المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله:
اتفاق الدوحة لتجميد الطائف، وهو هدنة والنار تحت الرماد
اتفاق الدوحة، قانون الانتخابات، الفتنة السنية ـ الشيعية في لبنان... عناوين تضمنتها الحقة الثانية من الحوار الشامل الذي أجرته مجلة ((الشراع)) مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، وهذا نصّ الحوار:
اتفاق الدوحة: تسوية أم حلّ؟
س: اتفاق الدوحة هو آخر صيغة تسووية بين اللبنانيين، إلى أي حد ترى أن مثل هذه الصيغة صالحة لتأمين العيش المشترك بينهم؟
ج: لقد تحدثت عن اتفاق الدوحة بالأسلوب الذي تحدثت به عن اتفاق الطائف، عندما قلت إن اتفاق الطائف ليس حلاً للمشكلة اللبنانية، إنما هو لإنهاء حالة الحرب، لأن هذا الاتفاق حصل بعدما بلغ الواقع الأمني في لبنان حافة الخطر، وهو ما كان سيؤدي، لو استمرّت الحرب الأهلية، إلى تقسيمه. وهكذا بالنسبة إلى اتفاق الدوحة، فطبيعة الأحداث التي حصلت قبل التوصل إليه كانت تتجه، من خلال بعض التدخلات الخارجية والتعقيدات الداخلية، إلى حرب أهلية، ولذلك كان هذا الاتفاق مشروعاً لإيقاف هذا الانهيار الأمني ومنع الحرب الأهلية، ولاسيما أن الوضع كان ينذر بفتنة طائفية في الدائرة الإسلامية، وقد استطاع هذا الاتفاق وقف ذلك.
اتفاق الدوحة كان من أجل إيقاف الانهيار الأمني ومنع الحرب الأهلية
وقد لاحظنا كيف تحرَّكت بعض المواقف العربية وغير العربية بطريقة ملتبسة تجاهه، بين الرفض والقبول. ولذا فقد كان هذا الاتفاق اتّفاقاً فوقياً، ولم يكن منطلقاً من القاعدة، وقد رأينا كيف بدأت الحرب الإعلامية بين الذين وقّعوا عليه بعد أن عادوا إلى لبنان، في محاولة من قِبَل كل فريق لتسجيل نقطة على الفريق الآخر، أو لإثارة نقطة سلبية على هذه الدولة العربية أو تلك، وخصوصاً فيما لاحظناه في الجدل حول قانون الانتخاب. ونحن نعرف أن اتفاق الطائف يؤكد أن قانون الانتخابات يخضع للتقسيمات على أساس المحافظة، ولكن الذين اتفقوا في الدوحة وضعوا ذلك خلف ظهورهم، وراحوا يتحدثون عن تقسيمات على أساس الأقضية، بشكل يخالف ما أقره اتفاق الطائف، في وقت نرى أن الجميع يدعون إلى التمسك والمحافظة على اتفاق الطائف الذي تحول إلى ميثاقٍ ونصوص في الدستور اللبناني.
ومن هنا أعتقد أن اللبنانيين الذين ما زالوا يتحدثون عن اتفاق الدوحة، خصوصاً بعد إقرار قانون الانتخابات على أساس القضاء، إنما يتحدثون بخلفية عدم الرجوع إلى المأزق، لأن إسقاط اتفاق الدوحة في غياب أي اتفاق آخر، وفي ظل الغموض الذي يتحرك فيه اتفاق الطائف، يعني أن اللبنانيين يتجهون نحو العودة إلى الوقوع في المأزق الذي قد تشاركهم فيه أكثر من دولة عربية، بعد أن استطاعت الفوضى اللبنانية أن تثير بعض الأوضاع السلبية في علاقات العرب بعضهم ببعض، أو في حركة بعض الدول العربية في لبنان، من خلال نجاح سياسة بعضٍ، وفشل سياسة بعضٍ آخر، ما جعل من الواقع اللبناني واقع التناقضات العربية بدلاً من أن يكون واقع الوحدة العربية.
