ولادة النَّبيّ عيسى(ع) مظهر من مظاهر قدرة الله

ولادة النَّبيّ عيسى(ع) مظهر من مظاهر قدرة الله

ألقى سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 22 كانون الأوّل 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، ومما جاء فيها:

يقول الله تعالى وهو يحدِّثنا في سورة مريم عن ولادة السيّد المسيح(ع)، كمظهر من مظاهر قدرة الله، وكعنوانٍ من عناوين الرّسالة، إنَّ المسيح(ع) هو عبد الله ورسوله وليس إلهاً، لتتوازن النَّظرة في السيّد المسيح(ع)، حتى لا ينحرف المنحرفون في تصوّرهم له، وحتى يؤكِّد المسلمون كلّ تصوّراتهم عن السيِّد المسيح(ع) من خلال القرآن، لأنَّ القرآن كتاب الله الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..

روحيَّة مريم(ع)

يقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً}[1].

الفصل الأوَّل من السّورة يتحدَّث عن مريم الَّتي نذرتها أمّها لبيت المقدس، فقد ولدت الطّفلة مريم، وجاء القوم يريدون كفالتها، لأنَّ أباها ميّت، وخرجت القرعة على زكريا؛ هذا الإنسان الصَّالح الّذي يقال إنّه كان نبيّاً في خطِّ الرّسالات..

لم تعش مريم حالة مراهقة كما تعيشها كثير من الفتيات، بل كانت تعيش الانفتاح على الله، وكان لها محرابٌ في البيت تجلس فيه بين يدي ربها.. فكانت في عزلة المحراب تعبد الله وتبتهل إليه، وكان زكريّا يدخل عليها، ويجد عندها طعاماً من أطيب ما يكون الطَّعام في رائحته.. {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ}[2].

وعندما شعر زكريّا بهذه الرّعاية الروحيّة، وبأنَّ الله يمكن أن يحقِّق الأشياء من دون سبب عاديّ، {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}[3]، وهذا يذكِّرنا دائماً بأن لا نفكّر في الوسائل العاديّة حتى نحقّق الرّزق والنّصر، لأنَّ من {يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[4].

البشارة بولادة المسيح(ع)

وهكذا نشأت مريم: {إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً}[5]، حتى لا يشغلها أحد عن عبادة ربها. وفجأة، يبرز شخص بصورة شابّ، وتفَاجَأ مريم العذراء، كأيِّ عذراء تكون في عزلتها وتعيش عمق العفّة، {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً}[6]، فقالت: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ}[7]، أستجير بالله منك إن كنت تقيّاً تخاف الله فتشعر بمسؤوليَّتك أمامه، وفوجئت مريم من جديد بأنَّ هذا ليس إنساناً، بل هو ملك، {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً}[8]، ودبَّ الرّعب في قلبها أكثر: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}[9]، قال إنَّك تفكرين بطريقة البشر، ولكن عليك أن تفكّري الآن بطريقة خالق البشر، كيف خلق الله آدم؟ كيف خلق الله النّاس؟ إنكم لا تستغربون أن يولد الإنسان من نطفة، من جزء من النّطفة لا يُرى بالعين المجرّدة، ولكن لو فكَّرتم كيف تكون هذه النّطفة هي الأساس للإنسان، وكيف تحمل النّطفة كلّ أخلاق أعمامه وأخواله وآبائه وعاداتهم؛ نطفة لا تُرى، ويكون فيها كلّ ملامح صورته، لو فكرتم في ذلك، لرأيتم المعجزة في أنفسكم في خلق الله، كما هي المعجزة في خلق عيسى بن مريم(ع)، فإنَّ الله على كلِّ شيء قدير، {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}[10] فمن أنتم؟

{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، كأنَّه انتظر مريم أن تقول: لماذا هذا الأسلوب؟ ما هي المناسبة؟ وكان الجواب: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}[11].

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[12]، هو آية للنّاس، ورسول الرّحمة والمحبَّة..

وقال الله لعيسى كن فكان، فحملته: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً}[13]، فلم ترد للنّاس أن يعرفوا حملها، لأنهم قد يزعجونها بما لا تستطيع أن تتحمَّله، فابتعدت عنهم، وكبر الجنين، وأمّا كيف كان الحمل؟ فهذا لم يتحدَّث به القرآن.

{فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}، ولم يكن عندها أحد، وفوجئت بالحقيقة، {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}، فقد أدركها ضعف الأنثى الّتي تشعر بأنَّ هناك مشكلة أكبر من قدرتها، {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا}، وبعضهم يقول إنّه الملك، وبعضهم يقول إنّه عيسى، {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً}، افرحي كما تفرح الأمّ بأيّ ولد، ولكنّ عيسى، كما هو، آية من الله ورحمة منه، {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}.

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}[14]، فقالوا: لقد انكشف وضع مريم، وبادروها بهجومٍ كلاميٍّ وقالوا لقد جئت شيئاً عظيماً: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}[15]، فأشارت إلى عيسى بأن يتكلَّموا معه، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً}[16]، ولكنّ الله الّذي أنطق كلَّ شيء، أنطق عيسى الطّفل، {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}[17]، ونطق عيسى بالعبوديَّة، وقال أنا عبد الله، ولم يجعلني الله إلهاً أو ابناً للإله، لأنَّ الله الّذي خلق كلَّ شيء، لا حاجة له بالولد، بل جعلني نبيّاً، وجعلني مباركاً، ونحن نفهم أنَّ البركة حالة روحيّة يمسح بها الإنسان على الناس ليباركهم، ولكنّ البركة في المفهوم القرآني هي النّفع للنّاس، أن تكون مباركاً، يعني أن تكون نفّاعاً للنّاس، أن يكون وجودك في خدمة النّاس، {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}[18]؛ أوصاني بالصَّلاة لتكون النّافذة الَّتي تطلّ فيها روحي على الله دائماً، فإذا رأيت الله، أشرقت في قلبي كلّ معاني المحبَّة والخير للنّاس، وأوصاني بالزّكاة لأنفتح بحياتي على النّاس، فيما تمثّله الزكاة من معنى العطاء للنّاس..

حقيقة موت عيسى

كيف مات عيسى؟ هذا الأمر اختلف فيه العلماء، ولكنَّ الله يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ}[19]، كيف رفعه الله إليه؟ هذا أمرٌ لا نعرفه، وليس من الضّروريّ أن نعرفه، لأنه ليس من الضّرورات العقيديّة، والله ترك المسألة دون معرفةٍ عن كيفيَّة موت عيسى(ع).

وهذا ما قاله عيسى وما قاله قبله يحيى، فالمسألة أن تعيش السَّلام؛ إنَّ الله يريد منّا أن نعيش سلام الرّوح في الحياة، وأن نعيش سلام الرّوح عندما نلفظ هذه الرّوح: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}[20].

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، تلك صورته وقصَّته، وتلك آية الله فيه، {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لله}، ليس عيسى ابن الله، بل إنَّ عيسى عبد الله، {أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ}[21]، ذلك هو خطّه(ع).

