لا يغلقها عنكم، وأبواب النّيران مغلقة، فاسألوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم"[1].

هذا هو الجوّ الرّوحانيّ الّذي يريدنا رسول الله(ص) أن نعيشه في حياتنا؛ إنّه الجوّ الّذي يتحوَّل فيه الإنسان إلى إنسانٍ يعيش الخير كطبيعة وكمسؤوليَّة.. وهذا ما يجب أن نعيشه في حياتنا العمليَّة، أن نعيش الإسلام مسؤوليَّةً متحركة في خطَّين؛ أن نفهم الإسلام لتكون أفكارنا أفكاراً إسلاميَّة، وأن نتحرّك في حياتنا على أساس خطِّ الإسلام، لتكون حياتنا كلّها حياةً إسلاميَّة، ليكون كلّ منّا المسلم بكلِّه، لا أن يكون مسلماً في بغضه كما يفعل بعض النّاس، فيكون مسلماً في صلاته، وفاسقاً في كذبه وخطّه السياسيّ.

والخطّ الثاني، أن تكون مسلماً في خطِّ الدَّعوة إلى الله، لتفكِّر أن تربح في كلِّ يوم مسلماً بعد كفر، وأن تكون الإنسان الّذي يهتمّ بأمور المسلمين، ولا يكون أنانيّاً، ويفكّر في أهل بلده أو منطقته، وفي أهل وطنه، إنساناً مسلماً يفكّر في أمور المسلمين كلّهم.. وأن تشعر بأنَّ عليك أن تنتصر للمسلمين أينما كانوا بما تستطيع، فإذا لم تشارك المسلمين في همِّك ونصرتك، فأنت خارجٌ عن مجتمع الإسلام.

وربما يعتبر النَّاس ذلك خطأً يبتعد عن الاعتدال، لأنَّ النَّاس تريد أن تحبس نفسها في داخل وطنٍ أو قوميَّة، والله يريدهم أن ينفتحوا على العالم كلِّه والإسلام كلِّه، فهل تريدون ما تقوله النّاس أو تريدون ما يقوله الله؟!

وهذا يفرض علينا أن نهتمَّ بالإسلام لنواجه كلَّ التّحدّيات التي تواجهه من موقع المواقف الصّلبة، ليفهم الآخرون أنَّ المسلمين لا يقبلون أن يسيء إلى الإسلام أحد، وأن نعلن أنّنا مع المسلمين في كلِّ ما يبني لهم قوّتهم ومنعتهم في الحياة، لأنَّ هناك سياسةً أخذناها من عصور التخلّف، وتتحرَّك فيها الأجهزة المخابراتيّة للدّول الاستكباريّة الّتي تعمل على أن تقطّع أوصال المسلمين، وأن تجعلهم شيعاً وطوائف وأحزاباً، وأن تربي في أنفسنا العقدة ضدّ بعضنا البعض، فالتخلّف والمخابرات الّتي تعمل على إثارة نقاط الضّعف، تجعل المسلم السنّيّ يعيش العقدة من المسلم الشّيعيّ، والعكس، حتى إذا قام الشّيعيّ بمشروعٍ لخدمة الإسلام كلِّه، خذله أخوه السّنّي، وإذا قام المسلم السنّيّ بمشروعٍ لخدمة الإسلام كلِّه، خذله الشّيعيّ، ويأتي الأميركيّ والأوروبيّ ويقول: أنا الَّذي لي دخلٌ بالسنّة والشّيعة، ولهذا فهو يحرّك الوحدة عندما تكون له مصلحة فيها، ويعمِّق التّفرقة عندما تكون له مصلحة فيها.

إنَّنا نعرف أنّ هناك خصوصيات، ولكنَّ هذه الخصوصيّات لا تمنع أن يكون هناك شموليّة في المسألة الإسلاميّة الأساسيّة.. والاجتهادات في داخل السنّة تماماً كما هي في داخل الشّيعة، ونحن لا ندعو إلى أن يلغي السنَّة مذهبهم بدون تفكير، أو يلغي الشّيعة مذهبهم بدون تفكير، ولكن عليهم أن يتَّحدوا بالإسلام، وأن يتحاوروا في المذاهب بالإسلام، فإذا اتحدنا، نستطيع أن نواجه الكثير من التّحدِّيات الّتي تفرض علينا في كلِّ مواقع الحياة.. وبالإسلام نستطيع أن نحلَّ كلَّ المشاكل في العالم، ونستطيع أن نصل إلى القوّة الكبيرة من خلال اتّحادنا.

الإسلام دين الحياة

لا بدَّ من أن يعيش المسلم شخصيَّته الإسلاميَّة، على أن تكون الشخصيَّة المذهبيَّة في الدّائرة الإسلاميّة لا في خارجها، وهناك الكثيرون من النّاس يأتون إلى أصحاب هذا المذهب، ويقولون لهم إنّنا معكم ضدّ أصحاب ذلك المذهب، والعكس، وهذه هي اللّعبة التي تريد أن تخلق من العصبيّة المذهبيّة عصبيَّةً ترفض الإسلام كعنوان، وتقبل المذهبيَّة كانتماء..

وهذا ما نريد مواجهته في كلّ مجالات الحياة، بأن نعمل على أن يكون لنا موقف إسلاميّ عالميّ يتحرّك من أجل أن ينطلق على أساس إيجاد وضعٍ عالميّ يقف أمام الأوضاع العالميّة التي تريد أن تهدم الإسلام والمسلمين، وهذا ما سمعناه من الإمام الخميني عندما تحدَّث إلى الإيرانيّين رافضاً منهم أن يفكّروا كإيرانيّين، بل قال لهم إنّ عليهم أن يفكّروا في سبيل حكومة إسلاميَّة عالميَّة. هذه الرّوح قد يسخر منها بعض النّاس كما كانوا يسخرون من رسول الله، لكن لا بدَّ من أن نفكر كما فكّر رسول الله بحجم العالم.