س: الطائف جاء لإنهاء الحرب وإيجاد صيغة تعايش بالحد الأدنى، لكن ألا ترى أن اتفاق الدوحة الذي أوقف الذهاب إلى الحرب مجدداً، كرّس منطق لبنان الساحة للصراعات الخارجية، وكرّس الخلافات اللبنانية، ووضع لبنان من جديد أمام أخطار جديدة؟
ج: عندما ندرس اتفاق الدوحة، نرى أنّه كان ضرورةً لإيجاد حلٍّ فوقيّ للمسألة اللبنانية، باعتبار أن مسألة رئاسة الجمهورية كانت تتحرك في حالة من التجاذب بين اللبنانيين، بين الأكثرية والأقلية، ثم جاء الاتفاق على الرئيس بمثابة خروج من المأزق، لأن عدم الاتفاق على الرئيس الذي لا يمثل انتماء إلى هذا الفريق أو ذاك، كان سيجعل المسألة في حال جمود، فالأقلية ما كانت لتقبل برئيس ترشحه الأكثرية، والأكثرية ما كانت لتقبل برئيس ترشحه الأقلية، ولذلك كانت مسألة الاتفاق على الرئيس نوعاً من تطويق المشكلة.
اتفاق الدوحة هو أقرب إلى الهدنة منه إلى الحل
وهكذا كان الاتفاق على مسألة قانون الانتخاب، الذي لم ينطلق من دراسة موضوعيةٍ تتناول ما هي فعلاً مصلحة اللبنانيين التي يتوحدون عليها، بحيث تذوب الخطوط الطائفية بينهم، وينطلق الواقع في لبنان نحو الاندماج بين الطوائف، وبحيث ينتخب المسيحي المسلم وينتخب المسلم المسيحي. وقد أريد من ذلك القانون إرضاء بعض الفرقاء الذين كانوا يتحدثون عن أنه لا يمكن للمسيحي أن ينتخب المسلم، أو العكس، أي أنهم يتحدثون بلغة الطائفية أو المذهبية المغلقة، لأن هناك من يحاول أن يجمع طائفته حوله، أو يحاول أن ينطلق نحو الطائفية النقية على الطريقة الإسرائيلية التي تتحدث عن اليهودية النقية، إذ وجدنا أن هناك في لبنان من يتحدث عن المسيحية النقية التي لا علاقة للمسلمين بها في اختيار شخصياتها، ومن المؤسف أن من الشخصيات الذين تحدثوا في هذا المجال، هم ممن يمثلون موقعاً دينياً كبيراً.
ولذلك نرى أن اتفاق الدوحة كان اتفاقاً يراد منه تجميع المشاكل وتخفيف تأثيراتها لا حلها، والدليل على ذلك، هو أننا سمعنا كثيرين في مجلس النواب يتحدثون بسلبيةٍ عن قانون الانتخاب حتى وهم يقترعون لصالح إقراره، وهكذا بالنسبة إلى القضايا الأخرى التي يدور الحديث فيها عن عدم استعمال السلاح في الداخل اللبناني، مع أننا رأينا الكثير من استخدام السلاح بعد هذا الاتفاق، ومعنى ذلك، أن هذا الاتفاق هو أقرب إلى الهدنة منه إلى الحل.
الوضع اللبناني بين اتفاقي الطائف والدوحة
س: انطلاقاً مما ترونه، هل يمكن اعتبار اتفاق الدوحة الخطوة الرسمية الأولى باتجاه تعديل الطائف أو إسقاطه؟
ج: لا أتصور أنّ اتفاق الدوحة خطوة لإسقاط الطائف، ولكنه خطوة لتجميده، باعتبار أن اتفاق الدوحة حاول أن يعالج ما كان يمر به لبنان من أوضاع قلقة كانت تحصل، وكان المطلوب إيجاد نوعٍ من التوافق الفوقي يخوّل القائمين عليه أن يحفظوا ما يمكن أن يحفظوه في الواقع الميداني. فمثلاً، هناك كثيرون يتحدثون عن عدم وجود إرهاب في لبنان أو في هذه الطائفة أو تلك، ولكننا عندما ندرس الواقع، نجد أنه قد لا تكون هناك مشاكل فعلية ميدانية، ولكن هناك ناراً تحت الرماد جراء الحساسيات الكامنة في خلفيات الكثير من الشخصيات التي وقّعت على اتفاق الطائف.