وانطلق عيسى بعد ذلك، وأعطاه الله النبوَّة، وكان في معجزاته أيضاً نوع جديد من المعجزات الّتي قد لا تكون مألوفةً لغيره...

وكانت نهاية الحوار بين الله وعيسى، والله يعرف نزاهة عيسى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، ليس لي ولا لأمّي أن ندَّعي الألوهيَّة، {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}[22]، أنا لا أتحمَّل مسؤوليَّة ما يقوله الناس، {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[23].

العلاقة مع أتباع عيسى

ذلك عيسى بن مريم الَّذي نذكره فيما يثار من ذكرى ولادته، ونحن ننفتح عليه بكلِّ ما عندنا من الانفتاح على كلّ الرسل، فماذا عن علاقتنا بأتباع عيسى(ع)، سواء كانوا أتباعه في كلّ شيء، أو أتباعه من الناحية الرسميّة؟ {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}[24]، الّذين يعيشون محبَّة السيِّد المسيح ورساليَّته وطهره وانفتاحه على النَّاس، من خلال المعاني الرّوحيَّة للمسيحيَّة.

فعندما ينفتح المسيحيّون علينا، يكونون أقرب النَّاس مودَّةً لنا، وهذا ما عاشه المسلمون في بداية عصر الدَّعوة معهم.. على أساس هذا القلب المفتوح على كلمة الحقّ، وعندما أراد الله لنا أن نتجادل فيما نختلف فيه مع أهل الكتاب، فتح باب الحوار، وقال لنا: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}؛ وهو الَّذين يقتلونكم، والَّذين يظلمونكم، فالمنطق مع هؤلاء مختلف، {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[25]، لسنا معقَّدين من السيّد المسيح، كما أنتم معقَّدون من محمد(ص)، ولسنا معقَّدين من الإنجيل كتاب الله، كما أنتم معقَّدون من القرآن.

فالمسيح رسول المحبَّة والسّلام، كما هو محمَّد، والإنجيل كتاب الله كما هو القرآن، فتعالوا نسلم أمورنا لله، ونتحدَّث فيما يرضي الله، ونتعاون فيما يأمرنا الله به.

ثم قال للنبيّ(ص): ادعهم إليك، ولا تنتظر أن يبادروا، فإذا لم ينادوك لتتحدَّث معهم، نادهم أنت: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، فهناك كلماتٌ نختلف فيها، فنقول وتقولون، وهناك كلماتٌ نتَّفق عليها، فتعالوا نبحث في كلمات اللّقاء قبل كلمات الخلاف، {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ}، أن تكون عقيدتنا عقيدة الإله الواحد، وأنتم تعترفون بالوحدانيَّة، وإن كنتم تعتبرون أنَّ لها شكلاً آخر، أي الإيمان بالتّوحيد داخل التّثليث. تعالوا لكي نتعبَّد لله، ولا نتعبَّد لأيِّ شخصٍ أو صنم، ولا نكون نحن أرباباً لكم، ولا تكونون أنتم أرباباً لنا، بل نتعبَّد نحن وأنتم لله، {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[26]... ذلك هو الموقف الإسلاميّ القرآنيّ من مسألة علاقة المسلمين بالنَّصارى؛ إنها العلاقة المبنيّة على الحوار والتّعايش، ولهذا فإننا لا نريد أن نتحدَّث في النظريّات بل في الواقع.

التعايش بين الدّيانات

لقد دخل الإسلام قرنه الخامس عشر، وكان المسيحيّون واليهود موجودين في البلاد الَّتي حكمها الإسلام، ولا يزالون موجودين بكنائسهم وبيعهم ومصالحهم وأوضاعهم في البلاد الإسلاميّة، وإذا حدثت اضطهادات للمسيحيّين، فقد حدث اضطهادات للمسلمين من حكّامهم أيضاً، وقد قتلوا من المسلمين أكثر مما قتلوا من غيرهم، والنَّصارى قتلوا من المسلمين في الحروب الصليبيَّة وفي إسبانيا الكثير...

إذا أردنا أن نحرّك هذا التَّاريخ على أساس الحقد المتبادل، فمعنى ذلك أنّه لا يمكن لأمّةٍ أن تلتقي مع أمّةٍ أخرى، لأنّه ما من أمّةٍ إلا وحاربت أمّةً أخرى في تاريخها، والأمّة الواعية هي التي تنسى الفترات المظلمة في تاريخها، وتنفتح على تجربة إنسانيّة جديدة، فإذا كان آباؤنا قد فشلوا في التّعايش والحوار، فلماذا لا نفتح نحن المجال لتجربة جديدة في الحوار والتعايش، وإننا بذلك لا نقول للنّصارى أن يكفّوا عن الدّعوة لما يؤمنون به، أو نقول للمسلمين أن يكفّوا عن الدّعوة لما يؤمنون به، فإنَّ من حقّي أن أدعو لفكري، كما تجدون أنّ من حقّكم ذلك، بل المسألة هي: كيف تربح الموقف أو كيف أربح؟ وهذا يتوقَّف على قدرتي وقدرتك، لكن عندما نلتقي في بلد واحد، وعندما نلتقي في الحرب ضدّ الماديّة، فلماذا لا نتّفق حقّاً من أجل أن نواجه الفكر الّذي يواجه عقيدة الإيمان بالله.

عندما يستكبر النّاس والدّول والإسلام والمسيحيَّة، يرفض العالم ذلك، فلماذا لا نقف جميعاً لنواجه المستكبرين من موقع واحد؟ وهكذا في الموقع الواحد، فماذا ربح كلّ اللّبنانيّين من كلّ الحرب؟ لقد ربح كلّ النّاس خارج لبنان من الحروب اللّبنانيَّة، ولم يربح اللّبنانيّون شيئاً واحداً، بل ربحوا أحقاداً جديدة وعصبيّات جديدة.

إنَّ الفتنة الَّتي تتحرَّك في لبنان فتّتت كلّ الطوائف والأحزاب، لأنَّ الخطّة أن يفتَّت المجتمع اللّبنانيّ، حتى لا تبقى له القوّة في مواجهة إسرائيل والاستعمار والهيمنة الدّاخليَّة، لهذا ادرسوا كلّ الحروب الأهليَّة، إنّكم ترون أنّه ما من جماعةٍ استطاعت أن تربح شيئاً من البعثرة والتفتيت... إنَّني أدعو إلى جردة حساب، ما هي الحصيلة؟ تعالوا لنّتفق على لبنان لا هيمنة فيه، وليكن لبنان حراً لا ممرَّ فيه للاستعمار.. تعالوا نحترم الحريَّة الّتي تقولون إنها أمّ لبنان؛ هذه الحريّة السياسيَّة والفكريَّة الموجودة في لبنان، تعالوا نستثمرها لتكون حريَّة الموقف المسؤول والحوار المسؤول.

إنّنا نقول إنَّ من حقِّ المسلم أن يطرح إسلامه، ومن حقّ المسيحيّ أن يطرحه مسيحيَّته، لننطلق ويطرح كلّ إنسانٍ فكره، وليفرض الفكر الأقوى نفسه على السَّاحة، ولا نفرضه بالإرهاب والعنف.

هدف الحروب اللّبنانيّة

لقد تعبنا جميعاً من الحرب، ولقد تعبت كلّ قضايانا في كلِّ هذه الحرب، لأنّه لا يراد للبنان أن يستقرّ، لأنَّ لبنان إذا ارتاح بكلِّ طاقاته الفكريّة والسياسيّة، فسيربك كثيراً من المواقع في المنطقة، ولهذا إذا هدأت في الشرقيّة، فلا بدَّ من أن تهدأ في الغربيّة..

قالوا: نريد حرباً للبنان بين المسلمين والمسيحيّين، فكانت الحرب، وقالوا لا نريدها حرباً لأنَّ مصالحنا ترفضها الآن، وتوقَّفت الحرب، لأنَّ الوحي جاء، وقد يكون كثير من الذين يحاربون هم ضحايا الحرب، فقد تكون لهم شعاراتهم المحقَّة، ولكنَّ الحرب تتحرَّك بطريقةٍ تحرق كلّ من في داخلها.. وبعد ذلك، لا بدَّ من حروب صغيرة، حتى لا يرتاح الَّذين يحملون القضايا الكبيرة من الحرب ليواجهوا قضاياهم الكبيرة؛ بل هناك عمل دائماً لإشغال الّذين يقاتلون إسرائيل والَّذين يطلبون العدالة بقتال بعضهم البعض.

وها نحن نجد في السَّاحة أنَّ هناك رسائل سياسيَّة توجَّه، ولكنَّها تكتب بالدّماء، رسائل إلى هذه الدّولة أو تلك، من أجل إنضاج وضع سياسيّ، لأنّ هناك حروباً قد يُفهَم لها معنى، ولكن هذه الحرب أنا لا أفهم لها معنى.

هذه الحرب التي حدثت في السابق ويهيّأ لها الآن، ما معناها؟ ما قضيَّتها؟ ما هي الأهداف؟ هل الأهداف هي أن نتحارب حتى لا نواجه القضايا الكبيرة؟! إنَّ القضايا الكبيرة سقطت في الحروب، لأنَّ الرّصاص بدل أن يتوجَّه إلى إسرائيل، أصبح يوجَّه إلى صدور الناس الَّذين يكتوون بنار إسرائيل.

لحفظ دماء النّاس

إننا نريد أن نقول، إنَّ آخر وصيَّةٍ لرسول الله قالها في حجَّة الوداع، كانت "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟!"، وقال(ص): "لا ترجعوا بعدي ضلاّلاً يضرب بعضكم رقاب بعض".

إنّنا نريد أن نقول إنَّ هناك اتّفاقاً على أساس كتاب الله وسنَّة رسوله، فلماذا لا ينفَّذ هذا الاتّفاق!؟ لا يكفي أن يتَّفق الّذين هم في الموقع القياديّ، بل لا بدَّ من أن يتَّفق النّاس على الأرض، وقد لاحظنا الاتّفاق عندما انطلق وهلَّل له كثيرون، وقلنا للنّاس من على هذا المنبر ومن غير هذا المنبر، إنَّ هناك واجباً في تنفيذه، ولم نقل إلا كلمة حقّ وسلام وصلح وانفتاح بين النّاس، بالرّغم من كلّ ما قاله الحاقدون، وأنا أتحدّى كلّ من قال غير ذلك، فالكلمات مسجّلة ومطبوعة، لأنَّ رسالتنا هي حفظ دماء النّاس.

إنّنا نقول: لا بدَّ للقاعدة في الجنوب وبيروت والبقاع من أن لا تبقي هناك منطقة مغلقة ضدّ أحد، فلا معنى لأن تغلق منطقة عن إنسان هو أخ لك في الدّين والجغرافيا وغير ذلك. إذا كنّا مؤمنين بحرب إسرائيل، فلنحارب معاً، وإذا كنّا نحارب الهيمنة الدّاخليّة فلنحاربها حقّاً. لماذا يقتل أو يضرب كلّ إنسان يأتي إلى هذه المنطقة أو تلك؟ ما معنى ذلك؟ إنَّ هذا تخلّف.

نسمع الآن الكثير من الإشاعات، فهذا يقول: صرَّح مصدر أمنيّ لهذه الجهة، ولكن لا أحد يعرف من هو هذا المصدر! وهذا يخلق الحذر والخوف عند النّاس، ولذلك، أصبحت المسألة شحناً لإيجاد حالة خوفٍ ودفاعٍ عند النّاس.

نحن ندعو كلَّ الموجودين في السَّاحة إلى أن يجتمعوا، فالرّصاص لن يحلّ مشكلة البقاع الغربي وبيروت والجنوب، ولم يحلّ المشكلة؛ لقد أصبح الابن يحارب ولده من خلال الحوار بالرّصاص، فإلى أين نريد أن نصل؟! إنَّ الكلَّ ينادي بأنَّ إسرائيل هي الشرّ المطلق، إذاً، لماذا نتحفَّظ في محاربة الشرّ المطلق، وننطلق في محاربة بعضنا البعض؟!

التوحّد في مواجهة إسرائيل

إنَّ النّاس تتحدَّث عن حشود في إقليم التفّاح، وأنا أقول للجميع هناك من على هذا المنبر: إنّ إقليم التفّاح يقع على حدود الجيش العميل لإسرائيل، والقريب من حدود فلسطين المحتلّة، فإذا كنتم تعتبرون إسرائيل الشرّ المطلق، فإنَّنا نمتلك كثافةً في الأسلحة والجنود، سواء كانوا من هذه الجهة أو تلك، أو كانوا جنوداً من الجيش اللّبناني، فما رأيكم في أن تصوّبوا الدبّابات والمدافع جميعاً ضدّ إسرائيل وجيش لحد؟

إنَّ عيثرون محاصرة، لأنَّ المقاومة قتلت ضابطاً، وجيش لحد قتل أقرباءه وإخوته، إني أقترح على مسلّحي حركة أمل وحزب الله في إقليم التفّاح، أن ينطلقوا ويفكّوا الحصار عن عيثرون، وإذا قصفت إسرائيل النبطيّة وغيرها، فهي أفضل من أن يقصفها غيرها، فلتقصفنا إسرائيل، لأنها إذا قصفتنا، نتوحَّد ونعرف عمق الجرح.

لهذا، أدعو إلى التّضامن مع قرية عيثرون حتى نفكّ الحصار، وليكن الحصار لمرجعيون وكلّ هذه القرى التي يتجمَّع فيها لحد. إنني أطرح هذا الاقتراح الّذي قد يعطينا وعياً جديداً، لنفهم وحدة الجراح والمستقبل وكل الأوضاع التي نعيش فيها.

