السيد فضل الله لـ"الوطن العربي": أمريكا لا تمثّل دولةً يحكمها شخص، بل دولة تحكمها مؤسسات

السيد فضل الله لـ"الوطن العربي": أمريكا لا تمثّل دولةً يحكمها شخص، بل دولة تحكمها مؤسسات

السيد فضل الله لـ"الوطن العربي":

أمريكا لا تمثّل دولةً يحكمها شخص، بل دولة تحكمها مؤسسات


- آفاق المشروع الأمريكي في المنطقة
- هل تتبدّل سياسة أوباما في المنطقة؟
- العلاقات الإيرانية ـ العربية
- إسرائيل: سقوط أسطورة الدولة الأقوى
- لبنان في مرحلة الهدوء الحذر
- حقوق المرأة
- قضايا معرفيّة دينيّة

تميّز سماحة العلامة المرجع، السيّد محمد حسين فضل الله، بتجربة فقهية وأصولية جعلت منه مجدّداً في هذا العالم، متابعاً لمسيرة السلف الصالح من الفقهاء، وممهّداً الطريق نحو اجتهاد أصيل في فهم الكتاب والسنّة، وقد ساعده على ذلك فهمه العميق للقرآن الكريم، انطلاقاً من ذوقه الرفيع في الّلغة العربية وآدابها. اعتمد سماحته على الرؤية القرآنية كأساس في الاجتهاد والاستنباط، بوصفها الأساس التشريعي والدستوري الأوّل في سلّم مصادر التشريع، وقد مكّنه ذلك من الوصول إلى معطيات فقهية جديدة تمثّل فهماً قرآنياً أصيلاً. وعمل على تخليص الفقه من التعقيدات التي أفرزها تأثّر الممارسة الاستنباطية والتنظير الأصولي بالفلسفة التجريدية، ما أدّى إلى تشويش الفهم العرفي في تعامله مع النصّ في دلالته ومعطياته. وليس ذلك إنكاراً لأهمّية الأصول كما توهّم الكثيرون، وإنما هو العمل على التوفيق بين النظرية والتطبيق التي خالف فيها كثيراً من الفقهاء لسبب أو لآخر.


عُرف سماحته بالذوق الأدبي الراقي، وبقدرة لغوية متميّزة، أعطت لممارسته الاستنباطية عمقاً وأصالةًً وصفاءً من جهة، ووفّرت له فهماً أدقّ وأعمق للنصوص الشرعية من جهة أخرى. إضافةً إلى كل ذلك، امتلك سماحة السيد الجرأة العلمية على طرح نظريّاته الفقهية كلّما توصّل إلى قناعة ثابتة بها، وهو يرى أنّه في ظلّ وضوح الرؤية لدى الفقيه، ليس ثمة مبرّر له في الاحتياط، لأن الاحتياط لا بدّ من أن يرتكز على دراسة واقعية لظروف المكلّفين لا لظروف المجتهد، لأن الاحتياطات التي لا أساس علمياً لها، توقع المكلّف في الحرج والمشقّة في كثير من المجالات الابتلائية، ولذا أفتى سماحته بطهارة كلّ إنسان، وباعتماد علم الفلك والأرصاد في إثبات الشهور القمرية، وغير ذلك، وقد قال بعض الفضلاء وهو يشير إلى بعض الفتاوى السابقة، إنه وصل إلى النتائج نفسها، والفرق أن "السيّد كان أجرأ منّا".

حول مسائل سياسية وفكرية ودينية، سألت صحيفة "الوطن العربي" العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله،

وهذا نصّ الحوار:

- آفاق المشروع الأمريكي في المنطقة

س: حكي كثيراً عن مشروع أميركي في المنطقة يستهدف ضرب قوى الممانعة والمقاومة، والبعض يقول إنه هزم، بينما يقول بعض آخر إنّه لم يهزم. في رأيكم، أين أصبح هذا المشروع؟ هل لا يزال قائماً؟ أين نجح؟ وأين فشل؟

ج: عندما ندرس الاستراتيجية السياسية للإدارة الأمريكية على مستوى حركة علاقاتها بالعالم، نجد أن الأساس الذي يحكم هذه السياسة، هو أن تبقى أميركا في موقع القيادة للعالم، على طريقة الإمبراطوريات التاريخية، ولكن في شكل معاصر من حيث طبيعة تطور الوسائل التي يتحرك بها الإمبراطور في تأكيد إمبراطوريته. ولذلك فإن أميركا التي تتحدث عن الحرّيات وعن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ليست جادّةً في تأكيد هذه المبادئ في الواقع العالمي، إلا إذا انسجمت مع مصالحها الاقتصادية والأمنية والسياسية.
الإدارات الأمريكية المتعاقبة تحافظ على الاستراتيجية نفسها منذ الحرب العالمية الثانية، وإن اختلفت الوسائل

وهذا ما لاحظناه في كلّ الإدارات الأميركية، التي ربما يستثنى منها إدارة الرئيس "ويلسون" الذي كان يحاول أن يركّز مبادئه على قاعدة ثقافية إنسانية تؤكّد خطوطه الفكرية في العالم. أما الإدارات الأخرى التي تعاقبت على حكم أميركا، فإنّها وإن كانت تختلف في الوسائل التي تستخدمها، إلا أنها كانت تحافظ على الإستراتيجية نفسها، وذلك منذ الحرب العالمية الثانية التي حاولت فيها أميركا إيقاف الحرب عبر إلقاء القنبلتين الذرّيتين على هيروشيما وناكازاكي، وأبعدت اليابان عن أن تكون في مواقع القوة العسكرية، بل جمّدت حركتها في المجال الأمني.

وهكذا رأينا الإدارات المتعاقبة تمارس الإستراتيجية نفسها، وحتى عندما تدخّل أيزنهاور في مسألة قناة السويس ضدّ بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، فإنّه كان في تدخّله يتبع الخطّة الأمريكية التي كانت تهدف إلى طرد أوروبا وإنهاء سيطرتها على المنطقة، وتأديب إسرائيل لأنها تحركت مع أوروبا وبريطانيا وفرنسا، لأن أميركا كانت تعدّ نفسها لتكون البديل في المنطقة. وهذا ما لاحظناه أيضاً في تجربة الرؤساء "ريغان" و"كلينتون"، والتجربة الدامية للرئيس بوش الابن، التي أغرقت المنطقة بالحروب، باعتبار أن الحرب كانت بالنسبة إليه هي الخطّ الاستراتيجي الذي يحاول من خلاله تأكيد سيطرة أميركا في المنطقة، وخصوصاً السيطرة على كل منابع النفط في العالم.

ولا ينبغي أن نغفل في هذا المجال ما اعترف به أحد الضبّاط الأمريكيين الكبار في العراق، بأن احتلال أمريكا للعراق كان للسّيطرة على نفط العراق، وليس مسألة أسلحة الدّمار الشامل، أو مسألة صدّام حسين مثلاً، الذي انتهت مهمّته عند أميركا بعدما أن كان عميلاً لها في كل تاريخه.

لذلك، فالإستراتيجية الأميركية التي تهدف إلى أن تبقى أمريكا مستمرةً في قيادة العالم، لا تزال هي الأساس في علاقاتها بالدول الأخرى، وخصوصاً بعد انتصارها على الاتحاد السوفيتي الذي حاولت أن تحاصره لتضعفه اقتصادياً، ما جعله يسقط اقتصادياً أمام طموحاته التي كان يحاول من خلالها أن يلاحق أميركا ليتوازن معها، فيما كانت أميركا أقوى منه اقتصادياً، وخصوصاً من خلال تحالفاتها مع أوروبا وغيرها.
المشروع الأمريكي في المنطقة هو إسقاط كل دولة وكل مقاومة تستهدف السياسة الإستكبارية الأمريكية

لذلك أعتقد أنّ المشروع الأميركي في قضية إسقاط كل دولة وكل حركة ممانعة أو مقاومة تستهدف السياسة الأميركية، أو تضرّ بمصالحها، سوف يبقى من أولويات السياسة الأمريكية التي تعمل على تطبيقها بأكثر من وسيلة تبعاً للظروف. ويؤكّد ذلك ما سمعناه من الرئيس جورج بوش في مسألة مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومسألة الفوضى الخلاقة، ومسألة التأييد المطلق لإسرائيل في مقابل إضعاف القوى العربية، وينعكس ذلك حتى في الأسلوب الذي يوحي إلى العرب بأنهم حلفاء، فيما هو يقسّمهم إلى دول اعتدال ودول تطرّف.