فنلاحظ مثلاً أن السلاح ما يزال منتشراً بين أيدي اللبنانيين، ولا أقصد سلاح المقاومة، لأن سلاح المقاومة انطلق في مواجهة إسرائيل، وإذا كانت قد حدثت بعض الحالات الداخلية المتعلقة بهذا السلاح، فلا بد من دراسة أسبابها، ودراسة الظروف الموضوعية المتعلقة بإصدار القرارين المعروفين من قبل الحكومة دراسةً موضوعيةً ميدانيةً، لأنني أعتقد أننا في لبنان نتحرك في الصراع الطائفي على أساس تضخيم غير الضخم وتصغير الضخم، لأن المسائل لا تنطلق من دراسة الواقع، وإنما تنطلق من تسجيل النقاط بعضنا على بعض.
الطريقة التي أدارت فيها الحكومة مسألة القرارين ما كانت لتؤدي إلا إلى ما يشبه 7 أيار
س: ما نظرتكم لما حصل في 7 أيار؟
ج: أعتقد أن هناك خطأ بدأته الحكومة التي كان من المفترض بها أن تلحظ التعقيدات الموجودة والمعروفة فيما يخص المقاومة، وقد قيل إن رئيس الحكومة لم يكن موافقاً على القرارين اللذين صدرا، ولكن ضغوطاً مورست من قبل بعض الوزراء أدت إلى ذلك. ولكن الطريقة التي أُديرت بها المسألة ما كانت لتؤدي إلا إلى ما يشبه 7 أيار، وأعتقد أن حركة 7 أيار كانت تحتاج إلى دراسة أعمق، باعتبار طبيعة الموقع الذي حصلت فيه من جهة، وطبيعة الحساسيات اللبنانية من جهة ثانية.
س: بعد اتفاق الدوحة، هل ما زلت تخشى من فتنة سنية ـ شيعية؟
ج: أعتقد أن الأكثرية من اللبنانيين السنة والشيعة لا يختزنون في أنفسهم هذا النوع من التخطيط لفتنة، أو الاستجابة لأي فتنة حركية يمكن أن تؤدي إلى اقتتال، لأن اللبنانيين عاشوا مسألة الحرب الأهلية واكتووا بنارها، ولكن قد تحصل بعض الإشكالات التي تنطلق في إطار العمل الفردي أو الجماعي شبه الفردي بسبب الحساسيات التي قد تُثار بشكلٍ طارىء، أو من خلال مصالح بعض الزعامات التي قد تحتاج إلى إيقاد بعض النار لتتدفأ عليها في الانتخابات المقبلة.
ا
لإثارات المذهبية
س: وهل تكفي الإرادات السنية أو الشيعية لمنع الانزلاق إلى الفتنة؟
ج: أعتقد أن هناك سعياً لتحريك الفتنة السنية ـ الشيعية في العالم الإسلامي بشكل عام، وهناك دول وشخصيات دينية تحاول أن تثير عناصر هذه الفتنة، سواء من الجهات التكفيرية التي تعمل على تكفير بعض المسلمين، أو من الجهات التي تسيء إلى بعض مقدسات المسلمين الآخرين، ونحن نلاحظ حتى في المسألة السياسية، أن هناك بعض المواقع السياسية الإقليمية قد تعيش العقدة من بروز بعض الطوائف الإسلامية في موقع المسؤوليات في هذا البلد أو ذاك، بعدما كانت بعيدة عن ساحة المسؤولية، كما أننا نلاحظ وجود عقد عند بعض المواقع في الشارع الإسلامي من المقاومة، لأنها تعتبر أن المقاومة محسوبة على طائفة خاصة، ولا يريدون لهذه المقاومة أن تمتد في الحالة الشعبية العربية والإسلامية، كما حصل بعد الهزيمة الإسرائيلية أمام المقاومة في حرب تموز 2006 باعتراف الإسرائيليين أنفسهم.
هناك عقدة عند بعض المواقع في الشارع الإسلامي من المقاومة
ولا يريدون لها أن تمتد في الواقع الشيعي العربي والإسلامي
وهكذا نجد كيف أن بعض الشخصيات الدينية تحاول إثارة بعض المفردات التي تخلق الكثير من الحساسيات مما يثير الجدل هنا وهناك، وكيف يتم التركيز على السلبيات بدلاً من الإيجابيات، وأعتقد أن من أفضل التصريحات التي صدرت أخيراً، هو التصريح الذي أدلى به المفتي العام للديار السعودية، وقال إنّ علينا ألا نسجل الأخطاء على بعضنا البعض، لكن علينا أن نصحح الأخطاء، فإذا كانت هناك بعض الإيجابيات في مواقف بعض المسلمين الشيعة أو السنة، فإنّ علينا أن نستفيد منها، وإذا كانت هناك بعض السلبيات في الواقع الشعبي الذي يسيء إلى الصحابة، أو في الواقع الشعبي الذي يكفر أو يضلل طائفة معينة، فإنّ علينا أن ندخل معهم في حوار موضوعي عقلاني يستجيب لقوله تعالى: {
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء:59]، من أجل أن نصحح أخطاء بعضنا البعض.
ولذلك أنا أتصور أن مسألة السنة والشيعة هي من المسائل التي انطلقت من خلال التراكمات التاريخية التي كان يعيشها السنة والشيعة، وأدت إلى الانفصال بينهما، حتى أصبح للشيعة مساجدهم، وللسنة مساجدهم، مع أن النبي(ص) عندما أسس مسجده في أول يوم بعد الهجرة، أراد له أن يوحد المسلمين جميعاً، وأن يكون منطلقاً للتقدم والمعرفة والعلم. وهنا نشير إلى أن مصر كانت تجربة رائدة ومهمة جداً في التأسيس للوحدة بين المسلمين من خلال ((مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية))، والذي كان يشرف عليه أحد علماء الشيعة الشيخ محمد تقي القمي مع الشيخ محمود شلتوت والشيخ عبد المجيد سليم وغيرهما من علماء السنة الكبار، وكانت تصدر عن تلك الجمعية مجلة ((رسالة الإسلام))، التي استمرت بالصدور خمسة عشر عاماً، وكان الشيعة والسنة يكتبون فيها بطريقة علمية موضوعية.
لذلك، فإن التراكمات التاريخية بقيت واستمرت في الواقع الشعبي يغذيها بعض المتعصبين من علماء الدين هنا وهناك، ثم تداخلت الأمور الدينية مع الأمور السياسية التي انطلقت عندما تحركت الخطوط الدولية من أجل إيجاد الفتنة بين السنة والشيعة، على طريقة ((فرِّق تسد))، للاستيلاء على مقدرات المسلمين، وإشغال المسلمين بعضهم ببعض، لصرفهم عن مواجهة القوى الخارجية التي تريد أن تصادر الواقع الإسلامي كله في سياسته واقتصاده وأمنه. ومشكلة المسلمين الآن، هي أنهم يعيشون في الماضي ولا ينفتحون على الحاضر والمستقبل، والله تعالى يقول: {
تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} [البقرة:134].
وأتصور أن استمرار النـزاع حول قضية الإمامة والخلافة الذي مرت عليه قرون، لن يؤدي إلى نتيجة حاسمة، لأن آلاف الكتب قد أُلفت في هذا الموضوع، وما تزال الأكثرية هنا والأكثرية هناك على مواقفها بشأن هذا النـزاع، ولكن علينا أن نتحرك من أجل أن يتفق المسلمون سنةً وشيعة على معالجة القضايا الإسلامية، سواء قضايا الاحتلال، وفي مقدمها احتلال اليهود لفلسطين، ثم احتلال الأميركيين والبريطانيين للعراق وأفغانستان، أو قضية الفوضى وقتل المسلمين بعضهم بعضاً في أكثر من منطقة، أو قضايا الفقر والمرض التي تسيطر على كل الواقع الإسلامي.
وعلينا أيضاً أن نعمل على مواجهة الاستكبار العالمي الذي يريد أن يحشر المسلمين في زاوية مغلقة، بحيث لا يترك لهم الفرصة للدخول في قلب حركة العالم السياسية ليكون لهم دور ومشاركة في القرارات العالمية، تماماً كما هو حال دول أوروبا والاتحاد الروسي وأميركا، لأن المسلمين في قوتهم العددية يبلغون ما يقارب المليار والنصف، ويملكون من الثروات ما يتوقف عليه اقتصاد العالم، ما يجعلهم قوةً في العالم وفي قراراته، ولكن الضغوط التي تطبق عليهم من جهة، والخلافات والتمزقات الموجودة في داخلهم، والتخلف الذي يُبقي على الذهنية الخرافية من جهة أخرى، جعل المسلمين على هامش الواقع العالمي.
القرآن مصدر المعرفة عند المسلمين
س: هل البقاء في الماضي سببه ما تفضلتم به فقط؟ أليست أداة المعرفة التي يمتلكها المسلمون هي أيضاً تعيش في الماضي باعتمادها على النص الديني كمصدر وحيد للمعرفة، ما يلغي الجدل والحوار والانتقاد، فيستمر الواقع الإسلامي عاجزاً عن التطور والتفاعل؟
الاستكبار العالمي يريد حشر المسلمين في زاوية مغلقة كي يبقوا على هامش الواقع العالمي
ج: نحن عندما نقرأ القرآن، نجده كتاب الحوار المنفتح على العالم كله، فقد تحدّث عن أن الله حاور إبليس وحاور الملائكة، ثم تحدث عن الحوار مع المشركين ومع الملحدين، كما أن القرآن طرح مسألة الحوار مع أهل الكتاب ودعاهم إلى كلمة سواء، وأمر المسلمين بأن يجادلوهم بالتي هي أحسن، وأن يركزوا على ما يجمع لا على ما يفرق، قال تعالى: {
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} [آل عمران:64].
وعلى الرغم من أننا نختلف مع أهل الكتاب في مسألة التوحيد، إلا أن القرآن ركّز على الخط العام الذي يجمع بيننا وبينهم، قال تعالى: {
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أُنـزل إلينا وأُنـزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت:46]، كما ركّز أيضاً على المنهج الحواري الذي لا يقترب منه أي منهج آخر مهما تقدمت مناهج الحوار، قال تعالى: {
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو ضلال مبين} [سبأ:24]، أي إنني قد أكون على هدى أو على ضلال، وقد تكون أنت على هدى أو على ضلال، فليس هناك ذاتية في الحوار، بل هناك حقيقة ضائعة بيننا، وعلينا أن نترافق في رحلة البحث عنها.
لذلك، فإنّ القرآن فتح باب الحوار، حتى إن الله حين أراد من المسلمين أن يدعوا إلى دينهم قال: {
ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل:125]، وهذا توجيه للمسلمين بأن يختاروا الأسلوب الأحسن في جدالهم مع الآخرين، فلا نكتفي بالوقوف عند الحسن، بل نحاول اكتشاف الأحسن دائماً، وهذا مبدأ إسلامي تحدث عنه القرآن في مسألة الحوار حول القضايا الاجتماعية، على أساس: {
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصّلت:34]، وهذه دعوة إلى أنّ علينا أن نتبع الأسلوب الذي نستطيع من خلاله أن نحول الأعداء إلى أصدقاء، فالإسلام يدعونا إلى أن نكون أصدقاء العالم، ونحن نروي عن علي بن أبي طالب(ع) قوله: "أعجز الناس من عجز عن اكتساب الأخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم". لذلك نعتقد أن القرآن أراد لنا أن نعيش في الحاضر وفي المستقبل، لا أن نعيش في الماضي، ومن هنا قوله تعالى: {
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال:24]. فالإسلام هو دعوة للحياة.
القرآن فتح باب الحوار وأراد للمسلمين أن يختاروا الأسلوب الأحسن في جدالهم
س: إذاً، كيف تفسر هذا الكم من التخلف والجهل والديكتاتوريات ورفض الآخر ممّا يتخبط به العالم الإسلامي منذ قرون؟
ج: المشكلة هي أنّ الذين سيطروا على الواقع الإسلامي استغلوا نقاط الضعف الموجودة فيه، وقد حصلت في داخل المجتمعات الإسلامية محاولات للثورة على الحاكم الظالم، ولكن حالات الجهل والتخلف والإغراء والترهيب التي تسيطر على الواقع، فرضت استمرار هذا النوع من السيطرة، وهذا ما يعيشه الواقع الإسلامي الآن، فهل هناك ديموقراطية تمارس في البلاد الإسلامية؟ وهل من هم في مواقع القيادة جاؤوا بإجماع شعبي أو بأكثرية شعبية أم تم فرضهم، سواء كان ذلك فرضاً تاريخياً أو فرضاً سياسياً تتدخل فيه أجهزة المخابرات الدولية وقوانين الطوارىء؟ فالحاضر كالماضي في هذا المجال.
قانون الانتخابات
س: هناك أطراف شيعية تبنت قانون الانتخاب الذي أُقِرّ في الدوحة ووافقت عليه، ألا تعتقد أن هناك تغليباً لمصلحة تحالفات سياسية وانتخابية على حساب الرؤية الأعم والأشمل؟
ج: أعتقد أن الذين وافقوا على ذلك القانون، سواء من الأطراف الشيعية أو من الأطراف السنية أو المسيحية، وافقوا من باب ((ليس في الإمكان أفضل مما كان))، باعتبار أن اتفاق الدوحة أصبح كاتفاق الطائف، يحمل قداسة في الواقع السياسي اللبناني باعتبار أنه استطاع أن يصنع قاعدة للتهدئة، ولذلك قبل به أكثر السياسيين خشيةً من نتائج قد لا تكون في مصلحة أحد.
مشكلة النظام الطائفي في لبنان
س: بالنسبة إلى طبيعة لبنان الكيان، هل تعتقدون أن الجغرافيا السياسية للبنان، هي سبب كل ما يحصل من اهتزازات بين فترة وفترة؟
ج: المشكلة في لبنان هي في النظام الطائفي الذي أوحى إلى كل طائفة بأنها تمثل كياناً مستقلاً في إدارة شؤونها العامة والخاصة، بحيث إننا نسمع دائماً أنه عندما يتحدث لبناني في موقع معين عن أمور تخصّ لبنانيين في موقع آخر، فإنهم يعتبرون ذلك تدخلاً في شؤونهم الداخلية، وقد سمعنا في الخطابات التي كانت تعلق على ما جرى في 7 أيار، بغض النظر عن الصواب أو الخطأ، من يتحدث عن أنه لا يحق لأي فريق آخر التدخل في بيروت، لأن بيروت للسنّة، وقد يتحدث آخرون مثلاً عن أن جبيل أو كسروان للموارنة، وأن الجبل للدروز وأن الجنوب للشيعة وما إلى ذلك.
ببقاء الطائفية والمذهبية وبقاء رموزها لا يمكن للبنان أن يستقر أو أن يعيش الحرية والاستقلال
فالنظام الطائفي إذاً جعل كل طائفة تشعر بأن لديها ما يشبه الاستقلال الذي يمنع الآخرين من التدخل في خصوصياتها، ما أوجد مساحاتٍ لتدخل الدول الأخرى في الشؤون اللبنانية، لأن كل طائفة تحتاج إلى مركز قوة، ما يجعلها تستند إلى دولة معينةٍ في مواجهة الطوائف الأخرى. وهكذا وجدنا أن هناك من توجه إلى التقارب مع بريطانيا في الأربعينات، ثم جاءت أميركا بعد انحسار النفوذ البريطاني، وكان من المعروف أن بعض الطوائف تحسب على بريطانيا أو على فرنسا، والآن بعض الطوائف تحسب على فرنسا مع الأمركة التي تسيطر على فرنسا.
وهكذا نجد أيضاً فيما يخص العالم العربي، أن هذه الطائفة تحسب على هذا البلد العربي، وتلك على بلد آخر، تماماً كما كان حال المنظمات الفلسطينية قبل الحرب الأهلية وأثناءها، إذ كان لكل منظمة انتماؤها الخاص إلى دولة عربية، وكان لبنان حينها يمثل ساحة صراع بين الدول العربية. ولذا نحن نعتقد أن الحل في لبنان إنما هو في المواطنة، بمعنى أن يشعر اللبناني بأنه مواطن يلتقي باللبناني الآخر بالمواطنة التي تشمل كل لبنان، من دون أن يكون هناك فريق يختص بهذه المنطقة أو بتلك المنطقة، وإن كانت له بعض الخصوصيات الذاتية أو العائلية أو التاريخية، لكنها لا علاقة لها بالدولة، لأن الدولة هي التي تعطي كل لبناني حقوقه من خلال مواطنيته، وتفرض عليه تحمل مسؤولياته من خلال مواطنيته أيضاً. أما مع بقاء الطائفية والمذهبية وبقاء رموزهما فإنّه لا يمكن للبنان أن يستقر أبداً، ولا أن يعيش الحرية والاستقلال، فنحن نجد، مثلاً، أن الذين يختصرون لبنان هم عدة أشخاص من رموز الطوائف الإسلامية والمسيحية، فلبنان لا يتمثل بمواطنيه، إنما يختصر ببعض الرموز الطائفية من الذين كانوا وما يزالون يتحركون في خدمة بعض المحاور الإقليمية والدولية.
وهنا تحضرني كلمة للإمام علي(ع) في وصيته لمالك الأشتر يقول له فيها: ((إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً)). ونحن نعرف الآن، أن كثيرين ممن يعارضون سوريا أو يعارضون السعودية أو مصر... إلخ، كانوا يتحركون في خط وسياسة هذه الدولة أو تلك، وكانوا يحصلون على الغنائم منها، ويخضعون لها ويتصاغرون أمامها، وعندما انقلبت الأمور أصبحوا يعارضونها.
ولذلك أتصور أنه ما دام النظام الطائفي يفرض نفسه على لبنان، فإن الثغرات بين الطوائف ستبقى تفسح في المجال لكل استخبارات العالم لأن تدخل إلى لبنان وتعبث به، وإذا كان بعضهم يقول إننا نرفض أن يكون لبنان ساحةً، إلا أن عبارة ((لبنان ساحة)) هي حقيقة لبنان، وليس ((لبنان الدولة)).
س: عام 1990 مع حرب الخليج الأولى، أعطيت سوريا تفويضاً أميركياً لإدارة الوضع اللبناني، وفي العام 2004 مع صدور القرار 1559، نُزع منها هذا التفويض، ويقال اليوم إن حركة الصراع الدائر هدفها تفويض جديد يُعطى من الغرب، وخصوصاً من أميركا، لسوريا لإعادة إدارة الوضع في لبنان؟
ج: أنا لا أتصور أن المسألة بهذا المستوى من التبسيط السياسي، لأن الغرب، ولاسيما أميركا، تريد أن تمسك بلبنان بشكل مباشر، وهي قد تستفيد من بعض الأوضاع الأمنية والسياسية لصالح مشاريعها في المنطقة، وهذا ما لاحظناه في تصريح الوزيرة كونداليزا رايس، عندما قالت إن لبنان أفضل ساحة لمشروع الشرق الأوسط الكبير، وكذلك عندما تحدث الرئيس جورج بوش عن علاقة لبنان بالأمن القومي الأميركي. والظاهر أن أميركا تريد الآن في حركتها في المنطقة، سواء في لبنان أو في العراق أو أفغانستان، تريد أن تمسك هذه البلدان بشكل مباشر، وهذا ما قرأناه في تصريحات الضابط الأميركي، من أصل لبناني، جون أبو زيد، عندما قال: إننا دخلنا العراق للسيطرة على نفطه.
المرحلة ليست مرحلة توكيل أي بلد عربي أو غير عربي في الشؤون اللبنانية، بل هي مرحلة التسلط الأمريكي المباشر
فأميركا إذاً تريد أن تمسك بنفط العراق وبنفط إيران وبمنابع النفط في العالم كله، ولعل لعنة السودان هي أنه أصبح بلداً بترولياً. ومن هنا أرى أن المرحلة ليست مرحلة توكيل أي بلد عربي أو غير عربي في الشؤون اللبنانية، بل إن المرحلة هي مرحلة التسلط الأمريكي المباشر، حتى إننا عندما ندرس حركة الأنظمة العربية التي تتحرك في خط السياسة الاميركية، نجد أنّها لم تحصل على تفويضٍ مطلق في لبنان، بل إنها تتحرك في نطاق محدود جداً.
حوار زين حمود ـ أحمد الموسوي
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 28 شوال 1429 هـ الموافق: 27/10/2008 م