لا شك أن للتغذي بالطعام والشراب أثراً حاسماً في سلامة الجسد وبقائه، بل وفي قيامه بوظائفه الأساسية، بما في ذلك الجانب النفسي والروحي الفاعلان في سعادة الإنسان ونجاحه في الدنيا والآخرة؛ ولذا فإن عناية الشريعة بهذا الجانب من نشاط المكلف ـ رغم كونه شأنـاً غريزيـاً خاصـاً بالفـرد ـ يُظهر مدى حرصها على تحقيق الفوائد ودفع المفاسد المعنوية التي تنتج عن الغذاء، ولا سيما منه ما يعجز الإنسان عن اكتشاف مضاره ومنافعه دائماً أو في المدى المنظور من عمر جيل أو أجيال؛ وهي أمور سوف تظهر خلف كل حكم شرَّعه الإسلام في هذا الجانب عند أدنى تأمل.
وكما سائر مجالات الحلال والحرام من أفعال الإنسان، فإن مجال الحلال من الطعام والشراب أوسع من مجال الحرام، وكنا قد تعرضنا لبيان ما يحل وما يحرم من الحيوان في (مسألة 67، وما بعدها) من الجزء الثاني، وذلك في إطار حديثنا عن الثروة الحيوانية وكيفية الاستفادة منها، وهو بعض ما ينبغي ذكره من أحكام الأطعمة والأشربة، فلم يكن بد من عقد باب خاص لها نتناول فيه سائر أحكامها في أكثر من مبحث متكلين على الله تعالى.
ولكن قبل الشروع في ذلك لا بد من التعرض لبيان المراد من عنوان (الأطعمة والأشربة) فنقول: (الأطعمة) جمع الطعام، و(الطعام): إسم لكل ما يؤكل وبه قوام البدن، مأخوذ من (طَعِمَ) أي: أكل أو ذاق. و(الأشربة) جمع الشراب، و(الشراب) إسم لكل ما شرب، ماءً كان أو غيره، مأخوذ من (شَرب) أي: جرع. والمبحوث عنه هنا لا يقتصر على ما يؤكل ويشرب بالنحو المعتاد من خلال الفم، كما هو المستفاد من معناه اللغـوي، بل يـراد به ـ في الفقه ـ ما يعم ذلك مما يدخل إلى الجوف عن طريق الفم بالطعام والشراب وما يدخل إليه من خلال الأنف أو الحلقوم في الحالات الاستثنائية، بل يراد به في بعض موارده ما يشمل استنشاقه وتدخينه وإدخاله في الجسد في العروق، وهي الأمور التي يجمعها لفظ (التناول)، فمثل (الدم) من الأعيان النجسة لا يحرم وضعه في العروق وإدخاله في الجسد، فيما يحرم شربه بالفم أو إدخاله في الجوف عبر الأنف أو الحلقوم؛ ومثل المخدرات يكون تناولها مختلفاً باختلاف أنواعها، وهكذا.
كذلك فإن ما يحرم تناوله منها لا يقتصر على ما هو تكليف الإنسان تجاه نفسه، بل يعم تكليفه تجاه غيره ممن هو مولَّى عليهم، كالأطفال، وعلى من يعتمدون عليه في تقديم الطعام الطاهر، كضيوفه، وهو أمر قد عرضنا له في (المسألتين: 56، 57) من الجزء الأول، ونزيد عليه هنا فنقول:
إن ما يحرم تناولـه على المكلـف من الأطعمـة والأشربـة، يحرم ـ أيضـاً ـ تسببه بتناول الغير له ممن لا يستحله إذا كان جاهلاً بالموضوع أو الحكم، وبخاصة إذا كان معتمداً عليه في تقديم ما هو حلال من الطعام والشراب؛ بل إنه يحرم تقديم بعضها حتى لمن يستحله، كالخمر، فيما يجوز تقديم البعض الآخر، كلحم الخنزير والميتة. (أنظر المسألة: 197 وما بعدها من الجزء الثاني).
وكذا يحرم استخدام أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب، ويشمل ذلك ما يُوضع فيه الطعام أو الشراب من الأواني، كالصحون والكؤوس والقدور، ويشمل أيضاً ما يُتناول به الطعام كالملاعق والمغرفة ونحوهما.
ولا يحرم من الأواني ما هو مصنوع من معدن آخر غير الذهب والفضّة لكنّه مطلي بهما.
كذلك فإنّه لا يحرم استخدام أواني الذهب والفضّة في غير الأكل والشرب، كمثل استخدامها في أمور طبيّة، أو للزينة، وما أشبه.
ولو استخدمها المُكلَّف في الأكل والشرب أثم ولكن لم يحرم نفس الطعام أو الشراب ذاتاً بل يبقى حلالاً.