إنّنا في الجنوب، وفي البقاع الغربي، وفي البقاع الأوسط، والضّاحية، عشنا في كلّ العهود حرماناً بكلِّ معنى الكلمة، في كلّ الخدمات والأوضاع، فلماذا نحرم، والجميع يريدون أن يحرمونا أكثر؟ لماذا نخرّب بيوتنا بأيدينا؟

إنّني أدعو كلّ الفعاليّات، لا القيادات فقط، السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، إلى أن تستنفر حتى تمنع الفتنة من أن تعود من جديد.

كلّكم مسؤولون، فليتحرّك الصّوت المخلص الذي لا ينطلق لتسجيل نقاط، أو يتحرك من لعبته، نريد الجنوب ساحةً للسلام وساحةً للحريّة، ونريد أن ينطلق كلّ النّاس هناك بكلِّ حريّة وقوّة ومسؤوليَّة.

نريد للضّاحية والبقاع ومنطقة الغربية أن تكون ساحة سلام، بدلاً من أن نعمل على أن نثير الحرب، فكلّ الناس من المستكبرين يريدون أن يثيروا الحرب بيننا، فلماذا لا نكون مع بعضنا البعض ضدّ أعدائنا؟

أيّها الأخوة، فلنبتعد جميعاً عن الكلمات الحادّة، وعن نقل الإشاعات الّتي تظهر الحقد والبغضاء، ولنوقف كلّ شخصٍ يدعو إلى فتنة، ولنطلق دعوة الأخوّة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[27]. إنَّ علينا أن نعمل لمواجهة المرحلة الصَّعبة بكلِّ ما عندنا من إمكانات، لنتفرّغ جميعاً لمواجهة إسرائيل الّتي تعمل بكلّ طاقاتها لتحاصر المقاومة وتعمل على تفتيت كلّ أوضاعنا.

إننا نقول إنَّ الاتفاق الذي عقد في دمشق، قد اقترح أن يكون هناك غرفة عمليّات مشتركة ضدّ إسرائيل، فلماذا لا تكون هذه الغرفة، حتى لا يكون هناك إشكال في مكتب مسلَّح هنا في الجنوب وهناك في البقاع الغربي؟ ألم توقّعوا جميعاً على غرفة العمليّات؟

إسرائيل غدّة سرطانيّة

إننا نقول: على كلّ المعنيّين أن يجلسوا مع أنفسهم ومع بعضهم البعض، ليبحثوا كلّ قضيّة، وليعتبروا من الحروب الّتي حدثت في الجنوب والضّاحية وبيروت والبقاع الغربي. ما هي النّتائج العمليّة التي استطعنا أن نحصل عليها على مستوى الطّائفة الشيعيّة، إن كنا نتحدّث شيعيّاً، أو على مستوى الإسلام إن كنّا نتحدّث عن مصلحة الإسلام والمسلمين؟ ربما سيطر فريق على منطقة وفريق على منطقة أخرى، ولكن ما نفع ذلك، والصينيّة كلّها بيد إسرائيل؟ ما نفع أن يكون لك الجنوب، وكلّ مواقع إسرائيل فوقك؟ وأن تملك الضّاحية وكلّ مدافع اليرزة فوقك؟ وأن تهجّر أخاك هنا وهناك؟

لا تفكّروا كما الأطفال الّذين يبنون البيوت على الشطآن ثم تأتي الأمواج وتجرفها، إنّ علينا أن نبني بيوتنا على أرض صلبة، فوحدتنا هي أرض عزّتنا، لأنّ العدوّ لا يزال يتحرّك في كلّ مواقفنا، وإنَّ هناك عملاً لتشويه صورة الإسلام والإسلاميّين، وقد عشنا الأحاديث الصحافيّة والإذاعيّة عن ذلك.

أوّلاً، هناك حديث قيل فيه إنّ هناك بعض الإسلاميّين في الضّفّة وغزّة، عرضوا التّفاوض مع إسرائيل، وهذا ما نسب إلى الإخوة في حماس، ولكنّنا نعرف أنَّ هذا يدخل في الدّعاية الإسرائيليَّة، للإيحاء بأنّ الإسلاميّين دخلوا اللّعبة التفاوضيّة، وهذا الأمر غير صحيح، بحسب الأخوة في حماس.

والموضوع الثّقافي هو ما أثاره التلفزيون الأميركي ونقلته وسائل الإعلام، هو أنَّ إيران الإسلام باعت إسرائيل مقداراً كبيراً من البترول، لتهيّئ إسرائيل لمسألة إطلاق جنودها الأسرى. إنَّ هذا الكلام الذي أثير في هذه الظروف بالذّات، يدخل في دائرة كلّ الكلمات الكاذبة عن الجمهورية الإسلامية، في أنها كانت تعقد صفقات سلاح مع إسرائيل. إنّ هذه المسألة ليس لها أساس من الصحَّة جملة وتفصيلاً، ونحن نعرف ذلك من اللّقاءات الخاصّة مع الإمام الخميني(قده)، ومن آية الله خامنئي ورفسنجاني، من أنهم قد يعقدون علاقة مع أية دولة في العالم، ولكنَّ هناك دولتين لا يمكن أن يعقدوا علاقة معهما، وهما إسرائيل وجنوب أفريقيا.

إنَّ الجمهوريّة الإسلاميّة لا تزال تثقِّف شعبها بعد كلّ صلاة، عندما يقولون "الموت لإسرائيل"، وهم يدعمون المقاومة الإسلامية والانتفاضة الإسلامية في فلسطين في كثير من فصائلها... إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة تعتبر إسرائيل غدّة سرطانيّة لا بدّ من إزالتها. لذلك، لا يمكن أن يكون بينها وبين إسرائيل إلا الحرب.

لذلك، كلّ هذه الأخبار هي خطة استكبارية أميركية تعمل على تشويه صورة إيران الإسلام، نحن قلنا مراراً إنّنا لسنا مع الأشخاص، بل مع المبادئ والخطّ، ونحن نعرف أن قادة الجمهورية الإسلاميّة لا يزالون في خطّ الإمام الخميني.

ولذلك، فإنّ كلّ هذه الإشاعات هي جزء من الحرب الأميركيّة الاستكباريّة ضدّ الجمهورية الإسلامية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[28].


[1]  [مريم: 16 ـ 21].

[2]  [آل عمران: 37].

[3]  [آل عمران: 38].

[4]  [الطلاق: 2، 3].

[5]  [مريم: 16].

[6]  [مريم: 17].

[7]  [مريم: 18].

[8]  [مريم: 19].

[9]  [مريم: 20].

[10]  [غافر: 57].

[11]  [مريم: 21].

[12]  [آل عمران: 59].

[13]  [مريم: 22].

[14]  [مريم: 23 ـ 27].

[15]  [مريم: 28].

[16]  [مريم: 29].

[17]  [مريم: 30].

[18]  [مريم: 32، 33].

[19]  [النساء: 157، 158]

[20]  [مريم: 33].

[21]  [مري: 34، 35].

[22]  [المائدة: 116، 117].

[23]  [المائدة: 118].

[24]  [المائدة: 82].

[25]  [العنكبوت: 46].

[26]  [آل عمران: 64].

[27]  [الحجرات: 10].

