(الميراث) ـ لغة ـ صيغة على وزن (مِفْعال) من (الإرث)، والإرثُ هو: بقية الشيء، و: الأصل، و: الأمر القديم يتوارثه الآخِر عن الأول. وفي الاصطلاح الفقهي هو: (استحقاق شخصٍ، في أصل التشريع، مال غيره بموته، لاتصاله به بنسب أو سبب). فخرج بقوله: «في أصل التشريع» مِلكيَّةُ البطن الثاني للموقوف، فهو وإن استحقه بموت البطن الأول، لكن استحقاقه له بسبب طارىء وهو الوقف، لا بأصل التشريع كما هو شأن الميراث. وخرج بقوله: «لاتصاله به بنسب أو سبب» ما يستحقه الغير بالوصية بعد موته، فإنه وإن استحقه بعد موته، لكن استحقاق الغريب أو القريب للموصى به إنما هو بسبب الوصية المبرزة لرضا الموصي، لا أنه بسبب اتصاله به بنسب أو سبب ولو كان كارهاً، كما هو شأن الميراث.
والميراث بهذا المعنى المصطلح معروف منذ القدم، ولعل شيوعَه واهتداءَ الإنسان إليه قد كان بتسديدٍ من الوحي الإلهي للأنبياء الذين رافقوا الإنسان منذ القدم وشرَّعوا له ما يتوافق مع مصالحه وينسجم مع فطرته؛ ولا سيما وأن انتقال المال الذي أجهد المورِّثُ نفسَه في حياته لإنتاجه وتحصيله، إلى أبنائه وذوي قرابته يُثلج صدره ويُسعده، بل إنه ما كان ليجِدَّ في كسب ما يزيد عن حاجته ولا في تخزينه وجمعه لولا اعتقاده بانتقاله إلى أبنائه وذوي قرابته الذين يُعتبرون الإمتداد له والاستمرار لذِكْره؛ كذلك فإِنَّ التزام الإسلام به والتشريع له بهذا النحو المفصل، وإصرارَه على توزيع الميراث على أكثر من شخص واحد ـ بالنحو الذي سيأتي ـ يُبرز رغبته في تبديد الثروات وعدم تكديسها في يد شخص واحد، لتتداولها الأيدي بالإنماء والانتفاع فتعمر البلاد ويثرى المجتمع؛ كما أن في قَصْرِه على ذوي الأرحام، الأقربِ منهم فالأقرب، ما يعزز أواصر التضامن في داخل الأسرة، فتقوى ويتعاون أفرادها في حياتهم على ما فيه خير فقيرهم وعاجزهم، كما وأنهم يتحابُّون بذلك فيتواصلون فتنمو العلاقات وتكثر الخيرات وتشيع المودة بين الناس؛ بل إن في النسق الذي قُسِّم الميراثُ عليه قدراً وافراً من العدل، إذ لحظ التشريع ـ في جملـة ما لحظـه ـ مقدار حاجة الوارث للمال على حسب دوره ومسؤوليته في الحياة، ففاضل ـ أحيانـاً ـ بين الذكر والأنثى بعد تفاضلهما في التبعات والأدوار، كما وأنه ربما لاحظ اشتراك سائر أفراد الأسرة في تحمل شيء من الجهد في حيازة مال المورث وتَكَسُّبِه بقدرٍ صغير أو كبيرة، فلم ينس تعبهم معه وأولويتهم بماله؛ كما أن فيه شيئاً من رد الجميل لمن يكون قد أنفق على المورِّث إن كان قد احتاجه في حياته؛ وهكذا فإننا في تشريع الميراث الإسلامي أمام صفحة من صفحات الإعجاز التشريعي لا تكاد تنتهي دلالاتها البديعة ومراميها السامية.
إننا في هذا الباب سوف نُطلُّ في عدد من الفصول والمباحث على أحكام الميراث المفصَّلة التي لا غنى عن معرفتها لمعظم الناس، وسوف نتناول في الفصل الأول موجبات الإرث وأقسام الوارث وأنواع السهام، وفي الفصل الثاني كيفية توزيع التركة على ذوي الاستحقاق من جهة النسب أو السبب، ثم نختم هذا الباب بخاتمة نتناول فيها ميراث ذوي الحالات المُشْكِلَة، كالخنثى وذي الرأسين والغرقى والمهدوم عليهم ونحوهم.