لا يهتم الاستكبار العالميّ إلا بضرب استقرار إيران الداخلي فضل الله: على جميع القيادات أن لا يكونوا جسراً لمن ينحرف بالثّورة عن مسارها وقاعدتها الإسلاميّة |
أكّد العلاّمة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله أنّ إيران لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم من قوّة ومكانة إلا عندما تحرّكت في خطّ قيم الإسلام الكبرى، مشدّداً على أنّ السماح بتغييب الحسّ الإسلامي النابض عن حركة القيادات وساحة الجماهير، من شأنه أن يكون له تداعيات كبيرة على واقع الدولة الإسلاميّة، ومن ورائه واقع المسلمين جميعاً.
ولفت السيّد فضل الله إلى أنّ الاستكبار العالمي، ولا سيّما الولايات المتّحدة الأمريكية،لم يكن معنيّاً بأيّ عمليّة ديمقراطيّة انتخابيّة، وإنّما بضرب استقرار إيران الداخلي، بما يجعلها فريسة للفوضى العارمة والدامية، مؤكّداً على كل المخلصين، من الإصلاحيّين والمحافظين وغيرهم، التنبّه إلى هذا الواقع الخارجي الذي حاول اللعب على أكثر من حبلٍ من أجل التأثير الواقعي على مجرى الأحداث وتطوّرها في إيران.
وأضاف سماحته أنّ الإسلام يضمن حرّية النقد، حيث يكون النقد حركة إغناء للقيادة في عملها، وفي لفت نظرها إلى ما قد لا تلتفت إليه في إطار الاستغراق في حركة السلطة والحكم، ولكنّ النقد لا بدّ أن يتحرّك بحذرٍ وفق التحدّيات الداخلية والخارجيّة، حيث رأى سماحته أنّ هناك فرقاً بين أن تتحرّك المعارضة ضمن الخطّ الإسلامي الذي يرتكز إلى أنّ الإسلام هو قاعدة الحكم، وبين أن يركب من هم ضدّ هذا المبدأ موجة الأحداث، لقلب الطاولة فوق رؤوس الجميع، معتبراً أنّ جميع القيادات على تنوّعها الإصلاحي والمحافظ لا تزال تلتزم بتلك الثوابت الإسلامية.
كما أكّد على النموذج الحركي للإمام عليّ (ع) بعد وفاة النبي ّمحمّد (ص)، والتي غلّب فيها مصلحة الإسلام على البقاء في حركة المعارضة في مسألة الخلافة، بعد أن اتّجهت الأحداث وتطوّرت إلى درجة باتت تهدّد الكيان الإسلامي نفسه.
وختم سماحته بدعوة كلّ القيادات الواعية في إيران، إلى أيّ تيّار انتمت، أن تتحرّك وفق مسؤوليّتها الشرعية في تأكيد الدعوة إلى الله وإلى الإسلام، ولا سيّما ضمن جيل الشباب الذي يقع على عاتقه حمل مسؤوليّة الجمهوريّة الإسلاميّة للمستقبل، وهذا ما يحتاج إلى تنوّع الرؤى والأفكار التي تتنوّع بتنوّع التيّارات والاجتهادات والحركات في إيران، على أن ينضبط هذا التنوّع في ظل القواعد الإسلاميّة في إدارة حركة الاختلاف السياسي والفكري.
كلام سماحته جاء في بيان وجّهه إلى الشعب الإيراني، هذا نصّه:
ليس خفيّاً على أحدٍ، ولا سيّما جيل الثورة الأوائل الذين كانت حركتهم انطلاقةً إسلاميّة رائدةً، أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران اليوم باتت لا تمثّل تلك المساحة الجغرافيّة التي تحتضن إيران والشعب الإيرانيّ فحسب، بل أصبحت ـ في قيمها المعلنة منذ انطلاق الثورة وحركتها وتعاظم قوّتها ـ السند الحقيقي لقضايا العدل في العالم؛ ذلك العدل الذي يمثّل هدف الرسالات كلّها، حيث قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}. ومن هنا، بات لزاماً على كلّ قادة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران أن لا يفكّروا ـ وهم يقاربون همومهم ومشاكلهم الداخليّة ـ بحجم الدولة في كيانها السياسي والجغرافي فحسب، بل بأبعد من ذلك؛ بما تمثّله الدولة من اتّساع تأثيرها إلى كلّ الذين يلتقون على فكرها ـ في مبادئه الأساسيّة ـ في العالم الإسلامي كلّه.
لقد كادت أن تكون هذه الدولة هي التجربة الحديثة الأولى التي يقدَّر فيها للعلماء والحركيّين الإسلاميّين أن يمارسوا تجربتهم في الحكم، استناداً إلى منظومة اجتهاديّة مرتكزة إلى النصّ، بما يعنيه الاجتهاد أيضاً من حيويّة وحركة وعدم جمود على فكرةٍ معيّنة بطبيعة الحال.
وإنّنا من خلال موقعنا الإسلامي الذي يشعر بالمسؤوليّة تجاه كلّ التجارب الإسلاميّة الرائدة، وفي مقدّمها تجربة الحكم الإسلامي في إيران، وأمام التطوّرات الأخيرة التي شهدتها الساحة الإيرانيّة قبل الانتخابات الرئاسيّة وبعدها، ومن خلال متابعتنا الدقيقة لما يجري على المسرح السياسي الدولي والإقليمي، ليس في السنوات الأخيرة فحسب، بل منذ انتصار الثورة المباركة في إيران، نرى أن نؤكّد على جملة من النقاط التي نعتبرها أساسيّة في حركة ضبط الواقع في إيران، ومنها إلى كلّ الواقع السياسي المحيط:
أوّلاً:
لقد بات واضحاً للجميع أنّ الاستكبار العالمي، ولا سيّما الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ليس معنيّاً بأيّ عمليّة ديمقراطيّة انتخابيّة وما تفرزه من نتائج، وإنّما يتحرّك في أمنياته وخططه وبرامج عمله من أجل خروج الأمور والأحداث عن طورها في إيران، واختناق الثورة من داخلها بعد أن عجز عن ضربها بالحصار المفروض عليها، فضلاً عن الحرب الظالمة التي شنّها النظام العراقي البائد بعد انتصار ثورتها بدعمٍ مباشر من كلّ الدول الغربيّة، بهدف أن تكتوي إيران عندئذٍ بنيران المشاكل الداخليّة التي تأكل استقرارها الداخلي، وتجعلها فريسة للفوضى العارمة، والتي قد تتحوّل إلى فوضى دامية، لا تؤثّر على مشاريعها الاستراتيجية للنهوض فحسب، بل تؤدّي إلى تراجعها الكبير إلى الوراء وإسقاط كلّ ما تحقّق إلى الآن، إضافةً إلى الابتعاد القسري عن كلّ قضايا التحرّر والعدالة في العالم الإسلامي، وفي مقدّمها قضيّة فلسطين، بما يعنيه سقوطها من بداية لسقوط العالم الإسلامي برمّته.
ولذلك فإنّه يقع على عاتق كلّ القيادات المخلصة، والتي كانت جزءاً لا يتجزّأ من حركة الثورة وانتصارها، ومن حركة بناء الدولة الإسلاميّة ومواجهتها للتحدّيات الكُبرى في مدى ثلاثة عقود من الزمن، ممّن يسمّون بالإصلاحيّين أو بالمحافظين أو غيرهم، وذلك أكثر من أيّ وقتٍ مضى، التنبّه إلى هذا الواقع الخارجي الذي لم يخبُ إواره يوماً، ولم تضمر نار شرّه لحظةً، ولم يحرّك عداءه للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بالتصريحات السياسيّة فحسب، وإنّما حاول الدخول من أكثر من منفذ، واللعب على أكثر من حبلٍ، من أجل التأثير الواقعي على مجرى الأحداث وتطوّرها.
ولذلك، فنحن لا نؤكّد على هذه النقطة من أجل الهروب إلى الأمام تجاه أيّ استحقاق داخليّ، أو نقدٍ مشروعٍ ضمن حركة النظام الإسلامي، بل لأجل التأكيد على ما لا يخفى على كلّ القيادات الواعية من خطط فعليّة حقيقيّة تتحرّك على وتيرة مستمرّة وإن اختلفت المراحل والأساليب، ولكنّها تبقى ثابتة في خطّ الاستراتيجية الاستكباريّة في المنطقة، وهي أنّه لا يُسمح للإسلاميّين أن يكونوا قوّة على الصعيد العلمي والتكنولوجي، بل لا بدّ أن يتحرّكوا في الدائرة التي ترسمها السياسات الاستكباريّة، ولا سيّما في ظل وجود الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، والذي أصبح يواجه تحدّيات وجوديّة لا تخفى، ولذلك نجد أنّ عمق المشكلة في الملفّ النووي الإيراني ليست في إمكانيّة امتلاك إيران السلاح النووي ـ كما يقولون ـ، وإنّما في أنّه يمثّل القوّة العلميّة الإيرانيّة التي تسمح بتطوير حركتها العلميّة في تحقيق الاكتفاء الذاتي على أكثر من صعيد علمي، وبما يمكّن العالم الإسلامي من الاستفادة من تلك الخبرة في خطّ الخروج من استضعاف الدول المستكبرة له ولسياساته إلى أن يمثّل القوّة التي تنازع تلك الدول نفوذها على مقدّرات مناطقنا وثرواتها، والتحكّم بحاضرها ومستقبل أجيالها.
وإنّ هذا الأمر ليس مجرّد عناوين عامّة وشعارات فارغة، بل هو الواقع الذي لا يزال يتحرّك في كلّ حركة الدول المستكبرة تجاه العالم الإسلامي.
ومن هنا، فنحن نعتقد أنّ السماح بتداعيات سلبيّة للواقع في إيران سوف يكون له دوره في إقصاء جميع الإٍسلاميّين عن الساحة، ليعود حكم الديكتاتوريّات البائدة، الذي عانى منه الشعب الإيراني قبل غيره، وعرف معنى أجواء الحرّية مع انتصار الثورة الإسلاميّة، بغض النظر عن مداها وكلّ النقاش الدائر حولها، والذي نعتقد أنّه جزء من حيويّة الشعب الإيراني وحرّيته الفكريّة في التعبير عن رؤيته مهما كانت متناقضة مع الواقع القائم.
ثانياً:
إنّه لا يستطيع أحد أن يُنكر أنّ الكيان الإسلامي الذي يقوم على قيم الإسلام هو الذي يضمن حرّية النقد في إطاره، حيث يكون النقد حركة إغناء للقيادة في عملها، وفي لفت نظرها إلى ما قد لا تلتفت إليه في إطار الاستغراق في حركة السلطة والحكم، وهذا ما أكّد عليه أمير المؤمنين عليّ (ع) عندما خطب في أصحابه قائلاً: "فلا تكلّموني بما تكلّمون به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً لحقّ قيل لي، ولا التماس إعطام لنفسي؛ فإنّه من استثقل الحقّ أن يُقال له أو العدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما عليه أثقل؛ فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ، أو مشورة بعدل، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي؛ فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره"}نهج البلاغة{، وكلّ حركة نقدٍ تهدف إلى تأصيل الحركة في الواقع؛ بل كلّ تفكير اجتهاديّ يعمل على تفعيل نظريّة الحكم في الإسلام وتطويرها نحو الأفضل، هو أمرٌ مشروع؛ بل ضروريّ لأجل انسجام الفكر مع التجربة التي قد تتمخّض عنها إشكاليّات بحاجة إلى تفكير مستجدّ، واجتهادٍ جديد في فهم النصوص استناداً إلى حركيّة الاجتهاد.. إلا أنّ ذلك لا بدّ أن يتحرّك بحذرٍ وفق التحدّيات الداخليّة من جهة والخارجيّة من جهة أخرى.
إنّ هناك فرقاً بين أن تتحرّك المعارضة ضمن الخطّ الإسلامي الذي يرتكز إلى أنّ الإسلام هو قاعدة الحكم، وبين أن يركب من هم ضدّ هذا المبدأ موجة الأحداث، لقلب الطاولة فوق رؤوس الجميع، فيتحوّل الاحتجاج من احتجاجٍ ضمن الثوابت إلى حركة تصطدم بالثوابت التي نعتقد أنّ جميع القيادات اليوم، على تنوّعها الإصلاحي والمحافظ، لا تزال تلتزم بها؛ وهذا كلّه يحمّل الإسلاميّين الذين قد يكون لديهم وجهات نظر مختلفة عن وجهة نظر السلطة القائمة، أن يكونوا حذرين تجاه إمكانيّة أن يكونوا جسراً يعبر الآخرون من خلاله للانحراف بالثورة عن مسارها وقاعدتها.
ولقد بات الجميع يعلمون مدى خطورة التحدّيات الخارجيّة إذا ما استطاعت النفوذ إلى الساحة الداخليّة الإيرانيّة، واللعب على حيويّتها السياسيّة لتحويلها إلى تناقضات تأكل ساحات الجميع؛ لأنّنا نقول ولا نزال إنّه لا يُخشى على إيران من خارجها؛ لأنّ التحدّي الخارجي يوحّدها، وإنّما نخشى عليها من داخلها إذا ما سُمح للاعبين من العبث بواقعها.
ثالثاً:
لقد كان في أولى تجاربنا الإسلاميّة في حركة الحكم مشكلة خلافة رسول الله (ص)، وكان الإمام عليّ (ع) عنوان المعارضة السياسية لما آلت إليه الأمور آنذاك، ومع ذلك وجدناه يتحرّك ضمن استراتيجية المحافظة على الإسلام، في وجوده الفاعل، حتّى لو شابته شائبة من سلبيّات يراها أو يرصد تداعياتها في المستقبل؛ ومن هنا وجدناه (ع) عندما دار الأمر لديه بين أن يُمحق الإسلام وبين أن يجمّد حقّه ويتحرّك بإيجابيّة تجاه الواقع القائم، انطلق ليغلّب مصلحة الإسلام على أن يبقى في حركة المعارضة، وذلك هو قوله في كتابه لأهل مصر: "فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي، حتّى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد (ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأنّ الدين وتنهنه"}نهج البلاغة{، وقوله في ولاية عثمان: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصّة"}نهج البلاغة{، ولا نعتقد اليوم أنّ إيران كانت بحاجة إلى مثل هذه الروح كما هي بحاجة إليها اليوم؛ فإنّ ما تمرّ به في هذه المرحلة، ومن ورائها الواقع الإسلامي كلّه، من تحدّيات قد تزيد أضعافاً مضاعفةً عمّا كان يواجهه المسلمون الأوائل بعد النبيّ (ص)، إنّ الإسلام اليوم في خطر، وإيران ـ التي مثّلت السند للمستضعفين والإسلاميّين وطلاب الحرّية والعدالة في كلّ أنحاء العالم ـ يقع على عاتقها حماية الإسلام في كلّ أبعاده، السياسية والثقافية والأمنية والاقتصاديّة، وما إلى ذلك ممّا أثبتت الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة فيه ـ بما منّ الله عليها من طاقات وقدرات وموارد ـ أنّها الساحة المتقدّمة فيه، والكيان القابل للاضطلاع بتلك المسؤوليّة من بين الأمم.
وأخيراً:
إنّنا نقول للشعب الإيراني الذي أثبت أنّه الشعب الذي يمتلك حيويّة مميّزة عبّرت عن نفسها في أكثر من جانب: لقد مثّل الإسلام لهذه المنطقة مكمن عزّتها بين الأمم في مدى التاريخ، ولم تصل إيران إلى ما وصلت إليه اليوم إلا عندما تحرّكت في خطّ قيم الإسلام الكُبرى، فأخذت بمبدأ العزّة الذي ارتفع بها إلى مصافّ الدول الكُبرى، وأكّدت مبدأ العدل حتّى ساندت كلّ قوى المقاومة والتحرّر متحمّلة ضريبة ذلك في المسرح الدولي، وهذا هو مكمن القوّة لديها؛ ولذلك فإنّ السماح بتغييب أو غياب الحسّ الإسلامي النابض عن حركة القيادات، وساحة الجماهير، من شأنه أن يكون له تداعيات كبيرة على واقعكم، ومن ورائكم واقع المسلمين جميعاً..
وإنّ هذا الأمر يفرض على كلّ القيادات الواعية، إلى أيّ تيّار انتمت، أن تتحرّك وفق مسؤوليّتها الشرعية، في تأكيد الدعوة إلى الله وإلى الإٍسلام، ولا سيّما ضمن جيل الشباب الذي يقع على عاتقه حمل مسؤوليّة الجمهوريّة الإسلاميّة للمستقبل، وهو الجيل الحيّ النابض الذي يحتاج إلى رعاية الجميع، وإلى تضافر قوى كلّ المخلصين؛ بل يحتاج إلى تنوّع الرؤى والأفكار التي تتنوّع بتنوّع التيّارات والاجتهادات والحركات في إيران، على أن ينضبط هذا التنوّع في ظلّ القواعد الإسلاميّة التي أكّدها القرآن الكريم في إدارة حركة الاختلاف السياسي والفكري وما إلى ذلك.
|