[28]  [الحجرات: 6].

ألقى سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمام الرّضا(ع) في بئر العبد، بتاريخ: 22 كانون الأوّل 1989م، بحضور حشدٍ من المؤمنين، ومما جاء فيها:

يقول الله تعالى وهو يحدِّثنا في سورة مريم عن ولادة السيّد المسيح(ع)، كمظهر من مظاهر قدرة الله، وكعنوانٍ من عناوين الرّسالة، إنَّ المسيح(ع) هو عبد الله ورسوله وليس إلهاً، لتتوازن النَّظرة في السيّد المسيح(ع)، حتى لا ينحرف المنحرفون في تصوّرهم له، وحتى يؤكِّد المسلمون كلّ تصوّراتهم عن السيِّد المسيح(ع) من خلال القرآن، لأنَّ القرآن كتاب الله الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..

روحيَّة مريم(ع)

يقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً}[1].

الفصل الأوَّل من السّورة يتحدَّث عن مريم الَّتي نذرتها أمّها لبيت المقدس، فقد ولدت الطّفلة مريم، وجاء القوم يريدون كفالتها، لأنَّ أباها ميّت، وخرجت القرعة على زكريا؛ هذا الإنسان الصَّالح الّذي يقال إنّه كان نبيّاً في خطِّ الرّسالات..

لم تعش مريم حالة مراهقة كما تعيشها كثير من الفتيات، بل كانت تعيش الانفتاح على الله، وكان لها محرابٌ في البيت تجلس فيه بين يدي ربها.. فكانت في عزلة المحراب تعبد الله وتبتهل إليه، وكان زكريّا يدخل عليها، ويجد عندها طعاماً من أطيب ما يكون الطَّعام في رائحته.. {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ}[2].

وعندما شعر زكريّا بهذه الرّعاية الروحيّة، وبأنَّ الله يمكن أن يحقِّق الأشياء من دون سبب عاديّ، {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}[3]، وهذا يذكِّرنا دائماً بأن لا نفكّر في الوسائل العاديّة حتى نحقّق الرّزق والنّصر، لأنَّ من {يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[4].

البشارة بولادة المسيح(ع)

وهكذا نشأت مريم: {إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً}[5]، حتى لا يشغلها أحد عن عبادة ربها. وفجأة، يبرز شخص بصورة شابّ، وتفَاجَأ مريم العذراء، كأيِّ عذراء تكون في عزلتها وتعيش عمق العفّة، {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً}[6]، فقالت: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ}[7]، أستجير بالله منك إن كنت تقيّاً تخاف الله فتشعر بمسؤوليَّتك أمامه، وفوجئت مريم من جديد بأنَّ هذا ليس إنساناً، بل هو ملك، {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً}[8]، ودبَّ الرّعب في قلبها أكثر: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}[9]، قال إنَّك تفكرين بطريقة البشر، ولكن عليك أن تفكّري الآن بطريقة خالق البشر، كيف خلق الله آدم؟ كيف خلق الله النّاس؟ إنكم لا تستغربون أن يولد الإنسان من نطفة، من جزء من النّطفة لا يُرى بالعين المجرّدة، ولكن لو فكَّرتم كيف تكون هذه النّطفة هي الأساس للإنسان، وكيف تحمل النّطفة كلّ أخلاق أعمامه وأخواله وآبائه وعاداتهم؛ نطفة لا تُرى، ويكون فيها كلّ ملامح صورته، لو فكرتم في ذلك، لرأيتم المعجزة في أنفسكم في خلق الله، كما هي المعجزة في خلق عيسى بن مريم(ع)، فإنَّ الله على كلِّ شيء قدير، {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}[10] فمن أنتم؟

{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، كأنَّه انتظر مريم أن تقول: لماذا هذا الأسلوب؟ ما هي المناسبة؟ وكان الجواب: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ}[11].

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[12]، هو آية للنّاس، ورسول الرّحمة والمحبَّة..

وقال الله لعيسى كن فكان، فحملته: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً}[13]، فلم ترد للنّاس أن يعرفوا حملها، لأنهم قد يزعجونها بما لا تستطيع أن تتحمَّله، فابتعدت عنهم، وكبر الجنين، وأمّا كيف كان الحمل؟ فهذا لم يتحدَّث به القرآن.

{فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ}، ولم يكن عندها أحد، وفوجئت بالحقيقة، {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}، فقد أدركها ضعف الأنثى الّتي تشعر بأنَّ هناك مشكلة أكبر من قدرتها، {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا}، وبعضهم يقول إنّه الملك، وبعضهم يقول إنّه عيسى، {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً}، افرحي كما تفرح الأمّ بأيّ ولد، ولكنّ عيسى، كما هو، آية من الله ورحمة منه، {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً}.

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ}[14]، فقالوا: لقد انكشف وضع مريم، وبادروها بهجومٍ كلاميٍّ وقالوا لقد جئت شيئاً عظيماً: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}[15]، فأشارت إلى عيسى بأن يتكلَّموا معه، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً}[16]، ولكنّ الله الّذي أنطق كلَّ شيء، أنطق عيسى الطّفل، {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}[17]، ونطق عيسى بالعبوديَّة، وقال أنا عبد الله، ولم يجعلني الله إلهاً أو ابناً للإله، لأنَّ الله الّذي خلق كلَّ شيء، لا حاجة له بالولد، بل جعلني نبيّاً، وجعلني مباركاً، ونحن نفهم أنَّ البركة حالة روحيّة يمسح بها الإنسان على الناس ليباركهم، ولكنّ البركة في المفهوم القرآني هي النّفع للنّاس، أن تكون مباركاً، يعني أن تكون نفّاعاً للنّاس، أن يكون وجودك في خدمة النّاس، {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}[18]؛ أوصاني بالصَّلاة لتكون النّافذة الَّتي تطلّ فيها روحي على الله دائماً، فإذا رأيت الله، أشرقت في قلبي كلّ معاني المحبَّة والخير للنّاس، وأوصاني بالزّكاة لأنفتح بحياتي على النّاس، فيما تمثّله الزكاة من معنى العطاء للنّاس..

حقيقة موت عيسى

كيف مات عيسى؟ هذا الأمر اختلف فيه العلماء، ولكنَّ الله يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ}[19]، كيف رفعه الله إليه؟ هذا أمرٌ لا نعرفه، وليس من الضّروريّ أن نعرفه، لأنه ليس من الضّرورات العقيديّة، والله ترك المسألة دون معرفةٍ عن كيفيَّة موت عيسى(ع).

وهذا ما قاله عيسى وما قاله قبله يحيى، فالمسألة أن تعيش السَّلام؛ إنَّ الله يريد منّا أن نعيش سلام الرّوح في الحياة، وأن نعيش سلام الرّوح عندما نلفظ هذه الرّوح: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}[20].

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، تلك صورته وقصَّته، وتلك آية الله فيه، {قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لله}، ليس عيسى ابن الله، بل إنَّ عيسى عبد الله، {أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ}[21]، ذلك هو خطّه(ع).

وانطلق عيسى بعد ذلك، وأعطاه الله النبوَّة، وكان في معجزاته أيضاً نوع جديد من المعجزات الّتي قد لا تكون مألوفةً لغيره...

وكانت نهاية الحوار بين الله وعيسى، والله يعرف نزاهة عيسى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، ليس لي ولا لأمّي أن ندَّعي الألوهيَّة، {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}[22]، أنا لا أتحمَّل مسؤوليَّة ما يقوله الناس، {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[23].

العلاقة مع أتباع عيسى

ذلك عيسى بن مريم الَّذي نذكره فيما يثار من ذكرى ولادته، ونحن ننفتح عليه بكلِّ ما عندنا من الانفتاح على كلّ الرسل، فماذا عن علاقتنا بأتباع عيسى(ع)، سواء كانوا أتباعه في كلّ شيء، أو أتباعه من الناحية الرسميّة؟ {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}[24]، الّذين يعيشون محبَّة السيِّد المسيح ورساليَّته وطهره وانفتاحه على النَّاس، من خلال المعاني الرّوحيَّة للمسيحيَّة.

فعندما ينفتح المسيحيّون علينا، يكونون أقرب النَّاس مودَّةً لنا، وهذا ما عاشه المسلمون في بداية عصر الدَّعوة معهم.. على أساس هذا القلب المفتوح على كلمة الحقّ، وعندما أراد الله لنا أن نتجادل فيما نختلف فيه مع أهل الكتاب، فتح باب الحوار، وقال لنا: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}؛ وهو الَّذين يقتلونكم، والَّذين يظلمونكم، فالمنطق مع هؤلاء مختلف، {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[25]، لسنا معقَّدين من السيّد المسيح، كما أنتم معقَّدون من محمد(ص)، ولسنا معقَّدين من الإنجيل كتاب الله، كما أنتم معقَّدون من القرآن.

فالمسيح رسول المحبَّة والسّلام، كما هو محمَّد، والإنجيل كتاب الله كما هو القرآن، فتعالوا نسلم أمورنا لله، ونتحدَّث فيما يرضي الله، ونتعاون فيما يأمرنا الله به.

ثم قال للنبيّ(ص): ادعهم إليك، ولا تنتظر أن يبادروا، فإذا لم ينادوك لتتحدَّث معهم، نادهم أنت: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، فهناك كلماتٌ نختلف فيها، فنقول وتقولون، وهناك كلماتٌ نتَّفق عليها، فتعالوا نبحث في كلمات اللّقاء قبل كلمات الخلاف، {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ}، أن تكون عقيدتنا عقيدة الإله الواحد، وأنتم تعترفون بالوحدانيَّة، وإن كنتم تعتبرون أنَّ لها شكلاً آخر، أي الإيمان بالتّوحيد داخل التّثليث. تعالوا لكي نتعبَّد لله، ولا نتعبَّد لأيِّ شخصٍ أو صنم، ولا نكون نحن أرباباً لكم، ولا تكونون أنتم أرباباً لنا، بل نتعبَّد نحن وأنتم لله، {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[26]... ذلك هو الموقف الإسلاميّ القرآنيّ من مسألة علاقة المسلمين بالنَّصارى؛ إنها العلاقة المبنيّة على الحوار والتّعايش، ولهذا فإننا لا نريد أن نتحدَّث في النظريّات بل في الواقع.

التعايش بين الدّيانات

لقد دخل الإسلام قرنه الخامس عشر، وكان المسيحيّون واليهود موجودين في البلاد الَّتي حكمها الإسلام، ولا يزالون موجودين بكنائسهم وبيعهم ومصالحهم وأوضاعهم في البلاد الإسلاميّة، وإذا حدثت اضطهادات للمسيحيّين، فقد حدث اضطهادات للمسلمين من حكّامهم أيضاً، وقد قتلوا من المسلمين أكثر مما قتلوا من غيرهم، والنَّصارى قتلوا من المسلمين في الحروب الصليبيَّة وفي إسبانيا الكثير...

إذا أردنا أن نحرّك هذا التَّاريخ على أساس الحقد المتبادل، فمعنى ذلك أنّه لا يمكن لأمّةٍ أن تلتقي مع أمّةٍ أخرى، لأنّه ما من أمّةٍ إلا وحاربت أمّةً أخرى في تاريخها، والأمّة الواعية هي التي تنسى الفترات المظلمة في تاريخها، وتنفتح على تجربة إنسانيّة جديدة، فإذا كان آباؤنا قد فشلوا في التّعايش والحوار، فلماذا لا نفتح نحن المجال لتجربة جديدة في الحوار والتعايش، وإننا بذلك لا نقول للنّصارى أن يكفّوا عن الدّعوة لما يؤمنون به، أو نقول للمسلمين أن يكفّوا عن الدّعوة لما يؤمنون به، فإنَّ من حقّي أن أدعو لفكري، كما تجدون أنّ من حقّكم ذلك، بل المسألة هي: كيف تربح الموقف أو كيف أربح؟ وهذا يتوقَّف على قدرتي وقدرتك، لكن عندما نلتقي في بلد واحد، وعندما نلتقي في الحرب ضدّ الماديّة، فلماذا لا نتّفق حقّاً من أجل أن نواجه الفكر الّذي يواجه عقيدة الإيمان بالله.

عندما يستكبر النّاس والدّول والإسلام والمسيحيَّة، يرفض العالم ذلك، فلماذا لا نقف جميعاً لنواجه المستكبرين من موقع واحد؟ وهكذا في الموقع الواحد، فماذا ربح كلّ اللّبنانيّين من كلّ الحرب؟ لقد ربح كلّ النّاس خارج لبنان من الحروب اللّبنانيَّة، ولم يربح اللّبنانيّون شيئاً واحداً، بل ربحوا أحقاداً جديدة وعصبيّات جديدة.

إنَّ الفتنة الَّتي تتحرَّك في لبنان فتّتت كلّ الطوائف والأحزاب، لأنَّ الخطّة أن يفتَّت المجتمع اللّبنانيّ، حتى لا تبقى له القوّة في مواجهة إسرائيل والاستعمار والهيمنة الدّاخليَّة، لهذا ادرسوا كلّ الحروب الأهليَّة، إنّكم ترون أنّه ما من جماعةٍ استطاعت أن تربح شيئاً من البعثرة والتفتيت... إنَّني أدعو إلى جردة حساب، ما هي الحصيلة؟ تعالوا لنّتفق على لبنان لا هيمنة فيه، وليكن لبنان حراً لا ممرَّ فيه للاستعمار.. تعالوا نحترم الحريَّة الّتي تقولون إنها أمّ لبنان؛ هذه الحريّة السياسيَّة والفكريَّة الموجودة في لبنان، تعالوا نستثمرها لتكون حريَّة الموقف المسؤول والحوار المسؤول.

إنّنا نقول إنَّ من حقِّ المسلم أن يطرح إسلامه، ومن حقّ المسيحيّ أن يطرحه مسيحيَّته، لننطلق ويطرح كلّ إنسانٍ فكره، وليفرض الفكر الأقوى نفسه على السَّاحة، ولا نفرضه بالإرهاب والعنف.