إنَّ ما تتحدَّث به بعض الوسائل الإعلاميَّة حول تصدير الثَّورة هو لغو، لأنّنا نفهم أنَّ الإسلام عندما يتحرَّك في أيِّ موقع، فإنَّه يصبح ثورةً على الكفر والاستكبار، والثَّورة لا تدخل في الاستيراد والتَّصدير، أو في مشاريع وزارة الاقتصاد، بل تتحرَّك من خلال إنسانيَّة الإنسان. إنَّ علينا أن نفكِّر كما فكَّر رسول الله الّذي أرسله الله رحمةً للعالمين؛ تلك هي مسألة الإسلام في الحياة، أن نفكِّر في الإسلام على أساس أنّه دين الحياة.

إنَّ أميركا تفكِّر في أن تجعل العالم كلَّه يتحرّك على الطّريقة الأميركيّة، والاتحاد السوفياتي يعمل ليتحرّك العالم على الطّريقة الماركسيّة، ولم يتحرك أحد ليعترض عليهم في ذلك، لماذا لا يكون خطّنا الإسلاميّ معقولاً لأن نفكّر بحجم العالم؟ لماذا يتقاسمنا الآخرون؟ فبعضنا في الدّائرة الأميركيّة، والآخر في الدّائرة الماركسيَّة، لماذا لا نفكِّر في الدّائرة الموحَّدة من خلال الإسلام، لنلغي الحدود الّتي صنعها الاستعمار؟!

إنّ علينا أن نفكّر إسلامياً، وأن ننطلق على أساس هذا الإسلام، وأنّ الإسلام لا يتأطّر بإقليم، والاختلافات لا تجعل موقعنا يتحرّك في خطّ الإسلام كلّه.

القيادة الإسلاميّة الواعية

إنَّ هناك اتجاهاً يحاول أن يعزل المسلمين عن إسلامهم، وأن يعزل حركتهم السّياسيّة والاجتماعيّة عن حركة الإسلام، والله كلَّفنا بالإسلام، وعلينا أن ننطلق به، وهذه هي مسؤوليَّتنا أمام الله، وعلينا أن تكون نظرتنا إلى الأحداث في كلّ ما يحدث من خلال الإسلام.

ونحن عندما اعتقدنا أنَّ الإمام الخميني(حفظه الله) يمثّل القيادة الإسلاميّة الواعية التي علَّمتنا أن لا نتحرَّك في أيِّ طريقٍ إلا من خلال مصلحة الإسلام والمسلمين، فعلينا أن نأخذ الوضع الأخير الَّذي حدث في مسألة خلافة الإمام، لا على أساس الانتقاص من شخصيَّة الشيخ المنتظري(حفظه الله)، ولكن على أساس أنَّ حجم المسؤوليّات قد تحتاج إلى شخصٍ آخر، وإلى وضع آخر.

المسألة لم تنطلق من خلال ما يتحدَّث فيه الإعلام، على أساس أنَّ هناك تيّاراً معتدلاً وآخر متطرّفاً. إنَّ هؤلاء الذين يضعون الشّيخ الآن في دائرة الاعتدال، كانوا يضعونه في دائرة التطرّف، ولهذا تبقى القضيّة أنَّ الرجل شعر بأنّه قد لا يستطيع أن يكون في هذا الحجم مما تحتاجه الأمَّة، ويجب أن تفهم القضيّة على هذا الأساس.

وعلينا أن نتعلَّم من خلال هذا، أن لا نرتبط بالأشخاص، بل أن نرتبط بالخطِّ وبالمصلحة الإسلاميَّة العليا، وعلينا أن نكون مع الإسلام لا مع الأشخاص، وأن نحتفظ بتقديرنا للمجاهدين، ولكنّ ذلك لا يمنعنا أن نقول إنَّ المسؤوليات قد تتغيّر تبعاً للأوضاع..

مشروع أميركيّ خفيّ

ومن الجهة الثّانية، ونحن نتحرّك في خطِّ الإسلام والمسلمين، لا بدَّ من أن نواجه المسألة الفلسطينيَّة الّتي بدأت تتحرّك في المواقع الدّبلوماسيّة في العالم في أجواء خفيَّة بعيدة عن الأنظار، ونحن نراقب أنَّ هناك مشروعاً أميركيّاً خفيّاً يتحرّك في الغرف المغلقة وتحت الضّباب، ويراد للمسؤولين الفلسطينيّين أن يوافقوا على هذا المشروع، حتى تتحرّك أميركا بدعم فلسطيني وعربيّ، وتسليم فلسطيني عربي، بكلِّ الخطّة الأميركيّة، ليكون التفاهم بعد ذلك بين أميركا وإسرائيل في هذا المجال، ولا يزال المشروع غير معلن، لكنَّه يركِّز على دفعات.

ونحن نريد أن نقول: لقد كانت أميركا البلد الأساس في العالم الّذي بادر إلى احتضان إسرائيل ودعمها، حتى إنّه ضَمِنَ الأمن الإسرائيليّ بالمطلق، وهو يعمل على أن تبقى إسرائيل متفوّقةً على الدّول العربيّة والإسلاميّة، ويمنع أيّة إدانة لإسرائيل. ولذلك، فإنّنا لا نستطيع أن نثق بالحلول الأميركيّة، لأنّ أميركا تريد أن تحلَّ مشكلة إسرائيل، وتأخذ من الفلسطينيّين ما تدعمها به، ولهذا فهي تأخذ كلَّ سياستها في المنطقة من خلال علاقتها بالسّوفيات أو العرب، أو في لبنان على أساس اتّصال هذه العلاقات وارتباطها بأمن إسرائيل، لأنَّ هناك تحالفاً استراتيجيّاً بين أميركا وإسرائيل، وقد قال مسؤول أميركيّ قبل أيّام، إنَّ أميركا هي وحدها التي تملك تحريك الحلول في المسألة الفلسطينيَّة، حيث جمدت كلّ الأوضاع التي تتحدّث عن تحرير فلسطين. ولهذا نحن لا نثق بأميركا وحلولها في المسألة الفلسطينيَّة، ونحن نعرف أنَّ بعضاً من الَّذين يملكون المواقع الكبيرة في الإدارة الأميركيّة الجديدة، لا يزالون يعيشون العقلية الكيسنجرية الَّتي لا تعطي العرب والفلسطينيّين أيّ شيء.

الخوف من التّآمر على الانتفاضة

وعندما نواجه الانتفاضة، فإنَّنا نخاف عليها من كلِّ هذه الحركات، وقد أثبتت الانتفاضة حتى الآن أنَّها أقوى من كلّ هذه التحدّيات، ولا تزال تقدّم الشّهداء، بحيث أصبحت القوَّة الملهمة لكلِّ العالم العربي والإسلامي في مواجهة إسرائيل والتحدّيات الإسرائيليّة، إضافةً إلى المقاومة الإسلاميّة التي بدأت تقوم بعمليات نوعية إلى جانب عمليّاتها السّابقة.

إننا نخاف من التآمر الأميركيّ والعربيّ على هذه الانتفاضة، وعندما نريد أن ننطلق في الوضع اللّبناني، فإنَّ المسألة اللّبنانيّة لا تزال خارج دائرة الاهتمامات الأميركيّة بالمعنى الذي يتحرك نحو تخفيف الآلام، بل إنَّ طبيعة اللّعبة المزدوجة لا تزال تفرض المأساة على اللّبنانيّين، لأنَّ الوقت لم يحن بعد للوصول إلى أيّ حلّ، ولا تزال القضيّة التي يعيشها اللّبنانيّون تعيش في دائرة تفتيت الواقع اللّبناني وإيصال الشّعب إلى حالةٍ من اليأس التي يتقبَّل فيها كلَّ شيء، لأنّه أصبح يعاني المشكلة بما لم يعانه في كلّ تاريخ القضيّة، ولهذا علينا أن نفهم أوّلاً أنّ المسألة التي تثار في هذه الأيّام، وهي ما يعبّر عنه بمسألة تحرير لبنان من سوريا، تمثّل في خلفيّاتها خطّين:

خطّاً داخليّاً يعمل على الهروب إلى الأمام، من أجل أن لا تتحقَّق الإصلاحات الَّتي ينادي بها المسلمون، وهي مسألة الحكم ومسألة مواقع المسؤوليَّة ومسألة الخدمات العامَّة للمواطنين، أن لا يتحقَّق ذلك، على أساس أنهم يجعلون المسألة تتحرَّك في إطارٍ آخر يشغل النَّاس عن القضايا الأساسيَّة الّتي كانت هي عنوان الفتنة اللّبنانيَّة، والَّتي كان الآخرون يعملون دائماً للهرب منها، حتى لا يستمرَّ المسلمون في المطالبة بحقوقهم الأساسيّة.

إنَّ إطلاق هذا الشّعار الجديد يراد منه إبعاد النّاس عن القضايا الأساسيَّة، ليعيشوا الفوضى في هذه الحرب المجنونة الّتي حاولت أن تجعل النّاس يعيشون قضيَّة الوجود، بدلاً من أن يعيشوا قضيَّة الإصلاح الدّاخليّ في هذا الوجود.

الخطّ الثّاني هو وجود طرف عربيّ، وهو النّظام العراقيّ الّذي أراد أن يواجه سوريا في لبنان، من أجل أن يجعل أولئك الّذين يتحركون في هذا الاتجاه وسيلةً وأداةً في يده، حتى تبدو المسألة كما لو كانت مسألة لبنانيَّة سوريَّة، لا سوريَّة عراقيَّة.

احترام الخطوط الإنسانيّة

إنَّ القضيَّة بحسب وضعها في دائرة الصّراع الإقليميّ الَّذي يملك ضوءاً أخضر دوليّاً تتحرَّك في هذا الاتجاه، وإلا لو كانت المسألة مسألة تحرير، فلماذا يكون التّركيز على التَّحرير مما يسمّونه احتلالاً سوريّاً، وليس التّحرير من إسرائيل الّتي تملك مخطَّطاً لضمّ الشّريط الحدوديّ وغيره بحسب المتغيّرات؟! لماذا لا تطرح مسألة تحرير لبنان من إسرائيل؟ لماذا لا تتحدَّث هذه الجهة إلى الجهات الدّولية لتحرير لبنان من إسرائيل وسوريا كما يدّعون؟

إنَّ المسألة ليست حرب التّحرير، ولكنها حرب اللّعب على الشعارات، من أجل إيجاد وضع سياسيّ يتّصل باللّعبة الكبرى في المنطقة، ولا يحصل للبنان منه إلا مقدار بسيط، فالمسألة هي لعبة الشّرق الأوسط والسياسة الأميركيّة في المنطقة، أمّا اللّعبة اللّبنانيّة، فهي صغيرة جدّاً في حجم الاهتمامات الدّوليّة. ولهذا، نجد الاهتمام الأوروبيّ والعربيّ بلبنان بنسبة 10%، ولذلك رأينا أنّ اجتماعات الجامعة العربية لم تستطع أن تخرج مشروعاً لوقف إطلاق النّار، وإنما وجّهت نداءً، والنّداء يعني الموعظة، ولا يعني الخطّة العمليّة الّتي تصل إلى نتائج حاسمة.

ونحن لا نزال نشعر بأنَّ المسألة هي من المسائل الّتي أوصلت الواقع اللبناني إلى مأزق، وأنّ أقصى ما يمكن أن يحصل في هذه المرحلة، هو العمل على تهدئة الجانب الأمنيّ، أمَّا الجانب السّياسيّ على مستوى الحلحلة أو الحلّ، فإنّه ينتظر وقتاً طويلاً. وكلّ ما نواجهه في هذه المرحلة، هو أن يقف إطلاق النّار وهذا القصف المجنون، لأنّ هذا القصف المتحرك بطريقةٍ من العنف لم تعرفه الحرب اللّبنانيّة سابقاً، سوف يتطوّر إذا استمرّت هذه الحرب، إلى أن يدمّر كلَّ المرافق الحيويّة في لبنان، وإلى أن تتحوَّل الحرب إلى عمليَّة قتل للمدنيّين، وهذا ما لاحظناه في بيان القوات اللبنانيّة الّتي هدَّدت بأنها ستوجّه نيرانها إلى المدنيّين.

إنَّ المفارقة التي نراها أنهم يتحدَّثون عن قصف المناطق المدنيّة فقط في الشرقيّة، ونحن نعرف أن أوَّل قصف انطلقت فيه هذه الحرب، هو قصف بيروت الغربيّة، لكنّ هناك ابن الستّ وابن الجارية، كأنّ أبناء هذه المنطقة حشرات!

لقد قصفتم المدنيّين في البداية، ولا يهمّنا أن يكون الّذي قصف هو القوّات أو الجيش، لأنّ كلّهم مثل بعضهم البعض، ولهذا نريد أن نقول لهم إنَّ المسألة لا تقف عند حدّ عندما يراد لهذه الحرب أن تستمرّ، وإنَّ المسألة سوف تكون مسألة الدَّمار هنا وهناك.

لهذا، لا بدَّ من إيجاد وضعٍ سياسيٍّ معقول، ولو على مستوى المرحلة، وأن يفكِّر المعنيّون في حركة الواقع السياسيّ هناك تفكيراً واقعيّاً، لأنهم يعرفون أنَّ المسألة اللّبنانيَّة لم تنضج، وأنها تحتاج إلى وقتٍ طويل، وأنَّ الحرب مهما استمرَّت، فلا يمكن إنضاجها في هذه المرحلة، لأنَّ هناك وقتاً طويلاً تحتاج المشكلة أن تقطعه حتى تنضج الطّبخة.

نحن نعرف أنّ هناك خطوطاً حمراً سياسيّة في خطوط التماس، وهناك صعوبة في تجاوزها، وإن تحدَّث البعض عن إمكانيّة تجاوزها، لكنّ الجميع حتى الآن لا يزالون منضبطين أمام هذه الخطوط الحمر السياسيّة، بالرّغم من كلّ هذه الصّواريخ، لكنّ المسألة التي نريد أن نثيرها، أنَّ الجميع تجاوزوا الخطوط الحمر الإنسانيّة، وهناك خطوط إنسانيّة في الحرب بأن لا يقصَف المدنيّون، لهذا نقول للّذين يحترمون الخطوط السياسيّة، لأنّ الكبار في العالم لا يرخِّصون لهم أن يتجاوزوها: احترموا في حربكم الخطوط الحمر الإنسانيَّة الّتي لا يريد الله لكم أن تتجاوزوها في أيّ حربٍ من الحروب.

لهذا، إذا كنتم تخافون من الكبار في خطوط الحمر السياسيّة، فالله أكبر في الخطوط الحمر الإنسانيّة، وإذا كنتم تخافون من العظماء في العالم، فالله هو الأعظم، والله عندما يريد أن يحرّك خيوطه في العالم، فستعرفون أنَّ عذابه شديد شديد.


[1] وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 10، ص 313، 314.

ألقى سماحة العلامة السيِّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 24/8/1409هـ/ الموافق: 31 آذار 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، وقد جاء فيها:

ربما تكون هذه الجمعة آخر خطبةٍ من شعبان، لأنَّ شعبان إذا كان ناقصاً، فالجمعة القادمة هي أوَّل أيّام شهر رمضان، وإذا كان تامّاً، فإنَّ السَّبت الَّذي يأتي بعدها هو أوَّل شهر رمضان..

شهر التّعبئة الرّوحيّة

وقد ورد في حديث السّيرة النّبويَّة الشّريفة، أنَّ رسول الله(ص) استقبل شهر رمضان في آخر جمعة من شهر شعبان، ليعرِّف المسلمين كيف يستقبلون هذا الشَّهر المبارك، وكيف يعيشون آفاقه، وكيف يتحركون فيه، لأنَّ هذا الشَّهر ليس شهر الصَّوم فحسب، ولكنّه الشَّهر الّذي يريد الله من الإنسان فيه أن يعيش التّعبئة الروحيّة والفكريّة الّتي تجعل منه مسلماً في وعيه لكلِّ مسؤوليّاته تجاه ربّه وتجاه الناس.. ولهذا، فإنَّ الله يريد لك أن تعيش روحيَّتك في صلاتك وصومك، وحركيَّتك في الجهاد في سبيل الله.

إنَّ الله لا يريد أن نواجه هذه الأزمنة أو الأعمال أو الأمكنة الشّرعيَّة مواجهةً تقليديّةً لا روح فيها، بل يريد الله لك أن تتفهَّمها في كلِّ الأجواء الّتي تبني لك شخصيَّتك، لتكون عبد الله في كلِّ ما تتحرَّك فيه، لأنَّ قصَّتنا مع الله سبحانه وتعالى تتحرَّك في خطّين، أن تكون عبد الله في كلّ أمورك، والحرّ أمام النّاس في كلّ أمورك... فتعالوا إلى رسول الله لنرى كيف يقدِّم لنا شهر رمضان:

"يا أيّها النّاس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرَّحمة والمغفرة، شهرٌ هو عند الله أفضل الشّهور... هو شهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة الله... أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة...".

هذا هو الفصل الأوَّل من الخطبة الَّذي يريدكم الرّسول(ص) أن تشعروا فيه بأنّه شهر البركة والرحمة والمغفرة.. أيّها المذنبون، أيّها الخاطئون، تعالوا إلى ضيافة الله في هذا الشَّهر..

ثم يبدأ الفصل الثّاني، فصل التّعليمات: "واذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه..."، انطلق من خلال جوعك في هذا اليوم القصير، للتَّفكير في يوم القيامة إذا وقفت بين يدي الله، "يوم لا ظلّ إلا ظله"، حيث يطول عناء الإنسان ويطول حسابه. فكّر في جوع يوم القيامة كيف تكون الشَّبعان هناك إذا كانت أعمالك صالحة، وكيف تكون الريّان هناك إذا كانت حسناتك كثيرة..

تحمّل مسؤوليَّة الإسلام

"أيّها النَّاس، إنَّ أبواب الجنان في هذا الشَّهر مفتَّحة، فاسألوا ربَّكم أن لا يغلقها عنكم، وأبواب النّيران مغلقة، فاسألوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم"[1].

هذا هو الجوّ الرّوحانيّ الّذي يريدنا رسول الله(ص) أن نعيشه في حياتنا؛ إنّه الجوّ الّذي يتحوَّل فيه الإنسان إلى إنسانٍ يعيش الخير كطبيعة وكمسؤوليَّة.. وهذا ما يجب أن نعيشه في حياتنا العمليَّة، أن نعيش الإسلام مسؤوليَّةً متحركة في خطَّين؛ أن نفهم الإسلام لتكون أفكارنا أفكاراً إسلاميَّة، وأن نتحرّك في حياتنا على أساس خطِّ الإسلام، لتكون حياتنا كلّها حياةً إسلاميَّة، ليكون كلّ منّا المسلم بكلِّه، لا أن يكون مسلماً في بغضه كما يفعل بعض النّاس، فيكون مسلماً في صلاته، وفاسقاً في كذبه وخطّه السياسيّ.

والخطّ الثاني، أن تكون مسلماً في خطِّ الدَّعوة إلى الله، لتفكِّر أن تربح في كلِّ يوم مسلماً بعد كفر، وأن تكون الإنسان الّذي يهتمّ بأمور المسلمين، ولا يكون أنانيّاً، ويفكّر في أهل بلده أو منطقته، وفي أهل وطنه، إنساناً مسلماً يفكّر في أمور المسلمين كلّهم.. وأن تشعر بأنَّ عليك أن تنتصر للمسلمين أينما كانوا بما تستطيع، فإذا لم تشارك المسلمين في همِّك ونصرتك، فأنت خارجٌ عن مجتمع الإسلام.

وربما يعتبر النَّاس ذلك خطأً يبتعد عن الاعتدال، لأنَّ النَّاس تريد أن تحبس نفسها في داخل وطنٍ أو قوميَّة، والله يريدهم أن ينفتحوا على العالم كلِّه والإسلام كلِّه، فهل تريدون ما تقوله النّاس أو تريدون ما يقوله الله؟!

وهذا يفرض علينا أن نهتمَّ بالإسلام لنواجه كلَّ التّحدّيات التي تواجهه من موقع المواقف الصّلبة، ليفهم الآخرون أنَّ المسلمين لا يقبلون أن يسيء إلى الإسلام أحد، وأن نعلن أنّنا مع المسلمين في كلِّ ما يبني لهم قوّتهم ومنعتهم في الحياة، لأنَّ هناك سياسةً أخذناها من عصور التخلّف، وتتحرَّك فيها الأجهزة المخابراتيّة للدّول الاستكباريّة الّتي تعمل على أن تقطّع أوصال المسلمين، وأن تجعلهم شيعاً وطوائف وأحزاباً، وأن تربي في أنفسنا العقدة ضدّ بعضنا البعض، فالتخلّف والمخابرات الّتي تعمل على إثارة نقاط الضّعف، تجعل المسلم السنّيّ يعيش العقدة من المسلم الشّيعيّ، والعكس، حتى إذا قام الشّيعيّ بمشروعٍ لخدمة الإسلام كلِّه، خذله أخوه السّنّي، وإذا قام المسلم السنّيّ بمشروعٍ لخدمة الإسلام كلِّه، خذله الشّيعيّ، ويأتي الأميركيّ والأوروبيّ ويقول: أنا الَّذي لي دخلٌ بالسنّة والشّيعة، ولهذا فهو يحرّك الوحدة عندما تكون له مصلحة فيها، ويعمِّق التّفرقة عندما تكون له مصلحة فيها.

إنَّنا نعرف أنّ هناك خصوصيات، ولكنَّ هذه الخصوصيّات لا تمنع أن يكون هناك شموليّة في المسألة الإسلاميّة الأساسيّة.. والاجتهادات في داخل السنّة تماماً كما هي في داخل الشّيعة، ونحن لا ندعو إلى أن يلغي السنَّة مذهبهم بدون تفكير، أو يلغي الشّيعة مذهبهم بدون تفكير، ولكن عليهم أن يتَّحدوا بالإسلام، وأن يتحاوروا في المذاهب بالإسلام، فإذا اتحدنا، نستطيع أن نواجه الكثير من التّحدِّيات الّتي تفرض علينا في كلِّ مواقع الحياة.. وبالإسلام نستطيع أن نحلَّ كلَّ المشاكل في العالم، ونستطيع أن نصل إلى القوّة الكبيرة من خلال اتّحادنا.

الإسلام دين الحياة

لا بدَّ من أن يعيش المسلم شخصيَّته الإسلاميَّة، على أن تكون الشخصيَّة المذهبيَّة في الدّائرة الإسلاميّة لا في خارجها، وهناك الكثيرون من النّاس يأتون إلى أصحاب هذا المذهب، ويقولون لهم إنّنا معكم ضدّ أصحاب ذلك المذهب، والعكس، وهذه هي اللّعبة التي تريد أن تخلق من العصبيّة المذهبيّة عصبيَّةً ترفض الإسلام كعنوان، وتقبل المذهبيَّة كانتماء..

وهذا ما نريد مواجهته في كلّ مجالات الحياة، بأن نعمل على أن يكون لنا موقف إسلاميّ عالميّ يتحرّك من أجل أن ينطلق على أساس إيجاد وضعٍ عالميّ يقف أمام الأوضاع العالميّة التي تريد أن تهدم الإسلام والمسلمين، وهذا ما سمعناه من الإمام الخميني عندما تحدَّث إلى الإيرانيّين رافضاً منهم أن يفكّروا كإيرانيّين، بل قال لهم إنّ عليهم أن يفكّروا في سبيل حكومة إسلاميَّة عالميَّة. هذه الرّوح قد يسخر منها بعض النّاس كما كانوا يسخرون من رسول الله، لكن لا بدَّ من أن نفكر كما فكّر رسول الله بحجم العالم.

إنَّ ما تتحدَّث به بعض الوسائل الإعلاميَّة حول تصدير الثَّورة هو لغو، لأنّنا نفهم أنَّ الإسلام عندما يتحرَّك في أيِّ موقع، فإنَّه يصبح ثورةً على الكفر والاستكبار، والثَّورة لا تدخل في الاستيراد والتَّصدير، أو في مشاريع وزارة الاقتصاد، بل تتحرَّك من خلال إنسانيَّة الإنسان. إنَّ علينا أن نفكِّر كما فكَّر رسول الله الّذي أرسله الله رحمةً للعالمين؛ تلك هي مسألة الإسلام في الحياة، أن نفكِّر في الإسلام على أساس أنّه دين الحياة.

إنَّ أميركا تفكِّر في أن تجعل العالم كلَّه يتحرّك على الطّريقة الأميركيّة، والاتحاد السوفياتي يعمل ليتحرّك العالم على الطّريقة الماركسيّة، ولم يتحرك أحد ليعترض عليهم في ذلك، لماذا لا يكون خطّنا الإسلاميّ معقولاً لأن نفكّر بحجم العالم؟ لماذا يتقاسمنا الآخرون؟ فبعضنا في الدّائرة الأميركيّة، والآخر في الدّائرة الماركسيَّة، لماذا لا نفكِّر في الدّائرة الموحَّدة من خلال الإسلام، لنلغي الحدود الّتي صنعها الاستعمار؟!

إنّ علينا أن نفكّر إسلامياً، وأن ننطلق على أساس هذا الإسلام، وأنّ الإسلام لا يتأطّر بإقليم، والاختلافات لا تجعل موقعنا يتحرّك في خطّ الإسلام كلّه.

القيادة الإسلاميّة الواعية

إنَّ هناك اتجاهاً يحاول أن يعزل المسلمين عن إسلامهم، وأن يعزل حركتهم السّياسيّة والاجتماعيّة عن حركة الإسلام، والله كلَّفنا بالإسلام، وعلينا أن ننطلق به، وهذه هي مسؤوليَّتنا أمام الله، وعلينا أن تكون نظرتنا إلى الأحداث في كلّ ما يحدث من خلال الإسلام.

ونحن عندما اعتقدنا أنَّ الإمام الخميني(حفظه الله) يمثّل القيادة الإسلاميّة الواعية التي علَّمتنا أن لا نتحرَّك في أيِّ طريقٍ إلا من خلال مصلحة الإسلام والمسلمين، فعلينا أن نأخذ الوضع الأخير الَّذي حدث في مسألة خلافة الإمام، لا على أساس الانتقاص من شخصيَّة الشيخ المنتظري(حفظه الله)، ولكن على أساس أنَّ حجم المسؤوليّات قد تحتاج إلى شخصٍ آخر، وإلى وضع آخر.

المسألة لم تنطلق من خلال ما يتحدَّث فيه الإعلام، على أساس أنَّ هناك تيّاراً معتدلاً وآخر متطرّفاً. إنَّ هؤلاء الذين يضعون الشّيخ الآن في دائرة الاعتدال، كانوا يضعونه في دائرة التطرّف، ولهذا تبقى القضيّة أنَّ الرجل شعر بأنّه قد لا يستطيع أن يكون في هذا الحجم مما تحتاجه الأمَّة، ويجب أن تفهم القضيّة على هذا الأساس.

وعلينا أن نتعلَّم من خلال هذا، أن لا نرتبط بالأشخاص، بل أن نرتبط بالخطِّ وبالمصلحة الإسلاميَّة العليا، وعلينا أن نكون مع الإسلام لا مع الأشخاص، وأن نحتفظ بتقديرنا للمجاهدين، ولكنّ ذلك لا يمنعنا أن نقول إنَّ المسؤوليات قد تتغيّر تبعاً للأوضاع..

مشروع أميركيّ خفيّ

ومن الجهة الثّانية، ونحن نتحرّك في خطِّ الإسلام والمسلمين، لا بدَّ من أن نواجه المسألة الفلسطينيَّة الّتي بدأت تتحرّك في المواقع الدّبلوماسيّة في العالم في أجواء خفيَّة بعيدة عن الأنظار، ونحن نراقب أنَّ هناك مشروعاً أميركيّاً خفيّاً يتحرّك في الغرف المغلقة وتحت الضّباب، ويراد للمسؤولين الفلسطينيّين أن يوافقوا على هذا المشروع، حتى تتحرّك أميركا بدعم فلسطيني وعربيّ، وتسليم فلسطيني عربي، بكلِّ الخطّة الأميركيّة، ليكون التفاهم بعد ذلك بين أميركا وإسرائيل في هذا المجال، ولا يزال المشروع غير معلن، لكنَّه يركِّز على دفعات.

ونحن نريد أن نقول: لقد كانت أميركا البلد الأساس في العالم الّذي بادر إلى احتضان إسرائيل ودعمها، حتى إنّه ضَمِنَ الأمن الإسرائيليّ بالمطلق، وهو يعمل على أن تبقى إسرائيل متفوّقةً على الدّول العربيّة والإسلاميّة، ويمنع أيّة إدانة لإسرائيل. ولذلك، فإنّنا لا نستطيع أن نثق بالحلول الأميركيّة، لأنّ أميركا تريد أن تحلَّ مشكلة إسرائيل، وتأخذ من الفلسطينيّين ما تدعمها به، ولهذا فهي تأخذ كلَّ سياستها في المنطقة من خلال علاقتها بالسّوفيات أو العرب، أو في لبنان على أساس اتّصال هذه العلاقات وارتباطها بأمن إسرائيل، لأنَّ هناك تحالفاً استراتيجيّاً بين أميركا وإسرائيل، وقد قال مسؤول أميركيّ قبل أيّام، إنَّ أميركا هي وحدها التي تملك تحريك الحلول في المسألة الفلسطينيَّة، حيث جمدت كلّ الأوضاع التي تتحدّث عن تحرير فلسطين. ولهذا نحن لا نثق بأميركا وحلولها في المسألة الفلسطينيَّة، ونحن نعرف أنَّ بعضاً من الَّذين يملكون المواقع الكبيرة في الإدارة الأميركيّة الجديدة، لا يزالون يعيشون العقلية الكيسنجرية الَّتي لا تعطي العرب والفلسطينيّين أيّ شيء.

الخوف من التّآمر على الانتفاضة

وعندما نواجه الانتفاضة، فإنَّنا نخاف عليها من كلِّ هذه الحركات، وقد أثبتت الانتفاضة حتى الآن أنَّها أقوى من كلّ هذه التحدّيات، ولا تزال تقدّم الشّهداء، بحيث أصبحت القوَّة الملهمة لكلِّ العالم العربي والإسلامي في مواجهة إسرائيل والتحدّيات الإسرائيليّة، إضافةً إلى المقاومة الإسلاميّة التي بدأت تقوم بعمليات نوعية إلى جانب عمليّاتها السّابقة.

إننا نخاف من التآمر الأميركيّ والعربيّ على هذه الانتفاضة، وعندما نريد أن ننطلق في الوضع اللّبناني، فإنَّ المسألة اللّبنانيّة لا تزال خارج دائرة الاهتمامات الأميركيّة بالمعنى الذي يتحرك نحو تخفيف الآلام، بل إنَّ طبيعة اللّعبة المزدوجة لا تزال تفرض المأساة على اللّبنانيّين، لأنَّ الوقت لم يحن بعد للوصول إلى أيّ حلّ، ولا تزال القضيّة التي يعيشها اللّبنانيّون تعيش في دائرة تفتيت الواقع اللّبناني وإيصال الشّعب إلى حالةٍ من اليأس التي يتقبَّل فيها كلَّ شيء، لأنّه أصبح يعاني المشكلة بما لم يعانه في كلّ تاريخ القضيّة، ولهذا علينا أن نفهم أوّلاً أنّ المسألة التي تثار في هذه الأيّام، وهي ما يعبّر عنه بمسألة تحرير لبنان من سوريا، تمثّل في خلفيّاتها خطّين:

خطّاً داخليّاً يعمل على الهروب إلى الأمام، من أجل أن لا تتحقَّق الإصلاحات الَّتي ينادي بها المسلمون، وهي مسألة الحكم ومسألة مواقع المسؤوليَّة ومسألة الخدمات العامَّة للمواطنين، أن لا يتحقَّق ذلك، على أساس أنهم يجعلون المسألة تتحرَّك في إطارٍ آخر يشغل النَّاس عن القضايا الأساسيَّة الّتي كانت هي عنوان الفتنة اللّبنانيَّة، والَّتي كان الآخرون يعملون دائماً للهرب منها، حتى لا يستمرَّ المسلمون في المطالبة بحقوقهم الأساسيّة.

إنَّ إطلاق هذا الشّعار الجديد يراد منه إبعاد النّاس عن القضايا الأساسيَّة، ليعيشوا الفوضى في هذه الحرب المجنونة الّتي حاولت أن تجعل النّاس يعيشون قضيَّة الوجود، بدلاً من أن يعيشوا قضيَّة الإصلاح الدّاخليّ في هذا الوجود.

الخطّ الثّاني هو وجود طرف عربيّ، وهو النّظام العراقيّ الّذي أراد أن يواجه سوريا في لبنان، من أجل أن يجعل أولئك الّذين يتحركون في هذا الاتجاه وسيلةً وأداةً في يده، حتى تبدو المسألة كما لو كانت مسألة لبنانيَّة سوريَّة، لا سوريَّة عراقيَّة.

احترام الخطوط الإنسانيّة

إنَّ القضيَّة بحسب وضعها في دائرة الصّراع الإقليميّ الَّذي يملك ضوءاً أخضر دوليّاً تتحرَّك في هذا الاتجاه، وإلا لو كانت المسألة مسألة تحرير، فلماذا يكون التّركيز على التَّحرير مما يسمّونه احتلالاً سوريّاً، وليس التّحرير من إسرائيل الّتي تملك مخطَّطاً لضمّ الشّريط الحدوديّ وغيره بحسب المتغيّرات؟! لماذا لا تطرح مسألة تحرير لبنان من إسرائيل؟ لماذا لا تتحدَّث هذه الجهة إلى الجهات الدّولية لتحرير لبنان من إسرائيل وسوريا كما يدّعون؟

إنَّ المسألة ليست حرب التّحرير، ولكنها حرب اللّعب على الشعارات، من أجل إيجاد وضع سياسيّ يتّصل باللّعبة الكبرى في المنطقة، ولا يحصل للبنان منه إلا مقدار بسيط، فالمسألة هي لعبة الشّرق الأوسط والسياسة الأميركيّة في المنطقة، أمّا اللّعبة اللّبنانيّة، فهي صغيرة جدّاً في حجم الاهتمامات الدّوليّة. ولهذا، نجد الاهتمام الأوروبيّ والعربيّ بلبنان بنسبة 10%، ولذلك رأينا أنّ اجتماعات الجامعة العربية لم تستطع أن تخرج مشروعاً لوقف إطلاق النّار، وإنما وجّهت نداءً، والنّداء يعني الموعظة، ولا يعني الخطّة العمليّة الّتي تصل إلى نتائج حاسمة.

ونحن لا نزال نشعر بأنَّ المسألة هي من المسائل الّتي أوصلت الواقع اللبناني إلى مأزق، وأنّ أقصى ما يمكن أن يحصل في هذه المرحلة، هو العمل على تهدئة الجانب الأمنيّ، أمَّا الجانب السّياسيّ على مستوى الحلحلة أو الحلّ، فإنّه ينتظر وقتاً طويلاً. وكلّ ما نواجهه في هذه المرحلة، هو أن يقف إطلاق النّار وهذا القصف المجنون، لأنّ هذا القصف المتحرك بطريقةٍ من العنف لم تعرفه الحرب اللّبنانيّة سابقاً، سوف يتطوّر إذا استمرّت هذه الحرب، إلى أن يدمّر كلَّ المرافق الحيويّة في لبنان، وإلى أن تتحوَّل الحرب إلى عمليَّة قتل للمدنيّين، وهذا ما لاحظناه في بيان القوات اللبنانيّة الّتي هدَّدت بأنها ستوجّه نيرانها إلى المدنيّين.

إنَّ المفارقة التي نراها أنهم يتحدَّثون عن قصف المناطق المدنيّة فقط في الشرقيّة، ونحن نعرف أن أوَّل قصف انطلقت فيه هذه الحرب، هو قصف بيروت الغربيّة، لكنّ هناك ابن الستّ وابن الجارية، كأنّ أبناء هذه المنطقة حشرات!

لقد قصفتم المدنيّين في البداية، ولا يهمّنا أن يكون الّذي قصف هو القوّات أو الجيش، لأنّ كلّهم مثل بعضهم البعض، ولهذا نريد أن نقول لهم إنَّ المسألة لا تقف عند حدّ عندما يراد لهذه الحرب أن تستمرّ، وإنَّ المسألة سوف تكون مسألة الدَّمار هنا وهناك.

لهذا، لا بدَّ من إيجاد وضعٍ سياسيٍّ معقول، ولو على مستوى المرحلة، وأن يفكِّر المعنيّون في حركة الواقع السياسيّ هناك تفكيراً واقعيّاً، لأنهم يعرفون أنَّ المسألة اللّبنانيَّة لم تنضج، وأنها تحتاج إلى وقتٍ طويل، وأنَّ الحرب مهما استمرَّت، فلا يمكن إنضاجها في هذه المرحلة، لأنَّ هناك وقتاً طويلاً تحتاج المشكلة أن تقطعه حتى تنضج الطّبخة.

نحن نعرف أنّ هناك خطوطاً حمراً سياسيّة في خطوط التماس، وهناك صعوبة في تجاوزها، وإن تحدَّث البعض عن إمكانيّة تجاوزها، لكنّ الجميع حتى الآن لا يزالون منضبطين أمام هذه الخطوط الحمر السياسيّة، بالرّغم من كلّ هذه الصّواريخ، لكنّ المسألة التي نريد أن نثيرها، أنَّ الجميع تجاوزوا الخطوط الحمر الإنسانيّة، وهناك خطوط إنسانيّة في الحرب بأن لا يقصَف المدنيّون، لهذا نقول للّذين يحترمون الخطوط السياسيّة، لأنّ الكبار في العالم لا يرخِّصون لهم أن يتجاوزوها: احترموا في حربكم الخطوط الحمر الإنسانيَّة الّتي لا يريد الله لكم أن تتجاوزوها في أيّ حربٍ من الحروب.

لهذا، إذا كنتم تخافون من الكبار في خطوط الحمر السياسيّة، فالله أكبر في الخطوط الحمر الإنسانيّة، وإذا كنتم تخافون من العظماء في العالم، فالله هو الأعظم، والله عندما يريد أن يحرّك خيوطه في العالم، فستعرفون أنَّ عذابه شديد شديد.


[1] وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 10، ص 313، 314.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية