الواقع الإسلامي: تحديات وقضايا
الحوار مع سماحة السيد محمد حسين فضل الله، صعب وسهل؛ صعب لأن سماحته يواصل، رغم تقدم العمر، حضوره اليومي المباشر مع وسائل الإعلام وفي خطب الجمعة. وسماحته حاضر في كل شاردة وواردة على امتداد ساحة الأمّة؛ من لبنان ـ مستقرّه ـ إلى العراق وإيران وتركيا وكل الساحة العربية ـ الإسلامية، كما العالم الغربي. يعطي رأياً أو موقفاً أو فتوى، دون كلل، حتى ليحار المرء عما يسأله مما لم يُسأل من قبل. والحوار مع سماحته سهل، لأنه يختزن في داخله شحنات لا متناهية من الإيمان والصدق والانفتاح والإرادة، بحيث لا يشعر الغريب، في حضرته، بغربة، فكيف نحن، الذين نحمل له كل الحب والإعجاب والتقدير، فضلاً عن المعرفة السابقة والقديمة.
يأخذنا السيد في حواره إلى الأساسيات والخلاصات، وهو ما هدفْنا إليه، عسى أن يكون هناك من يغرف المزيد من المعرفة والحكمة، أو يعتبر ويستفيد في زمن انزاحت البوصلة، وصار العدو "جاراً"، والشقيق عدواً. سماحة السيد، حجر رحى في الوحدة الإسلامية والوطنية اللبنانية، وحجر رحى في تكوين ثقافة المقاومة والحياة الحرّة، وحجر رحى في الثقافة الإنسانية. إنه الرمز وكبير من رجالات بلادنا، لبنان والعرب والعالم الإسلامي.
مجلة "شؤون الأوسط" التقت سماحته وحاورته في قضايا المنطقة وتحدياتها، وهذا نصّ الحوار:
س : أولاً، سماحة السيد، كيف ترسمون خريطة العلاقات بين السنة والشيعة منذ انفجار الفتنة بعد احتلال العرق وحتى اليوم؟ هل هي إلى انحسار، أم إنها تجاوزت أي إمكان للتفاهم بعد الندوب التي أحدثتها؟
ج: عندما ندرس الواقع العراقي قبل الاحتلال، نجد أن الحاكم العراقي آنذاك، وهو صدام حسين، كان يمثل حالةً أمريكيةً أُريد لها أن تربك الواقع الداخلي في العراق والمنطقة العربية والإسلامية، لأن أمريكا ومعها الكثير من الدول، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي، كانت تهيّىء الأجواء للاستراتيجية الأمريكية. فنحن نعرف أن صدام حسين، على الرغم من استعراضاته العربية كبطل عربي، كما كان يتحدث عنه ميشال عفلق في وقتها، كان موظفاً أمريكياً منذ الستينات. وقد استطاعت أمريكا أن تزحف (تدخل) إلى الواقع العراقي من خلال الشركات الأمريكية والقائمين عليها ممن باتوا أعضاء في الإدارة الأمريكية الحالية، والنفطية بخاصة.
ومن ثم تطورت الأمور إلى مستوى جديد بعد انطلاقة الثورة الإسلامية في إيران، وأريد لهذا الرجل، تحت غطاء دولي شامل، أن يقوم بإضعاف الثورة الإسلامية في إيران أو إسقاطها تحت عناوين معينة، وهي المحافظة على المنطقة العربية، والمحافظة على الجبهة الشرقية، بحيث استطاع أن يدمر الاقتصاد العراقي والاقتصاد الإيراني، وأن يخلق شعوراً في المنطقة العربية، سواء على مستوى الأحزاب أو على مستوى الشعوب، بالخطر الإيراني الفارسي وبأنّ هذا الخطر يتحدى الواقع العربي الذي تحيط به إسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى.
ثم بعد ذلك كانت مسألة احتلاله الكويت، والتي انطلقت فيها الخطة الأمريكية من أجل تهيئة الظروف والساحات لإقامة قواعدها العسكرية في الخليج، انطلاقاً من أن صدام حسين هو الذي يمثل الخطر على الخليج، وأنه لا بد من إقامة القواعد العسكرية لحماية الخليجيين منه. وهكذا رأينا كيف دُفع الخليجيون، ولاسيما الكويتيون، لتبني الموقف الأمريكي. ويلاحظ في هذا المجال، أن سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، قالت للعراقيين إن المسألة بينكم وبين الكويت هي مسألة داخلية، ولم تضع خطاً أحمر على الكويت، ولكنها وضعت خطاً أحمر على السعودية فقط.
استطاعت أمريكا أن تزحف إلى الواقع العراقي من خلال الشركات الأمريكية والقائمين عليها
وهكذا رأينا كيف انطلق الأمريكيون وجمعوا بعض العرب حولهم من أجل إقناع الخليجيين بأن الولايات المتحدة هي الحامية للمنطقة الخليجية، ولاسيما المنطقة التي تختزن النفط، على أساس أن احتلال صدام للكويت يجعل نفط الكويت للعراق، ويمكن أن يهيّىء الفرصة للإجهاز على نفط الخليج كله، ولاسيما في قطر أو في السعودية أو ما إلى ذلك. وكنا نلاحظ في ذلك الوقت، أن الأمريكيين لم يكتفوا بتصريحهم بأنهم لن يسقطوا صدام ونظامه، بل إنهم منحوا صدام الوسائل التي يستطيع من خلالها أن يقضي على المعارضة العراقية في ذلك الوقت.
وقد سمعنا من بعض المسؤولين الأمريكيين قولهم إننا أعطينا صدام النفط لطائراته ودباباته، وقلنا له: دافع عن بلدك. لذلك كان صدام حالةً أمريكيةً استفادت منها الاستراتيجية الأمريكية. ثم بعد ذلك، عندما انتهت وظيفته بدأت أمريكا تخطّط لإسقاطه، وقد التقت هذه الخطة الأمريكية مع المعارضة السياسية العراقية الداخلية، ولاسيما في الوسط الشيعي الذي اضطهد اضطهاداً غير معقول من قبل الطاغية في العراق.
وإنني أعارض الذين يقولون إنّ الشيعة استقدموا أمريكا لاحتلال العراق، لأنني أعرف خلفيات الموضوع، وأن المسألة كانت مسألة لقاءٍ ولم تكن مسألة اجتذابٍ للاحتلال الأمريكي.
كان صدام حسين حالة أمريكية استفادت منها الاستراتيجية الأمريكية
وانطلق الاحتلال، وتغير الواقع في العراق، ولم تحدث هناك فتنة دامية قوية بين السنة والشيعة، لأن التاريخ العراقي لم يكن تاريخاً طائفياً أو مذهبياً بالمعنى الحركي للطائفية والمذهبية. كانت هناك حساسيات تنطلق من خلال التعددية، ولكن لم تكن هناك أية مشاكل سنية وشيعية في هذه المنطقة، لكن المشكلة بدأت مع دخول الجهات التكفيرية، وفي مقدمها القاعدة، التي اعتبرت نفسها معنيةً بمحاربة أمريكا من خلال الجيش الأمريكي من جهة، ومحاربة الشيعة من جهة أخرى. وربما كانت محاربة الشيعة في العراق أكثر ضرورةً من محاربة الاحتلال الأمريكي عندهم.
وهنا بدأت الحساسيات الموجودة في الواقع العراقي عند الشيعة تتحرك، وخصوصاً بعد قيام جماعة القاعدة بمجازر وحشية طاولت المقامات المقدسة للشيعة والمساجد، وبعد الاغتيالات الوحشية وما إلى ذلك. ومع ذلك، لم تحدث هناك أي ردود فتنوية من قِبَل الشيعة في تلك المرحلة، لأنّ المراجع الشيعية تحرم على أتباعها الاندفاع في ردود الفعل، بحيث يُقتل سنيٌ في مقابل شيعي أو ما إلى ذلك. ولكن عندما هدم مرقد الإمامين العسكريين، تحول الواقع في العراق، وخصوصاً الواقع الشيعي، إلى ما يشبه الجنون، لأن المسألة تناولت أقدس مقدسات الشيعة، وهي مقام إمامين يعتقد الشيعة إمامتهما، وهو ما أوجد ردود فعل قوية وصلت إلى ما يشبه الفتنة، لكن لم تصل إلى مستوى الحرب الأهلية. هذا إضافةً إلى بعض الخلفيات التي ربما يختزنها السنة من أن الشيعة استولوا على العراق، بعدما كان يمثل موقعهم السلطوي في مدى التاريخ.
المشكلة في العراق بدأت مع دخول الجهات التكفيرية وفي مقدمها القاعدة
وقد أضيف إلى ذلك الطريقة المذهبية التي يفكّر فيها الواقع العربي، كما نعرفه الآن في لبنان أو في مناطق أخرى. لكنني أتصور أن خطر الفتنة الشيعية ـ السنيّة بالمعنى الواسع قد انحسر، فهناك لقاءات بين السنّة والشيعة في العراق، كما أن الحكومة فيه تضم وزراء من الشيعة ووزراء من السنّة، والأمر ذاته في المجلس النيابي.
قد تحدث هناك بعض الأمور، لكننا لم نرصد أية رد فعل شيعي ضد أي حالة سنية، كما أن السنة العاديين أيضاً لا يقومون بشيء ضد الشيعة، بل هناك بقايا جماعة صدام حسين، الذين انضموا إلى القاعدة، وربما استغل الاحتلال الأمريكي بعض الأوضاع لإبقاء العراق في حالٍ من الاهتزاز الأمني والفوضى البنّاءة، كما يعبر الرئيس الأمريكي جورج بوش، ولكني لا أجد الآن فتنةً سنيةً شيعيةً ما عدا ما يقوم به التكفيريون ضد الشيعة، وحتى ضد السنة، ممّن أسسوا تنظيماً اسمه الصحوة، فأصبحوا يقتلون السنة والشيعة معاً. لذلك أنا أتصور أن العراق قد تجاوز، بالمعنى الشعبي المتنوع في مذهبيته، قضية الفتنة المذهبية في هذا المجال.
خطر الفتنة الشيعية ـ السنية بالمعنى الواسع قد انحسر
س: إذاً أنتم تحمّلون المسؤولية الأساسية لنشر الفتنة الشيعية السنية للجماعات التي تستهدف الشيعة، والتي تنطلق في ذلك من اتّهامهم بالتعاون مع الاحتلال؟
ج: عندما نقرأ تصريحاتهم، نجد أن المسألة عندهم ليست قضية تعاون الشيعة مع الاحتلال، وإن كانت بعض الجماعات الأخرى، غير القاعدة، ربما تتهمهم بذلك، بل إنّ المسألة عندهم إنّما تنطلق من حالة دينية، من خلال خطاب يشجّع على هذا الأمر، ومن خلال الفوضى التي تحدث نتيجة بعض الأوضاع.
س: كيف تقرأ هذا الخطاب التكفيري؟
ج: الخطاب التكفيري ينطلق من تكفير المسلمين الذين يختلفون مع أصحاب هذا الخطاب في بعض القضايا. وهو فكر لا يقتصر على تكفير الشيعة، بل إنّه يطاول حتى السنة الذين يزورون القبور ويستشفعون بالأئمة والأولياء.
الخطاب التكفيري لا يقتصر على تكفير الشيعة، بل إنه يطاول حتى السنة الذين يزورون القبور ويستشفعون بالأئمة والأولياء
س: الملاحظ أنّه في مرحلة لاحقة، دخلت على هذا الخط قوى ليست سلفية أو تكفيرية، أطلقت خطاباً تحذيرياً تخويفياً مما يسمى الهلال الشيعي، ومن وجود مشروع تشييعي أو إيراني في المنطقة...؟
ج: هذه المسألة تنطلق في خطين: الخط الأول، هو مسألة العقدة الشيعية ـ السنية، فهناك بعض الدول العربية لا تسمح بأن يكون للشيعة دورٌ قيادي في أي بلد عربي، وهذا ما نلاحظه في بعض الدول، سواء كان الشيعة يمثّلون فيها أكثريةً أو كانوا فيها أقليةً، إذ نرى أن هناك انتهاكاً لحقوق الشيعة بشكل غير معقول في هذا المجال. لذلك كانت المفاجأة لبعض هذه الدول، أن الشيعة أصبحوا في واجهة الحكم في العراق، على الرغم من أن الحكم فيه لم يصبح شيعياً، لأنه حكم ائتلافي.
الخط الثاني، هو المسألة الإيرانية. فنحن نعرف أن المسؤولين الأمريكيين، ابتداءً من الرئيس جورج بوش، وامتداداً إلى نائب الرئيس، وإلى وزيرة الخارجية، يقومون بزيارات متكرّرة إلى المنطقة، من أجل إيجاد وضعٍ عربيٍ يواجه الجمهورية الإسلامية في إيران، عبر الادّعاء بأن إيران هي الخطر، وأن إسرائيل هي الصديق، وخصوصاً بعدما أعلنت إيران عن مشروعها النووي السلمي، إذ حاولت أمريكا وأوروبا، إضافةً إلى الدول العربية الخليجية وغير الخليجية، تأزيم الوضع، وتصوير هذا المشروع وكأنه الخطر الأكبر على الواقع العربي.
الشيعة ليسوا أتباعاً لإيران، ولكن الأمر انطلق من الخطة الاستراتيجية الأمريكية لتطويق الجمهورية الإسلامية في إيران
وانطلاقاً من ذلك، بدأ استهداف الشيعة في العالم العربي بزعم أنهم أتباع إيران. ونحن نعرف أن الشيعة ليسوا أتباعاً لإيران، ولكن الأمر انطلق من الخطة الاستراتيجية الأمريكية لتطويق الجمهورية الإسلامية في إيران، عبر تصوير المسألة على أنها صراع مذهبي، وهذا ما حدا بالملك الأردني عبدالله إلى الحديث عن الهلال الشيعي، والذي يعرف كلّ من يملك بعض الفهم السياسي أنه ليس واقعياً، وأنه ليس هناك إمكانية أن يحصل في ظلّ الظروف السياسية الموجودة في المنطقة، إذ إنّ هناك نوعاً من التكامل بين إيران وسوريا التي ليست شيعيةً على الرغم من اعتبارهم العلويين شيعةً، أو بين إيران ولبنان أو العراق أو ما إلى ذلك. لهذا، فإن المسألة هي جزء من الصراع الإيراني ـ الأمريكي في هذا المجال.
س: هل ترون، سماحتكم، وجود مشروع شيعي فعلي في المنطقة؟
ج: لا، ليس هناك مشروع شيعي، وإذا أردنا أن نتحدث ميدانياً، نجد أنّ الشيعة في العراق، مثلاً، يتحركون سياسياً مع الأكراد ومع السنة الآخرين، فالعراق وإن كانت فيه أكثرية شيعية بنسبة معينة، إلا أن الحكم فيه ليس شيعياً، وفي البحرين، وعلى الرغم من أن فيه أكثريةً شيعيةً إلا أنّ ما يتحرك به أهل البحرين الشيعة، هو أنهم يطالبون بالعدل في الحقوق، ولا يطالبون بالتكامل مع إيران أو مع العراق، لأنهم مخلصون لوطنهم.
وهكذا بالنسبة إلى الشيعة في السعودية والشيعة في لبنان. صحيح أن في لبنان "حزب الله" الذي يؤمن بولاية الفقيه، ولكنه في الوقت نفسه لا ينطلق في خطابه من الخضوع لحكم الجمهورية الإسلامية في إيران، بل هناك نوع من أنواع التلاقي مع الجمهورية، وهكذا بالنسبة إلى حركة أمل والشيعة الآخرين. لذلك، فإن مسألة الهلال الشيعي، هي مسألة لم يوفق من أطلقها في أن يركزها كقاعدة سياسية في الواقع المعاصر في المنطقة.
الحديث عن الهلال الشيعي لا واقعية له وهو جزء من الصراع الإيراني ـ الأمريكي
س: نتيجةً لمجمل هذه التطورات التي نشأت في السنوات الأخيرة، أصبح هنا واقع، وهو أن الحساسيات السنية الشيعية كبرت وتوسعت، حتى في لبنان المتعدد في طوائفه ومذاهبه والأكثر انفتاحاً وعلماً وعقلانيةً وثقافةً... إلخ، إذ نجد أن حدّة الخطاب المذهبي ترتفع يوماً بعد يوم. ضمن هذا التفكك والانقسام على المستوى الاجتماعي وفي الشارع، في رأيكم، ما هي المنطلقات التي يجب أن ينطلق منها السنة والشيعة، من أجل لأم هذه الجراح التي ظهرت على كل المستويات؛ هل هو منطلق فكري إيماني، أم سياسي، أم ماذا؟
ج: لنبدأ من لبنان، عندما ندرس المسألة في لبنان ميدانياً، نلاحظ أن المجتمع الشيعي في شكل عام، سواء الذين ينتمون إلى حركة أمل أو إلى حزب الله، أو أولئك الذين ينتمون إلى منظمات يسارية، لم يحصل منهم أي نوع من أنواع الإثارة ضد السنة، بل إننا نلاحظ أن المصاهرة بين السنة والشيعة في لبنان لا مثيل لها في البلدان الأخرى، إضافةً إلى أن الشيعة والسنة في لبنان كانوا يخرجون معاً في التظاهرات تأييداً لجمال عبد الناصر في وقته، أو تأييداً للقضية الفلسطينية أو ما إلى ذلك، أو حتى في الصراعات التي تمثلت بالحرب الأهلية بين المسيحيين والمسلمين. ولكن حدثت هناك بعض التعقيدات التي انطلقت من بعض الواقع الإقليمي والواقع الدولي لجهة ما حدث بين حركة أمل والفلسطينيين، أو ما حدث مع بعض الأحزاب اليسارية.
ونحن نلاحظ أن الخطاب السياسي للشخصيات الشيعية، مثل السيد موسى الصدر، أو الشيخ محمد مهدي شمس الدين، لم يتضمن أية إشارة إلى وجود عقدة أو مشكلة بين السنة والشيعة. فمتى حدث ذلك؟ لقد حدث ذلك أخيراً، من خلال بعض الزعامات السياسية التي أُريد لها أن تسيطر على واقع مذهبي معين، باعتبار أن المذهبية تمثل العنصر القابل للاشتعال، وخصوصاً عند تحريض الفئات الشعبية التي لا تملك الثقافة، بحيث يتم تذكيرها ببعض التراكمات التاريخية، هذا إضافةً إلى ما يُتهم به بعض الشيعة من التعدي على الصحابة وأمهات المؤمنين، مما يستغله المستغلون وما إلى ذلك.
لذلك، فإنّ القضية كانت مسألةً سياسيةً داخليةً أُريد من خلالها إيجاد موقع متقدم لبعض الزعامات الإسلامية في داخل لبنان، وخصوصاً في بيروت. هذا إضافةً إلى بعض المحاور الإقليمية التي تحركت في هذا الاتجاه، لأنها تجد، انطلاقاً من استراتيجيتها، أن إثارة هذه الفتنة يمكن أن تحمي بعض مواقعها، ولاسيما في مقابل إيران، فهم يعتبرون أن المشايخ التكفيريين ربما يؤدون دوراً كبيراً في حماية هذا الموقع أو ذاك. ولذلك فالقضية انطلقت من خلال الواقع السياسي الداخلي الطائفي، على أساس تهيئة الظروف لزعامة جديدة، وكذلك من خلال الواقع الإقليمي، وخصوصاً بعدما تعقدت العلاقات بين بعض الدول العربية وبين سوريا التي قد يحسب الشيعة عليها.
الخطاب السياسي للشخصيات الشيعية لم يتضمن أية إشارة إلى وجود عقدة أو مشكلة بين السنة والشيعة
ثم كانت الحركة التي قام بها "حزب الله" إلى جانب "أمل" والحزب القومي السوري في بيروت، حيث اعتبر المصطادون في الماء العكر، أنها القشّة التي قصمت ظهر البعير، إذ اعتبروا أن ما قاموا به يمثل غزواً لبيروت، وإسقاطاً لعنفوان السنة، حتى إن الشخصيات غير الإسلامية التي كانت تخطط ليحدث قتال بين السنة والشيعة حتى آخر سني أو آخر شيعي، شاركت في إذكاء الفتنة.
لذلك، أنا أعتقد أن المسألة في لبنان انطلقت من حالة سياسية أخذت عنواناً مذهبياً من خلال بعض التراكمات والتعقيدات التي تحدث بين جهة وجهة، ولقد تحدثت مع بعض الشخصيات، وقلت لهم: إنكم الآن ترفضون أي مسامحة أو أي صلح في قضية بيروت، لكنكم اليوم حلفاء للّذين قصفوا بيروت ودمّروها، ودمروا الضاحية في الحرب الأهلية. فالمسألة ليست مسألة مسامحة وما إلى ذلك، بل إن لها ارتباطاً بالوضع الإقليمي والوضع الدولي أيضاً، لأن أمريكا والاتحاد الأوروبي، بوسائلهم الخاصة واستراتيجيتهم، لهم مصلحة في إبقاء الوضع في لبنان في حال اهتزاز.
س: الخطاب الشيعي في مجمله، الديني منه والسياسي، وفي لبنان تحديداً، هو خطاب منفتح على الأعم الأغلب، وفي الفترة الأخيرة، كثير الحديث عن اندماج الشيعة في مجتمعاتهم، علماً أن الخطاب الشيعي لا يدعو إلى فصل الشيعة عن مجتمعاتهم، حتى لو كان لهم تحالفات مع دولة أخرى أو مع كيان آخر. في الفترة الأخيرة، لاحظنا وكأن هناك محاولة الدخول إلى قلب الشيعة بالقول إن هناك شيعة يرتبطون بمشاريع خارجية؟
المسألة في لبنان انطلقت من حالة سياسية أخذت عنواناً مذهبياً من خلال بعض التراكمات والتعقيدات
ج: أنا أحب أن أعلّق على شيء تفضلت به: من الممكن لكل إنسان أن يفكر أو يتحدث بالطريقة التي تلتقي مع هواجسه أو مشاعره وأحاسيسه، لكننا لو درسنا المسألة دراسةً سياسيةً واقعيةً، فماذا نجد؟ وما هي الأدلة التي يمكن أن يقدّمها الذين يقولون إنّ الشيعة جزء من سياسة دولة معينة، وتحديداً إيران وسوريا؟ نحن نسأل: ما هو المشروع الإيراني في لبنان الذي قام به حزب الله؟ وما هو المشروع الإيراني السياسي الذي قامت به إيران في الواقع اللبناني؟ وحتى بالنسبة إلى سوريا، فإننا نلاحظ أن السوريين كانت لهم سياستهم من خلال قوات الردع التي دخلت إلى لبنان بموافقة أمريكا وغيرها، لكن الشيعة كانوا من أقل الناس استفادةً من الوجود السوري في لبنان، بينما نجد أن الكثيرين من الآخرين على مستوى رؤساء الوزارات أو الوزراء أو الشخصيات الاقتصادية وغيرها، كانوا الأكثر استفادةً من الوجود السوري.
حتى بعض المسيحيين الذين يتحدثون في شكل سلبي عن وجود سوريا، وعن أن سوريا وإيران تموّلان المقاومة وتسلّحانها، استفادوا. لكن عندما نقرأ تاريخ المقاومة، نجد أنها الوحيدة بعد المقاومات المتفرقة السابقة، التي كان لها الدور الحاسم في تحرير لبنان عام 2000م، وفي الانتصار عام 2006م، رغم بعض الهواجس في هذا المقام. وبالتالي، فإنه لا توجد أية خطوط يتحرك بها الشيعة لمصلحة السياسة الإيرانية أو السياسة السورية، بل إن دور المقاومة هو في الأساس دور وطني تحريري. أما المشكلة التي حدثت في بيروت (في7 أيار/مايو 2008م)، فقد انطلقت من شعور المقاومة بالخطر من خلال القرارين المشؤومين، واللذين ما لبثت الحكومة أن تخلت عنهما. لذلك أنا أعتقد أن كل ما يقال عن خطورة سلاح المقاومة، وأن المقاومة تريد إرجاع سوريا إلى لبنان، أو سيطرة ولاية الفقيه على لبنان، هو كلام استهلاكي ليس له أي واقع سياسي.
س: في الواقع اللبناني، هناك العديد من الأفرقاء الذين ينظرون إلى الشيعة على أنهم أقرب إلى جاليات ومشروعات أجنبية موجودة في لبنان، وأنهم لا ينتمون إلى هذه الدولة، وأن ليس لديهم حس وطني، وأنهم ليسوا تابعين للدولة اللبنانية، وأن المقاومة تتعارض مع منطق الدولة، وما إلى ذلك. كيف تقرأون ـ سماحتكم ـ هذا الخطاب؟
ج: لندرس الموضوع في شكلٍ هادىء، فالواقع الشيعي في لبنان هو جزء من الواقع الطائفي، لأن النظام الطائفي في لبنان فتح ثغراً بين الطوائف جعل القوى الدولية تنفذ منها، ودفع كل طائفةٍ إلى الاستقواء بدولة معيّنة على الطوائف الأخرى. وقد لاحظنا في الحرب الأهلية اللبنانية، كيف أن فرنسا التي هي دولة علمانية كانت كاثولوكية، وقد قلت لبعض سفراء فرنسا: إنكم كاثوليك، لأنّكم في إدارتكم للمسألة السياسية في لبنان، وقفتم مع الكاثوليك ـ مع احترامنا للكاثوليك ـ ضد الآخرين. وكان الدروز يحسبون على بريطانيا، ثم دخلت أمريكا إلى الواقع اللبناني من خلال لقاء فؤاد شهاب مع جمال عبد الناصر وما إلى ذلك. وحدهم الشيعة لم يفتحوا أية ثغرةٍ في حسابهم الخاص ضد الطوائف الأخرى، بل كانوا منفتحين على كل الطوائف.
النظام الطائفي في لبنان فتح ثغراً بين الطوائف جعل القوى الدولية تنفذ منها
ولعل تجربة السيد موسى الصدر تدلل على ذلك، فقد كان منفتحاً على كل الطوائف، وأسس حركة المحرومين لتشمل كل الطوائف. لذلك فإن الطائفة الشيعية تتميز عن كل الطوائف الأخرى، في أنها لا تملك أي امتدادٍ في المنطقة يمكن لها أن تستقوي به لحساب مصالحها الخاصة. أما قضية أن الشيعة ليسوا وطنيين، فنحن نسأل: ما معنى أن تكون وطنياً؟ هل يمكن أن تُعتبر الجهة التي تحرر الوطن وتقدم خيرة شبابها من أجل تحريره غير وطنية؟ من هم الوطنيون؟ هل هم الذين كانوا في أيام الحرب الأهلية وقبلها ينسقون مع إسرائيل، في وقت كان زعماء إسرائيل، بمن فيهم شارون، يزورون المناطق اللبنانية، ويصعدون إلى الجبال والقمم ليراقبوا كيف يمكن لهم أن يهجموا على لبنان، ويتحركوا ضد الفلسطينيين؟...
وإذا كان بعض اللبنانيين ينطلقون ليقولوا أن سوريا وإيران قد سلحتا الشيعة، وفي مقدّمهم المقاومة، فمن الذي يسلّح بعض الجهات الطائفية؟ أليست إسرائيل هي التي كانت تقدم لهم السلاح ليحاربوا اللبنانيين؟ لذلك أعتقد أن الشيعة في الميزان الوطني لا يقلون وطنيةً عن الآخرين. فالشيعة عمّدوا وطنهم بالدم، وما زالوا أيضاً يواجهون العدو، ولعلنا عندما نستمع إلى تصريحات وزير الدفاع الصهيوني، إيهود باراك، نعرف أن المشكلة الإسرائيلية في لبنان هي مشكلة المقاومة الإسلامية، وليست عندهم أية مشكلةٍ أخرى في هذا المجال.
لذلك، فالقول إن الشيعة ليسوا وطنيين، هو زعم لا يثبت أمام نقد. ثم هل إن الشيعة طلبوا الاتحاد مع سوريا ليقال إنّهم ليسوا وطنيين؟ وهل طلبوا الاتحاد مع إيران؟ إن الشيعة في لبنان يقولون: نحن لبنانيون، ونحن نعمل على أساس خدمة لبنان، حتى إنهم عندما انتصروا في مقاومتهم ضد إسرائيل، أهدوا انتصارهم إلى كل لبنان وإلى العالم العربي والإسلامي.
س: كيف تقرأون، سماحتكم، المقولة التي تقول إن منطق المقاومة يتعارض مع منطق الدولة؟
هل الوطنيون في لبنان هم الذين كانوا في أيام الحرب الأهلية وقبلها ينسقون مع إسرائيل؟!
ج: نحن نتساءل: ما هو الأساس في قوة الدولة أمام العدوان الخارجي؟ الدولة إنما تكون قويةً قادرةً إذا كانت تملك السلاح والخبرة التي تستطيع معها أن تتوازن، سواء كانت الحرب حرباً نظاميةً أو حرب عصابات أو أي عدوان يوجّه إليها. أما الذين يتحدثون عن الدولة القوية، فنسألهم: ماذا تملك الدولة من السلاح؟ نحن نعرف، والكل يعرف، أنه في معركة نهر البارد، طُلب من سوريا أن تقدم للجيش اللبناني بعض الأسلحة، حتى يستطيع أن يكمل مواجهته، ولم تمنحه أميركا أية قوةٍ، حتى إن بعض الدول العربية عندما قدمت بعض الطائرات، قدمتها من دون أية صواريخ، لأن إسرائيل وأمريكا لا تسمح لها بذلك.
ونحن نعرف أن السلاح الذي تقدمه أميركا للدول العربية بثمنه الملياري، لا يشبه السلاح الذي تقدمه لإسرائيل، لأنها لا تريد لأي دولة عربية أن توازن إسرائيل في هذا المجال، وقد سمعنا وقرأنا قبل أيام أو قبل أسابيع، أن إسرائيل طلبت من أميركا أن لا تعطي الجيش اللبناني أي سلاح حتى لو كان خفيفاً. ونحن نقول إن الشيعة عاشوا مع الدولة، ودخلوا إلى الحكومة، وقاموا بدورهم كما بقية الوزراء. وعندما استقال الوزراء الشيعة، فإنما بسبب بعض التعقيدات السياسية التي كانت موجودة هنا وهناك.
لذلك نحن نعتقد أن المقاومة هي قوة للدولة، وهذا ما فهمه قائد الجيش الذي أصبح رئيساً للجمهورية، عندما تحدث عن المقاومة باحترام، لأنه يدرك أن المقاومة هي التي تتكامل مع الجيش.
ونحن نسأل، وقد تحدثت عن ذلك في وقتها، عندما قصفت إسرائيل مواقع الجيش اللبناني: لماذا لم تنطلق الدولة لتعطي الجيش اللبناني الحرية والإذن في أن يواجه إسرائيل في شكل حاسم وقوي إلى جانب المقاومة، مع أنها قتلت الكثير من الضباط والجنود وهم في مهاجعهم؟ لذلك نحن نقول للذين يتحدثون عن الدولة، نحن جميعاً نريد دولةً قويةً وقادرةً وحكيمة تحمي شعبها، ولكن أصدقاء الدولة، وأصدقاء الذين يشرفون على الدولة، لم يقدموا للدولة الأسلحة التي تحتاجها في مواجهة عدوان إسرائيل التي تهدد بين وقتٍ وآخر بتدمير لبنان تدميراً نهائياً. أنا أتحدث عن الواقع اللبناني الذي يمثل الشيعة أحد عناصره.
الديمقراطية تنطلق من قاعدة فلسفية ثقافية هي أن الشرعية للأكثرية سواء اختلفت مع الحقائق الدينية أو اتفقت
س: أريد أن أنتقل إلى السؤال عن علاقة بعض المفاهيم بما هو ممارس على الأرض، وأخص منها مسألة الديمقراطية، حيث يشيع القول إن الإسلام لا ينسجم مع الديمقراطية بمفهومها وممارستها كما هي في الغرب. سؤالي: هل الإسلام يلتقي مع الديمقراطية بمفهومها الغربي؟
ج: عندما ندرس المسألة بطريقة علمية، نجد الديمقراطية تنطلق من قاعدة فلسفية ثقافية، وهي أن الشرعية تكون للأكثرية، سواء اختلفت مع الحقائق الدينية أو اتفقت، فقد يصبح الإسلام غير شرعي إذا صوتت الأكثرية ضده، ويأخذ الشرعية بتصويت الأكثرية. ونحن نعرف أن الإسلام دين يختلف عن بقية الأديان في أنه ينطلق من قاعدة تتصل بالعقيدة، ومن امتدادٍ يتصل بالقانون الشرعي من خلال الشريعة، ويتضمن مفاهيم ومفردات تنطلق من علاقة الإنسان بالإنسان وبالمنهج الأخلاقي وما إلى ذلك. لذلك، من الصعب جداً أن نلتزم الديمقراطية بحسب هذا التعريف، لأنها تختلف عن القاعدة الإسلامية الثقافية التشريعية المفاهيمية، ولأننا نحن كمسلمين نعتقد أن هدى الله هو الهدى. هذا جانب.
وهناك جانب آخر، وهو المسألة السياسية، فنحن نلاحظ أن الإمام الخميني أفسح في المجال لتجربة ديمقراطية، لأنه كان يؤمن بالشعب في شكلٍ عام، فطلب من الشعب الإيراني أن يصوّت على الإسلام كدين للدولة. وهكذا بالنسبة إلى مسألة تعيين ولي الفقيه، فهناك مجلس الخبراء الذي ينتخب الولي الفقيه، وقد نجح السيد علي الخامنئي بنسبة الأكثرية لا بنسبة الإجماع، لأن هناك من لم يصوت لمصلحته. وهكذا رأينا كيف أن الانتخابات النيابية في إيران، انطلقت من خلال الديمقراطية الشعبية. وهناك مسألة أكدها الإمام الخميني، وهي مسألة اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي في كل قضية تقع محل جدل. وهذا ليس موجوداً في أي بلد عربي، بل ليس موجوداً في الكثير من البلدان الإسلامية. ونحن عندما نتحدث في لبنان عن الاستفتاء الشعبي، نسمع الغرائز تقول: إنكم تريدون أن تجعلوا المسلمين يسيطرون على المسيحيين.
الإمام الخميني أفسح في المجال لتجربة ديمقراطية لأنه كان يؤمن بالشعب في شكل عام
أما بالنسبة إلى الجمعيات الإسلامية في لبنان، فإن مجلس الإدارة ينتخب بالاقتراع العام تماماً كما هو متّبع في القوانين اللبنانية. لكن هناك ثوابت إسلامية تنطلق من خلال الفكر الديني الذي يربط القضايا بالله سبحانه وتعالى، على الرغم من أن بعض القضايا يخضع للاجتهاد، كما في قضية القرآن وتوثيق الروايات عن الرسول(ص) إذ قد يوثّقها البعض ولا يوثّقها البعض الأخر.
لذلك نحن نقول إننا مع الديمقراطية فقط عندما تتصل بحياة الناس في اختياراتهم السياسية أو الاجتماعية، لكن عندما يتعلق الأمر بالثوابت، فمن الطبيعي جداً أن الثوابت في كل الاتجاهات لا يناقش فيها أحد، بل يسلم بها الجميع. ففي أميركا التي هي دولة رأسمالية، لا يناقشون الرأسمالية، لأنها عندهم من الثوابت. وعندما كان الاتحاد السوفياتي يدين بالماركسية، هل كان الخط الماركسي يخضع للديمقراطية؟ فهناك مسلمات قد تكون مسلمات علمانية وقد تكون دينية.
س: في مجتمع متعدد دينياً، هل تعتقدون أن الدولة العلمانية هي الحل؟
ج: هناك فرق بين أن تشرّع العلمانية وبين أن تتعايش معها. لقد كنت أصرح منذ أكثر من ثلاثين سنة أننا لا نتحدث في لبنان عن جمهورية إسلامية، وأننا نطرح فكرة الجمهورية الإسلامية ليعرف الناس أن الإسلام ليس حالةً طائفية قبلية، بل هو حالة فكرية، ثقافية، قانونية. لكننا في الوقت الذي لا نجد أية واقعية لجمهورية إسلامية في لبنان، فإننا نعتبره دولة علمانية، لأن الذين يشرّعون القوانين اللبنانية هم نواب الشعب، نواب المجلس النيابي. ولكن هناك مشكلة واحدة هي مشكلة الأحوال الشخصية، وهي ليست مشكلة المسلمين وحدهم، بل هي قضية تخص كل إنسان منتمٍ إلى دين معين.
هناك فرق بين أن تشرع العلمانية وبين أن تتعايش معها
ربما يتحدثون عن الزواج بين المسلمين وغير المسلمين، لكن هل المسيحيون مستعدون لأن يتقبلوا مسألة تعدد الزوجات أو مسألة الطلاق، بعيداً عن الأسس والتشريعات الموجودة عندهم؟ بالنسبة إلى المجتمع المتعدد الأديان قد نتعايش علمانياً، ولكننا لا نشرع العلمانية. هل يتقبّل الماركسيون العلمانية الرأسمالية؟ والأمر نفسه بالنسبة إلى القوميين؛ هل يتقبل القوميون الخطوط التي هي ضد القومية؟ هناك ثوابت لدى الجميع، فكما أن هناك ثوابت في الدين، هناك ثوابت في العلمانية. نحن نقول للذين يتعقدون من أنّ الإسلام يعتبر المسيحيين أو اليهود أهل ذمة، وأن هذا يسقط إنسانية الإنسان، ونحن نعتقد أن مسألة أهل الذمة هي من المسائل التي قد تبدو كأنها تسيء إلى إنسانية الإنسان، ونقول إن عندنا شيئاً آخر وهو العهد، أي إقامة معاهدة بين الدولة وفئات الشعب غير الإسلامية، كما هو موجود في إيران، ففي إيران التي هي دولة إسلامية، ليس هناك تعامل مع المسيحيين واليهود وفق مبدأ أهل الذمة، بل وفق مبدأ العهد، لذلك رأينا الأرمن يحاربون مع الجيش الإيراني. في إيران الإسلامية لا يتعاملون مع المسيحيين وفق مبدأ أهل الذمة، بل وفق مبدأ العهد
س: باستثناء الأحوال الشخصية، هل يمكن للدولة أن تحكم بأحكام وأنظمة وضعية يتم التوافق عليها حتى لو كانت من خارج الثوابت الدينية الأساسية؟
ج: هناك فرق بين أن تقول، كمسلم، إنني أقبل بتشريع الأحوال الشخصية التي لا تلتقي مع التشريع الذي أؤمن به، وبين أن تقول، إنه عندما تكون هناك دولة تشرّع بعض الأحوال الشخصية التي لا تلتقي معي، فإنني أتعايش معها. ولذلك هناك جدل في لبنان حول قضية تشريع الزواج المدني. ولكن أحداً لا يعترض بالمعنى العملي والمعنى الديني، على الزواج المدني عندما يعقد في قبرص أو في الغرب.
أنا في فتواي قلت، لا يشترط في الزواج صيغة معينة، لكن يوجد فيه شروط معينة. الآن ما موجود في شرعنا أنّ المسلمة لا تتزوج بغير المسلم، باعتبار أن غير المسلم لا يؤمن بالإسلام، بينما يجوز للمسلم أن يتزوج مسيحيةً، أو يهوديةً. فلذلك إذا تقدم إثنان تجتمع فيهما الشروط الشرعية إلى موثق العقود في فرنسا، وقال لها: هل تقبلين بفلان زوجاً فتقول: نعم، وهو يقول: نعم، فيكون الزواج صحيحاً، حتى لو لم يكن مسجّلاً دينياً، لأن الزواج في الإسلام عقد مدني، ولا يشترط في عقد الزواج في الإسلام أن يقوم به رجل دين، فالإسلام سهل مسألة الزواج.
الزواج في الإسلام هو عقد مدني، ولا يشترط أن يقوم به رجل دين إذا توفرت منه الشروط الشرعية
س: في تركيا يمنع ارتداء الحجاب في الجامعات والمؤسسات والمدارس الرسمية... إلخ، ويحتج المسلمون على ذلك بأنه قمعٌ للحرية الشخصية، كما للحرية الدينية. في هذا الإطار، أليس هذا الأمر في تركيا هو الوجه الآخر لما هو عليه في إيران في منع المرأة من خلع حجابها؟
ج: هناك فرق، فإيران دولة إسلامية، والقانون الديني فيه حرام وفيه حلال، ولذلك فإنها عندما تفرض الحجاب، إنما تنطلق في ذلك من خلال التشريع الديني، وأيضاً في مسألة منع شرب الخمر، باعتبار أنّه مناف للتشريع، أمّا تركيا فهي دولة علمانية أسسها أتاتورك بحيث تتماهى مع الدولة الغربية، لكن في الغرب لا يفرض على المرأة السفور، والعلمانيون لا يرون أن السفور هو جزء من العلمانية.
س: لكن، سماحة السيّد، ألا يعني إجبار المرأة التي لا تريد ارتداء الحجاب، على ارتدائه، انتقاصاً من حريتها الدينية والفردية، وخصوصاً أنه في الإسلام "لا إكراه في الدين"؟
ج: في بعض الدول الإسلامية، والتي تعتبر الإسلام قانونها، تندرج مسألة الحجاب من ضمن الالتزام بالقانون. وإذا كان البعض يعتبر أن هذا لا ينسجم مع الحرية، فإن الإسلاميين يرون أن عدم الحجاب قد يؤدي إلى نتائج مماثلة، مع بعض الفروق، بالنسبة إلى الكشف عن أعضاء الجسم الأخرى.
إن مسألة عدم الإكراه في الدين لا تمثل عدم الإكراه في الالتزام بالقانون، فالمسألة هنا تتصل بالالتزام القانوني، من خلال الدولة التي تعتبر أن قانونها هو الإسلام.
س: التجربة التركية في عهد حزب العدالة والتنمية، تحوّلت إلى نموذج لتجربة يحتضنها الغرب وتتطلع إليها أيضاً حركات إسلامية في العالم العربي والإسلامي، لجهة الجمع بين الإسلام والديمقراطية. هناك نظريتان، واحدة تقول إنها تجمع بين الإسلام والديمقراطية، وأخرى تقول إنها تجمع بين المسلمين والديمقراطية؟
ج: أعتقد أنّ الخلفيّات التي ينطلق منها حزب العدالة والتنمية من خلال قياداته هي خلفيات إسلامية، لأنهم تربوا على يد نجم الدين أربكان. ولكن خطّهم الثقافي والفكري ليس خطاً إسلامياً. فهو ليس حركة إسلامية، بالمعنى المصطلح للحركة الإسلامية. لأنّ الحركة الإسلامية هي التي تعمل على أساس تطبيق الإسلام في الواقع، بينما هم يتحدثون عن العلمانية والديمقراطية في شكل مطلق، وليس بالطريقة التي تحدثنا فيها. ولكن نعم، هناك في هذه التجربة نوع من أنواع النكهة الإسلامية، وأنا أقول إنّ حزب العدالة والتنمية ليست له قاعدة إسلامية، لكن فيه نكهة إسلامية. ولذلك كان العلمانيون وقوات الجيش، يخافون من هذه النكهة، لأنّهم يشتمون فيها رائحة الإسلام. طبعاً، ليس كل جمهور "العدالة والتنمية" إسلامياً، لكنّ الآخرين يشمون فيه الإسلام، إذا صحّ التعبير في هذا الموضوع.
الخلفيّات التي ينطلق منها حزب العدالة والتنمية من خلال قياداته هي خلفيات إسلامية
وعلى الرغم أنه من الضروري للعالم الإسلامي أن يدرس الإسلام ويطبقه بطريقة حضارية، وهذا ما أؤمن به، فإنني أقول إن قيمة حزب العدالة والتنمية أنه يوفر خط الوسط الذي يوصي بالإسلام، وإن كان لا يدعو إليه أو يتبناه.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 19 شوال 1429 هـ الموافق: 18/10/2008 م