المرجع السيد محمد حسين فضل الله في حوار فكري ـ سياسي شامل تنشره ((الشراع)) على حلقات: أدعو إلى ثورة اجتهادية
ا
لحوار مع المرجع الإسلامي، السيد محمد حسين فضل الله، لا يكون عادة من نوع الحوارات اللبنانية المعهودة والدارجة بكثرة هذه الأيام على شاشات الأقنية المرئية.
هذا التوصيف ليس انتقاصاً مما يذاع ويبث، ففي بعضه الكثير من معلومات ومواقف وأسرار من حق المتلقي الاطّلاع عليها، كما أن هذا التوصيف ليس اتهاماً للسيد فضل الله بالتعميم والمواربة وعدم الإجابة مباشرة على الأسئلة المطروحة عليه، بل هو إشارة لا بد منها إلى ما يكتسبه أي حوار معه من نكهة متميزة تتملك من يتسنى له دخول رحاب هذا العالم وفكره وسعيه أو محاولاته الدؤوبة للإصلاح والتجديد.
قد تتفق مع فضل الله في الكثير مما يطرح وممّا يتحمل مسؤولية إطلاقه، مما يعتبر أحياناً كسراً للمحرمات، وقد تختلف معه في الكثير من ذلك، وفي مواقف يتقدم فيها السياسي والظرفي والتفصيلي على الرؤية الأعم والأشمل، إلا أنه في هذا أو ذاك، يبقى أميناً على ما اختاره ربما لدوره المرجعي كحارس من حراس ما يتلألأ في سماء الأمة تاريخياً من ألق وإنجاز وعدل وإصلاح وتجديد ووحدة، بفكر لا يهدأ، وبحث لا يستكين، وإحاطة جامعة، وعقلانية متعمقة، ونبذ للخرافة والتعصب، وتوقٍ إلى العلم بكل ميادينه ومضاميره.
وفي مرحلة مفصلية كالتي نمر بها لبنانياً، عربياً وإسلامياً، كان لا بد من الوقوف على مقاربات هذا الحارس لما جرى ويجري، استنباطاً أو محاولة استنباط بتعبير أدق لسير الأحداث وموقعها في التطور التاريخي العام ومآلها مستقبلاً.
ولذلك جاء الحوار معه شاملاً وعلى حلقات، ويتناول أبرز التحديات الماثلة ضمن محاور للحديث توزعت كما يلي:
أولاً: حال الأمة عربياً وإسلامياً والحاجة إلى الثورة والتجديد.
وفي ما يلي وجهة نظر المرجع فضل الله وردوده على أسئلة المحور الأولى:
الانقسامات السياسية في الأمة
س: كيف تصف الحقبة الراهنة التي تمر فيها المنطقة بعد تراجع المشروع القومي، وعودة الغزاة بلباسٍ أميركي، وتفشي الصراعات والانقسامات السياسية والمذهبية؟
ج: يمكن أن نصف هذه المرحلة بأنها مرحلة تنطلق من حركة الصراع الذي يسيطر على العالم، والذي يتمثل، سياسياً، بموقف الغرب من المنطقة العربية والإسلامية، من جهة ما لها من مصالح في العالمين الإسلامي والعربي، أو من جهة التزام الغرب القوي، وإن بدرجات متفاوتة بإسرائيل وبكل الخطوط السياسية والأمنية التي تدعمها، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول 2001، التي استغلتها أمريكا للهجوم على كل المواقع المعارضة لسياستها في العالم، وفي مقدمتها العالم العربي والإسلامي، على أساس أن الذين قاموا بهذه العملية هم العرب المسلمون، ما أعطى أميركا الفرصة لفرض قناعاتها هي، ولم تقبل من أي دولة غربية غيرها تحديد مصطلح الإرهاب، حتى إن بريطانيا عندما حاولت أن تثير جدلاً حول مفهوم الإرهاب لم تقبل أميركا بذلك.
وبهذا أصبحت أميركا تتحرك على أساس تطويق العالم العربي والإسلامي بمسألة مكافحة الإرهاب، فكان احتلال أفغانستان، ثم العراق، ثم تحريك الفوضى في السودان، والثأر من الصومال بسبب الهزيمة الأميركية فيها سابقاً، وإثارة الجدل المذهبـي والطائفي في لبنان، وخلق المشاكل بين الدول العربية... هذا كله يجعل من الممكن القول إن المرحلة الحالية هي مرحلة الحرب النفسية والسياسية والاقتصادية والأمنية على العالم بشكل عام، وعلى العالم العربي والإسلامي بشكلٍ خاص، وخصوصاً إيران... ومن الطبيعي القول إنّ الخطة الأميركية الغربية لا تريد الإفساح في المجال لإعادة إنتاج المسألة العربية، بشكل يجمع العرب ويوحدهم حول القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا، بل تريد أيضاً أن تمنعهم من التفكير في أن يكون العالم العربي عالماً ينهض ويتطور ويستثمر هو ثرواته الطبيعية، ليكون عالماً إنتاجياً لا استهلاكياً، كما كان جمال عبد الناصر يفكّر.
أما الأدوات التي تُستخدم في إيجاد هذه الفوضى التي يسميها الأميركيون الفوضى البناءة أو الخلاقة، فهي محاولة إنتاج أو تجديد نقاط الضعف لدى العرب، ومنها المسألة المذهبية، بعدما تضاءلت فرص استغلال المسألة الطائفية بالمعنى الإسلامي ـ المسيحي، وهذا ما لاحظناه من خلال بعض علماء المسلمين من السنة والشيعة، الذين يعملون على إثارة الحساسيات المذهبية، حيث نجد فتاوى التكفير تنطلق هنا وهناك، كما تنطلق قضية الإساءة إلى الصحابة أو إلى بعض أهل البيت(ع)، ومحاولة تصوير مسألة التداخل في المجتمعات بين السنة والشيعة، على أنها عملية غزو لا بد من الوقوف ضدها، أو إعلان الحرب عليها، وهذا كله من قبيل الأدوات التي تستخدمها المخابرات الدولية، ومنها الأميركية المنفتحة على المخابرات المحلية في كل دولة.
المرحلة الحالية هي مرحلة الحرب النفسية والسياسية والاقتصادية والأمنية على العالم بشكل عام، وعلى العالم العربي والإسلامي بشكل خاص، وخصوصاً إيران
فأميركا، إذاً، تحاول خلق نوع من الفوضى لا تسمح للعالم العربي والإسلامي على مستوى الشعوب والأنظمة، بالاستقرار الفكري الذي يمكنه من الانفتاح على الاختلافات بطريقة موضوعية وعلمية، بل إنها تدفعه إلى التحرك بالطريقة الانفعالية والارتجالية لاستعادة أحقاد الماضي، ليبقى العالم العربي والإسلامي يعيش في الماضي وينسى الحاضر والمستقبل.
ولذلك، فإنّ علينا إعادة إنتاج العقلانية في العالم الإسلامي، والبحث المعمق في مسألة العلاقة بين الإسلام والعروبة، ونحن نلاحظ أن الإسلام حين انطلق في البيئة العربية، لم يجد العرب فيه أي مشكلة ضد عروبتهم، بل دخلوا فيه لأنهم كانوا منفتحين على القيم التي لا تبتعد عن الفطرة العربية، كما أن الإسلام لم يجد في العروبة مشكلة له، لأنها ليست عروبةً عنصريةً، وإنما هي عروبة إنسانية منفتحة على العالم كله، وبذلك استطاعت العروبة أن تعطي الإسلام الكثير من عناصرها، كما أعطاها الإسلام الكثير من قيمه ومعانيه.
علينا إعادة إنتاج العقلانية في العالم الإسلامي
ولكن علينا أن نتحرر من الضغط الأميركي أولاً. وقد ذكر لي بعض مسؤولي الجامعة العربية الكبار، أن أميركا، كما رأى في متابعته لها، تريد تدمير الإسلام. ولذلك علينا أن نأخذ بالحرية، سواء الحرية القومية، أو الإسلامية، أو الحرية الوطنية المحلية، إن صحّ التعبير، حتى نستطيع أن نعرف أين نحن، ومن نحن، وإلى أين المسير، ولنعرف كيف يمكن أن نحول العالم العربي الإسلامي إلى عالم يشارك في قرارات العالم، بدلاً من أن يبقى عالماً مستهلكاً لقرارات الآخرين.
الأسباب التاريخية للانقسام
س: هناك من يحمِّل الغرب المسؤولية ويعتبر ما يحصل مؤامرةً منه على العالم العربي والإسلامي، علماً أن هناك مكامن ضعف كثيرة في جسم هذا العالم أدت إلى ما نحن عليه من فراغ كبير وضعفٍ في المواجهة وفي المشاركة في القرار العالمي. أليس هناك ضرورة لإعادة النظر في المسببات التاريخية لذلك؟
العروبة أعطت للإسلام الكثير من عناصرها كما أعطاها الإسلام الكثير من قيمه ومعانيه
ج: أنا لم أكن في وارد أن أحمل الغرب كل المسؤولية عما نعيشه من حالات تمزق وضعف وإحباط وانهيار، ولكن ما أردت الإشارة إليه هو أننا عشنا في فترة من القرن الماضي، وهي فترة الخمسينات والستينات، كان العالم العربي فيها يعدّ نفسه لحركة عقلانية تتمحور حول حركة الصراع بين الاتجاهات العقائدية، سواء العلمانية، كالرأسمالية والماركسية، أو الإسلامية، أو الحركات القومية، وقد مهّد ذلك لخلق حوارات ثقافية عقلانية، كنا نلحظها في حركة السجالات والحوارات التي كانت تدور على أرصفة شارع الحمراء والمقاهي بين المثقفين من كل الاتجاهات، وكان من الممكن لهذه التوجهات أن تأخذ دورها، ولكن تدخل الاستعمار وسيطرته على العالم العربي من جهة، وزرع إسرائيل في قلب هذا العالم العربي من جهة ثانية، كل ذلك شغل العالم العربي.
كما إنّ مخططات إسرائيل ومحاولاتها تقسيم هذا العالم إلى دول مذهبية ودينية لتبرير وجودها كدولة دينية ويهودية، أضافت إلى الواقع العربي الكثير من المشاكل الكبيرة والخطيرة، ثم امتدت المسألة إلى لبنان عبر البوابة الطائفية، بحيث أصبح اللبناني ينفتح على النظام الطائفي ويبتعد عن فكرة المواطنة، وتحوّل إلى شخصية طائفية في كل قضاياه. وهكذا بدأت الفوضى تتحرك بين الحركة الوطنية وبعض البلدان العربية، وبين هذه البلدان والتنظيمات الفلسطينية، ومن ثم تحوّل الصراع إلى صراع طائفي إسلامي ـ مسيحي، ما أثقل العالم العربي وشحنه بمفردات الخلاف والمخاوف الداخلية السياسية والأمنية والطائفية والمذهبية، بشكل شغل الجميع عن المسائل الفكرية والثقافية الأساسية.
وأذكر أننا في الخمسينات كنا نتابع مجلة ((الآداب)) التي كان يصدرها المرحوم سهيل إدريس، وكانت تمثل منبراً يتحرك فيه النقاش العربي ـ العربي، الفكري والثقافي، ومنها حوارات بين طه حسين ورئيف خوري، وحوارات حول قضايا الشعر الحر، ومسائل القومية؛ هل هي قومية إنسانية أم لا؟ وهذا ما كان يتحرك به عبدالله عبد الدائم وفريقه... الخ. إذاً، كانت هناك حركة ثقافية تدير الصراع بطريقة علمية وموضوعية، وقد ظهر في ذلك الوقت أيضاً، فريق من الشعراء الكبار جداً، كنازك الملائكة، وبدر شاكر السيَّاب، وصلاح الدين عبد الصبور الفيتوري، وعبد الوهاب البياتي وغيرهم.
الصراع الطائفي أثقل العالم العربي وشحنته بمفردات الخلاف والمخاوف الداخلية السياسية والأمنية والطائفية والمذهبية بشكل شغله عن المسائل الفكرية والثقافية الأساسية
وقد شكل ذلك حركة ثقافية كانت تشغل العالم العربي وتتجه به إلى قضايا الحرية بالمعنى الواسع، وليس بالمعنى الاستهلاكي الذي يُثيره الكثير من الناس الذين يعتبرون أن الحرية هي الالتزام بالسياسة الأميركية! ولكن الاستكبار العالمي استطاع أن يشغل العالم العربي عن نفسه وعن قراءة أوضاعه قراءةً علميةً وموضوعيةً. وهكذا استمرينا نحتكم إلى نقاط الضعف التاريخية، من التخلف والخرافة وتفسير كل القضايا بالغيب، وأخذ الغرب بنتيجة القوة التي عنده، وبنتيجة تفكيره في أن رخاءه متوقف على استغلال ثرواتنا الطبيعية، ولاسيما البترول، أخذ يستغلّ مواقعنا الاستراتيجية في صراعه مع الاتحاد السوفياتي من خلال نقاط ضعفنا.
فنحن لا نريد تحميل الغرب، بشكل خاص، مسؤولية مشاكلنا، ولكننا نقول إنه استغل نقاط ضعفنا، واستطاع أن يشغلنا عما نحن فيه، بحيث أصبحنا نفكر في قراراته أكثر مما نفكر في أنفسنا، كما قال لي بعض السفراء الفرنسيين: ((إن مشكلتنا مع اللبنانيين، أنهم يحدثوننا عما نريد ولا يحدثوننا عما يريدون))، فنحن نفكر في ما تريد أميركا أو أوروبا، وليس في ما نريده نحن. وهذا ما نلاحظه الآن في الأزمة المالية العالمية الكبرى، فنحن نفكر كيف يمكن لأمريكا وأوروبا أن تعالجا أزمتهما؟ وكيف تخطط روسيا لإنقاذ نفسها؟ بينما لا نتحدث في العالم العربي إلا عن خسائرنا، أما كيف يمكن أن نخطط لتفادي تأثيرات الأزمة؟ فهذا ما لا نجد أحداً يفكر فيه بشكل فاعل.
س: هل ترون أن هناك آليات محددة للخروج أو لبدء البحث في مكامن الضعف ومعالجتها، خصوصاً أن هناك قضايا يفترض أن تكون الحلول بشأنها سهلة، كمسألة الخلاف حول بداية شهر رمضان؟
ج: إنّ المشكلة عندنا هي أننا فقدنا معنى الأمة، وخصوصاً بعد اتفاقية ((سايكس بيكو))، وما فرضته من تقسيم لبلادنا على أثر سقوط الخلافة العثمانية التي لم تكن في المستوى الذي يحقق نتائج ايجابية للمنطقة، بل إنّ أداءها أدّى إلى نتائج سلبية في كثير من حالات التخلف التي فرضتها، وحالات الضغط والاضطهاد، ومحاولات تتريك العالم العربي، ما ساهم في جعل القضية المحلية أكبر من القضية القومية أو الإسلامية.
الغرب استغل نقاط ضعفنا واستطاع أن يشغلنا عما نحن فيه فأصبحنا نفكر في قراراته أكثر مما نفكر في أنفسنا
وقد سمعت أحد العلماء في العراق يقول: أنا عراقي ثم مسلم. حتى إن العروبة أصبحت تهمةً، وأصبح الإسلام يمثل حالة رجعية ومتخلفة وتهمة أيضاً. ولذا أعتقد أن من الصعب جداً إيجاد آليات واقعية لحل هذه المشاكل، لأن الذين يسيطرون على العالم العربي، وعلى أكثر العالم الإسلامي، يخضعون، في مجملهم، للسياسة الاميركية، ويمثلون الحرّاس للسجن الكبير الذي أدخلوا فيه شعوبنا، ليسرقوا اقتصادنا وثرواتنا. ولذلك، فإن سيطرة هذه الأنظمة على الواقع السياسي والثقافي والأمني، جعلتنا نُحكَم بقوانين الطوارىء وأجهزة الاستخبارات، وليس بالديموقراطية، وحتى الكلام عن الديموقراطية أصبح لا يتعدى الحالة الشكلية، وبدأنا نرى كيف يتم حكم الناس بشكلٍ استبدادي من قِبَل الحاكم هنا وهناك، وكيف تتدخل الدول الغربية في الانتخابات بطريقة مخابراتية، وكيف تحكم على هذا البلد بأن مجالسه منتخبة بشكل ديموقراطي أو غير ديموقراطي.
أما بالنسبة إلى القضايا الإسلامية العامة، وما تم ذكره من مسألة رؤية الهلال، فالمسألة هذه تنطلق من خلال الذهنية الاجتهادية الحرفية التي تحاول أن تتمسك بحرفية النص؛ لا بروحه، ولا بالجو العام الذي يحكمه، فمسألة الهلال والشهر، هي كما يقول عنها السيد أبو القاسم الخوئي(ره)، ترتبط بالنظام الكوني فيما حدّده الله من نظام للزمن، كقضية الليل والنهار، والشروق والغروب. ونحن نعتبر أن الرؤية وسيلة للمعرفة، فقد صدق قول النبي(ص): ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته))، وقوله(ص): ((اليقين لا يدخله الشك)) أي اعملوا باليقين، ولا شك عندنا في أن الحسابات الفلكية التي يملكها علماء الفلك في العالم، والذين لا يختلفون في مسألة ولادة الهلال وموازين بدايات الشهور ونهاياتها، هي أدق من الرؤية بالعين، لأن الفضاء أصبح ملوثاً بحيث إن الإنسان قد يرى ما قد يظنّه هلالاً وهو ليس بهلال.
مسألة الهلال تنطلق من خلال الذهنية الاجتهادية الحرفية التي تحاول أن تتمسك بحرفية النص
فالمشكلة أن كثيراً من الفقهاء، مع احترامنا لهم، ما يزالون حرفيين في فهم النصوص. ونحن قلنا منذ البداية، إن قضية الشهر قضية مربوطة بالنظام الكوني، وان الله خلق الشهور قبل أن يخلق الناس والعيون، وقد دعونا إلى ثورة اجتهادية لا تبتعد عن النصوص، ولكن تحاول أن تفهم النصوص بطريقة علمية موضوعية منفتحة تتمحور حول روحية النص لا حول حرفيته، وإذا كان العلماء يقولون إن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، فلا بد من أن ندرك طبيعة المصلحة والمفسدة في كل حدث وقضية، وأن نحاول أن ننفتح على القضايا الجديدة في العالم، لنطلق فيها التشريع الإسلامي من خلال القواعد المنفتحة على القضايا الكبرى.
س: هل المطلوب إسلام جديد؟
ج: ليس هناك إسلام جديد أو إسلام قديم، بل هناك فهم جديد للإسلام، فالقدامى الذين يتبعهم الكثيرون، كانت لهم مدرستهم، وما عندهم هو عندنا، وما عندنا ليس عندهم. ولذلك أنا لا أدعو إلى خلق إسلام جديد، بل إلى أن نجدّ في فهم الكتاب والسنة بالمستوى الذي يعطي العناوين الكبرى التي يتحرك فيها الهدف الإسلامي الكبير، وهو ما جاء في قوله تعالى: {
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال:24]، فالإسلام هو دعوة للحياة، والرسول هو الذي يخرج الناس من ظلمات الجهل والتخلف والخرافة إلى النور، فلا بد من أن يكون القائم على أمور الإسلام نوراً كله؛ نوراً في عقله، وفي قلبه، وفي حركة حياته.
س: عالمنا العربي والإسلامي فيه الكثير من الجهل والتخلف والخرافة كما ذكرت، والهيمنة الغربية استغلت ذلك وغيره من نقاط الضعف، لكن ألا ترى أن هناك أيضاً مسألة خاصة تتعلق بنا نحن، وهي أننا كشعوب لدينا جرعة زائدة من الخمول والخنوع والاستسلام؟
لقد دعونا إلى ثورة اجتهادية لا تبتعد عن النصوص ولكن تحاول أن تفهم النص بطريقة علمية موضوعية منفتحة تتمحور حول روحية النص لا حول حرفيته
ج: أعتقد أن هناك نوعاً من الهجوم على حركة الوعي لدى شعوبنا، من خلال قوى التخلف من جهة، ومن خلال القوى التي تخضع للسياسات الخارجية، وخصوصاً الأميركية من جهة ثانية، فمثلاً في الخمسينات، كان العالم العربي بأجمعه يشعر بأن تحرير فلسطين يمثل الهدف الأول والكبير، ولكننا الآن نلاحظ أن العرب بدأوا بتقديم التنازلات على أساس إقناعهم بأن إسرائيل أصبحت أمراً واقعاً، ورأينا كيف أنهم أخذوا ينتقلون من تنازل إلى آخر، فبعدما كان شعارهم ((لا صلح، ولا تفاوض، ولا اعتراف))، بدأ التراجع أولاً في مؤتمر الرباط الذي قال فيه الشاعر عمر أبو ريشة:
قالوا على العار أن يمحى فكان لهم على الرباط لحفظ العار مؤتمر
وكان آخر التنازلات العربية، مبادرة مؤتمر القمة العربية في بيروت، التي قال عنها رئيس وزراء العدو إنها لا تساوي الورق الذي كتبت عليه، وقالت عنها أميركا إنها مشروع للتفاوض فقط، وأصبح الآن من يقاومون إسرائيل محل اتهام من أكثر المسؤولين في العالم العربي، حتى إنّ المقاومة الفلسطينية داخل فلسطين نفسها، أصبحت تمثل عند بعض العرب حالة غير مقبولة، وهناك اتهام لها بالتشيع وبالفارسية والإرهاب، كما نلاحظ أن حصار غزة لم يحرك العالم العربي، حتى إنّ بعض الدول العربية المحاذية لغزة لم تتدخل أو تتحرك بشكل فاعل لفك هذا الحصار من جهتها على الأقل.
ولذلك نحن نقول إنّ هناك يقظةً في العالم العربي، والشعوب العربية تشجع المقاومة وتدعمها، سواء في فلسطين أو في غير فلسطين، وقد شعرت بالعنفوان عندما هزمت إسرائيل في عدوانها في حرب تموز/يوليو عام 2006م، إلا أن هذه الشعوب تتعرض لضغوطات عربية وأجنبية غربية تحاول تطويقها وتطويق المقاومة. فالعالم العربي يملك الكثير من حالات الوعي والطاقات القادرة على العمل من أجل مستقبل حر ومستقل، غير أن هناك الكثير من حالات التطويق لأي حركة في هذا الاتجاه.
المشروع الأمريكي في المنطقة
س: هناك فراغ استراتيجي في المنطقة، بعد تعثر المشروع الأميركي، ففي ظل موازين القوى الراهنة، من يملأ هذا الفراغ؟ خصوصاً أن هناك دولاً ثلاثاً تبرز، وهي إيران وتركيا وإسرائيل، فأين العرب من ملء جزء من هذا الفراغ؟
ج: أنا أدعو إلى الاستقلال في القرار العربي، لأنّ ما هو ملاحظٌ في اللعبة الدولية، وخصوصاً الأميركية، في إدارة شؤون العالم العربي، هو استراتيجية تحويل إسرائيل من عدو إلى صديق، حتى إن بعض الدول العربية تتحدث عن ضرورة إيجاد خطة تشارك فيها تركيا وإيران وإسرائيل والعالم العربي، وكأنّ إسرائيل أصبحت جزءاً من جسم العالم العربي. ونلاحظ أيضاً أن أميركا طرحت عنوان دول الاعتدال العربي، والخط الاستراتيجي لهذا العنوان، هو أن إيران هي العدو والخطر، وأن إسرائيل هي الصديق، وأن الخطر الإيراني يتمثل بمشروعها النووي الذي هو مشروع سلمي، بينما لا أحد يعتبر أن السلاح النووي الإسرائيلي الذي يصل مجموعه إلى ما يقارب المئتي رأس نووي، يشكل خطراً على العالم العربي، في حين نرى أن المصالح الإيرانية العربية، ولاسيما الخليجية، هي مصالح متداخلة، وليس من مصلحة إيران أن تعادي الدول العربية أو العكس.
وفي الواقع، أتصور أن العالم العربي عندما يأخذ بعناصر القوة في عملية القرار السياسي المستقل، وفي دراسة علاقاته بدول المنطقة، فإنّه يستطيع أن يحفظ مصالحه مع إيران التي تقع في قلب منطقة الخليج، فيما إسرائيل، مثلاً، ليست كذلك. ولا شك في أن لإيران مصالحها التي قد تختلف مع مصالح دول الخليج، وللأخيرة مصالح قد تختلف مع مصالح إيران، ولكن دول الخليج وإيران محكومة بإنشاء علاقات طبيعية فيما بينها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى العراق الذي علينا أن نقرّ بأنه تُرك لأميركا، فلم يُفتح فيه طيلة الفترة الماضية، وبعد احتلاله، أي سفارة عربية، إلا أخيراً، وبعد ضغط أميركي.
ولقد كان من الطبيعي لإيران التي اعتبرت أن أميركا أصبحت على حدودها، أن تتدخل في العراق، كأي دولة أخرى من الدول التي تسعى لبناء نفسها بناءً قوياً يمنع الآخرين من أن يضغطوا عليها أو أن يتدخلوا في أمورها، لأن أي ضعف في أي منطقة قد يُغري الآخرين بأن يستفيدوا منه لمصالحهم، فعلاقات الدول بعضها ببعض مبنية على أساس المصالح وليس على أساس القيم، سواء كانت دولاً إسلاميةً أو غير إسلامية.
هناك يقظة في العالم العربي والشعوب العربية تشجع المقاومة وتدعمها، وقد شعرت بالعنفوان عندما هزمت إسرائيل في عدوانها في حرب تموز2006م
س: في هذا السياق، أين الشيعة العرب؟
ج: الشيعة العرب، هم تماماً كما السنة العرب، وكما المسيحيون العرب، ولا أجد أن هناك مبرراً لإثارة مسألة الشيعة كجماعة لها خصوصية، أو كمخلوق عجائبي يتفرج الناس عليه، أو كمخلوق وحشي يخافون منه، فالشيعة هم فريق من العرب ومن العجم ومن مناطق أخرى، والشيعة كانوا فئة مضطهدة في العالم العربي، وما يزال كثير منهم يعيشون الاضطهاد ويعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية. ولا أعتقد أن الشيعة يفكرون في أن يحكموا العالم العربي، لأن ذلك ليس واقعياً، فهم أقلية في العالم العربي، وأقلية أكثر في العالم الإسلامي، وهم يعيشون في أوطانهم ولا يطلبون إلا مساواتهم بالآخرين.
س: بماذا توصيهم؟
ج: أنا قلت وأقول لكل الشيعة في البحرين وفي الكويت وفي السعودية: لا تطالبوا بحقوق الشيعة، ولكن قولوا: نحن أسرة كويتية أو أسرة بحرانية أو أسرة سعودية أو تركية أو عثمانية الخ...
نحن جزء من هذا العالم ومن هذا الوطن، ولذلك نحن نريد أن نكون متساوين مع بقية أبناء هذا الوطن، وليس لدينا مشروع خاص ضد وطننا، لأنه قد يتحول إلى مشروع ضدنا، ولا نريد أن تحكمنا دولة أخرى ما دامت الدولة التي تحكمنا دولة عادلة تساوي بين مواطنيها. ولقد قلت أكثر من مرة، إننا في لبنان لا نريد أن تحكمنا سوريا ولا إيران، وإننا نحتفظ بصداقتنا مع كل الدول على أساس المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل، وليس للشيعة مشروع خاص في العالم العربي والإسلامي، ولكن مشروعهم إنساني، فهم يدعون الآخرين إلى الحفاظ على إنسانيتهم ومواطنيتهم في أي وطن يعيشون فيه.
الشيعة لا يفكرون بأن يحكموا العالم العربي، فهم يعيشون في أوطانهم ولا يطلبون إلا مساواتهم بالآخرين
ولذلك، أنا لا أريد أن أتوجه إلى الشيعة بشيء آخر خاص، ولكنني أتوجه إلى المسلمين جميعاً، وأقول لهم أن يعيشوا إسلامهم الحضاري المنفتح على العالم كله، وقد أوصانا الله تعالى في القرآن الكريم بأن نكون أصدقاء العالم، قال تعالى: {
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصّلت:34]. فعلينا أن نعمل لنكون أصدقاء العالم، وأن نتّبع الأساليب التي تحوِّل أعداءنا إلى أصدقاء. كما نتوجه إلى العالم الإسلامي بأن يدافع عن نفسه، ويتحرر في قراراته، وأن يكون صديقاً لكل الشعوب، بقدر ما تنفتح تلك الشعوب على صداقته في عالم السياسة.
ا
لتبشير الديني
س: وماذا عن مسألة التبشير الديني، وهي مسألة تثار بين حين وآخر، ومؤخراً صدرت اعتراضات من مواقع دينية سنية على ما يجري من تشييع للسنة؟
أقول للمسلمين جميعاً أن يعيشوا إسلامهم الحضاري المنفتح على العالم كله
ج: نحن نعيش في عالمٍ يتحرك بحرية الفكر، فمن حق كل إنسان أن يقنع الآخرين بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال الله: {
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل:125]. فمن حق السني أن يقنع الشيعة بخطه، ومن حق الشيعي أن يقنع السنة بخطه، ونحن نرى أن المسيحيين يحاولون إقناع المسلمين بالمسيحية، وهكذا بالنسبة إلى التيارات العلمانية والقومية وغيرها. ولذلك أعتقد أن الحديث عن غزو شيعي للمجتمعات السنية هو حديث غير واقعي، وقد طلبت من الذي تحدث به، ونحن نحترمه كصديق، أن يقدم لنا إحصائيةً في هذا الموضوع، ونحن لا نجد لذلك أي أثر، لا في سوريا، ولا في مصر، ولا في أي مكان آخر.
ولقد كنا نأمل ألا يتحدث عالم مسلم عمّا سمّاه الغزو، ونحن نعرف أنه في لبنان، وفي مدينة صيدا بالخصوص، هناك عدد من الشيعة تحولوا إلى سنة، لأن بعض السنة أقنعوهم بذلك، وهذا لم يثر الشيعة، ولم يهددوا بالويل والثبور وعظائم الأمور في هذا الشأن، فنحن نعيش في عالم الحرية الكبرى؛ الحرية الثقافية والفكرية في كل القضايا. ولهذا فإنّني أعتقد أنّ مثل هذا الأسلوب سببه ضيق الأفق وقلة المعلومات، ونحن نشعر بأن المستهدف في العالم لا السنة ولا الشيعة، وإنما هو الإسلام، لأنّ الخطة الغربية هي إسقاط قوة الإسلام، سواء كانت سنيةً أو شيعيةً، ولذلك سمعنا الحديث عن خطر الإرهاب السياسي، ثم عن خطر الإرهاب السني.
ولذا علينا أن ننطلق لمعالجة خلافاتنا الإسلامية من قول الله تعالى: {
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59]. فما دمنا نؤمن بالكتاب والسنة، فعلينا أن نُرجع كل خلافاتنا إلى ما نفهمه من الكتاب والسنة فهماً اجتهادياً علمياً صحيحاً.
الحديث عن غزو شيعي هو حديث غير واقعي ولا أثر له
س: قلت، سماحتك، إننا في مرحلةٍ نتعرض لحرب نفسية وسياسية وفكرية وعسكرية من قِبَل الغرب، فهل ما زلنا في بداياتها؟
ج: نحن نعيش في وسطها، فأميركا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حاولت السيطرة على العالم كله، وهي تحاول أن تكون الإمبراطورية الكونية، حتى إن بعض دول الاتحاد الأوروبي أصبحت تعاني من ذلك، وخصوصاً بعدما تحدث بعض المسؤولين الأميركيين عن القارة العجوز. ولذلك تحركت أميركا بشكل فاعل بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001م، لتحقيق أهدافها، وقد عانت الكثير، وفشلت في أكثر من موقع، حيث بدأوا يتحدثون في أفغانستان وباكستان عن المصالحة مع طالبان، وفي العراق عن معاهدة أمنية يفرض فيها العراقيون شروطهم بما يحقق لهم السيادة والاستقلال، وأميركا تحاول الآن، وخصوصاً بعد سقوط الاقتصاد الأميركي، وظهور الفساد في مواقع كثيرة منه، وفي مواقع الإدارة الأميركية، تحاول أن تستعيد زمام المبادرة في سيطرتها على العالم.
س: هل تتخوف من حروب أميركية جديدة في المنطقة؟
ج: إذا نجح المرشح الجمهوري في الانتخابات المقبلة، فإن الإدارة الأمريكية قد تتحرك على أساس نظرية الحروب الاستباقية، باعتبار أنها سياسة الحزب الجمهوري وليست سياسة الرئيس بوش، ولكنني أعتقد أنه إذا تغيرت هذه الإدارة، فربما يتغير شيء كبير في قضية الحرب، خصوصاً بعد الفشل في الحروب التي تخوضها أميركا اليوم، والتي خاضتها من قبل.
إذا تغيّرت الإدارة الأمريكية فربما يتغير شيء كبير في قضية الحرب، وخصوصاً بعد الفشل في الحروب التي تخوضها أمريكا اليوم والتي خاضتها قبل
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 21 شوال 1429 هـ الموافق: 20/10/2008 م