محاضرات
06/01/2025

التَّخطيطُ لكلِّ حركةِ الحياة

 التَّخطيطُ لكلِّ حركةِ الحياة

منْ دروسِ أهلِ البيتِ (ع) وتوجيهاتِهم: التَّخطيطُ لكلِّ حركةِ الحياة
 
إنَّ مدرسة الإمام الحسين (ع) هي مدرسة الإسلام، لأنَّ الحسين هو إمام الإسلام، لذلك، فإنّها فرصة نفرغ فيها لأنفسنا، لأنَّ الإنسان، أيُّها الأحبَّة، يُحشَر وحدَه، ويقف بين يدي الله تعالى وحده. ولذلك، لا بدَّ أن يملك نفسه، أن لا يجعلها ملكاً للآخرين، بأن تتبع الآخرين من دون اقتناع، ومن دون تأكيد وتركيز.
أن تعرف كلَّ نفسك، أن تكون لك قاعدة تنطلق منها في الحياة، قاعدة تحكم فيها لنفسك وعليها، أن تعيش لحظاتٍ من الهدوء النَّفسيّ، لأنَّ هذا الضَّجيج الَّذي نعيش فيه، يشغلنا عن أنفسنا ويجعلنا لا نفهمها، حيث يبدأ أحدنا من الصَّباح ليتناول فطوره، ثمَّ يدخل مع النَّاس ويخوض معهم، وينشغل بأشغاله وأعماله، ثمَّ يأتي مساءً إلى البيت منهكاً متعباً، وقد يجلس إلى التّلفزيون الّذي يشغله عن نفسه، ولربّما يدخله في الكثير مما لا يصلح نفسه. وهكذا، يعيش الإنسان في الدوَّامة، حتَّى إذا جاءه الموت، لم يستطع أن يؤكِّد أين هو، ومن أين، وإلى أين بين يدي الله.
أهميَّةُ التَّخطيطِ في حياتنا
 
لذلك، أيُّها الأحبَّة، علَّمنا الأئمَّة من أهل البيت (ع)، مما علَّمهم رسول الله الَّذي علَّمه الله تعالى، أن تكون بدايات الزَّمن منطلق تفكير وتخطيط، فكما نخطِّط لمشاريعنا، كما لو كان أحدنا عنده مشروع اقتصاديّ، ألا يخطِّط له؟ كذلك مشروعنا الحياتيّ العمليّ يحتاج إلى تخطيط..
وهذا المعنى أوضح ما يتمثَّل بتجربتين في الدُّعاء؛ التَّجربة الأولى وهي مرويَّة عن الإمام زين العابدين (ع)، تجربة أدعية الأيَّام، بحيث جُعِلَ لكلِّ يوم دعاء، وجُعِلَ في هذه الأدعية عناصر أخلاقيَّة وسلوكيَّة وعقائديَّة يستحضرها الإنسان في كلِّ يوم، وهي أدعية مختصرة، حتّى يفكّر فيها، وحتّى يحاسب نفسه على أساسها.
والتَّجربة الثَّانية هي دعاؤه (ع) في الصَّباح والمساء، وهذا الدّعاء من أروع الأدعية، بحيث يستوحيه الإنسان حين يدخل في بداية الزَّمن صباحاً ومساءً، ويستطيع أن يستوحيه حين يدخل في أوَّل الأسبوع، أو في أوَّل الشَّهر، أو أوَّل السَّنة، لأنَّ الإنسانَ يشعر مع انتهاء كلِّ مرحلة، بأنَّه بحاجة لأن يستغفر الله مما حدث فيها، وهناك مرحلة جديدة عليه الاستعداد لها، فكلُّ واحدٍ فينا عنده ماض لا يعود، وعنده حاضر لا يمتدّ كثيراً، وهو يُستَهلَك أيضاً، وهناك مستقبل. الماضي لا نستطيع أن نملك منه شيئاً، إلَّا أن نستغفر الله مما أخطأنا فيه، ونستزيده مما أحسنَّا فيه في المستقبل، لأنَّ الماضي راح من أيدينا، بينما المستقبل ما زال في أيدينا.
إذاً، المسألة هي كيف نمسك الحاضر قبل أن يهرب من بين أيدينا، فقبل أن تهرب هذه الدَّقيقة وهذه السَّاعة وهذه اللَّيلة، لا بدَّ لنا من أن نملأها بما يقوِّي شخصيَّتنا الأخلاقيَّة والرّوحيَّة بما يقرِّبنا إلى الله، وأن نفرِّغها مما يبعدنا عنه تعالى.
ثمَّ نفكِّر في المستقبل؛ غداً ماذا أعمل؟ بعد غدٍ ماذا أعمل؟ بمعنى أنَّ عليَّ أن لا أنتظر الغد لأقرِّر ماذا أفعل فيه، بل عليَّ من الآن أن أعرفَ ماذا أعمل، ما الخطَّة في علاقتي مع نفسي، مع ربّي، مع عائلتي، مع الزَّوجة أو الزَّوج، مع أولادي، وكيف تكون علاقتي مع عملي من حيث الغشّ أو النَّصيحة... كيف تكون علاقتي مع النَّاس، وكيف تكون علاقتي مع المواقف الَّتي يراد لي أن أقفها، قد يكون هناك مواقف اجتماعيَّة يراد لي المشاركة فيها، وإبداء الرأي تأييداً أو رفضاً، وقد يكون هناك مواقف سياسيَّة عليَّ اتخاذها موالياً أو معارضاً.
لذا، لا بدَّ للإنسان عندما يأتي المستقبل، أن يكون هذا المستقبل منطلقاً من خطَّة، حتَّى يعرف الإنسان ماذا يأخذ وماذا يدع.
الإنسانُ جزءٌ منَ النِّظامِ الكونيّ
الآن، عندما ندرس بعض فقرات دعاء الإمام زين العابدين (ع) في الصَّباح والمساء، يمكن أن نمدَّه إلى كلِّ بدايات الزَّمن، ومنها بداية السَّنة. فنلاحظ في البداية، أنَّ الإمام (ع) يريدنا أن نتصوَّر أنفسنا جزءاً من النظام الكوني، وأن نشعر بأنَّ كلَّ هذا النظام الكوني خاضع لله تعالى، وأنَّه ليس هناك إلَّا الله مَنْ يطلقه ويدبِّره ويرعاه وينظِّمه.
يقول الإمام (ع) في الدّعاء: "أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَتِ الاَشْياءُ كُلُّهَا بِجُمْلَتِهَا لَكَ - فليس هناك شي‏ء لغير الله. وهنا، يستحضر الإنسانُ لنفسه صورةَ كلِّ الرؤساء في العالم وكلِّ الملوك وكلِّ القوى الَّتي يستغرق النَّاس فيها ويخضعون لها، ويعتبرون أنَّها القوَّة القاهرة والجبَّارة وما إلى ذلك، ولكنَّ الإنسان حين ينفذ بعين البصيرة وهو ينظر إلى الكون، يشعر بأنَّ كلَّ هؤلاء مملوكون لله، فمن من هؤلاء يملك عمره، ومن منهم يملك قوَّته؟ كلُّهم كانوا عدماً فوُجِدوا بقدرة الله، وحصلوا على ما حصلوا عليه بالوسائل الَّتي أودعها الله وهيَّأها في سننه.
سَمَاؤُها وَأَرْضُهَا، وَمَا بَثَثْتَ فِي كُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا؛ سَاكِنُهُ وَمُتَحَرِّكُهُ، وَمُقِيمُهُ وَشَاخِصُهُ، وَمَا عَلا فِي الْهَواءِ، وَمَا كَنَّ تَحْتَ الثَّرى - يبدأُ الإنسانُ بتصوُّر أنَّ الكون كلَّه لله، وأنَّه – الإنسان - جزء من هذا النّظام الكونيّ، كما الزّمن، وكما الأرض، والحيوانات، والجمادات، وأنَّه يشكِّل مع كلِّ المخلوقات وحدة كونيَّة، فأنا جزء من الكون ولست وحدي فيه، وعندما أكون جزءاً من النّظام الكوني، فعليَّ أن لا أسيء إليه، كما الشَّمس وغيرها من الكواكب والكائنات لا تسيء إلى النِّظام الكونيّ، {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[يس: 40]. والفرق أنّي أنا الإنسان، جعل الله حركتي بيدي، بينما لم يجعل حركة الشَّمس ولا الأرض ولا السَّماء بيدها، عندما قال الله للسَّماء والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}[فصّلت: 11]. فالله هو الَّذي نظَّم السَّماء والأرض {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب: 72] ظلم نفسه بالمعصية والانحراف، وبجهله بما يقبل عليه ويتحرّك به.
لذلك، عندما أكون جزءاً من هذا النّظام الكوني، فعليَّ أن أعرف أنّه كما كلّ هذه الأجهزة الموجودة في الكون تتحرَّك بنظام وتسكن بنظام، فأنا عليَّ أن لا أخرّب النّظام الكوني، صحيح أنَّ الله جعلها باختياري، لكنَّ هذه أمانة عليَّ أن أحملها.
الكونُ كلُّهُ خاضعٌ لله
ومن بعد أن يتصوَّر الإنسان كلّ هذا التّصوّر، يقول الإمام (ع): - أَصْبَحْنَا فِي قَبْضَتِكَ، يَحْوِينَا مُلْكُكَ وَسُلْطَانُكَ، وَتَضُمُّنَا مَشِيَّتُكَ، وَنَتَصَرَّفُ عَنْ أَمْرِكَ، وَنَتَقَلَّبُ فِيْ تَدْبِيرِكَ، لَيْسَ لَنَا مِنَ الأمْرِ إلَّا مَا قَضَيْتَ، وَلا مِنَ الْخَيْرِ إلَّا مَا أَعْطَيْتَ – فالله هو الَّذي يملك الأمر كلَّه، ويهيمن على الأمر كلِّه، وليس معنى ذلك أنَّ الله يتدخَّل في الأمور بشكلٍ مباشر، فالله عندما يخلقك، لا يخلقك كما خلق آدم {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[ص: 71-72]، ولكنَّ الله خلقك من خلال قانون الخلق، فالله ركَّز في الإنسان، كما في الحيوان والنَّبات، قانون النّموّ وقانون الزَّوجيَّة، من خلال التفاعل بين الزَّوجين، وجعل من خلال هذا التَّفاعل ولادة الإنسان وخلقه.. فأنت تُخلَق بإرادة الله، ولكن من خلال القانون الَّذي وضعه الله.
ولذلك، بعض النَّاس يقولون: كيف خلق الله هذا الإنسان أعمى؟ كيف خلق فلاناً أعور؟ كيف خلق فلاناً مشوَّهاً...؟ ليس معنى ذلك أنَّ الله خلقهم هكذا بشكل مباشر، بل إنّه جعل للأشياء أسباباً، ومن حكمته أنَّه جعل هناك مؤثّراتٍ لقانون الوراثة، لغذاء الأمّ، ولصحَّتها وصحَّة الأب، وللمناخ الَّذي يعيش فيه الإنسان، وكلُّها لمصلحة هذا الإنسان.. فلو فرضنا أنَّ الله ألغى هذه الأسباب، لأدَّى ذلك إلى مشاكل أكبر بكثير من مسألة ولادة فلان أعمى أو مشوَّهاً أو ما إلى ذلك، وهذا كلّه لمصلحة الإنسان...
إذاً، نحن نعلم أنَّنا في هذا النظام الكونيّ خاضعون لله، والدّنيا كلُّها خاضعة له "أَصْبَحْنَا فِي قَبْضَتِكَ"، أين نذهب، هل نهرب؟ يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعاء يوم الجمعة: "وَقَدْ عَلِمْتُ، يا إلهِي، أَنْ لَيْسَ فِي حُكْمِكَ ظُلْمٌ، وَلا فِي نَقِمَتِكَ عَجَلَةٌ، إنَّما يَعْجَلُ مَنْ يَخافُ الْفَوْتَ"، فإلى أين تهرب؟ والدّنيا كلُّها بيد الله؛ فالسَّماء ملكه، والأرض ملكه، والبحار ملكه، والجبال ملكه... وهذا يركِّز في نفسك الإحساس بأنَّك في هذا الكون في مدى عمرك، خاضع لإرادة ربِّك، من خلال الأسباب الّتي وضعها الله، والوسائل الَّتي جعلها في خدمتك، والظّروف الّتي هيّأها لك، فتتحسَّس قدرة الله ونعمته عليك، فيعظم إحساسك الإيماني من خلال ذلك.
شهادةُ الزَّمنِ على الإنسان
ثمّ يقول (ع): - وَهَذَا يَوْمٌ حَادِثٌ جَدِيدٌ – عندما يصبح الصَّباح فالنَّهار يوم، وعندما يمسي المساء فاللَّيل يوم، وقد يُطلَقُ اليوم على مجموع النَّهار واللَّيل.. ويمكن أن نقول هذا أسبوع جديد، أو شهر جديد، أو سنة جديدة...
وَهُوَ عَلَيْنَا شَاهِدٌ عَتِيدٌ - فالإنسان يتمثَّل أنَّ هذه السَّاعات والثَّواني والدَّقائق سوف تشهد علينا يوم القيامة، فهو شاهدٌ يشهدُ علينا، وهو عتيدٌ أي حاضر، بحيث تشعر بأنَّ الزَّمن يراقبك ويشهد لك أو عليك.
إنْ أحْسَنَّا وَدَّعَنَا بِحَمْدٍ – فإذا قضينا يومنا بالخير والخدمة والطَّاعة، يودِّعنا حتّى الباب، كما الضَّيف الجيِّد والطَّيّب، ونحن ضيوفٌ عند هذا الزَّمن - وَإِنْ أسَأنا فارَقَنا بِذَمٍّ – مثل الضَّيف السيِّئ، فلن تودِّعه حتّى الباب، بل تدير له ظهرك.
- اللَّهُمَ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَارْزُقْنَا حُسْنَ مُصَاحَبَتِهِ – اجعلنا نصحبه صحبة حسنة خيّرة - وَاعْصِمْنَا مِنْ سُوْءِ مُفَارَقَتِهِ - أي ارزقنا العصمة الروحيَّة الإنسانيَّة من سوء مفارقته - بِارْتِكَابِ جَرِيرَةٍ، أَوِ اقْتِرَافِ صَغِيرَة أوْ كَبِيرَة - من المعاصي - وَأجْزِلْ لَنَا فِيهِ مِنَ الْحَسَناتِ، وَأَخْلِنَا فِيهِ مِنَ السَّيِّئاتِ، وَامْلأ لَنَا مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ حَمْداً وَشُكْراً وَأجْراً وَذُخْراً وَفَضْلاً وَإحْسَاناً - فاجمع لنا هذه كلّها - اللَّهُمَّ يسِّرْ عَلَى الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ مَؤُونَتَنَا – لأنَّ على الإنسان أن يتذكَّر قول الله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 17 - 18] - وَامْلأ لَنَا مِنْ حَسَنَاتِنَا صَحَائِفَنَا، وَلاَ تُخْزِنَا عِنْدَهُمْ بِسُوءِ أَعْمَالِنَا. اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَنَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِهِ حَظّاً مِنْ عِبَادتِكَ، وَنَصِيباً مِنْ شُكْرِكَ، وَشَاهِدَ صِدْقٍ مِنْ مَلَائِكَتِكَ، واحْفَظْنَا فيْهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينا وَمِنْ خَلْفِنا، وَعَنْ أَيْمَانِنا وَعَنْ شَمائِلِنا، وَمِنْ جَمِيعِ نَوَاحِينا، حِفْظاً عَاصِماً مِنْ مَعْصِيَتِكَ".
شرطُ الدّعاءِ بإطالةِ العمر
وفي ذلك نقطة لا بدَّ من الالتفات إليها، فنحن نطلب من الله دائماً طول العمر والصحَّة والعافية، ونطلب الأمن، ولكنَّنا نطلب كلَّ ذلك دون شرط، ولكنَّ الأئمَّة (ع) يعلِّموننا أنَّه إذا أردت أن تطلب من الله أن يحفظك ويطيل عمرك، أن تطلبه بشرط أن يفيدك وينفعك، لأنَّك إذا طلبت العمر الطَّويل وقضيته في المعصية، أو أعطاك الله الصّحَّة واستغلَّيتها في الجريمة والحرام، فما فائدة ذلك بالنِّسبة إليك؟ سوف تزيدك عذاباً فوق عذاب. لذلك ورد في الدّعاء: "واحْفَظْنَا فيْهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينا وَمِنْ خَلْفِنا، وَعَنْ أَيْمَانِنا وَعَنْ شَمائِلِنا، وَمِنْ جَمِيعِ نَوَاحِينا، حِفْظاً عَاصِماً مِنْ مَعْصِيَتِكَ - هذا الحفظ الَّذي تحفظنا إيَّاه يا ربّ، من حيث الأمان، ومن حيث الصّحَّة، والحفظ من الموت، اجعلني لا أستغلَّه في معصيتك.
هَادِياً إلى طَاعَتِكَ – أن أستغلَّ هذا الحفظ للسَّير في طريق الهدى إلى طاعتك - مُسْتَعْملاً لمحبَّتِكَ"، أستعمله في ما تحبّه يا ربّ.
وفي دعاء آخر، دعاء يوم الثّلاثاء، هناك فقرة فيه تقول: "وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، والوفاة رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ"، أي اجعلني يا ربِّ عندما أعيش، أن يزداد عمري، ويزداد الخير في حركة عمري، وعندما تريد أن تتوفَّاني، أن تكون الوفاة راحةً لي من الشّرّ الّذي لو عشْتُ لقمْتُ به.
وفي دعاء "مكارم الأخلاق" للإمام زين العابدين (ع)، وأنا أقول لكم دائماً، لتكن الصّحيفة السّجَّاديَّة معكم دائماً، لأنّها أدعية كما تفتح عيونكم وقلوبكم على الله، تفتح عقولكم وقلوبكم على الحياة وعلى وخطِّ الاستقامة والثَّقافة، فأدعية الإمام زين العابدين (ع) تثقِّفك بالمنهج الإسلامي والروحي، وفي علاقتك مع النَّاس والحياة. وهذه عظمة أهل البيت (ع)، أنّهم يملأون عقولنا وقلوبنا بثقافة الإسلام، فأهل البيت (ع) ليسوا مجرَّد دمعة، أهل البيت ثقافة ووعي وانفتاح وحركيَّة، وهم لم يعيشوا لأنفسهم، بل عاشوا لله، وعاشوا للنَّاس من خلال الله. لذلك، هناك الكثير من النَّاس يحبّون أهل البيت كما يحبُّ العاشقُ معشوقتَه، والأئمَّة (ع) يقولون: "أحبُّونا حبَّ الإسلام"، فليكن حبُّكم حبّاً واعياً، وثقافيّاً ومنفتحاً.
الإمام (ع) يقول: "وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمُرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ - حتّى يوصلني عمري إلى الجنَّة وإلى رضاك، وحتّى يقرّبني منك – فَإِذَا كَانَ عُمُرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ – بحيث صار يملأ كلَّ ساحاتي وأفكاري ودوافعي وعلاقاتي ومواقفي، فلا أريد هذا العمر – فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ، قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ – ومقتك مما لا تقوم له السَّموات والأرض – أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ".
وماذا نقرأ في دعاء أبي حمزة الثَّمالي؟ "واجْعَلْني ممَّنْ أطلْتَ عمرَهُ، وحسَّنْتَ عملَهُ"، ليس العمر الطَّويل فقط، بل العمر الطَّويل مع العمل الحسن، وذلك لأنَّ العمر هو الجسر الَّذي نسير عليه إلى الله {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}[الانشقاق: 6]، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزّلزلة: 7 – 8].
كيف نخطِّط لأيَّامنا؟!
ثمَّ نأتي لنتساءل: ماذا نطلب من الله تعالى في تخطيط اليوم؟ كيف تخطِّط ليومك؟ ما هي المبادئ الَّتي تريد أن تحشدها في يومك؟ ما هي النّقاط الَّتي تريد أن تحرّكها في يومك؟
"اللَّهمَّ ووفِّقْنا في يومِنَا هذا – إذا كنَّا في الصَّباح - وليلتِنا هذهِ – إذا كنَّا في أوَّل اللَّيل - لاستعمالِ الخَيْرِ – اجعل كلَّ عملنا في هذا اليوم؛ في بيتنا وعملنا ونوادينا وأرضنا ومواقفنا، لاستعمال الخير - وهجرانِ الشَّرِّ – أن أهجر الشَّرَّ من قولي ومن فعلي، فلا تجعل للشَّرِّ سيطرةً على يومي أو ليلتي.
- وشكرِ النِّعمِ – اجعلني، يا ربِّ، شاكراً لنعمك، وكلُّ ما عندي هو من نعمِكَ {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النَّحل: 53]، {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[النَّحل: 18]. ثمَّ إنَّ الله يعطينا النِّعم ويقول لنا: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم: 7]، فكلَّما شكرنا نعم الله علينا، زادنا الله من نعمه.
- واتِّباعِ السُّنن - وهي الخطوط الَّتي رسمها رسول الله (ص) في سنَّته، من خلال ما أمرنا به ونهانا عنه، ومن خلال ما وجَّهنا إليه وأمرنا بالأخذ به.
- ومجانبةِ البِدَعِ – وهي كلُّ ما ابتدَعَهُ النَّاس ممَّا يبتعد عن سنن الله ورسوله، وخطِّ الله ورسولِهِ، مما ابتدَعه الضالّون والمضلِّلون.
والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المنكَرِ – اجعلني آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. والمعروف عنوانٌ يشمل كلَّ حركة الإنسان في الحياة، مما يرفع مستوى الإنسان ويرضاه الله، والمنكَر هو كلُّ ما يحطُّ بمستوى الإنسان مما لا يرضي الله سبحانه وتعالى... اجعلني، يا ربّ، في كلِّ المواقف الفرديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، في داخل البيت وفي داخل المجتمع، من الَّذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر... وقمَّة المعروف هو إقامة العدل في النَّاس، وقمَّة المنكر هو الظّلم...
- وحياطةِ الإسلامِ – اجعلْني، يا ربِّ، في يومي وليلتي، أحوطُ الإسلامَ بما أحوطُ بِهِ نفسي وأولادي وعيالي وكلَّ مَنْ أحبُّه، بحيث إنّي إذا رأيت في الإسلام ضعفاً أو خللاً في حركته في الواقع، فإنّي أحاول أن أحوطه كما أحوط أهلي ونفسي وعيالي. فالإمام (ع) يرشدنا بأنَّ علينا أن نجعل في برنامجنا في اليوم واللَّيلة، أو في الأسبوع أو الشَّهر أو السَّنة، أن نحوط الإسلام، أن نتحمَّل مسؤوليَّته، في إبعاد أيِّ ضعفٍ أو خرافةٍ أو تخلّفٍ وجهلٍ عنه.
وانتقاصِ الباطلِ – أن أواجه الباطل وأتحمَّل مسؤوليَّة إضعافه وانتقاصه، سواء كان باطل العقيدة أو الشَّريعة أو السياسة أو الاجتماع، أن أُبرز ضعفه للنَّاس بما أثيره من نقائصه – وإذلالِهِ – أن أذلَّه بكلِّ وسائل الإذلال، حتَّى لا يبقى له أيُّ عنفوان وأيُّ وجود في الحياة.
- ونصرةِ الحقِّ – الحقّ الفرديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والأمنيّ – وإعزازِهِ – أن أنصرَه أمامَ الَّذين يريدونَ أن يضعفوه ويسقطوه، وأن أعزَّه بكلِّ ما عندي من وسائل القوَّة..
وإرشادِ الضَّالِّ – إذا رأيْتُ إنساناً يسيرُ في طريقِ الضَّلال، فاجعلْني، يا ربّ، أضع في برنامجي، أن أرشدَه إلى ما يخلِّصُه من هذا الضَّلال.
ومعاونةِ الضَّعيفِ – اجعلني، يا ربّ، إذا رأيت إنساناً ضعيفاً في علمه، أن أعينه وأعطيه علماً، أو في قوَّته أن أعطيه قوَّة، أو في ماله، أن أمنحه مالاً.
وإدراكِ اللَّهيفِ – واللَّهيف هو الإنسانُ الملهوف الَّذي يعيش مشكلة وأزمة وهو حائر، لا يعرف ماذا يريد، أن أدركه فأحاول ردَّ لهفته...
هذا هو برنامج الأربع عشرة نقطة، والَّذي ينبغي للإنسان أن يوزِّعه على مدى زمنه اليوميّ أو الأسبوعي أو الشَّهري أو السَّنويّ، حتَّى يبقى الإنسان في حالة تخطيط قبل أن يدخل اليوم أو الأسبوع أو الشَّهر أو السَّنة.. وأن يفحص نفسه يوميّاً؛ هل استطاع أن يستكمل هذه الخطوط في ظروفه الزمنيَّة أم أنّه لم يستطع..
الارتقاءُ في خطِّ طاعةِ الله
ثمَّ يقول الإمام (ع) - واجعلْهُ أيمنَ يومٍ عهدْناه، وأفضلَ صَاحبٍ صحبْناه، وخيرَ وقتٍ ظلَلْنا فيه – أي اجعله أفضل الأيَّام، وهو ما يفسِّر لنا الخطَّ التَّصاعديَّ، فغداً أفضل من اليوم، وبعد غدٍ أفضل من الغد. جاء عن الأئمّة (ع): "مَنِ استوى يوْمَاهُ فهوَ مغبونٌ"، ونقرأ أيضاً: "اللَّهمَّ اجعلْ مستقبلَ أمري خيراً منْ ماضيه، وخيرَ أعمالي خواتيمَها، وخيرَ أيَّامي يومَ ألقَاكَ فيهِ"، بمعنى أن يبقى الإنسان في حالة تصاعديَّة، فيصعد في كلِّ يوم درجة، لا أن ينزلَ في كلِّ يوم درجة.
واجْعَلْنَا مِنْ أَرْضَى مَنْ مَرَّ عَلَيْه اللَّيْلُ والنَّهَارُ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِكَ، أَشْكَرَهُمْ لِمَا أَوْلَيْتَ مِنْ نِعَمِكَ، وأَقْوَمَهُمْ بِمَا شَرَعْتَ مِنْ شرَائِعِكَ، وأَوْقَفَهُمْ عَمَّا حَذَّرْتَ مِنْ نَهْيِكَ"، اجعلني في كلِّ يوم أكثرَ طاعة، حتَّى أكون من أرضى النَّاس عندك، وأوقفهم عن المعاصي، وأقومهم بالطّاعات.
التَّفكيرُ في حجمِ العالم
هذا هو فكر أهل البيت (ع)، والَّذي أخذوه من رسول الله ومن كتاب الله.. وإذا كنَّا أتباع الرّسول وأهل البيت والإسلام، فلا بدَّ أن نأخذ بذلك، لا بدَّ لكلّ فرد أن يخطِّط، وكذلك المجتمع والأمَّة، لأنَّ العالم الكافر والمستكبر يخطِّط لإضعافنا وإذلالنا وتضييعنا، ويخطِّط لفتنتنا وتمزيقنا... فلماذا لا نخطِّط نحن؟ فهل لديهم عقل ولا عقل لدينا؟ وهل عقولهم من ذهب وعقولنا من فضّة؟
إنَّ لدينا فكراً كما لديهم، وعندنا إمكانات كما عندهم، لكن كما يروى أنّه كان هناك اثنان من المشايخ يدرس بعضهما مع بعض، ومرَّت الأيّام، وصار واحدٌ منهما مرجعاً، بينما بقي الآخر في الصّفوف الخلفيَّة، والتقيا مرَّة، فقال من بقي في مكانه لمن صار مرجعاً: نحن كنّا زميلين، فكيف وصلت أنت إلى هذه الدَّرجة وبقيت أنا مكاني؟ فردَّ عليه: سرنا ووقفتم.
فمن يمشِ يصلْ، والَّذي يقف يبقى مكانه، نحن وقفنا عند تخلِّفنا وجهلنا وعصبيَّاتنا ونقاط ضعفنا، في وقتٍ تجاوزَ الآخرون جهلهم إلى العلم والتقدّم.. لذلك، نحن نحتاج أن نتحرَّك، أن نحرِّك القلب في الاتجاه الصَّحيح، وأن نحرِّك العقلَ في الاتّجاه الصَّحيح، وأن نحرِّك الطَّاقات في ما ينفع النَّاس، يكفي هذا الضَّياع والميوعة والتمزّق، ويكفي العصبيَّة والعيش كلٌّ في زنزانة يحبس نفسه فيها عازلاً ذاته عن العالم، لقد خلق الله لنا العالم واسعاً، وعلى كلٍّ منَّا أن يكون بحجم العالم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف: 158].
وعلينا أن نوسِّع تفكيرنا، لا أن نفكِّر بحجم المحلَّة أو الغرفة الصَّغيرة في البيت، وعلى كلِّ فردٍ أن يصنع من نفسه صناعة علميَّة، صناعة قوَّة، وصناعة وعيٍ، حتّى يكون حاجة للعالم، كلّ الّذين صاروا حاجةً للعالم كانوا من هذه الضَّيعة وتلك الضّيعة، ومن هذه العائلة وتلك العائلة، ولكنَّهم تحرّكوا وعملوا {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: ]... أمريكا ماذا كانت؟ كانت مستعمرة لبريطانيا، وبريطانيا كانت في الثَّلاثينات والأربعينات سيِّدة البحار، ودارت الأيَّام، وإذ بأمريكا تصبح الدَّولة الأولى في العالم، بينما أصبحت بريطانيا الرَّابعة أو الخامسة، وهامشاً من هوامش أمريكا. اليهود أين كانوا؟ كانوا شذَّاذ آفاق، وكانوا في أمريكا يكتبون على المطاعم: "ممنوع دخول الكلاب واليهود".. ونحن أين كنَّا وأين أصبحنا؟
فلنتحرَّك، وكلُّنا نقول "الحركة بركة"، لكن متى نفهم البركة جيِّداً؟! أن تكون البركة الحركيَّة وليس البركة الوهميَّة..
والحمد لله ربِّ العالمين.

* محاضرة عاشورائيّة لسماحته، بتاريخ: 15-3-2002 م 
منْ دروسِ أهلِ البيتِ (ع) وتوجيهاتِهم: التَّخطيطُ لكلِّ حركةِ الحياة
 
إنَّ مدرسة الإمام الحسين (ع) هي مدرسة الإسلام، لأنَّ الحسين هو إمام الإسلام، لذلك، فإنّها فرصة نفرغ فيها لأنفسنا، لأنَّ الإنسان، أيُّها الأحبَّة، يُحشَر وحدَه، ويقف بين يدي الله تعالى وحده. ولذلك، لا بدَّ أن يملك نفسه، أن لا يجعلها ملكاً للآخرين، بأن تتبع الآخرين من دون اقتناع، ومن دون تأكيد وتركيز.
أن تعرف كلَّ نفسك، أن تكون لك قاعدة تنطلق منها في الحياة، قاعدة تحكم فيها لنفسك وعليها، أن تعيش لحظاتٍ من الهدوء النَّفسيّ، لأنَّ هذا الضَّجيج الَّذي نعيش فيه، يشغلنا عن أنفسنا ويجعلنا لا نفهمها، حيث يبدأ أحدنا من الصَّباح ليتناول فطوره، ثمَّ يدخل مع النَّاس ويخوض معهم، وينشغل بأشغاله وأعماله، ثمَّ يأتي مساءً إلى البيت منهكاً متعباً، وقد يجلس إلى التّلفزيون الّذي يشغله عن نفسه، ولربّما يدخله في الكثير مما لا يصلح نفسه. وهكذا، يعيش الإنسان في الدوَّامة، حتَّى إذا جاءه الموت، لم يستطع أن يؤكِّد أين هو، ومن أين، وإلى أين بين يدي الله.
أهميَّةُ التَّخطيطِ في حياتنا
 
لذلك، أيُّها الأحبَّة، علَّمنا الأئمَّة من أهل البيت (ع)، مما علَّمهم رسول الله الَّذي علَّمه الله تعالى، أن تكون بدايات الزَّمن منطلق تفكير وتخطيط، فكما نخطِّط لمشاريعنا، كما لو كان أحدنا عنده مشروع اقتصاديّ، ألا يخطِّط له؟ كذلك مشروعنا الحياتيّ العمليّ يحتاج إلى تخطيط..
وهذا المعنى أوضح ما يتمثَّل بتجربتين في الدُّعاء؛ التَّجربة الأولى وهي مرويَّة عن الإمام زين العابدين (ع)، تجربة أدعية الأيَّام، بحيث جُعِلَ لكلِّ يوم دعاء، وجُعِلَ في هذه الأدعية عناصر أخلاقيَّة وسلوكيَّة وعقائديَّة يستحضرها الإنسان في كلِّ يوم، وهي أدعية مختصرة، حتّى يفكّر فيها، وحتّى يحاسب نفسه على أساسها.
والتَّجربة الثَّانية هي دعاؤه (ع) في الصَّباح والمساء، وهذا الدّعاء من أروع الأدعية، بحيث يستوحيه الإنسان حين يدخل في بداية الزَّمن صباحاً ومساءً، ويستطيع أن يستوحيه حين يدخل في أوَّل الأسبوع، أو في أوَّل الشَّهر، أو أوَّل السَّنة، لأنَّ الإنسانَ يشعر مع انتهاء كلِّ مرحلة، بأنَّه بحاجة لأن يستغفر الله مما حدث فيها، وهناك مرحلة جديدة عليه الاستعداد لها، فكلُّ واحدٍ فينا عنده ماض لا يعود، وعنده حاضر لا يمتدّ كثيراً، وهو يُستَهلَك أيضاً، وهناك مستقبل. الماضي لا نستطيع أن نملك منه شيئاً، إلَّا أن نستغفر الله مما أخطأنا فيه، ونستزيده مما أحسنَّا فيه في المستقبل، لأنَّ الماضي راح من أيدينا، بينما المستقبل ما زال في أيدينا.
إذاً، المسألة هي كيف نمسك الحاضر قبل أن يهرب من بين أيدينا، فقبل أن تهرب هذه الدَّقيقة وهذه السَّاعة وهذه اللَّيلة، لا بدَّ لنا من أن نملأها بما يقوِّي شخصيَّتنا الأخلاقيَّة والرّوحيَّة بما يقرِّبنا إلى الله، وأن نفرِّغها مما يبعدنا عنه تعالى.
ثمَّ نفكِّر في المستقبل؛ غداً ماذا أعمل؟ بعد غدٍ ماذا أعمل؟ بمعنى أنَّ عليَّ أن لا أنتظر الغد لأقرِّر ماذا أفعل فيه، بل عليَّ من الآن أن أعرفَ ماذا أعمل، ما الخطَّة في علاقتي مع نفسي، مع ربّي، مع عائلتي، مع الزَّوجة أو الزَّوج، مع أولادي، وكيف تكون علاقتي مع عملي من حيث الغشّ أو النَّصيحة... كيف تكون علاقتي مع النَّاس، وكيف تكون علاقتي مع المواقف الَّتي يراد لي أن أقفها، قد يكون هناك مواقف اجتماعيَّة يراد لي المشاركة فيها، وإبداء الرأي تأييداً أو رفضاً، وقد يكون هناك مواقف سياسيَّة عليَّ اتخاذها موالياً أو معارضاً.
لذا، لا بدَّ للإنسان عندما يأتي المستقبل، أن يكون هذا المستقبل منطلقاً من خطَّة، حتَّى يعرف الإنسان ماذا يأخذ وماذا يدع.
الإنسانُ جزءٌ منَ النِّظامِ الكونيّ
الآن، عندما ندرس بعض فقرات دعاء الإمام زين العابدين (ع) في الصَّباح والمساء، يمكن أن نمدَّه إلى كلِّ بدايات الزَّمن، ومنها بداية السَّنة. فنلاحظ في البداية، أنَّ الإمام (ع) يريدنا أن نتصوَّر أنفسنا جزءاً من النظام الكوني، وأن نشعر بأنَّ كلَّ هذا النظام الكوني خاضع لله تعالى، وأنَّه ليس هناك إلَّا الله مَنْ يطلقه ويدبِّره ويرعاه وينظِّمه.
يقول الإمام (ع) في الدّعاء: "أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَتِ الاَشْياءُ كُلُّهَا بِجُمْلَتِهَا لَكَ - فليس هناك شي‏ء لغير الله. وهنا، يستحضر الإنسانُ لنفسه صورةَ كلِّ الرؤساء في العالم وكلِّ الملوك وكلِّ القوى الَّتي يستغرق النَّاس فيها ويخضعون لها، ويعتبرون أنَّها القوَّة القاهرة والجبَّارة وما إلى ذلك، ولكنَّ الإنسان حين ينفذ بعين البصيرة وهو ينظر إلى الكون، يشعر بأنَّ كلَّ هؤلاء مملوكون لله، فمن من هؤلاء يملك عمره، ومن منهم يملك قوَّته؟ كلُّهم كانوا عدماً فوُجِدوا بقدرة الله، وحصلوا على ما حصلوا عليه بالوسائل الَّتي أودعها الله وهيَّأها في سننه.
سَمَاؤُها وَأَرْضُهَا، وَمَا بَثَثْتَ فِي كُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا؛ سَاكِنُهُ وَمُتَحَرِّكُهُ، وَمُقِيمُهُ وَشَاخِصُهُ، وَمَا عَلا فِي الْهَواءِ، وَمَا كَنَّ تَحْتَ الثَّرى - يبدأُ الإنسانُ بتصوُّر أنَّ الكون كلَّه لله، وأنَّه – الإنسان - جزء من هذا النّظام الكونيّ، كما الزّمن، وكما الأرض، والحيوانات، والجمادات، وأنَّه يشكِّل مع كلِّ المخلوقات وحدة كونيَّة، فأنا جزء من الكون ولست وحدي فيه، وعندما أكون جزءاً من النّظام الكوني، فعليَّ أن لا أسيء إليه، كما الشَّمس وغيرها من الكواكب والكائنات لا تسيء إلى النِّظام الكونيّ، {لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[يس: 40]. والفرق أنّي أنا الإنسان، جعل الله حركتي بيدي، بينما لم يجعل حركة الشَّمس ولا الأرض ولا السَّماء بيدها، عندما قال الله للسَّماء والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}[فصّلت: 11]. فالله هو الَّذي نظَّم السَّماء والأرض {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب: 72] ظلم نفسه بالمعصية والانحراف، وبجهله بما يقبل عليه ويتحرّك به.
لذلك، عندما أكون جزءاً من هذا النّظام الكوني، فعليَّ أن أعرف أنّه كما كلّ هذه الأجهزة الموجودة في الكون تتحرَّك بنظام وتسكن بنظام، فأنا عليَّ أن لا أخرّب النّظام الكوني، صحيح أنَّ الله جعلها باختياري، لكنَّ هذه أمانة عليَّ أن أحملها.
الكونُ كلُّهُ خاضعٌ لله
ومن بعد أن يتصوَّر الإنسان كلّ هذا التّصوّر، يقول الإمام (ع): - أَصْبَحْنَا فِي قَبْضَتِكَ، يَحْوِينَا مُلْكُكَ وَسُلْطَانُكَ، وَتَضُمُّنَا مَشِيَّتُكَ، وَنَتَصَرَّفُ عَنْ أَمْرِكَ، وَنَتَقَلَّبُ فِيْ تَدْبِيرِكَ، لَيْسَ لَنَا مِنَ الأمْرِ إلَّا مَا قَضَيْتَ، وَلا مِنَ الْخَيْرِ إلَّا مَا أَعْطَيْتَ – فالله هو الَّذي يملك الأمر كلَّه، ويهيمن على الأمر كلِّه، وليس معنى ذلك أنَّ الله يتدخَّل في الأمور بشكلٍ مباشر، فالله عندما يخلقك، لا يخلقك كما خلق آدم {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[ص: 71-72]، ولكنَّ الله خلقك من خلال قانون الخلق، فالله ركَّز في الإنسان، كما في الحيوان والنَّبات، قانون النّموّ وقانون الزَّوجيَّة، من خلال التفاعل بين الزَّوجين، وجعل من خلال هذا التَّفاعل ولادة الإنسان وخلقه.. فأنت تُخلَق بإرادة الله، ولكن من خلال القانون الَّذي وضعه الله.
ولذلك، بعض النَّاس يقولون: كيف خلق الله هذا الإنسان أعمى؟ كيف خلق فلاناً أعور؟ كيف خلق فلاناً مشوَّهاً...؟ ليس معنى ذلك أنَّ الله خلقهم هكذا بشكل مباشر، بل إنّه جعل للأشياء أسباباً، ومن حكمته أنَّه جعل هناك مؤثّراتٍ لقانون الوراثة، لغذاء الأمّ، ولصحَّتها وصحَّة الأب، وللمناخ الَّذي يعيش فيه الإنسان، وكلُّها لمصلحة هذا الإنسان.. فلو فرضنا أنَّ الله ألغى هذه الأسباب، لأدَّى ذلك إلى مشاكل أكبر بكثير من مسألة ولادة فلان أعمى أو مشوَّهاً أو ما إلى ذلك، وهذا كلّه لمصلحة الإنسان...
إذاً، نحن نعلم أنَّنا في هذا النظام الكونيّ خاضعون لله، والدّنيا كلُّها خاضعة له "أَصْبَحْنَا فِي قَبْضَتِكَ"، أين نذهب، هل نهرب؟ يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعاء يوم الجمعة: "وَقَدْ عَلِمْتُ، يا إلهِي، أَنْ لَيْسَ فِي حُكْمِكَ ظُلْمٌ، وَلا فِي نَقِمَتِكَ عَجَلَةٌ، إنَّما يَعْجَلُ مَنْ يَخافُ الْفَوْتَ"، فإلى أين تهرب؟ والدّنيا كلُّها بيد الله؛ فالسَّماء ملكه، والأرض ملكه، والبحار ملكه، والجبال ملكه... وهذا يركِّز في نفسك الإحساس بأنَّك في هذا الكون في مدى عمرك، خاضع لإرادة ربِّك، من خلال الأسباب الّتي وضعها الله، والوسائل الَّتي جعلها في خدمتك، والظّروف الّتي هيّأها لك، فتتحسَّس قدرة الله ونعمته عليك، فيعظم إحساسك الإيماني من خلال ذلك.
شهادةُ الزَّمنِ على الإنسان
ثمّ يقول (ع): - وَهَذَا يَوْمٌ حَادِثٌ جَدِيدٌ – عندما يصبح الصَّباح فالنَّهار يوم، وعندما يمسي المساء فاللَّيل يوم، وقد يُطلَقُ اليوم على مجموع النَّهار واللَّيل.. ويمكن أن نقول هذا أسبوع جديد، أو شهر جديد، أو سنة جديدة...
وَهُوَ عَلَيْنَا شَاهِدٌ عَتِيدٌ - فالإنسان يتمثَّل أنَّ هذه السَّاعات والثَّواني والدَّقائق سوف تشهد علينا يوم القيامة، فهو شاهدٌ يشهدُ علينا، وهو عتيدٌ أي حاضر، بحيث تشعر بأنَّ الزَّمن يراقبك ويشهد لك أو عليك.
إنْ أحْسَنَّا وَدَّعَنَا بِحَمْدٍ – فإذا قضينا يومنا بالخير والخدمة والطَّاعة، يودِّعنا حتّى الباب، كما الضَّيف الجيِّد والطَّيّب، ونحن ضيوفٌ عند هذا الزَّمن - وَإِنْ أسَأنا فارَقَنا بِذَمٍّ – مثل الضَّيف السيِّئ، فلن تودِّعه حتّى الباب، بل تدير له ظهرك.
- اللَّهُمَ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَارْزُقْنَا حُسْنَ مُصَاحَبَتِهِ – اجعلنا نصحبه صحبة حسنة خيّرة - وَاعْصِمْنَا مِنْ سُوْءِ مُفَارَقَتِهِ - أي ارزقنا العصمة الروحيَّة الإنسانيَّة من سوء مفارقته - بِارْتِكَابِ جَرِيرَةٍ، أَوِ اقْتِرَافِ صَغِيرَة أوْ كَبِيرَة - من المعاصي - وَأجْزِلْ لَنَا فِيهِ مِنَ الْحَسَناتِ، وَأَخْلِنَا فِيهِ مِنَ السَّيِّئاتِ، وَامْلأ لَنَا مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ حَمْداً وَشُكْراً وَأجْراً وَذُخْراً وَفَضْلاً وَإحْسَاناً - فاجمع لنا هذه كلّها - اللَّهُمَّ يسِّرْ عَلَى الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ مَؤُونَتَنَا – لأنَّ على الإنسان أن يتذكَّر قول الله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 17 - 18] - وَامْلأ لَنَا مِنْ حَسَنَاتِنَا صَحَائِفَنَا، وَلاَ تُخْزِنَا عِنْدَهُمْ بِسُوءِ أَعْمَالِنَا. اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَنَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِهِ حَظّاً مِنْ عِبَادتِكَ، وَنَصِيباً مِنْ شُكْرِكَ، وَشَاهِدَ صِدْقٍ مِنْ مَلَائِكَتِكَ، واحْفَظْنَا فيْهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينا وَمِنْ خَلْفِنا، وَعَنْ أَيْمَانِنا وَعَنْ شَمائِلِنا، وَمِنْ جَمِيعِ نَوَاحِينا، حِفْظاً عَاصِماً مِنْ مَعْصِيَتِكَ".
شرطُ الدّعاءِ بإطالةِ العمر
وفي ذلك نقطة لا بدَّ من الالتفات إليها، فنحن نطلب من الله دائماً طول العمر والصحَّة والعافية، ونطلب الأمن، ولكنَّنا نطلب كلَّ ذلك دون شرط، ولكنَّ الأئمَّة (ع) يعلِّموننا أنَّه إذا أردت أن تطلب من الله أن يحفظك ويطيل عمرك، أن تطلبه بشرط أن يفيدك وينفعك، لأنَّك إذا طلبت العمر الطَّويل وقضيته في المعصية، أو أعطاك الله الصّحَّة واستغلَّيتها في الجريمة والحرام، فما فائدة ذلك بالنِّسبة إليك؟ سوف تزيدك عذاباً فوق عذاب. لذلك ورد في الدّعاء: "واحْفَظْنَا فيْهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينا وَمِنْ خَلْفِنا، وَعَنْ أَيْمَانِنا وَعَنْ شَمائِلِنا، وَمِنْ جَمِيعِ نَوَاحِينا، حِفْظاً عَاصِماً مِنْ مَعْصِيَتِكَ - هذا الحفظ الَّذي تحفظنا إيَّاه يا ربّ، من حيث الأمان، ومن حيث الصّحَّة، والحفظ من الموت، اجعلني لا أستغلَّه في معصيتك.
هَادِياً إلى طَاعَتِكَ – أن أستغلَّ هذا الحفظ للسَّير في طريق الهدى إلى طاعتك - مُسْتَعْملاً لمحبَّتِكَ"، أستعمله في ما تحبّه يا ربّ.
وفي دعاء آخر، دعاء يوم الثّلاثاء، هناك فقرة فيه تقول: "وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، والوفاة رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ"، أي اجعلني يا ربِّ عندما أعيش، أن يزداد عمري، ويزداد الخير في حركة عمري، وعندما تريد أن تتوفَّاني، أن تكون الوفاة راحةً لي من الشّرّ الّذي لو عشْتُ لقمْتُ به.
وفي دعاء "مكارم الأخلاق" للإمام زين العابدين (ع)، وأنا أقول لكم دائماً، لتكن الصّحيفة السّجَّاديَّة معكم دائماً، لأنّها أدعية كما تفتح عيونكم وقلوبكم على الله، تفتح عقولكم وقلوبكم على الحياة وعلى وخطِّ الاستقامة والثَّقافة، فأدعية الإمام زين العابدين (ع) تثقِّفك بالمنهج الإسلامي والروحي، وفي علاقتك مع النَّاس والحياة. وهذه عظمة أهل البيت (ع)، أنّهم يملأون عقولنا وقلوبنا بثقافة الإسلام، فأهل البيت (ع) ليسوا مجرَّد دمعة، أهل البيت ثقافة ووعي وانفتاح وحركيَّة، وهم لم يعيشوا لأنفسهم، بل عاشوا لله، وعاشوا للنَّاس من خلال الله. لذلك، هناك الكثير من النَّاس يحبّون أهل البيت كما يحبُّ العاشقُ معشوقتَه، والأئمَّة (ع) يقولون: "أحبُّونا حبَّ الإسلام"، فليكن حبُّكم حبّاً واعياً، وثقافيّاً ومنفتحاً.
الإمام (ع) يقول: "وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمُرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ - حتّى يوصلني عمري إلى الجنَّة وإلى رضاك، وحتّى يقرّبني منك – فَإِذَا كَانَ عُمُرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ – بحيث صار يملأ كلَّ ساحاتي وأفكاري ودوافعي وعلاقاتي ومواقفي، فلا أريد هذا العمر – فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ، قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ – ومقتك مما لا تقوم له السَّموات والأرض – أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ".
وماذا نقرأ في دعاء أبي حمزة الثَّمالي؟ "واجْعَلْني ممَّنْ أطلْتَ عمرَهُ، وحسَّنْتَ عملَهُ"، ليس العمر الطَّويل فقط، بل العمر الطَّويل مع العمل الحسن، وذلك لأنَّ العمر هو الجسر الَّذي نسير عليه إلى الله {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ}[الانشقاق: 6]، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}[الزّلزلة: 7 – 8].
كيف نخطِّط لأيَّامنا؟!
ثمَّ نأتي لنتساءل: ماذا نطلب من الله تعالى في تخطيط اليوم؟ كيف تخطِّط ليومك؟ ما هي المبادئ الَّتي تريد أن تحشدها في يومك؟ ما هي النّقاط الَّتي تريد أن تحرّكها في يومك؟
"اللَّهمَّ ووفِّقْنا في يومِنَا هذا – إذا كنَّا في الصَّباح - وليلتِنا هذهِ – إذا كنَّا في أوَّل اللَّيل - لاستعمالِ الخَيْرِ – اجعل كلَّ عملنا في هذا اليوم؛ في بيتنا وعملنا ونوادينا وأرضنا ومواقفنا، لاستعمال الخير - وهجرانِ الشَّرِّ – أن أهجر الشَّرَّ من قولي ومن فعلي، فلا تجعل للشَّرِّ سيطرةً على يومي أو ليلتي.
- وشكرِ النِّعمِ – اجعلني، يا ربِّ، شاكراً لنعمك، وكلُّ ما عندي هو من نعمِكَ {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النَّحل: 53]، {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}[النَّحل: 18]. ثمَّ إنَّ الله يعطينا النِّعم ويقول لنا: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم: 7]، فكلَّما شكرنا نعم الله علينا، زادنا الله من نعمه.
- واتِّباعِ السُّنن - وهي الخطوط الَّتي رسمها رسول الله (ص) في سنَّته، من خلال ما أمرنا به ونهانا عنه، ومن خلال ما وجَّهنا إليه وأمرنا بالأخذ به.
- ومجانبةِ البِدَعِ – وهي كلُّ ما ابتدَعَهُ النَّاس ممَّا يبتعد عن سنن الله ورسوله، وخطِّ الله ورسولِهِ، مما ابتدَعه الضالّون والمضلِّلون.
والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المنكَرِ – اجعلني آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. والمعروف عنوانٌ يشمل كلَّ حركة الإنسان في الحياة، مما يرفع مستوى الإنسان ويرضاه الله، والمنكَر هو كلُّ ما يحطُّ بمستوى الإنسان مما لا يرضي الله سبحانه وتعالى... اجعلني، يا ربّ، في كلِّ المواقف الفرديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، في داخل البيت وفي داخل المجتمع، من الَّذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر... وقمَّة المعروف هو إقامة العدل في النَّاس، وقمَّة المنكر هو الظّلم...
- وحياطةِ الإسلامِ – اجعلْني، يا ربِّ، في يومي وليلتي، أحوطُ الإسلامَ بما أحوطُ بِهِ نفسي وأولادي وعيالي وكلَّ مَنْ أحبُّه، بحيث إنّي إذا رأيت في الإسلام ضعفاً أو خللاً في حركته في الواقع، فإنّي أحاول أن أحوطه كما أحوط أهلي ونفسي وعيالي. فالإمام (ع) يرشدنا بأنَّ علينا أن نجعل في برنامجنا في اليوم واللَّيلة، أو في الأسبوع أو الشَّهر أو السَّنة، أن نحوط الإسلام، أن نتحمَّل مسؤوليَّته، في إبعاد أيِّ ضعفٍ أو خرافةٍ أو تخلّفٍ وجهلٍ عنه.
وانتقاصِ الباطلِ – أن أواجه الباطل وأتحمَّل مسؤوليَّة إضعافه وانتقاصه، سواء كان باطل العقيدة أو الشَّريعة أو السياسة أو الاجتماع، أن أُبرز ضعفه للنَّاس بما أثيره من نقائصه – وإذلالِهِ – أن أذلَّه بكلِّ وسائل الإذلال، حتَّى لا يبقى له أيُّ عنفوان وأيُّ وجود في الحياة.
- ونصرةِ الحقِّ – الحقّ الفرديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والأمنيّ – وإعزازِهِ – أن أنصرَه أمامَ الَّذين يريدونَ أن يضعفوه ويسقطوه، وأن أعزَّه بكلِّ ما عندي من وسائل القوَّة..
وإرشادِ الضَّالِّ – إذا رأيْتُ إنساناً يسيرُ في طريقِ الضَّلال، فاجعلْني، يا ربّ، أضع في برنامجي، أن أرشدَه إلى ما يخلِّصُه من هذا الضَّلال.
ومعاونةِ الضَّعيفِ – اجعلني، يا ربّ، إذا رأيت إنساناً ضعيفاً في علمه، أن أعينه وأعطيه علماً، أو في قوَّته أن أعطيه قوَّة، أو في ماله، أن أمنحه مالاً.
وإدراكِ اللَّهيفِ – واللَّهيف هو الإنسانُ الملهوف الَّذي يعيش مشكلة وأزمة وهو حائر، لا يعرف ماذا يريد، أن أدركه فأحاول ردَّ لهفته...
هذا هو برنامج الأربع عشرة نقطة، والَّذي ينبغي للإنسان أن يوزِّعه على مدى زمنه اليوميّ أو الأسبوعي أو الشَّهري أو السَّنويّ، حتَّى يبقى الإنسان في حالة تخطيط قبل أن يدخل اليوم أو الأسبوع أو الشَّهر أو السَّنة.. وأن يفحص نفسه يوميّاً؛ هل استطاع أن يستكمل هذه الخطوط في ظروفه الزمنيَّة أم أنّه لم يستطع..
الارتقاءُ في خطِّ طاعةِ الله
ثمَّ يقول الإمام (ع) - واجعلْهُ أيمنَ يومٍ عهدْناه، وأفضلَ صَاحبٍ صحبْناه، وخيرَ وقتٍ ظلَلْنا فيه – أي اجعله أفضل الأيَّام، وهو ما يفسِّر لنا الخطَّ التَّصاعديَّ، فغداً أفضل من اليوم، وبعد غدٍ أفضل من الغد. جاء عن الأئمّة (ع): "مَنِ استوى يوْمَاهُ فهوَ مغبونٌ"، ونقرأ أيضاً: "اللَّهمَّ اجعلْ مستقبلَ أمري خيراً منْ ماضيه، وخيرَ أعمالي خواتيمَها، وخيرَ أيَّامي يومَ ألقَاكَ فيهِ"، بمعنى أن يبقى الإنسان في حالة تصاعديَّة، فيصعد في كلِّ يوم درجة، لا أن ينزلَ في كلِّ يوم درجة.
واجْعَلْنَا مِنْ أَرْضَى مَنْ مَرَّ عَلَيْه اللَّيْلُ والنَّهَارُ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِكَ، أَشْكَرَهُمْ لِمَا أَوْلَيْتَ مِنْ نِعَمِكَ، وأَقْوَمَهُمْ بِمَا شَرَعْتَ مِنْ شرَائِعِكَ، وأَوْقَفَهُمْ عَمَّا حَذَّرْتَ مِنْ نَهْيِكَ"، اجعلني في كلِّ يوم أكثرَ طاعة، حتَّى أكون من أرضى النَّاس عندك، وأوقفهم عن المعاصي، وأقومهم بالطّاعات.
التَّفكيرُ في حجمِ العالم
هذا هو فكر أهل البيت (ع)، والَّذي أخذوه من رسول الله ومن كتاب الله.. وإذا كنَّا أتباع الرّسول وأهل البيت والإسلام، فلا بدَّ أن نأخذ بذلك، لا بدَّ لكلّ فرد أن يخطِّط، وكذلك المجتمع والأمَّة، لأنَّ العالم الكافر والمستكبر يخطِّط لإضعافنا وإذلالنا وتضييعنا، ويخطِّط لفتنتنا وتمزيقنا... فلماذا لا نخطِّط نحن؟ فهل لديهم عقل ولا عقل لدينا؟ وهل عقولهم من ذهب وعقولنا من فضّة؟
إنَّ لدينا فكراً كما لديهم، وعندنا إمكانات كما عندهم، لكن كما يروى أنّه كان هناك اثنان من المشايخ يدرس بعضهما مع بعض، ومرَّت الأيّام، وصار واحدٌ منهما مرجعاً، بينما بقي الآخر في الصّفوف الخلفيَّة، والتقيا مرَّة، فقال من بقي في مكانه لمن صار مرجعاً: نحن كنّا زميلين، فكيف وصلت أنت إلى هذه الدَّرجة وبقيت أنا مكاني؟ فردَّ عليه: سرنا ووقفتم.
فمن يمشِ يصلْ، والَّذي يقف يبقى مكانه، نحن وقفنا عند تخلِّفنا وجهلنا وعصبيَّاتنا ونقاط ضعفنا، في وقتٍ تجاوزَ الآخرون جهلهم إلى العلم والتقدّم.. لذلك، نحن نحتاج أن نتحرَّك، أن نحرِّك القلب في الاتجاه الصَّحيح، وأن نحرِّك العقلَ في الاتّجاه الصَّحيح، وأن نحرِّك الطَّاقات في ما ينفع النَّاس، يكفي هذا الضَّياع والميوعة والتمزّق، ويكفي العصبيَّة والعيش كلٌّ في زنزانة يحبس نفسه فيها عازلاً ذاته عن العالم، لقد خلق الله لنا العالم واسعاً، وعلى كلٍّ منَّا أن يكون بحجم العالم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف: 158].
وعلينا أن نوسِّع تفكيرنا، لا أن نفكِّر بحجم المحلَّة أو الغرفة الصَّغيرة في البيت، وعلى كلِّ فردٍ أن يصنع من نفسه صناعة علميَّة، صناعة قوَّة، وصناعة وعيٍ، حتّى يكون حاجة للعالم، كلّ الّذين صاروا حاجةً للعالم كانوا من هذه الضَّيعة وتلك الضّيعة، ومن هذه العائلة وتلك العائلة، ولكنَّهم تحرّكوا وعملوا {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: ]... أمريكا ماذا كانت؟ كانت مستعمرة لبريطانيا، وبريطانيا كانت في الثَّلاثينات والأربعينات سيِّدة البحار، ودارت الأيَّام، وإذ بأمريكا تصبح الدَّولة الأولى في العالم، بينما أصبحت بريطانيا الرَّابعة أو الخامسة، وهامشاً من هوامش أمريكا. اليهود أين كانوا؟ كانوا شذَّاذ آفاق، وكانوا في أمريكا يكتبون على المطاعم: "ممنوع دخول الكلاب واليهود".. ونحن أين كنَّا وأين أصبحنا؟
فلنتحرَّك، وكلُّنا نقول "الحركة بركة"، لكن متى نفهم البركة جيِّداً؟! أن تكون البركة الحركيَّة وليس البركة الوهميَّة..
والحمد لله ربِّ العالمين.

* محاضرة عاشورائيّة لسماحته، بتاريخ: 15-3-2002 م 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية