المرجع فضل الله: موقع البابا يقتضي الإعلان عن أن إسرائيل تمثل الكذبة والجريمة الكبرى |
أصدر سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، بياناً تناول فيه زيارة البابا إلى كيان العدو، جاء فيه:
"يتحضّر العالم في هذه الأيام، وخصوصاً العالم الغربي، والدول التي ساهمت مُساهمةً فاعلةً في إنشاء كيان العدو على أرض فلسطين، للاحتفال بالذكرى الواحدة والستين لقيام هذا الكيان، ويراد لهذا الاحتفال ألا يأخذ الطابع الشكلي فحسب، بل أن يتحول إلى ما يشبه التظاهرة السياسية العالمية التي تبعث بالرسائل في كل اتجاه، بأن إسرائيل التي انطلقت كفكرة تبنّتها الإدارات الغربية وروّجت لها أو عملت على حمايتها على مدى العقود السابقة، هي من أكثر الحقائق ثباتاًً ووضوحاً في المنطقة، وبالتالي فعلى العرب والمسلمين أن يكيّفوا حركتهم السياسية مع ما تقتضيه مصلحة هذا الكيان وليس العكس.
وإننا في الوقت نفسه، نلاحظ أن الالتزام الغربي بإسرائيل، وخصوصاً من قبل الولايات المتّحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي، ينمو ويتصاعد أكثر كلما شعر هؤلاء بأن الأرض تهتز من تحت أقدام اليهود المحتلّين، وذلك ما لاحظناه في أثناء حربها على لبنان في تمّوز 2006، وتأمين كلّ متطلّباتها العسكريّة فيها، ولاحظناه في الدعم الدولي لحربها على غزّة، إضافةً إلى التغطية السياسيّة الكاملة في مجلس الأمن لكلّ جرائمها، وصولاً إلى احتضانها عبر بعض القرارات الدوليّة؛ بل أريد للأمم المتحدة نفسها التي دمر الجيش الإسرائيلي مقراتها الإنسانية في غزة، ألا تقترب من مسألة محاسبة هذا الكيان المجرم والتحقيق معه في شكل جدي، تحت ستارٍ من الحجج الواهية، حتّى إنّ ما نشهده في هذه الأيام من محاولات أميركية وأوروبية لحثّ حكومة العدو على تقديم شيء، أي شيء، فيما يتصل بفكرة التفاوض مع السلطة الفلسطينية أو ما يسمى بحلّ الدولتين، يندرج في سياق حماية هذا الكيان الغاصب من نفسه، في مرحلةٍ انكشف فيها الغرب بإداراته المدافعة عن كل الأخطاء الإسرائيلية، وانكشفت فيها الولايات المتحدة الأميركية سياسياً واقتصادياً، وذلك ريثما تستعيد الولايات المتّحدة الأميركية توازنها الاقتصادي، وهيبتها الدولية، وتخرج من مأزقها المتفاقم في أفغانستان وباكستان والعراق، وتعود إلى سابق عهدها في الضغط على العرب لينزعوا عن أنفسهم حتى أوراق التوت السياسية التي استهلكتها التجارب وأسقطها الزمن، كما في الحديث الأخير عن سحب حقّ العودة من المبادرة العربية.
إننا، أمام هذا الاهتمام المتصاعد بإسرائيل، بعد سلسلةٍ من الجرائم الإرهابية الكبرى التي ارتكبتها في لبنان وفلسطين المحتلة وقطاع غزة في السنوات الأخيرة، ندرك جيداً أنه يراد لهذا العطف السياسي على إسرائيل أن يتحول إلى ضغط مضادّ على العرب والمسلمين، كما يراد للعالم بشخصياته الدينية ومواقعه الرسولية، أن يتبنى فكرة إسرائيل الدولة غير القابلة للجدل، لا على أساس الخرافة التي أسست لهذا الكيان فحسب، بل على أساس أن تمتد هذه الخرافة لتأكل كل الحقائق التاريخية في المنطقة، ولتجتاح واقع المنطقة، بعدما حاولت طمس تاريخها المسلم والمسيحي على السواء، وخصوصاً من خلال اضطهاد اليهود المحتلّين للمسلمين والمسيحيين في فلسطين المحتلة، وتجديفهم وإساءاتهم التي طاولت السيد المسيح وأمه العذراء مريم(ع) بعد إساءاتهم المتكررة إلى النبي محمد(ص)، ولذلك فإننا نأمل ألا يتحول بابا الفاتيكان إلى وسيلة من وسائل تثبيت هذا الكيان بخرافاته السابقة وبممارساته الإرهابية الحالية، وبحروبه التي يراد لها أن تطاول مواقع جديدة في المنطقة، وأن تحظى بالتغطية السياسية والدينية على السواء.
لقد ارتكب البابا خطيئةً كبرى في العام الفائت، عندما أعلن لدى استقباله سفير كيان العدو عن شكره للربّ "لامتلاك اليهود أرض أجدادهم"، ليتماشى ذلك مع خطط المستكبرين والمجرمين الذين أعلنوا الحرب على الفقراء والمساكين وأصحاب الأرض الحقيقيين الذين احتضنهم السيد المسيح(ع) وعمل على طرد اللصوص من هيكله، وبالتالي فإنّ الموقف الطبيعي للبابا ـ حتّى في صفته الدينية ـ هو التشبّه بالسيد المسيح، وأن يقول كلمته في مواجهة لصوص الأوطان وإرهابيي العالم، وعلى رأسهم اليهود المحتلّون، لا أن يكون مجيئه إلى فلسطين المحتلّة في ذكرى تأسيس هذا الكيان المغتصب جزءاً من الحركة السياسية والدينية الساعية لتثبيت هذا الكيان ومدّه بعناصر الثقة السياسية والروحية بعدما اهتزّ من الداخل وبدأت أرقام الهجرة المعاكسة تتصاعد فيه، في أعقاب حروبه ومجازره الأخيرة في لبنان وغزة وفلسطين المحتلة.
إننا ندعو البابا ـ الذي أخفق في تأدية الموقف الرسولي المناسب في أثناء الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة، وأمام فظاعة المجازر الكبرى التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني ـ إلى القيام بخطوات عملية تفرضها عليه مكانته الروحية ورسالته المسيحية، برفض الظّلم والإرهاب الذي يمارسه العدوّ في حق الشعب الفلسطيني، والمطالبة برفع الحصار الوحشي عن قطاع غزة ـ على الأقلّ ـ، مع أنّنا نؤكّد اعتقادنا أنّ الموقف الرسوليّ نفسه يقتضي الإعلان أن إسرائيل تمثل الكذبة الكبرى والجريمة الكبرى التي ألقي بها في أحضان العالم العربي والإسلامي، الّذي تمّت محاصرته وجرى استيعابه داخل اللعبة السياسية المرسومة، وهو الأمر الذي يسري ـ أيضاً ـ على كثير من المرجعيات الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية.
وإنّنا ـ في هذا المجال ـ نؤكّد أنّ مطالبة البابا بالاعتذار عن مواقفه السابقة تجاه الإسلام لا يجدي نفعاً، بل يمثّل اعتباره المشكلة الوحيدة للمسلمين تضييعاً للبوصلة؛ لأنّنا نعتقد أنّ المشكلة هي في غياب القيم المسيحيّة الأصيلة نفسها عن ساحة المواقف الرسوليّة تجاه أمور بالغة الوضوح في اصطدامها بأبسط القيم الدينيّة التي تلاقت عليها مبادئ الرسالات في مدى التاريخ؛ فإنّ الرسالات التي أكدت مبدأ العدل ـ في شموليّته لحركة الحياة ـ لا يُمكن أن تعترف بشرعيّة الظُلم والإجرام والاغتصاب والاحتلال في حقّ الإنسان، ولا سيّما ما يجري من قبل اليهود ضدّ الفلسطينيّين وسائر العرب، ولا يُمكن أن يكون الذين يتبوّأون مواقع القداسة الدينية غطاءً دينيّاً لكل ذلك.
|