هدف الحروب اللّبنانيّة

لقد تعبنا جميعاً من الحرب، ولقد تعبت كلّ قضايانا في كلِّ هذه الحرب، لأنّه لا يراد للبنان أن يستقرّ، لأنَّ لبنان إذا ارتاح بكلِّ طاقاته الفكريّة والسياسيّة، فسيربك كثيراً من المواقع في المنطقة، ولهذا إذا هدأت في الشرقيّة، فلا بدَّ من أن تهدأ في الغربيّة..

قالوا: نريد حرباً للبنان بين المسلمين والمسيحيّين، فكانت الحرب، وقالوا لا نريدها حرباً لأنَّ مصالحنا ترفضها الآن، وتوقَّفت الحرب، لأنَّ الوحي جاء، وقد يكون كثير من الذين يحاربون هم ضحايا الحرب، فقد تكون لهم شعاراتهم المحقَّة، ولكنَّ الحرب تتحرَّك بطريقةٍ تحرق كلّ من في داخلها.. وبعد ذلك، لا بدَّ من حروب صغيرة، حتى لا يرتاح الَّذين يحملون القضايا الكبيرة من الحرب ليواجهوا قضاياهم الكبيرة؛ بل هناك عمل دائماً لإشغال الّذين يقاتلون إسرائيل والَّذين يطلبون العدالة بقتال بعضهم البعض.

وها نحن نجد في السَّاحة أنَّ هناك رسائل سياسيَّة توجَّه، ولكنَّها تكتب بالدّماء، رسائل إلى هذه الدّولة أو تلك، من أجل إنضاج وضع سياسيّ، لأنّ هناك حروباً قد يُفهَم لها معنى، ولكن هذه الحرب أنا لا أفهم لها معنى.

هذه الحرب التي حدثت في السابق ويهيّأ لها الآن، ما معناها؟ ما قضيَّتها؟ ما هي الأهداف؟ هل الأهداف هي أن نتحارب حتى لا نواجه القضايا الكبيرة؟! إنَّ القضايا الكبيرة سقطت في الحروب، لأنَّ الرّصاص بدل أن يتوجَّه إلى إسرائيل، أصبح يوجَّه إلى صدور الناس الَّذين يكتوون بنار إسرائيل.

لحفظ دماء النّاس

إننا نريد أن نقول، إنَّ آخر وصيَّةٍ لرسول الله قالها في حجَّة الوداع، كانت "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟!"، وقال(ص): "لا ترجعوا بعدي ضلاّلاً يضرب بعضكم رقاب بعض".

إنّنا نريد أن نقول إنَّ هناك اتّفاقاً على أساس كتاب الله وسنَّة رسوله، فلماذا لا ينفَّذ هذا الاتّفاق!؟ لا يكفي أن يتَّفق الّذين هم في الموقع القياديّ، بل لا بدَّ من أن يتَّفق النّاس على الأرض، وقد لاحظنا الاتّفاق عندما انطلق وهلَّل له كثيرون، وقلنا للنّاس من على هذا المنبر ومن غير هذا المنبر، إنَّ هناك واجباً في تنفيذه، ولم نقل إلا كلمة حقّ وسلام وصلح وانفتاح بين النّاس، بالرّغم من كلّ ما قاله الحاقدون، وأنا أتحدّى كلّ من قال غير ذلك، فالكلمات مسجّلة ومطبوعة، لأنَّ رسالتنا هي حفظ دماء النّاس.

إنّنا نقول: لا بدَّ للقاعدة في الجنوب وبيروت والبقاع من أن لا تبقي هناك منطقة مغلقة ضدّ أحد، فلا معنى لأن تغلق منطقة عن إنسان هو أخ لك في الدّين والجغرافيا وغير ذلك. إذا كنّا مؤمنين بحرب إسرائيل، فلنحارب معاً، وإذا كنّا نحارب الهيمنة الدّاخليّة فلنحاربها حقّاً. لماذا يقتل أو يضرب كلّ إنسان يأتي إلى هذه المنطقة أو تلك؟ ما معنى ذلك؟ إنَّ هذا تخلّف.

نسمع الآن الكثير من الإشاعات، فهذا يقول: صرَّح مصدر أمنيّ لهذه الجهة، ولكن لا أحد يعرف من هو هذا المصدر! وهذا يخلق الحذر والخوف عند النّاس، ولذلك، أصبحت المسألة شحناً لإيجاد حالة خوفٍ ودفاعٍ عند النّاس.

نحن ندعو كلَّ الموجودين في السَّاحة إلى أن يجتمعوا، فالرّصاص لن يحلّ مشكلة البقاع الغربي وبيروت والجنوب، ولم يحلّ المشكلة؛ لقد أصبح الابن يحارب ولده من خلال الحوار بالرّصاص، فإلى أين نريد أن نصل؟! إنَّ الكلَّ ينادي بأنَّ إسرائيل هي الشرّ المطلق، إذاً، لماذا نتحفَّظ في محاربة الشرّ المطلق، وننطلق في محاربة بعضنا البعض؟!

التوحّد في مواجهة إسرائيل

إنَّ النّاس تتحدَّث عن حشود في إقليم التفّاح، وأنا أقول للجميع هناك من على هذا المنبر: إنّ إقليم التفّاح يقع على حدود الجيش العميل لإسرائيل، والقريب من حدود فلسطين المحتلّة، فإذا كنتم تعتبرون إسرائيل الشرّ المطلق، فإنَّنا نمتلك كثافةً في الأسلحة والجنود، سواء كانوا من هذه الجهة أو تلك، أو كانوا جنوداً من الجيش اللّبناني، فما رأيكم في أن تصوّبوا الدبّابات والمدافع جميعاً ضدّ إسرائيل وجيش لحد؟

إنَّ عيثرون محاصرة، لأنَّ المقاومة قتلت ضابطاً، وجيش لحد قتل أقرباءه وإخوته، إني أقترح على مسلّحي حركة أمل وحزب الله في إقليم التفّاح، أن ينطلقوا ويفكّوا الحصار عن عيثرون، وإذا قصفت إسرائيل النبطيّة وغيرها، فهي أفضل من أن يقصفها غيرها، فلتقصفنا إسرائيل، لأنها إذا قصفتنا، نتوحَّد ونعرف عمق الجرح.

لهذا، أدعو إلى التّضامن مع قرية عيثرون حتى نفكّ الحصار، وليكن الحصار لمرجعيون وكلّ هذه القرى التي يتجمَّع فيها لحد. إنني أطرح هذا الاقتراح الّذي قد يعطينا وعياً جديداً، لنفهم وحدة الجراح والمستقبل وكل الأوضاع التي نعيش فيها.

إنّنا في الجنوب، وفي البقاع الغربي، وفي البقاع الأوسط، والضّاحية، عشنا في كلّ العهود حرماناً بكلِّ معنى الكلمة، في كلّ الخدمات والأوضاع، فلماذا نحرم، والجميع يريدون أن يحرمونا أكثر؟ لماذا نخرّب بيوتنا بأيدينا؟

إنّني أدعو كلّ الفعاليّات، لا القيادات فقط، السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، إلى أن تستنفر حتى تمنع الفتنة من أن تعود من جديد.

كلّكم مسؤولون، فليتحرّك الصّوت المخلص الذي لا ينطلق لتسجيل نقاط، أو يتحرك من لعبته، نريد الجنوب ساحةً للسلام وساحةً للحريّة، ونريد أن ينطلق كلّ النّاس هناك بكلِّ حريّة وقوّة ومسؤوليَّة.

نريد للضّاحية والبقاع ومنطقة الغربية أن تكون ساحة سلام، بدلاً من أن نعمل على أن نثير الحرب، فكلّ الناس من المستكبرين يريدون أن يثيروا الحرب بيننا، فلماذا لا نكون مع بعضنا البعض ضدّ أعدائنا؟

أيّها الأخوة، فلنبتعد جميعاً عن الكلمات الحادّة، وعن نقل الإشاعات الّتي تظهر الحقد والبغضاء، ولنوقف كلّ شخصٍ يدعو إلى فتنة، ولنطلق دعوة الأخوّة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[27]. إنَّ علينا أن نعمل لمواجهة المرحلة الصَّعبة بكلِّ ما عندنا من إمكانات، لنتفرّغ جميعاً لمواجهة إسرائيل الّتي تعمل بكلّ طاقاتها لتحاصر المقاومة وتعمل على تفتيت كلّ أوضاعنا.

إننا نقول إنَّ الاتفاق الذي عقد في دمشق، قد اقترح أن يكون هناك غرفة عمليّات مشتركة ضدّ إسرائيل، فلماذا لا تكون هذه الغرفة، حتى لا يكون هناك إشكال في مكتب مسلَّح هنا في الجنوب وهناك في البقاع الغربي؟ ألم توقّعوا جميعاً على غرفة العمليّات؟

إسرائيل غدّة سرطانيّة

إننا نقول: على كلّ المعنيّين أن يجلسوا مع أنفسهم ومع بعضهم البعض، ليبحثوا كلّ قضيّة، وليعتبروا من الحروب الّتي حدثت في الجنوب والضّاحية وبيروت والبقاع الغربي. ما هي النّتائج العمليّة التي استطعنا أن نحصل عليها على مستوى الطّائفة الشيعيّة، إن كنا نتحدّث شيعيّاً، أو على مستوى الإسلام إن كنّا نتحدّث عن مصلحة الإسلام والمسلمين؟ ربما سيطر فريق على منطقة وفريق على منطقة أخرى، ولكن ما نفع ذلك، والصينيّة كلّها بيد إسرائيل؟ ما نفع أن يكون لك الجنوب، وكلّ مواقع إسرائيل فوقك؟ وأن تملك الضّاحية وكلّ مدافع اليرزة فوقك؟ وأن تهجّر أخاك هنا وهناك؟

لا تفكّروا كما الأطفال الّذين يبنون البيوت على الشطآن ثم تأتي الأمواج وتجرفها، إنّ علينا أن نبني بيوتنا على أرض صلبة، فوحدتنا هي أرض عزّتنا، لأنّ العدوّ لا يزال يتحرّك في كلّ مواقفنا، وإنَّ هناك عملاً لتشويه صورة الإسلام والإسلاميّين، وقد عشنا الأحاديث الصحافيّة والإذاعيّة عن ذلك.

أوّلاً، هناك حديث قيل فيه إنّ هناك بعض الإسلاميّين في الضّفّة وغزّة، عرضوا التّفاوض مع إسرائيل، وهذا ما نسب إلى الإخوة في حماس، ولكنّنا نعرف أنَّ هذا يدخل في الدّعاية الإسرائيليَّة، للإيحاء بأنّ الإسلاميّين دخلوا اللّعبة التفاوضيّة، وهذا الأمر غير صحيح، بحسب الأخوة في حماس.

والموضوع الثّقافي هو ما أثاره التلفزيون الأميركي ونقلته وسائل الإعلام، هو أنَّ إيران الإسلام باعت إسرائيل مقداراً كبيراً من البترول، لتهيّئ إسرائيل لمسألة إطلاق جنودها الأسرى. إنَّ هذا الكلام الذي أثير في هذه الظروف بالذّات، يدخل في دائرة كلّ الكلمات الكاذبة عن الجمهورية الإسلامية، في أنها كانت تعقد صفقات سلاح مع إسرائيل. إنّ هذه المسألة ليس لها أساس من الصحَّة جملة وتفصيلاً، ونحن نعرف ذلك من اللّقاءات الخاصّة مع الإمام الخميني(قده)، ومن آية الله خامنئي ورفسنجاني، من أنهم قد يعقدون علاقة مع أية دولة في العالم، ولكنَّ هناك دولتين لا يمكن أن يعقدوا علاقة معهما، وهما إسرائيل وجنوب أفريقيا.

إنَّ الجمهوريّة الإسلاميّة لا تزال تثقِّف شعبها بعد كلّ صلاة، عندما يقولون "الموت لإسرائيل"، وهم يدعمون المقاومة الإسلامية والانتفاضة الإسلامية في فلسطين في كثير من فصائلها... إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة تعتبر إسرائيل غدّة سرطانيّة لا بدّ من إزالتها. لذلك، لا يمكن أن يكون بينها وبين إسرائيل إلا الحرب.

لذلك، كلّ هذه الأخبار هي خطة استكبارية أميركية تعمل على تشويه صورة إيران الإسلام، نحن قلنا مراراً إنّنا لسنا مع الأشخاص، بل مع المبادئ والخطّ، ونحن نعرف أن قادة الجمهورية الإسلاميّة لا يزالون في خطّ الإمام الخميني.

ولذلك، فإنّ كلّ هذه الإشاعات هي جزء من الحرب الأميركيّة الاستكباريّة ضدّ الجمهورية الإسلامية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[28].


[1]  [مريم: 16 ـ 21].

[2]  [آل عمران: 37].

[3]  [آل عمران: 38].

[4]  [الطلاق: 2، 3].

[5]  [مريم: 16].

[6]  [مريم: 17].

[7]  [مريم: 18].

[8]  [مريم: 19].

[9]  [مريم: 20].

[10]  [غافر: 57].

[11]  [مريم: 21].

[12]  [آل عمران: 59].

[13]  [مريم: 22].

[14]  [مريم: 23 ـ 27].

[15]  [مريم: 28].

[16]  [مريم: 29].

[17]  [مريم: 30].

[18]  [مريم: 32، 33].

[19]  [النساء: 157، 158]

[20]  [مريم: 33].

[21]  [مري: 34، 35].

[22]  [المائدة: 116، 117].

[23]  [المائدة: 118].

[24]  [المائدة: 82].

[25]  [العنكبوت: 46].

[26]  [آل عمران: 64].

[27]  [الحجرات: 10].

[28]  [الحجرات: 6].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية