فضل الله: مؤتمر دوربان لمكافحة العنصرية أتاح الفرصة لإساءات جديدة ضد الإسلام |
أصدر سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، بياناً تناول فيه أعمال ومقررات مؤتمر "دوربان2"، وقد جاء فيه:
كشفت المداولات التي جرت في مؤتمر مكافحة العنصرية، والذي عقد في جنيف تحت عنوان "دوربان2"، أن السياق العالمي الذي تقوده الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، ودول الاتحاد الأوروبي، بات يركِّز حركته السياسية والدبلوماسية والإعلامية على منع إدانة إسرائيل في أي محفل دولي، حتى وإن ضمّ هذا المحفل أكبر عدد من الدول المناهضة للسياسة الأميركية وللكيان الصهيوني، لأن الخطة التي رُسمت قبل انعقاد المؤتمر كانت محكمة على أساس ألا تقترب أصابع الاتهام من إسرائيل بأي شكل من الأشكال، وأن المطلوب هو إبعاد تهمة العنصرية عنها، وإن اقتضى ذلك تزوير الوقائع، وممارسة أكبر قدر من الضغوط على المجموعات والدول والشعوب التي كانت هدفاً للعنصرية الإسرائيلية القاتلة على مدى عقود متواصلة.
وقد أظهرت وقائع المؤتمر أنّ العرب كانوا الخاسر الأكبر في هذا المؤتمر، وكذلك المجموعة الإسلامية، إذ نزل هؤلاء عند تمنيات الآخرين وضغوطهم بما فيها ضغوط الأمم المتحدة نفسها التي أشاد بعض ممثليها بـ"التعاون الممتاز" من جانب الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، بما أفضى إلى استبعاد العبارات التي تدين إسرائيل في شكل علني، وتشير إلى ممارساتها العنصرية المتواصلة ضد الفلسطينيين.
لقد خضع العرب والكثير من الدول الإسلامية مجدّداً لما يسمى "الإرادة الدولية"، فأسقطوا من أيديهم أوراقاً كانت لا تزال بمثابة المستمسك الدولي ضدّ عدوهم الذي لم يترك مناسبةً للتنكيل بهم ولارتكاب المجازر في حقهم إلا وعمل على استغلالها، ولم يدع فرصة من الفرص السياسية التي من شأنها تطويقهم أو محاصرتهم، أو انتزاع عناصر القوة من بين أيديهم إلا واغتنمها، حتى في الوقت الذي يشعر بأنه لا يستطيع تسويق حكومته اليمينية الجديدة، والتي تضم أكثر الشخصيات عنصريةً وحقداً، وعلى رأسهم ليبرمان الذي دعا صراحةً إلى إعدام أعضاء الكنيست العرب، وإلى تفجير سدِّ أسوان، وإلى إلقاء قنبلة نووية على غزة.
لقد امتثل العرب ومعهم العديد من الدول الإسلامية، للأوامر الدولية الجديدة التي أصرّت على حذف كلِّ الإشارات التي تدين إسرائيل ومجازرها وممارساتها العنصرية في فلسطين المحتلة وقطاع غزة، فحققت إسرائيل معظم ما كانت تصبو إليه حتى وهي بعيدة عن المؤتمر، وفي ظل مقاطعة الدول الأوروبية البارزة إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، لأن إسرائيل هي الحاضر الأكبر في قلب الأمم المتحدة، وفي صميم الحركة الدولية، وفي كل لجان الصياغة التي يُصار إلى ترتيبها وفقاً لمقتضيات دول الاستكبار ومصالح الآخرين، بعيداً عما هي المصلحة العربية والإسلامية.
إنه لمن المعيب والمخجل حقاً أن تشير قرارات المؤتمر من خلال فقرة خصصت بكاملها إلى أن "المحرقة يجب ألا يتمَّ تناسيها، وحثّ كل الدول على تطبيق قرارات الأمم المتحدة التي تقر ذلك"، بينما يتم تناسي محرقة الفلسطينيين في غزة، والتي حدثت قبل شهور وشاهدها العالم مباشرةً، لأن المطلوب هو استعادة التاريخ كما يكتبه اليهود الصهاينة، وكما تصوغه أجهزة الدعاية الصهيونية والعنصرية، وتناسي الوقائع المعاصرة التي عاينها الأمين العام للأمم المتحدة نفسه في غزّة، ومنعت لجان التحقيق من التحقيق فيها، نزولاً عند ما تطلبه إسرائيل وتفرضه أمريكا.
لقد كان المطلوب عدم حشر إسرائيل في الزاوية بعد جرائمها العنصرية الفظيعة التي ارتكبتها في غزة، وأريد للعرب أن ينزلوا عند الشرط الدولي الإستكباري الجديد الذي يعتبر أن أي نقد للسياسة الإسرائيلية هو بمثابة معاداة للسامية، وبالتالي أن يُسدل الستار على كل جرائم إسرائيل التي ارتكبت في الأشهر والسنوات الماضية، بما في ذلك مجازرها في لبنان وفلسطين، الأمر الذي يشير إلى أن الوصاية الأميركية والأوروبية والصهيونية على المؤتمر، والتي مارست ضغوطها الكبيرة على الأمم المتحدة نفسها، أرادت أن تفسح في المجال لإسرائيل لترتكب مجازر أفظع في طول المنطقة العربية والإسلامية، وأن تمهّد السبيل لحكومتها اليمينية كي تباشر التحضير لحروب جديدة ضد العرب والمسلمين تبعاً لفتاوى حاخاماتها وكلماتهم التي تدعو دائماً إلى قتل العرب، كما قال زعيم حزب شاس، عوفاديا يوسف: "فليهلك كل العرب، وليفنَ نسلُهم جميعاً، وليخفِهم الله عن وجه الأرض... يُحظر الدعاء لهم بالرحمة، ويجب تصفيتهم بالصواريخ وإبادتهم جميعاً".
إننا نخشى فعلاً من أن يكون المناخ الذي أحاط بهذا المؤتمر قد هيّأ الظروف أكثر لحروب إسرائيلية مفتوحة ضد الفلسطينيين، من خلال سعيه لجعل نقاط القوة العربية والإسلامية والعالمثالثية نقاط ضعف يُلاحق من خلالها هؤلاء، وتُشنُّ الحروب عليهم، ويُطارد طلاّب الحرية تحت عنوان مكافحة الإرهاب.
كما نخشى من أن هذا المناخ قد أتاح الفرصة مجدداً لكل من تسوّل له نفسه الإساءة إلى لإسلام، من خلال استخدام عنوان حرية التعبير مجدداً كشعار يراد له أن يحمي كل أولئك الذين يعتدون على الإسلام، وخصوصاً أنه جرى حذف عبارة "المساس بالأديان" لتستبدل بكلمات تعرب عن الأسف لتعاظم الحوادث المترتِّبة عن العنف وعدم التسامح الديني والعرقي... ليفسح ذلك كله في المجال أمام مهاجمة الإسلام وحتى المسيحية ورموزها، وليبقى اليهود الصهاينة في نطاق الحماية الدولية التي ترمي كل من ينتقد ممارسات إسرائيل واحتلالها بمعاداة السامية وبالإرهاب.
إن حديث وزير الخارجية الفرنسي عن أنَّ نص مقررات المؤتمر "تضمَّن، كل ما ترغبه الدول الغربية" يُلخّص المسألة كلها، ويشير إلى أن الدول الغربية التي حضرت كانت وكيلةً عن إسرائيل داخل المؤتمر، ويؤكِّد أن انسحابها في أثناء إلقاء الرئيس الإيراني كلمته جاء استجابةً لما طلبته إسرائيل منها، وبالتالي، فإن الإدارات الغربية بعامة لا تزال خاضعةً للعنصرية الإسرائيلية وللعناوين العامة التي تفرضها الصهيونية العالمية، وهنا تبرز الأسئلة عن الاستقلال الحقيقي لهذه الإدارات، لتبقى الكلمة لشعوبها في أن تفضح خطوطها السياسية التي تصبُّ في خدمة العنصرية والاحتلال والإرهاب التي تتجلَّى في ممارسات الكيان الصهيوني ومن يسير في فلكه.
|