وهذا ما لاحظناه أيضاً في الدعم الأميركي لعدوان إسرائيل على لبنان في كل المراحل، وصولاً إلى مرحلة عدوان تموز، باعتبار أنّ الخطة كانت إسقاط المقاومة الإسلامية في لبنان، لأنها محسوبة على إيران وعلى سوريا بحسب الأميركيين، ولأنهم لا يريدون أن تكون هناك أية ممانعة للسياسة الأميركية في لبنان، وخصوصاً ما صرّح به الرئيس جورج بوش، من أنّ لبنان يدخل في نطاق الأمن القومي الأميركي، وكذلك ما قالته وزيرة خارجيته حينها، رايس، بأن لبنان هو أفضل موقع لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير.

لذلك، أنا أعتقد أن أميركا هزمت تكتيكياً في مشروعها؛ مشروع الشرق الأوسط الكبير، وفي أكثر من موقع من مواقع سياستها، كما أنها خسرت الكثير من جنودها في خلال احتلالها العراق، ما جعل الرأي العام الأميركي يطالب بالانسحاب منه. وهكذا نجد أنها لا تزال تعاني من احتلالها لأفغانستان وقيادتها لحلف شمال الأطلسي، وهذا ما جعل الإدارة الأميركية الجديدة تفكّر في ضرورة الامتداد إلى أفغانستان لتحقيق الانتصار، باعتبار أن أميركا واجهت الكثير من حالات الإرباك السياسي والعسكري في أفغانستان، والذي امتدّ إلى باكستان، مع الإشارة إلى أن قضية احتلال أفغانستان ليست مرتبطةً بقضية11 أيلول، إنّما هي ذريعة للسيطرة على القارّة الآسيوية، ولا سيّما على الصين، فهي قضيّة تتصل بالنفوذ الأميركي ومحاولة تطويق الصين امتداداً إلى تطويق إيران.

- هل تتبدّل سياسة أوباما في المنطقة؟

س: مع وصول الرئيس الأميركي الجديد "باراك أوباما"، هل تتوقّع تغييراً جذرياً في السياسة الأميركية في المنطقة، أم أن الأسلوب فقط سيتبدل؟ وما هي الرسالة التي توجّهها إليه في بداية عهده؟  

ج: عندما ندرس الولايات المتحدة الأميركية كمحور دولي قيادي له مصالحه الإستراتيجية في العالم، نعرف أن أميركا لا تمثل دولةً يحكمها شخص، بل دولة تحكمها مؤسسات، سواء الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس أوباما، أو الكونغرس الذي يجمع الحزبين الجمهوري والديمقراطي. لذلك، أياً كان الرئيس الأمريكي، فإنّه لا يملك الحرّية في التخطيط لسياسته في شكل يختلف اختلافاً كلياً عن الإستراتيجية الأميركية المؤسسية.
أياً كان الرئيس الأمريكي، فهو لا يملك الحرية في التخطيط لسياسته في العراق بعيداً عن الاستراتيجية الأمريكية المؤسسية

ولكن نحن نتصوّر أن أميركا (الشعب)، شعرت بأنّ سياسة الرئيس جورج بوش أوقعتها في مآزق كثيرة، وعزلتها عن أكثر شعوب العالم، حتى باتت الشعوب تكره أميركا، ما جعل الأميركيين يتساءلون دوماً: لماذا يكرهوننا؟ كما أدّت هذه السياسة إلى سقوط الكثير من الجنود الأميركيين في العراق، الذين بلغوا، وبحسب الإحصاءات الأميركية، أكثر من 4000 جندي، وأكثر من 31000 جريح، هذا إضافةً إلى حالات الانتحار التي تتصاعد في كل سنة، تعبيراً عن عدم اقتناع الجنود بالموقع الذي هم فيه، فضلاً عن الحالات النفسية المعقّدة للجنود الأميركيين، والتي قد تحوّل الكثير منهم إلى المصحّات النفسية، وما إلى ذلك.

لهذا، فإنني أتصوّر أن الرئيس الأميركي الجديد سوف يحاول تغيير الأسلوب والوسائل. وهذا ما نجده على سبيل المثال في مسألة الحوار مع إيران، سواء في ما يتعلق بالعلاقات الإيرانية الأميركية، أو بالملف النووي وما إلى ذلك. لكنه لا يزال يسير على خط بوش بالنسبة إلى زيادة القوات الأميركية في أفغانستان، باعتبار أنها مسألة تتصل بالإستراتيجية الأميركية في السيطرة على آسيا، واحتواء المخاطر المتوقعة في تلك المنطقة.

- العلاقات الإيرانية ـ العربية

س: العلاقة الإيرانية مع معظم الدول العربية، يشوبها التوتر وانعدام الثقة. ماذا تريد إيران من العالم العربي؟ وما هو المطلوب من إيران لإزالة هذه المخاوف العربية؟

ج: أنا أتصور أن الحديث عن العقدة الإيرانية تجاه العالم العربي هو من المسائل التي تتحرك فيها الخطة الأميركية بهدف تعقيد الوضع الإيراني في محيطه، وذلك عبر التصوير أنّ إيران تمثل الخطر على هذا المحيط، ولا سيما الخليجي العربي، إضافةً إلى اتّهامها بالتدخل في العراق للسيطرة عليه بحسب المنطق الأميركي. ونحن نعرف أنّ سياسة إيران تمتد إلى الدول المحاذية لها، كأفغانستان، والهند، وما إلى ذلك، ما يجعل من إيران دولةً إقليميةً كبرى في منطقتها، الأمر الذي قد يؤثر في المصالح الإستراتيجية للإدارة الأمريكية، باعتبار أن السياسة الإيرانية لا تزال مضادّةً لخطوط السياسة الأميركية التي تهدف إلى تطويق إيران وإخضاعها لخططها الإستراتيجية، ولا سيّما أنها قد تفكر في الوسائل التي قد تسيطر فيها على مقدّرات إيران الاقتصادية، وخصوصاً النفطية.
السياسة الأميركية تهدف إلى تطويق إيران وإخضاعها لخططها الإستراتيجية ، وهي قد تفكر في وسائل السيطرة على مقدّراتها الاقتصادية، وخصوصاً النفطية

إلى ذلك، هناك مسألة الملف النووي الذي تقول إيران إنها لا تستهدف منه صنع القنبلة الذرية، بل الاستفادة منه في تطوير الطاقة للشعب الإيراني. لكن عندما ندرس علاقات الإدارة الإيرانية بالمحيط العربي الذي يجاورها، نرى أنها تحاول عبر كل الوسائل، سواء من خلال الزيارات التي يقوم بها المسؤولون الإيرانيون للدول العربية، كالسعودية والبحرين والإمارات وغيرها، أو في العلاقات الاقتصادية أيضاً بينها وبين بعض الدول العربية، وخصوصاً الإمارات، التي لا تزال مشكلة الجزر الثلاثة مشكلةً عالقةً بينها وبين إيران، عندما ندرس كلّ ذلك، نرى أنّها تحاول أن تحسّن هذه العلاقات. كما أن إيران كانت تطالب، باعتبارها أكبر الدول الخليجية، لأن حدودها على الخليج أكبر من حدود أية دولة خليجية، كانت تطالب الخليجيين بعقد اتفاقات أمنية لحماية منطقة الخليج، بحيث تكون الحماية عربية إيرانية.     إيران لا تريد من العالم العربي إلا علاقات طيبةً وسلميةً لأنّ مصلحتها تقتضي ذلك، وهي لا تستطيع السيطرة على العالم العربي حتى لو أرادت ذلك

أما مسألة أن يمتدّ نفوذ إيران إلى المستوى الذي تسيطر فيه على المنطقة، فهذا كلام غير سياسي، لأن من الطبيعي أن تحاول الدولة القوية السيطرة على الدول الضعيفة أو مدّ نفوذها إليها، كما في حالة النفوذ الأميركي في كندا والمكسيك، ولكن هذه المسألة لا تشكل خطراً، ما دام النفوذ لا يهدف إلى السيطرة على مقدّرات الدول الأخرى، بل التكامل معها.

أما بالنسبة إلى التدخّل الإيراني في العراق، فهذا أمر طبيعي، باعتبار أن أميركا عندما احتلّت العراق، فإنها أصبحت على حدود إيران، ومن الطبيعي أن ترى إيران أنه من الضروري أن تدافع عن نفسها وتواجه الخطر الأميركي الذي يمكنه أن يزحف إليها، لذلك فإنها تعمل على تأكيد نفوذها بالنسبة إلى الشعب العراقي، مستغلةً كثيراً من الوسائل، إلى جانب تقويتها للمعارضة العراقية التي تواجه الاحتلال.

إنني أعتقد أن إيران لا تريد من العالم العربي إلا علاقات طيبةً وسلميةً، لأنّ مصلحتها تقتضي ذلك، وهي لا تستطيع السيطرة على العالم العربي حتى لو أرادت ذلك، لأن هناك أكثر من مشكلة تواجه هذه الخطة. ونحن نعرف أن مصر لا تزال تعيش التعقيد في علاقاتها مع إيران، ولكنّ المسؤولين الإيرانيين لا يزالون يقومون بزيارات إلى مصر، ويتقرّبون إليها، ويحاولون إيجاد أيّ فرصة للعلاقات معها. وكذلك تحاول إيران أن تنشىء علاقات طبيعيةً مع الأردن.
أنا لا أعتقد أن إيران تشكل خطراً على العالم العربي، لكن أميركا تريد أن تصور للعرب، أن إيران هي الخطر

أنا لا أعتقد أن إيران تشكل خطراً على العالم العربي، لكن أميركا تريد من خلال سياستها في دعمها المطلق لإسرائيل، أن تصور للعرب، أو ما تسميه دول الاعتدال العربي، أن إيران هي الخطر، وأن إسرائيل هي الصديق وهي الحليف، وهذا ما لاحظناه في تصريحات بعض الإسرائيليين في حديثهم عن أن دول الاعتدال كانت تطلب من إسرائيل الهجوم على غزة وتصفية حركة حماس، من دون أن نجد هناك أيّ ردّ فعل أو نفي لمثل هذه الدعايات الإسرائيلية.

- إسرائيل: سقوط أسطورة الدولة الأقوى

س: في رأيك، هل أقنعت حرب غزّة الأخيرة، وقبلها حرب تموز في لبنان، إسرائيل ومعها الولايات المتحدة، بعدم جدوى الحلول العسكرية؛ أم أن هناك جولات جديدة من الحروب قيد التحضير من قبل الإسرائيليين؟ 

ج: أنا أعتقد أن العقدة الموجودة لدى إسرائيل، هي أنّها بَنَت أسطورتها على أنها تمثل الدولة الأقوى في المنطقة، وأنها تملك الجيش الذي لا يقهر، وذلك من خلال تاريخ الهزائم العربية التي عاشها العرب في حروبهم ضدّها، إلاّ أنّ الحروب التي خاضتها إسرائيل مع العرب لم تكن حروباً إسرائيليةً عربيةً، سواء كانت الحرب مع مصر أو مع سوريا أو مع لبنان أو مع الأردن، بل كانت حروباً إسرائيلية أميركية ضدّ العرب، لأن أميركا لا تسمح بهزيمة إسرائيل، وهذا ما لاحظناه، فعندما استطاع المصريون أن يعبروا قناة السويس، وأن ينتصروا على إسرائيل، نصبت أمريكا جسراً جوياً، ووضع هنري كيسنجر خطته على أساس الالتفاف على هذا النصر المصري من خلال موقع ال101 الذي أدّى إلى خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي.
   

الحروب التي خاضتها إسرائيل مع العرب لم تكن حروباً إسرائيلية عربية،


بل حروباً إسرائيلية أمريكية ضدّ العرب


لذلك فإن إسرائيل تعيش عقدة أن تبقى أقوى دولة في المنطقة، وهذا ما يدخل في صلب الإستراتيجية الأميركية التي تتحدث عن الأمن الإسرائيلي المطلق لتبقى إسرائيل أقوى دولة في المنطقة، وأقوى حتى من الدول التي هي متحالفة مع أمريكا، كمصر والسعودية، بل إنّ أمريكا عندما كانت تبيع هذه الدول السلاح، كانت تشترط عليهم ألا يستخدم ضدّ إسرائيل، حتى إنها في بعض الأحيان كانت تجعل هذه الأسلحة خاليةً من بعض الأجهزة التي كان يمكن أن تشكل خطراً على إسرائيل، في ما لو حدثت حرب إسرائيلية عربية.

وقد لاحظنا هذه العقدة الإسرائيلية في المنطق الذي كان يتحدث به الإسرائيليون، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى العسكري، بأن حرب غزة، وطبيعة التدمير الذي حصل فيها، يمثل رسالةً إلى كل الجهات، مضمونها أن إسرائيل تملك قوة الرّدع الأقوى التي لا يحكمها أي قانون آخر، وأن العالم الغربي، وفي مقدّمه أميركا، وحتى العالم العربي، قد يدعمها في ذلك. وهذا ما نستمع إليه الآن في مداخلات وتصريحات المرشَّحين للانتخابات في إسرائيل، بل إن الشعب اليهودي يعتمد معيار "إسرائيل القوية القادرة التي تستطيع السيطرة على كل محيطها" عندما يريد أن يقدِّم سياسياً على آخر.

لكنّني أتصوّر أنّه رغم كلّ هذا العنفوان الإعلامي السياسي، فإنّ إسرائيل قد أخذت درساً من تجربتها في الحرب على لبنان وحتى على غزّة، مفاده أن الوقت الذي كان العرب ينهزمون أمامها في مدى يوم أو يومين أو 3 أيام أو 6 أيام قد ولّى، وأن هناك مقاومةً، إن لم تستطع أن تهزم إسرائيل بالكامل، فعلى الأقلّ تستطيع أن تضعفها وتلحق بها الكثير من الهزائم المتحركة هنا وهناك.
درس لبنان وغزة : المقاومةً ، وإن لم تستطع أن تهزم إسرائيل بالكامل، فعلى الأقلّ تستطيع أن تضعفها وتلحق بها الكثير من الهزائم المتحركة هنا وهناك

ولهذا، فإنّنا نعتقد أنّ إسرائيل لن تجرّب مثل هذه الحرب مرةً أخرى على لبنان، وهي التي تتحدّث عن أنّ المقاومة الإسلامية التي يمثّلها حزب الله، تملك من الأسلحة ما يمكن أن يواجه الطيران الإسرائيلي، إضافةً إلى امتلاكها صواريخ أرض جوّ، وهذا ما جعل إسرائيل تتحدث بقلق عن هذه الفرضية وهذا الاحتمال. وأنا أعتقد أنّه رغم كل هذا الاستعراض للقوّة أو العنفوان بعد حرب غزّة التي لم يحدث فيها اقتتال، لأنّ ما حصل هو قتل واغتيال للأطفال والنساء والشيوخ، إلى جانب أن إسرائيل تمنع مجيء من يريدون أن يبحثوا في جرائم الحرب خوفاً من أن يطّلعوا على ما يؤكّد الجريمة الإسرائيلية، أعتقد أنه رغم كل ذلك، فإنّ إسرائيل ربما تفكر كثيراً قبل أن تقوم بأيّ حرب ضد أي موقع عربي يمكن أن يملك المقاومة الفاعلة ضدها.

- لبنان في مرحلة الهدوء الحذر

س: في لبنان، هل دخلنا مرحلة التعافي بعد اتفاق الدوحة، أم أن هناك مخاطر تتحكم بالبلد قد تعيده في أي لحظة إلى مرحلة اللاستقرار؟

ج: لم يدخل لبنان في حال العافية، لسبب بسيط، وهو نظامه الطائفي، باعتبار أن النظام الطائفي يمنع من الوحدة الوطنية اللبنانية، لأنّه يجعل كل طائفة تفكر في مصالحها الخاصة، بحيث أصبح لكل طائفة موقعها الجغرافي التي لا تسمح للطوائف الأخرى بأن تتدخل فيه، كما أصبح لكل طائفة رجال دينها ورجال سياستها وعلاقاتها الخارجية. وفي هذا المجال، يمكن أن نصف لبنان بأنه يمثل الولايات غير المتحدة، وهو أيضاً ساحة التجاذب لكل ما تريد المخابرات الدولية والإقليمية أن تجرّبه، لذلك حاولوا إيجاد مشكلة سنّية شيعية في لبنان، ومشكلة إسلامية مسيحية. وقد كنت أقول دائماً إنّ هناك ثلاث "لاءات" تحكم لبنان، وهي: لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار.

فمنذ الاستقلال اللبناني حتى الآن، لم يمرّ على لبنان وقت استقرّ فيه الواقع السياسي، وهذا ما نلاحظه اليوم في السجال الدائر بين السياسيين على الرغم من اتفاق الدوحة، وعلى الرغم من جلسات الحوار وقيام حكومة الوحدة الوطنية...

س: هذا يعني أن لبنان يعيش مرحلةً من الهدوء الحذر؟

ج: أنا لا أعتقد أنّ هناك ارتداداً للحالة الأمنية السلبية إلا إذا تطوّرت الأمور في شكل فوق العادة، أو في حال وجدت ظروف دولية أو إقليمية تسمح بمثل هذا التطور السلبي للواقع الأمني. قد لا يخلو الأمر من بعض العمليات الأمنية التي قد تحدث في لبنان كما قد تحدث في أيّ بلد آخر، ولكنني أعتقد أن لا مصلحة لأيّ محور دولي خارجي وأيّ دولة عربية في أيّ خلل أمني في لبنان.

س: يستعدّ اللبنانيون بعد أشهر لانتخابات نيابية حامية. هل ترى أن هذه الانتخابات ستحدّد مصير لبنان، كما يرى فريق من اللبنانيين، أم أنها ستشكّل استمراراً للمرحلة السابقة مهما كانت النتائج؟

ج: إنني أتصور أنه قد توجد بعض الاختلافات في بعض التفاصيل، ولكن لبنان الطائفي سيبقى يستدرج الكثير من التجاذبات والسجالات والتدخّلات الخارجية، لأن مشكلة لبنان ليست مشكلةً داخليةً حتى يتمكّن هذا المجلس النيابي، حتى لو كان متكاملاً بعضه مع بعض، من حلّها، لأنّ مشكلة لبنان هي الخلفيات الاستخباراتية التي تتدخل فيه لتوزّع كل خطوطها على المنطقة. فلبنان هو الساحة التي تتحرك فيها التجارب من أجل إيجاد أوضاع معيّنة لهذه الدولة أو تلك الدولة. لذلك أنا أتصور أنه ما دام لبنان بلداً يحكمه النظام الطائفي، فلا يمكن أن يتغير تغيراً جذرياً، ولكن يمكن أن تحدث فيه بعض التغيّرات في الديكور أو في التفاصيل أو في بعض العلاقات مع هذه الدولة أو تلك، ولكن لبنان لن يتغيّر إلى الأفضل.

- حقوق المرأة

س: أنتم تقولون إنّ الإسلام يعطي المرأة حقوقها، إذاً لماذا تجبر بعض النساء على ارتداء الحجاب، أو تمنع من مغادرة المنـزل بدون إذن الوالد أو الزوج أو الأخ؟ وأين هي حقوقها في ظلّ معاملة الرجال العرب أو المسلمون لها؟

ج: أما مسألة ارتداء الحجاب، فهي مسألة شرعية، وأعتقد أنه ليس هناك إجبار بالمعنى الكامل. قد يكون هناك في الوسط الديني بعض الضغوط التي تمارسها الأسرة على الذكور والإناث في بعض المسائل. ولكنّنا نجد في لبنان مثلاً، في المناطق الإسلامية، وحتى في الجامعات والمدارس الثانوية، أنّ هناك نساءً يلبسن الحجاب بقناعة، كما أنّ هناك نساءً لا يلبسن الحجاب أيضاً بقناعة. فالمرأة التي تخرج سافرةً غير محجّبة لا تضطهد من قِبَل المجتمع المسلم، لأنّ هناك حريةً كاملةً، حتى إنه في البيت الواحد يمكن أن نرى فتاةً محجّبةً وأخرى غير محجّبة.
مسألة ارتداء الحجاب هي مسألة شرعية، وأعتقد أنه ليس هناك إجبار بالمعنى الكامل

فالحجاب أساساً ليس تقييداً للمرأة، بل هو نوع من أنواع الإيحاء إليها بأنّ عليها أن تخرج إلى المجتمع المختلط كإنسانة لا كأنثى. ونحن إذا قمنا بأيّ إحصاء، حتى في الجامعات، فسنرى أن 90% من نظرة الشباب إلى الفتيات هي نظرة جنسية، ما يعني أنّ الشابّ ينظر إلى المرأة، حتى المثقّفة وحتى المتعلّمة، وحتى الأستاذة التي تدرِّسه، ينظر إليها على أنها أنثى، بينما يجعل الحجاب المرأة تظهر في المجتمع كإنسانة.

أما بالنسبة إلى مسألة خروجها من البيت، فليست هناك أية شريعة تقول إنّه يحرم عليها الخروج من دون إذن أبيها أو أخيها، بل إننا نرى أنه يحقّ للزوجة أن تخرج من البيت الزوجي من دون إذن زوجها إذا لم ينافِ ذلك حقّه، لجهة العلاقات الخاصة بين الرجل والمرأة.

- قضايا معرفيّة دينيّة

س: كيف تنظرون إلى ظاهرة انتشار الزّيّ الديني دونما مؤهّلات علمية أو خُلقية عند معظم من يتزيّا به؟

ج: إنّ على الناس أن يعرفوا أنّه ليس كلّ من وضع عمامةً أصبح عالماً، وأنّ العمامة مجرّد رمز قد يستغلّه البعض من الجهلة من أجل أن يتاجروا بها. ولكن علينا أن نحترم العمامة التي تملك العلم والتقوى والعقل المنفتح على خدمة الناس.

س: لماذا لا تشكّلون لجنةً من السادة المراجع لتنقية المذهب الشيعيّ من الشوائب التي علقت به من دون قصد على مرّ الزمان، وتقديمه إلى الناس كما أراده الأئمة(ع)؟

ج: هذا أمر غير واقعي، لأن هناك الكثير من التعقيدات الاجتماعية التي تحول دون ذلك، فلكلّ حزب مشايخه، ولكلّ جماعة رجال دين، وقد يصبح هؤلاء موضوع قداسة.
ندعو إلى تزاوج المعرفة الدينية مع المعرفة الاجتماعية والنفسية والسياسية، باعتبار أن ذلك يمثل الفهم الحقيقي للدين

س: ما هو تأثير تطوّر النظريات الاجتماعية والإنسانية على المعرفة الدينية؟

ج: هذه الأنواع من المعارف تنفتح على حلّ مشاكل الإنسان الاجتماعية والنفسية والسياسية، لذلك نحن ندعو إلى تزاوج المعرفة الدينية مع المعرفة الاجتماعية والنفسية والسياسية، باعتبار أن ذلك يمثل الفهم الحقيقي للدين، لأن الدين ليس مجرد عبادات وشعائر يؤدّيها الفرد، بل هو بنيان حضاري هائل يشترك في صنع الحضارة التي تجعل العالم عالماً ينفتح على قدسية العقل وعلى امتداد العلم وخدمة الواقع كله، بالطرق التي تجعل الحياة جنةً على الأرض تماماً كما هي جنة السماء. ولقد قرأنا في كتاب "لمحات في تاريخ العالم"، أن الحضارة الإسلامية هي أمُّ الحضارات، فالإسلام هو أول من صنع حضارةً، ولكن عندما تخلّف المسلمون تخلّفوا عن صنع الحضارة.
الإسلام هو أول من صنع حضارةً ولكن عندما تخلّف المسلمون تخلّفوا عن صنع الحضارة

س: ما رأي سماحتكم في علم الأبراج في الجزء المتعلّق بالخصائص التي تنطبع في المولود عند الولادة، والتي يقال إنّ المولودين في اليوم نفسه يتّصفون بها؟ وما رأيكم في ظاهرة التنجيم التي باتت مرجعاً للناس، وباتوا يتّبعونها ويبتعدون عن الممارسات الدينية؟

ج: إنها خرافة وملهاة يحاول من خلالها الذين يكتبون عن الأبراج ويتحدثون عنها بطريق الإيحاء، أن يربطوا الناس بها، ولكن هذا كلّه خداع، فلا علاقة للأبراج بالإنسان، ولا علاقة للإنسان بالأبراج. فالإنسان هو سر عقله وحركته، سواء كان من برج الحمل، أو من برج الجوزاء أو من أيّ برج آخر...

س: ما هي نصيحتكم لمن أراد أن يتسلَّح بالثقافة الإسلامية؟

ج: نحن نقول إن عليه أن يأخذ الثقافة الإسلامية من مصادرها الأصلية، ولا يحاول أن يأخذها من كل ما ينسب إلى الثقافة الإسلامية، لأن فيها الكثير من الخرافات والتخلف، لذلك علينا أن نأخذها من الكتاب أولاً، ثم من تحليلات ودراسات العلماء المفكّرين الذين يملكون عمق الثقافة الإسلامية وامتداداتها.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 26 صفر 1430 هـ  الموافق: 21/02/2009 م

السيد فضل الله لـ"الوطن العربي":

أمريكا لا تمثّل دولةً يحكمها شخص، بل دولة تحكمها مؤسسات


- آفاق المشروع الأمريكي في المنطقة
- هل تتبدّل سياسة أوباما في المنطقة؟
- العلاقات الإيرانية ـ العربية
- إسرائيل: سقوط أسطورة الدولة الأقوى
- لبنان في مرحلة الهدوء الحذر
- حقوق المرأة
- قضايا معرفيّة دينيّة

تميّز سماحة العلامة المرجع، السيّد محمد حسين فضل الله، بتجربة فقهية وأصولية جعلت منه مجدّداً في هذا العالم، متابعاً لمسيرة السلف الصالح من الفقهاء، وممهّداً الطريق نحو اجتهاد أصيل في فهم الكتاب والسنّة، وقد ساعده على ذلك فهمه العميق للقرآن الكريم، انطلاقاً من ذوقه الرفيع في الّلغة العربية وآدابها. اعتمد سماحته على الرؤية القرآنية كأساس في الاجتهاد والاستنباط، بوصفها الأساس التشريعي والدستوري الأوّل في سلّم مصادر التشريع، وقد مكّنه ذلك من الوصول إلى معطيات فقهية جديدة تمثّل فهماً قرآنياً أصيلاً. وعمل على تخليص الفقه من التعقيدات التي أفرزها تأثّر الممارسة الاستنباطية والتنظير الأصولي بالفلسفة التجريدية، ما أدّى إلى تشويش الفهم العرفي في تعامله مع النصّ في دلالته ومعطياته. وليس ذلك إنكاراً لأهمّية الأصول كما توهّم الكثيرون، وإنما هو العمل على التوفيق بين النظرية والتطبيق التي خالف فيها كثيراً من الفقهاء لسبب أو لآخر.


عُرف سماحته بالذوق الأدبي الراقي، وبقدرة لغوية متميّزة، أعطت لممارسته الاستنباطية عمقاً وأصالةًً وصفاءً من جهة، ووفّرت له فهماً أدقّ وأعمق للنصوص الشرعية من جهة أخرى. إضافةً إلى كل ذلك، امتلك سماحة السيد الجرأة العلمية على طرح نظريّاته الفقهية كلّما توصّل إلى قناعة ثابتة بها، وهو يرى أنّه في ظلّ وضوح الرؤية لدى الفقيه، ليس ثمة مبرّر له في الاحتياط، لأن الاحتياط لا بدّ من أن يرتكز على دراسة واقعية لظروف المكلّفين لا لظروف المجتهد، لأن الاحتياطات التي لا أساس علمياً لها، توقع المكلّف في الحرج والمشقّة في كثير من المجالات الابتلائية، ولذا أفتى سماحته بطهارة كلّ إنسان، وباعتماد علم الفلك والأرصاد في إثبات الشهور القمرية، وغير ذلك، وقد قال بعض الفضلاء وهو يشير إلى بعض الفتاوى السابقة، إنه وصل إلى النتائج نفسها، والفرق أن "السيّد كان أجرأ منّا".

حول مسائل سياسية وفكرية ودينية، سألت صحيفة "الوطن العربي" العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله،

وهذا نصّ الحوار:

- آفاق المشروع الأمريكي في المنطقة

س: حكي كثيراً عن مشروع أميركي في المنطقة يستهدف ضرب قوى الممانعة والمقاومة، والبعض يقول إنه هزم، بينما يقول بعض آخر إنّه لم يهزم. في رأيكم، أين أصبح هذا المشروع؟ هل لا يزال قائماً؟ أين نجح؟ وأين فشل؟

ج: عندما ندرس الاستراتيجية السياسية للإدارة الأمريكية على مستوى حركة علاقاتها بالعالم، نجد أن الأساس الذي يحكم هذه السياسة، هو أن تبقى أميركا في موقع القيادة للعالم، على طريقة الإمبراطوريات التاريخية، ولكن في شكل معاصر من حيث طبيعة تطور الوسائل التي يتحرك بها الإمبراطور في تأكيد إمبراطوريته. ولذلك فإن أميركا التي تتحدث عن الحرّيات وعن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ليست جادّةً في تأكيد هذه المبادئ في الواقع العالمي، إلا إذا انسجمت مع مصالحها الاقتصادية والأمنية والسياسية.
الإدارات الأمريكية المتعاقبة تحافظ على الاستراتيجية نفسها منذ الحرب العالمية الثانية، وإن اختلفت الوسائل

وهذا ما لاحظناه في كلّ الإدارات الأميركية، التي ربما يستثنى منها إدارة الرئيس "ويلسون" الذي كان يحاول أن يركّز مبادئه على قاعدة ثقافية إنسانية تؤكّد خطوطه الفكرية في العالم. أما الإدارات الأخرى التي تعاقبت على حكم أميركا، فإنّها وإن كانت تختلف في الوسائل التي تستخدمها، إلا أنها كانت تحافظ على الإستراتيجية نفسها، وذلك منذ الحرب العالمية الثانية التي حاولت فيها أميركا إيقاف الحرب عبر إلقاء القنبلتين الذرّيتين على هيروشيما وناكازاكي، وأبعدت اليابان عن أن تكون في مواقع القوة العسكرية، بل جمّدت حركتها في المجال الأمني.

وهكذا رأينا الإدارات المتعاقبة تمارس الإستراتيجية نفسها، وحتى عندما تدخّل أيزنهاور في مسألة قناة السويس ضدّ بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، فإنّه كان في تدخّله يتبع الخطّة الأمريكية التي كانت تهدف إلى طرد أوروبا وإنهاء سيطرتها على المنطقة، وتأديب إسرائيل لأنها تحركت مع أوروبا وبريطانيا وفرنسا، لأن أميركا كانت تعدّ نفسها لتكون البديل في المنطقة. وهذا ما لاحظناه أيضاً في تجربة الرؤساء "ريغان" و"كلينتون"، والتجربة الدامية للرئيس بوش الابن، التي أغرقت المنطقة بالحروب، باعتبار أن الحرب كانت بالنسبة إليه هي الخطّ الاستراتيجي الذي يحاول من خلاله تأكيد سيطرة أميركا في المنطقة، وخصوصاً السيطرة على كل منابع النفط في العالم.

ولا ينبغي أن نغفل في هذا المجال ما اعترف به أحد الضبّاط الأمريكيين الكبار في العراق، بأن احتلال أمريكا للعراق كان للسّيطرة على نفط العراق، وليس مسألة أسلحة الدّمار الشامل، أو مسألة صدّام حسين مثلاً، الذي انتهت مهمّته عند أميركا بعدما أن كان عميلاً لها في كل تاريخه.

لذلك، فالإستراتيجية الأميركية التي تهدف إلى أن تبقى أمريكا مستمرةً في قيادة العالم، لا تزال هي الأساس في علاقاتها بالدول الأخرى، وخصوصاً بعد انتصارها على الاتحاد السوفيتي الذي حاولت أن تحاصره لتضعفه اقتصادياً، ما جعله يسقط اقتصادياً أمام طموحاته التي كان يحاول من خلالها أن يلاحق أميركا ليتوازن معها، فيما كانت أميركا أقوى منه اقتصادياً، وخصوصاً من خلال تحالفاتها مع أوروبا وغيرها.
المشروع الأمريكي في المنطقة هو إسقاط كل دولة وكل مقاومة تستهدف السياسة الإستكبارية الأمريكية

لذلك أعتقد أنّ المشروع الأميركي في قضية إسقاط كل دولة وكل حركة ممانعة أو مقاومة تستهدف السياسة الأميركية، أو تضرّ بمصالحها، سوف يبقى من أولويات السياسة الأمريكية التي تعمل على تطبيقها بأكثر من وسيلة تبعاً للظروف. ويؤكّد ذلك ما سمعناه من الرئيس جورج بوش في مسألة مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومسألة الفوضى الخلاقة، ومسألة التأييد المطلق لإسرائيل في مقابل إضعاف القوى العربية، وينعكس ذلك حتى في الأسلوب الذي يوحي إلى العرب بأنهم حلفاء، فيما هو يقسّمهم إلى دول اعتدال ودول تطرّف.

وهذا ما لاحظناه أيضاً في الدعم الأميركي لعدوان إسرائيل على لبنان في كل المراحل، وصولاً إلى مرحلة عدوان تموز، باعتبار أنّ الخطة كانت إسقاط المقاومة الإسلامية في لبنان، لأنها محسوبة على إيران وعلى سوريا بحسب الأميركيين، ولأنهم لا يريدون أن تكون هناك أية ممانعة للسياسة الأميركية في لبنان، وخصوصاً ما صرّح به الرئيس جورج بوش، من أنّ لبنان يدخل في نطاق الأمن القومي الأميركي، وكذلك ما قالته وزيرة خارجيته حينها، رايس، بأن لبنان هو أفضل موقع لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير.

لذلك، أنا أعتقد أن أميركا هزمت تكتيكياً في مشروعها؛ مشروع الشرق الأوسط الكبير، وفي أكثر من موقع من مواقع سياستها، كما أنها خسرت الكثير من جنودها في خلال احتلالها العراق، ما جعل الرأي العام الأميركي يطالب بالانسحاب منه. وهكذا نجد أنها لا تزال تعاني من احتلالها لأفغانستان وقيادتها لحلف شمال الأطلسي، وهذا ما جعل الإدارة الأميركية الجديدة تفكّر في ضرورة الامتداد إلى أفغانستان لتحقيق الانتصار، باعتبار أن أميركا واجهت الكثير من حالات الإرباك السياسي والعسكري في أفغانستان، والذي امتدّ إلى باكستان، مع الإشارة إلى أن قضية احتلال أفغانستان ليست مرتبطةً بقضية11 أيلول، إنّما هي ذريعة للسيطرة على القارّة الآسيوية، ولا سيّما على الصين، فهي قضيّة تتصل بالنفوذ الأميركي ومحاولة تطويق الصين امتداداً إلى تطويق إيران.

- هل تتبدّل سياسة أوباما في المنطقة؟

س: مع وصول الرئيس الأميركي الجديد "باراك أوباما"، هل تتوقّع تغييراً جذرياً في السياسة الأميركية في المنطقة، أم أن الأسلوب فقط سيتبدل؟ وما هي الرسالة التي توجّهها إليه في بداية عهده؟  

ج: عندما ندرس الولايات المتحدة الأميركية كمحور دولي قيادي له مصالحه الإستراتيجية في العالم، نعرف أن أميركا لا تمثل دولةً يحكمها شخص، بل دولة تحكمها مؤسسات، سواء الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس أوباما، أو الكونغرس الذي يجمع الحزبين الجمهوري والديمقراطي. لذلك، أياً كان الرئيس الأمريكي، فإنّه لا يملك الحرّية في التخطيط لسياسته في شكل يختلف اختلافاً كلياً عن الإستراتيجية الأميركية المؤسسية.
أياً كان الرئيس الأمريكي، فهو لا يملك الحرية في التخطيط لسياسته في العراق بعيداً عن الاستراتيجية الأمريكية المؤسسية

ولكن نحن نتصوّر أن أميركا (الشعب)، شعرت بأنّ سياسة الرئيس جورج بوش أوقعتها في مآزق كثيرة، وعزلتها عن أكثر شعوب العالم، حتى باتت الشعوب تكره أميركا، ما جعل الأميركيين يتساءلون دوماً: لماذا يكرهوننا؟ كما أدّت هذه السياسة إلى سقوط الكثير من الجنود الأميركيين في العراق، الذين بلغوا، وبحسب الإحصاءات الأميركية، أكثر من 4000 جندي، وأكثر من 31000 جريح، هذا إضافةً إلى حالات الانتحار التي تتصاعد في كل سنة، تعبيراً عن عدم اقتناع الجنود بالموقع الذي هم فيه، فضلاً عن الحالات النفسية المعقّدة للجنود الأميركيين، والتي قد تحوّل الكثير منهم إلى المصحّات النفسية، وما إلى ذلك.

لهذا، فإنني أتصوّر أن الرئيس الأميركي الجديد سوف يحاول تغيير الأسلوب والوسائل. وهذا ما نجده على سبيل المثال في مسألة الحوار مع إيران، سواء في ما يتعلق بالعلاقات الإيرانية الأميركية، أو بالملف النووي وما إلى ذلك. لكنه لا يزال يسير على خط بوش بالنسبة إلى زيادة القوات الأميركية في أفغانستان، باعتبار أنها مسألة تتصل بالإستراتيجية الأميركية في السيطرة على آسيا، واحتواء المخاطر المتوقعة في تلك المنطقة.

- العلاقات الإيرانية ـ العربية

س: العلاقة الإيرانية مع معظم الدول العربية، يشوبها التوتر وانعدام الثقة. ماذا تريد إيران من العالم العربي؟ وما هو المطلوب من إيران لإزالة هذه المخاوف العربية؟

ج: أنا أتصور أن الحديث عن العقدة الإيرانية تجاه العالم العربي هو من المسائل التي تتحرك فيها الخطة الأميركية بهدف تعقيد الوضع الإيراني في محيطه، وذلك عبر التصوير أنّ إيران تمثل الخطر على هذا المحيط، ولا سيما الخليجي العربي، إضافةً إلى اتّهامها بالتدخل في العراق للسيطرة عليه بحسب المنطق الأميركي. ونحن نعرف أنّ سياسة إيران تمتد إلى الدول المحاذية لها، كأفغانستان، والهند، وما إلى ذلك، ما يجعل من إيران دولةً إقليميةً كبرى في منطقتها، الأمر الذي قد يؤثر في المصالح الإستراتيجية للإدارة الأمريكية، باعتبار أن السياسة الإيرانية لا تزال مضادّةً لخطوط السياسة الأميركية التي تهدف إلى تطويق إيران وإخضاعها لخططها الإستراتيجية، ولا سيّما أنها قد تفكر في الوسائل التي قد تسيطر فيها على مقدّرات إيران الاقتصادية، وخصوصاً النفطية.
السياسة الأميركية تهدف إلى تطويق إيران وإخضاعها لخططها الإستراتيجية ، وهي قد تفكر في وسائل السيطرة على مقدّراتها الاقتصادية، وخصوصاً النفطية

إلى ذلك، هناك مسألة الملف النووي الذي تقول إيران إنها لا تستهدف منه صنع القنبلة الذرية، بل الاستفادة منه في تطوير الطاقة للشعب الإيراني. لكن عندما ندرس علاقات الإدارة الإيرانية بالمحيط العربي الذي يجاورها، نرى أنها تحاول عبر كل الوسائل، سواء من خلال الزيارات التي يقوم بها المسؤولون الإيرانيون للدول العربية، كالسعودية والبحرين والإمارات وغيرها، أو في العلاقات الاقتصادية أيضاً بينها وبين بعض الدول العربية، وخصوصاً الإمارات، التي لا تزال مشكلة الجزر الثلاثة مشكلةً عالقةً بينها وبين إيران، عندما ندرس كلّ ذلك، نرى أنّها تحاول أن تحسّن هذه العلاقات. كما أن إيران كانت تطالب، باعتبارها أكبر الدول الخليجية، لأن حدودها على الخليج أكبر من حدود أية دولة خليجية، كانت تطالب الخليجيين بعقد اتفاقات أمنية لحماية منطقة الخليج، بحيث تكون الحماية عربية إيرانية.     إيران لا تريد من العالم العربي إلا علاقات طيبةً وسلميةً لأنّ مصلحتها تقتضي ذلك، وهي لا تستطيع السيطرة على العالم العربي حتى لو أرادت ذلك

أما مسألة أن يمتدّ نفوذ إيران إلى المستوى الذي تسيطر فيه على المنطقة، فهذا كلام غير سياسي، لأن من الطبيعي أن تحاول الدولة القوية السيطرة على الدول الضعيفة أو مدّ نفوذها إليها، كما في حالة النفوذ الأميركي في كندا والمكسيك، ولكن هذه المسألة لا تشكل خطراً، ما دام النفوذ لا يهدف إلى السيطرة على مقدّرات الدول الأخرى، بل التكامل معها.

أما بالنسبة إلى التدخّل الإيراني في العراق، فهذا أمر طبيعي، باعتبار أن أميركا عندما احتلّت العراق، فإنها أصبحت على حدود إيران، ومن الطبيعي أن ترى إيران أنه من الضروري أن تدافع عن نفسها وتواجه الخطر الأميركي الذي يمكنه أن يزحف إليها، لذلك فإنها تعمل على تأكيد نفوذها بالنسبة إلى الشعب العراقي، مستغلةً كثيراً من الوسائل، إلى جانب تقويتها للمعارضة العراقية التي تواجه الاحتلال.

إنني أعتقد أن إيران لا تريد من العالم العربي إلا علاقات طيبةً وسلميةً، لأنّ مصلحتها تقتضي ذلك، وهي لا تستطيع السيطرة على العالم العربي حتى لو أرادت ذلك، لأن هناك أكثر من مشكلة تواجه هذه الخطة. ونحن نعرف أن مصر لا تزال تعيش التعقيد في علاقاتها مع إيران، ولكنّ المسؤولين الإيرانيين لا يزالون يقومون بزيارات إلى مصر، ويتقرّبون إليها، ويحاولون إيجاد أيّ فرصة للعلاقات معها. وكذلك تحاول إيران أن تنشىء علاقات طبيعيةً مع الأردن.
أنا لا أعتقد أن إيران تشكل خطراً على العالم العربي، لكن أميركا تريد أن تصور للعرب، أن إيران هي الخطر

أنا لا أعتقد أن إيران تشكل خطراً على العالم العربي، لكن أميركا تريد من خلال سياستها في دعمها المطلق لإسرائيل، أن تصور للعرب، أو ما تسميه دول الاعتدال العربي، أن إيران هي الخطر، وأن إسرائيل هي الصديق وهي الحليف، وهذا ما لاحظناه في تصريحات بعض الإسرائيليين في حديثهم عن أن دول الاعتدال كانت تطلب من إسرائيل الهجوم على غزة وتصفية حركة حماس، من دون أن نجد هناك أيّ ردّ فعل أو نفي لمثل هذه الدعايات الإسرائيلية.

- إسرائيل: سقوط أسطورة الدولة الأقوى

س: في رأيك، هل أقنعت حرب غزّة الأخيرة، وقبلها حرب تموز في لبنان، إسرائيل ومعها الولايات المتحدة، بعدم جدوى الحلول العسكرية؛ أم أن هناك جولات جديدة من الحروب قيد التحضير من قبل الإسرائيليين؟ 

ج: أنا أعتقد أن العقدة الموجودة لدى إسرائيل، هي أنّها بَنَت أسطورتها على أنها تمثل الدولة الأقوى في المنطقة، وأنها تملك الجيش الذي لا يقهر، وذلك من خلال تاريخ الهزائم العربية التي عاشها العرب في حروبهم ضدّها، إلاّ أنّ الحروب التي خاضتها إسرائيل مع العرب لم تكن حروباً إسرائيليةً عربيةً، سواء كانت الحرب مع مصر أو مع سوريا أو مع لبنان أو مع الأردن، بل كانت حروباً إسرائيلية أميركية ضدّ العرب، لأن أميركا لا تسمح بهزيمة إسرائيل، وهذا ما لاحظناه، فعندما استطاع المصريون أن يعبروا قناة السويس، وأن ينتصروا على إسرائيل، نصبت أمريكا جسراً جوياً، ووضع هنري كيسنجر خطته على أساس الالتفاف على هذا النصر المصري من خلال موقع ال101 الذي أدّى إلى خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي.
   

الحروب التي خاضتها إسرائيل مع العرب لم تكن حروباً إسرائيلية عربية،


بل حروباً إسرائيلية أمريكية ضدّ العرب


لذلك فإن إسرائيل تعيش عقدة أن تبقى أقوى دولة في المنطقة، وهذا ما يدخل في صلب الإستراتيجية الأميركية التي تتحدث عن الأمن الإسرائيلي المطلق لتبقى إسرائيل أقوى دولة في المنطقة، وأقوى حتى من الدول التي هي متحالفة مع أمريكا، كمصر والسعودية، بل إنّ أمريكا عندما كانت تبيع هذه الدول السلاح، كانت تشترط عليهم ألا يستخدم ضدّ إسرائيل، حتى إنها في بعض الأحيان كانت تجعل هذه الأسلحة خاليةً من بعض الأجهزة التي كان يمكن أن تشكل خطراً على إسرائيل، في ما لو حدثت حرب إسرائيلية عربية.

وقد لاحظنا هذه العقدة الإسرائيلية في المنطق الذي كان يتحدث به الإسرائيليون، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى العسكري، بأن حرب غزة، وطبيعة التدمير الذي حصل فيها، يمثل رسالةً إلى كل الجهات، مضمونها أن إسرائيل تملك قوة الرّدع الأقوى التي لا يحكمها أي قانون آخر، وأن العالم الغربي، وفي مقدّمه أميركا، وحتى العالم العربي، قد يدعمها في ذلك. وهذا ما نستمع إليه الآن في مداخلات وتصريحات المرشَّحين للانتخابات في إسرائيل، بل إن الشعب اليهودي يعتمد معيار "إسرائيل القوية القادرة التي تستطيع السيطرة على كل محيطها" عندما يريد أن يقدِّم سياسياً على آخر.

لكنّني أتصوّر أنّه رغم كلّ هذا العنفوان الإعلامي السياسي، فإنّ إسرائيل قد أخذت درساً من تجربتها في الحرب على لبنان وحتى على غزّة، مفاده أن الوقت الذي كان العرب ينهزمون أمامها في مدى يوم أو يومين أو 3 أيام أو 6 أيام قد ولّى، وأن هناك مقاومةً، إن لم تستطع أن تهزم إسرائيل بالكامل، فعلى الأقلّ تستطيع أن تضعفها وتلحق بها الكثير من الهزائم المتحركة هنا وهناك.
درس لبنان وغزة : المقاومةً ، وإن لم تستطع أن تهزم إسرائيل بالكامل، فعلى الأقلّ تستطيع أن تضعفها وتلحق بها الكثير من الهزائم المتحركة هنا وهناك

ولهذا، فإنّنا نعتقد أنّ إسرائيل لن تجرّب مثل هذه الحرب مرةً أخرى على لبنان، وهي التي تتحدّث عن أنّ المقاومة الإسلامية التي يمثّلها حزب الله، تملك من الأسلحة ما يمكن أن يواجه الطيران الإسرائيلي، إضافةً إلى امتلاكها صواريخ أرض جوّ، وهذا ما جعل إسرائيل تتحدث بقلق عن هذه الفرضية وهذا الاحتمال. وأنا أعتقد أنّه رغم كل هذا الاستعراض للقوّة أو العنفوان بعد حرب غزّة التي لم يحدث فيها اقتتال، لأنّ ما حصل هو قتل واغتيال للأطفال والنساء والشيوخ، إلى جانب أن إسرائيل تمنع مجيء من يريدون أن يبحثوا في جرائم الحرب خوفاً من أن يطّلعوا على ما يؤكّد الجريمة الإسرائيلية، أعتقد أنه رغم كل ذلك، فإنّ إسرائيل ربما تفكر كثيراً قبل أن تقوم بأيّ حرب ضد أي موقع عربي يمكن أن يملك المقاومة الفاعلة ضدها.

- لبنان في مرحلة الهدوء الحذر

س: في لبنان، هل دخلنا مرحلة التعافي بعد اتفاق الدوحة، أم أن هناك مخاطر تتحكم بالبلد قد تعيده في أي لحظة إلى مرحلة اللاستقرار؟

ج: لم يدخل لبنان في حال العافية، لسبب بسيط، وهو نظامه الطائفي، باعتبار أن النظام الطائفي يمنع من الوحدة الوطنية اللبنانية، لأنّه يجعل كل طائفة تفكر في مصالحها الخاصة، بحيث أصبح لكل طائفة موقعها الجغرافي التي لا تسمح للطوائف الأخرى بأن تتدخل فيه، كما أصبح لكل طائفة رجال دينها ورجال سياستها وعلاقاتها الخارجية. وفي هذا المجال، يمكن أن نصف لبنان بأنه يمثل الولايات غير المتحدة، وهو أيضاً ساحة التجاذب لكل ما تريد المخابرات الدولية والإقليمية أن تجرّبه، لذلك حاولوا إيجاد مشكلة سنّية شيعية في لبنان، ومشكلة إسلامية مسيحية. وقد كنت أقول دائماً إنّ هناك ثلاث "لاءات" تحكم لبنان، وهي: لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار.

فمنذ الاستقلال اللبناني حتى الآن، لم يمرّ على لبنان وقت استقرّ فيه الواقع السياسي، وهذا ما نلاحظه اليوم في السجال الدائر بين السياسيين على الرغم من اتفاق الدوحة، وعلى الرغم من جلسات الحوار وقيام حكومة الوحدة الوطنية...

س: هذا يعني أن لبنان يعيش مرحلةً من الهدوء الحذر؟

ج: أنا لا أعتقد أنّ هناك ارتداداً للحالة الأمنية السلبية إلا إذا تطوّرت الأمور في شكل فوق العادة، أو في حال وجدت ظروف دولية أو إقليمية تسمح بمثل هذا التطور السلبي للواقع الأمني. قد لا يخلو الأمر من بعض العمليات الأمنية التي قد تحدث في لبنان كما قد تحدث في أيّ بلد آخر، ولكنني أعتقد أن لا مصلحة لأيّ محور دولي خارجي وأيّ دولة عربية في أيّ خلل أمني في لبنان.

س: يستعدّ اللبنانيون بعد أشهر لانتخابات نيابية حامية. هل ترى أن هذه الانتخابات ستحدّد مصير لبنان، كما يرى فريق من اللبنانيين، أم أنها ستشكّل استمراراً للمرحلة السابقة مهما كانت النتائج؟

ج: إنني أتصور أنه قد توجد بعض الاختلافات في بعض التفاصيل، ولكن لبنان الطائفي سيبقى يستدرج الكثير من التجاذبات والسجالات والتدخّلات الخارجية، لأن مشكلة لبنان ليست مشكلةً داخليةً حتى يتمكّن هذا المجلس النيابي، حتى لو كان متكاملاً بعضه مع بعض، من حلّها، لأنّ مشكلة لبنان هي الخلفيات الاستخباراتية التي تتدخل فيه لتوزّع كل خطوطها على المنطقة. فلبنان هو الساحة التي تتحرك فيها التجارب من أجل إيجاد أوضاع معيّنة لهذه الدولة أو تلك الدولة. لذلك أنا أتصور أنه ما دام لبنان بلداً يحكمه النظام الطائفي، فلا يمكن أن يتغير تغيراً جذرياً، ولكن يمكن أن تحدث فيه بعض التغيّرات في الديكور أو في التفاصيل أو في بعض العلاقات مع هذه الدولة أو تلك، ولكن لبنان لن يتغيّر إلى الأفضل.

- حقوق المرأة

س: أنتم تقولون إنّ الإسلام يعطي المرأة حقوقها، إذاً لماذا تجبر بعض النساء على ارتداء الحجاب، أو تمنع من مغادرة المنـزل بدون إذن الوالد أو الزوج أو الأخ؟ وأين هي حقوقها في ظلّ معاملة الرجال العرب أو المسلمون لها؟

ج: أما مسألة ارتداء الحجاب، فهي مسألة شرعية، وأعتقد أنه ليس هناك إجبار بالمعنى الكامل. قد يكون هناك في الوسط الديني بعض الضغوط التي تمارسها الأسرة على الذكور والإناث في بعض المسائل. ولكنّنا نجد في لبنان مثلاً، في المناطق الإسلامية، وحتى في الجامعات والمدارس الثانوية، أنّ هناك نساءً يلبسن الحجاب بقناعة، كما أنّ هناك نساءً لا يلبسن الحجاب أيضاً بقناعة. فالمرأة التي تخرج سافرةً غير محجّبة لا تضطهد من قِبَل المجتمع المسلم، لأنّ هناك حريةً كاملةً، حتى إنه في البيت الواحد يمكن أن نرى فتاةً محجّبةً وأخرى غير محجّبة.
مسألة ارتداء الحجاب هي مسألة شرعية، وأعتقد أنه ليس هناك إجبار بالمعنى الكامل

فالحجاب أساساً ليس تقييداً للمرأة، بل هو نوع من أنواع الإيحاء إليها بأنّ عليها أن تخرج إلى المجتمع المختلط كإنسانة لا كأنثى. ونحن إذا قمنا بأيّ إحصاء، حتى في الجامعات، فسنرى أن 90% من نظرة الشباب إلى الفتيات هي نظرة جنسية، ما يعني أنّ الشابّ ينظر إلى المرأة، حتى المثقّفة وحتى المتعلّمة، وحتى الأستاذة التي تدرِّسه، ينظر إليها على أنها أنثى، بينما يجعل الحجاب المرأة تظهر في المجتمع كإنسانة.

أما بالنسبة إلى مسألة خروجها من البيت، فليست هناك أية شريعة تقول إنّه يحرم عليها الخروج من دون إذن أبيها أو أخيها، بل إننا نرى أنه يحقّ للزوجة أن تخرج من البيت الزوجي من دون إذن زوجها إذا لم ينافِ ذلك حقّه، لجهة العلاقات الخاصة بين الرجل والمرأة.

- قضايا معرفيّة دينيّة

س: كيف تنظرون إلى ظاهرة انتشار الزّيّ الديني دونما مؤهّلات علمية أو خُلقية عند معظم من يتزيّا به؟

ج: إنّ على الناس أن يعرفوا أنّه ليس كلّ من وضع عمامةً أصبح عالماً، وأنّ العمامة مجرّد رمز قد يستغلّه البعض من الجهلة من أجل أن يتاجروا بها. ولكن علينا أن نحترم العمامة التي تملك العلم والتقوى والعقل المنفتح على خدمة الناس.

س: لماذا لا تشكّلون لجنةً من السادة المراجع لتنقية المذهب الشيعيّ من الشوائب التي علقت به من دون قصد على مرّ الزمان، وتقديمه إلى الناس كما أراده الأئمة(ع)؟

ج: هذا أمر غير واقعي، لأن هناك الكثير من التعقيدات الاجتماعية التي تحول دون ذلك، فلكلّ حزب مشايخه، ولكلّ جماعة رجال دين، وقد يصبح هؤلاء موضوع قداسة.
ندعو إلى تزاوج المعرفة الدينية مع المعرفة الاجتماعية والنفسية والسياسية، باعتبار أن ذلك يمثل الفهم الحقيقي للدين

س: ما هو تأثير تطوّر النظريات الاجتماعية والإنسانية على المعرفة الدينية؟

ج: هذه الأنواع من المعارف تنفتح على حلّ مشاكل الإنسان الاجتماعية والنفسية والسياسية، لذلك نحن ندعو إلى تزاوج المعرفة الدينية مع المعرفة الاجتماعية والنفسية والسياسية، باعتبار أن ذلك يمثل الفهم الحقيقي للدين، لأن الدين ليس مجرد عبادات وشعائر يؤدّيها الفرد، بل هو بنيان حضاري هائل يشترك في صنع الحضارة التي تجعل العالم عالماً ينفتح على قدسية العقل وعلى امتداد العلم وخدمة الواقع كله، بالطرق التي تجعل الحياة جنةً على الأرض تماماً كما هي جنة السماء. ولقد قرأنا في كتاب "لمحات في تاريخ العالم"، أن الحضارة الإسلامية هي أمُّ الحضارات، فالإسلام هو أول من صنع حضارةً، ولكن عندما تخلّف المسلمون تخلّفوا عن صنع الحضارة.
الإسلام هو أول من صنع حضارةً ولكن عندما تخلّف المسلمون تخلّفوا عن صنع الحضارة

س: ما رأي سماحتكم في علم الأبراج في الجزء المتعلّق بالخصائص التي تنطبع في المولود عند الولادة، والتي يقال إنّ المولودين في اليوم نفسه يتّصفون بها؟ وما رأيكم في ظاهرة التنجيم التي باتت مرجعاً للناس، وباتوا يتّبعونها ويبتعدون عن الممارسات الدينية؟

ج: إنها خرافة وملهاة يحاول من خلالها الذين يكتبون عن الأبراج ويتحدثون عنها بطريق الإيحاء، أن يربطوا الناس بها، ولكن هذا كلّه خداع، فلا علاقة للأبراج بالإنسان، ولا علاقة للإنسان بالأبراج. فالإنسان هو سر عقله وحركته، سواء كان من برج الحمل، أو من برج الجوزاء أو من أيّ برج آخر...

س: ما هي نصيحتكم لمن أراد أن يتسلَّح بالثقافة الإسلامية؟

ج: نحن نقول إن عليه أن يأخذ الثقافة الإسلامية من مصادرها الأصلية، ولا يحاول أن يأخذها من كل ما ينسب إلى الثقافة الإسلامية، لأن فيها الكثير من الخرافات والتخلف، لذلك علينا أن نأخذها من الكتاب أولاً، ثم من تحليلات ودراسات العلماء المفكّرين الذين يملكون عمق الثقافة الإسلامية وامتداداتها.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 26 صفر 1430 هـ  الموافق: 21/02/2009 م
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية