أنا لا أجامل أحداً في الوحدة وأطلب الحقيقة في كل خطوط الإسلام
المرجع فضل الله لصحيفة (الحياة التركية): مشكلة تركيا في العلمانية المتعصّبة
عن تركيا العثمانية والعلمانية، وعن موقف الشيعة من الاحتلال وبعض معتقداتهم وعلاقتهم بالسنّة، تحدّث سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، لصحيفة الحياة التركية، وهذا نصّ الحوار:
تركيا بين الإسلام والعلمانية
س: ما هي نظرتكم إلى تركيا قديماً وحديثاً؟
ج: تركيا هي دولة إسلامية، لأن تاريخها هو تاريخ الحركة الإسلامية التي قد يدور الجدل حولها من خلال الجدل الذي حدث سابقاً ولاحقاً بالنسبة إلى الخلافة العثمانية، سواء ما يتصل بالخلفاء، أو ما يتصل بطريقة الحكم، ونحن نعتقد أن الكثير مما أثير من أمور سلبية ضد الخلافة العثمانية لم يكن حقيقياً، بل كان الغرب يخطِّط له من أجل إسقاط الخلافة العثمانية، لأنه يريد إسقاط الإسلام في المنطقة، ويريد أن يكون هو البديل عن الحكم الإسلامي، فيملأ هو الفراغ السياسي، كما حدث بعد سقوط الخلافة.
ونحن نعرف أن الشعب التركي لا يزال ملتزماً بالإسلام، سواء كان ذلك من خلال الالتزام بالعبادات والأخلاقيات الإسلامية وما إلى ذلك، أو من خلال الالتزام الإسلامي بالمعنى الحركي والفكري، الذي يفكر في إرجاع الإسلام إلى الحكم، وهذا يتمثل بالحركة الإسلامية التي كان يمثّلها السيد أربكان.
كما أننا نعرف أنه عندما سقطت الحكومة العثمانية، جاء أتاتورك وفرض العلمانية على تركيا، ولكنها علمانية شرقية وليست علمانية غربية، لأن العلمانية الغربية ليست متعصبة، فهي لا تريد للدين أن يدخل في القانون أو في السياسة، لكنها ليست ضد السلوك الديني والالتزام الديني، وليست ضد الحجاب بالنسبة إلى المرأة المسلمة. وهذا ما نراه في أمريكا وفي أكثر أوروبا، لكن هناك بعض مواقع أوروبا كفرنسا التي منعت الحجاب في المدارس، ذلك لأنها لا تزال تعيش امتداد الكاثوليكية حتى وهي تتحدث عن العلمانية.
لذلك، نحن نعتقد أن العلمانية في تركيا هي علمانية متعصّبة، لأنها لا تترك للشعب التركي أن يفكر بحرية في مناقشة العلمانية في كل موادها وأفكارها. وفي الوقت الذي ينتقدون الدِّين بأنه يقدّس رموزه، نراهم يقدسون أتاتورك إلى مستوى العبادة، بحيث إن العلمانيين في تركيا يعبدون أتاتورك كما يعبد المؤمنون الله، فهم يرون فيه الشخص المعصوم الذي لا يخطىء، ولا يجوز لأي فرد من الشعب التركي، وحتى المثقفين، أن يناقش مجرد مناقشة أي فكرة من أفكار أتاتورك.
مشكلة تركيا اليوم هي في هذه العلمانية المتعصبة المقدّسة التي تختلف عن كل العلمانية الغربية في العالم، إضافةً إلى دور الجيش الذي يدعم ويقوّي ويحرس هذه العلمانية، حتى على حساب الديمقراطية، وهذا ما دفع الجيش للقيام بأكثر من انقلاب عسكري في تاريخه، خوفاً من أن تأخذ تركيا بالديمقراطية الغربية، والتي يمكن أن تشكّل خطراً على العلمانية.
س: لقد تحدّثتم عن الجيش، واليوم تعيش تركيا حالاً من التوتّر والخلاف بين حكومة أردوغان وحزب العدالة، كيف تقدّرون ذلك؟
ج: نحن نعتقد أن الجيش يمثّل القوة العسكرية التي تشبه ما هو موجود في كل دول العالم الثالث، التي يسيطر فيها الجيش على مقدّرات الأمور، بحيث يلغي الديمقراطية ويتدخل في القضايا السياسية، وهذا ما لاحظناه في الجزائر، حيث يعرف الجميع أن الجيش هو الذي يتدخل في كل شؤون الجزائر لحساب فرنسا التي يرتبط بها بعض ضباط الجيش، أو لحساب أمريكا التي يرتبط بها بعض الضباط الآخرين.
وهكذا نرى أن تركيا التي يقال عنها إنها دولة ديمقراطية، تحوّلت إلى دولة من دول العالم الثالث الذي يضغط فيه الحاكمون على شعوبهم، ولا يتركون لهم الحرية في تغيير أنظمتهم أو أفكارهم. فمثلاً عندما تكون هناك انتخابات نيابية في تركيا، نرى الجيش يضغط على هذه الديمقراطية عندما تقترب من العلمانية في مناقشة بعض أفكارها. وهكذا لاحظنا كيف أن الجيش يضغط على الشعب التركي من خلال مسألة الحجاب، فهو يمنع المحجبات من الدخول إلى الجامعات ومن العمل في المؤسسات والدوائر الحكومية، ما يمثل نوعاً من أنواع الاضطهاد العنصري للشعب التركي، وليس كما يتصوّر البعض، بأنّ المسألة هدفها الضغط على حزب العدالة والتنمية، لأنه ليس كل الشعب التركي، وليست كل المحجبات، منتمين إلى هذا الحزب، ولكن المشكلة أن الجيش يشعر بالضعف أمام هذا المدّ الإسلامي في العالم، وخصوصاً في تركيا، وهذا ما تمثّل في ما حصل عليه حزب العدالة والتنمية في تصويت أكثر الشعب التركي له، بحيث أصبح أكثريةً في المجلس النيابي.
تركيا اليوم تمثّل العلمانية المتعصّبة التي تختلف عن كل العلمانية الغربية في العالم
لهذا، فإن الجيش وكل العلمانيين، يشعرون بالضعف أمام أي مظهر إسلامي، حتى في قطعة القماش التي تلبسها المرأة المسلمة، وأنا أعتقد أن الجيش لا مانع عنده من الناحية الفكرية العلمانية أن تخرج المرأة عارية تماماً، كما هو الواقع في الدول الأوروبية، لأنه لا يرى في ذلك خطراً على العلمانية، في الوقت الذي يخاف من الحجاب الذي تلبسه المرأة المسلمة.
س: كيف وجدتم حكومة أردوغان؟
ج: منذ أن تولّى السيد أردوغان الحكم، وأنا أرى أنه قد أتى بشيء جديد، من خلال الحكم الذي يديره أشخاص يؤمنون بالإسلام، وإن لم يعطوا حركتهم اسم الإسلام، فقد كان إنساناً واقعياً، درس الظروف السياسية الموضوعية في تركيا من جهة، والظروف السياسية بالنسبة إلى الواقع الدولي والإسلامي من جهة أخرى. لهذا فهو لم يقم بثورة، بمعنى أنه لم يقطع علاقات بلاده مع إسرائيل، لكنه وقف مع القضية الفلسطينية بكل قوة، واستقبل ممثل حماس الذي لم ترد أمريكا وإسرائيل له أن يستقبله.
أردوغان كان إنساناً واقعياً في دراسته للظروف السياسية الموضوعية في تركيا، وعلى مستوى علاقتها بالواقع الدولي
وكذلك قام بخطة اقتصادية استطاعت أن ترفع مستوى الاقتصاد بكل واقعية وحكمة، وعمل على أساس أن تدخل تركيا في الاتحاد الأوروبي. أنا أعتقد أنه لم يمرّ على تركيا حاكم مثله استطاع أن يكون واقعياً في رفع مستوى الاقتصاد، وفي تحريك السياسة في الخط الواقعي العملي دون أن يثير أية مشكلة في الوسط الشعبي، أو أيّ صراع بينه وبين الأحزاب الأخرى. لهذا أعتقد أن تركيا والأحزاب المعارضة قد خسرت في امتناعها عن التصويت للسيد "غول" لرئاسة الجمهورية، لأنه لو استطاع أن يصل إلى رئاسة الجمهورية، لعمل على أساس أن تكون تركيا أفضل مما هي عليه الآن.
س: أيضاً، يمكن أن نقول إن السيد أردوغان ناجح في إدارته للحكم؟
ج: نحن نعتقد أن الرجل عندما كان وزيراً للداخلية، استطاع، من خلال الأسلوب الذي عمل به، أن يحقِّق للأتراك الكثير في مسألة الأمن، وحتى في سياسته مع الأكراد، كان يحاول أن يحلّ المشكلة الكردية في تركيا بطريقة واقعية، ولكن الجيش الذي لم يستطع أن يحلّ المشكلة الكردية في تركيا بطريقة واقعية، وهي مشكلة قد تتعاظم في المستقبل، وخصوصاً بعدما تأسست كردستان العراقية التي ربما تتحوّل إلى دولة، سوف يعاني الكثير من المشكلة الكردية في المستقبل، كما عانى منها في الماضي. وأعتقد أن سياسة حزب العدالة والتنمية بالنسبة إلى المسألة الكردية، لو أعطيت لها الفرصة، لاستطاعت أن تحل هذه المشكلة حلاً واقعياً.
إسلاميّ الحركة
س: هناك الكثير من الوسائل الإعلامية تعرّف عنكم بأنكم الزعيم الروحي لحزب الله، كيف تصف لنا طبيعة العلاقة بينكم وبين حزب الله؟
ج: أنا لم أدخل في أية مؤسسة حزبية تنظيمية، لكن حزب الله في لبنان هو كحزب الدعوة في العراق، كان كل جمهوره يستفيد من محاضراتي وأفكاري وكتبي، وكانوا يلتقون بي ويسألونني عن كثير من القضايا الإسلامية على المستوى الثقافي والسياسي، وحتى على المستوى العسكري، لأنني كنت إسلامياً منذ أن انطلقت في الخميسنيات، وأنا لا أزال أتحرك مع كل حركة إسلامية. لهذا، فإنني أعطيت الجمهور المسلم في لبنان هذا الاتجاه الإسلامي الحركي الذي يعتقد أن الإسلام هو قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة. وهكذا أعطيت الجمهور الإسلامي العراقي في حزب الدعوة الكثير من هذا، فقد كانوا حتى في زمن الطاغية يقرأون كتبي ويستفيدون منها، لأنني كنت في الخميسنيات زميلاً للشهيد السيد محمد باقر الصدر، وكنا نتحرّك معاً في هذا المجال. كما كنت، ولا أزال، ضد السياسة الأمريكية في العالم، لأنني أرى أن أمريكا تمثّل المشكلة لكل شعوب العالم، كما أنني ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وهكذا فإنني أقف بكل قوة ضد احتلال أمريكا للعراق ولأفغانستان، وضد تدخلها في لبنان وسوريا وفي إيران، وضدّ حركتها في إثارة الفتنة في السودان والصومال.
كنت إسلامياً منذ أن انطلقت ولا أزال مع كل حركة إسلامية
حرب في لبنان
س: هل يمكن أن يؤدي التوتر بين الحكومة اللبنانية (الحالية) والمعارضة إلى حرب أهلية؟
ج: لا، لأن المشكلة الأساس في الأزمة اللبنانية بين المعارضة وفريق السلطة هي مشكلة أمريكية، فأمريكا لا تريد لهذه الأزمة أن تجد طريقها إلى الحلّ في هذا المقام، لأنها تريد للبنان أن يكون قاعدةً لسياستها في المنطقة ولمشروعها "الشرق الأوسط الكبير"، وخصوصاً أن لأمريكا فريقاً سياسياً لبنانياً يتمثّل في فريق الحكومة. ولكننا نعتقد أن هناك ضوابط في لبنان من خلال الشعب اللبناني والقيادات اللبنانية، وحتى من خلال ما هو مصلحة لأمريكا، أن لا تكون هناك حرب أهلية في لبنان.
إيران وأمريكا: التهديدات المتبادلة
س: هناك أقوال للرئيس الإيراني "أحمدي نجاد" تتضمّن تهديدات لأمريكا وإسرائيل، هل هذه التهديدات تصبّ في مصلحة الجمهورية الإسلامية؟
ج: أعتقد أنه عندما يقصد بالتهديد، التهديد بالقوة وبالعسكر، فمن المعروف أن إيران لا تملك القوة التي تستطيع أن تهدد بها أمريكا وإسرائيل عسكرياً، لكن إيران تملك القوة التي تستطيع أن تدافع بها عن نفسها عندما تحاول أمريكا وإسرائيل القيام بأي عدوان أو هجوم عليها.
ولذلك، فإنّ بعض المسؤولين الأمريكيين، مثل ديك تشيني وغيره، الذين تحدّثوا عن إمكانية الحرب ضد إيران، وبأن جدولة هذه الحرب موجودة على أجندة الرئيس الأمريكي، أصبحوا يصرّحون بأنهم لا يريدون الهجوم على إيران، وخصوصاً أن الدول العربية في المنطقة حذّرت أمريكا بأن أي هجوم عسكري على إيران سوف يحرق المنطقة كلها، وسوف يحرق كل بترول الخليج ويربك الواقع في العالم كله.
أي هجوم عسكري على إيران سوف يحرق المنطقة كلها ويحرق بترول الخليج
س: الآن إيران أصبحت دولةً تنفذ إلى الأمة العربية من خلال سياستها في العراق، ما رأيكم في هذا؟
ج: لإيران دور كبير في العراق، كأية دولة مجاورة لدولة أخرى، لأن شؤون العراق تمثّل مسألة حيوية بالنسبة إلى الأمن الإيراني، وكذلك لها تأثيرها على الاستقرار في إيران، ونحن نعرف أن احتلال العراق من قِبَل القوات الأمريكية، جعل هذه القوات على حدود إيران، كما جعلها على حدود سوريا، وحدود الخليج، وحدود تركيا.
لذلك، فإن الدول المجاورة للعراق، حتى الدول التي لها علاقات مع أمريكا، مثل تركيا ودول الخليج، أصبحت تخاف من هذه الفوضى الأمنية الموجودة في العراق، والتي تديرها أمريكا، وتتحرك بها القاعدة من خلال الاتجاه التكفيري الذي يستحلّ دماء المسلمين.
أنا أتصور أن أمريكا التي فشلت في الحوار مع إيران، ولم تنجح في إيجاد حالة حوار في مؤتمر "شرم الشيخ"، اضطرت أن تطلب من إيران رسمياً أن تدخل معها في حوار حول مسألة العراق، ومن الطبيعي أن إيران وافقت على ذلك لكن بشروطها الخاصة، لأنها تريد أن يكون هناك استقرار في العراق، وأن يكون لها دور في هذه المسألة مما تعترف به أمريكا.
المقاومة الشيعية في العراق
س: في لقاء حواري معكم، تحدثتم عن بعض الشباب الشيعة الذين يقاومون قوات الاحتلال في العراق، هؤلاء الشباب إلى مَن ينتمون؟ ومن يمثلون؟
ج: هؤلاء الشباب لا يمثّلون حزباً معيناً، بل هم شباب وطني إسلامي يرفضون الاحتلال والسياسة الأمريكية، وهم أيضاً يرفضون الاعتداء على المدنيين، حتى إنهم لا يقومون بأيِّ عمل عسكري ضد قوات الاحتلال إذا كان بينهم مدنيّون، والمعروف أن الكثير من الطائرات الأمريكية التي سقطت، سقطت بفعل هؤلاء الشباب.
س: هل يمكن لنا أن نقول إن السلطة السياسية الشيعية في العراق أخطأت لأنها لم تشارك الشعب العراقي في المقاومة؟
ج: لم تكن هناك ظروف واقعية حقيقية لأن يدخل هؤلاء الشباب في مواجهة مع الأمريكان، لأن نظام صدام حسين استطاع أن يضغط على الشباب الشيعة بشكل جمّد كل حركتهم، وأسقط كل قوتهم، وجعلهم يهاجرون من العراق إلى الخارج، وذلك لأنّ سياسة صدام حسين كانت سياسة أمريكية بامتياز، حيث عملت الإدارة الأمريكية على استخدامه لتنفيذ سياستها في المنطقة، فهي التي طلبت منه أن يحارب إيران، وأن يحتل الكويت، وهي التي طلبت منه أيضاً أن يقصف المناطق الكردية بالكيميائي، وأن يضرب المعارضة الشيعية، وخصوصاً العلماء الكبار منهم، كما أنها أرادت له أن يربك سياسة العالم العربي في هذا المجال. ولكن صدام انتهت وظيفته عند أمريكا، وجاءت أمريكا لتخدع الشعب العراقي، وخصوصاً الشيعة، وقالت لهم: "نحن نريد أن نحرّركم من صدام"، والواقع أن السياسة الأمريكية احتلت العراق لا لتحرر الشيعة، ولكن لخدمة مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، كما صرّح بذلك مسؤولوها عند احتلالهم للعراق.
فالمسألة هي مسألة خديعةٍ للشيعة في هذا المجال، وليست أن الشيعة مع الاحتلال، لأن الشيعة بشكلٍ عام هم مسلمون يرفضون مبدأ الاحتلال، أيَّ احتلال كان، وهذا ما لاحظناه في "ثورة العشرين" عندما حارب الشيعة الاستعمار البريطاني لصالح الحكومة العثمانية في ذلك الوقت، وهي حكومة سنية وليست شيعية. لذلك، أنا لا أوافق على القول بأن الشيعة مع الاحتلال، لكن المحتل خدعهم واستغلّ الأوضاع السلبية بالنسبة إليهم.
الشيعة مسلمون يرفضون مبدأ الاحتلال أيٍ كان، وهذا ما لاحظناه في ثورة العشرين
س: سماحة السيد، لو فرض أنكم كنتم في العراق، وأدخلت أمريكا قواتها إليه، ماذا كنتم تفعلون؟ هل كنتم تدعون الشعب إلى المقاومة؟
ج: لقد أصدرت فتوى قبل أن تحتل أمريكا العراق، وهذه الفتوى تقول: "لا يجوز من الناحية الشرعية مساعدة أمريكا في الضغط على الشعب العراقي".
الولاية التكوينية
س: الشيعة في كتبهم المعتبرة، يؤكّدون مسألة الولاية التكوينية عند الأئمة المعصومين الإثني عشر، ما رأيكم في ذلك؟
ج: أنا لا أقول بالولاية التكوينية لأيٍّ من الأنبياء أو الأئمة(ع)، بمعنى أن بيدهم أصول تدبير الكون، لأنّ دور الأنبياء والأئمة هو دور إسلامي إصلاحي ثقافي يهدي الناس إلى الله سبحانه وتعالى، {
يا أيّها النبيّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشِّراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} (الأحزاب:45-46). حتى إننا نقول إن النبي(ص) لا يعرف الغيب، لأن الله سبحانه وتعالى يقول عن النبي: {
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} (الأنعام:50)، {
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء إن أنا إلا نذيرٌ وبشير لقوم يؤمنون} (الأعراف:188).
نحن نعتقد أن الأئمة والأنبياء معصومون، بمعنى أن الله جعلهم هداةً للناس ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، فلا بدّ لهم من أن يستقيموا على الخط الذي يريدون أن يرشدوا الناس إليه، فلا يكون عندهم خطأ في الفكر ولا في العمل، لأنّ من كان دورهم أن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، لا ينبغي أن يكون عندهم ظلمة لا في عقولهم ولا في فكرهم. أما مسألة أن الأنبياء والأئمة يملكون التصرّف في شؤون الكون، فهذا أمرٌ لا نؤمن به.
دور الأنبياء هو دور إسلامي إصلاحي ثقافي ليخرج الناس من الظلمات إلى النور
س: بعض الشيعة يعتبرون أن أقوال الولي الفقيه حجّة ولا يمكن مناقشتها؟
ج: نحن نقول إن الولي الفقيه هو عالم ديني يخطىء ويصيب في اجتهاده كبقية المجتهدين، فلا عصمة لأحد من العلماء، سواء كانوا من مراجع التقليد أو ممن يفرضون أنفسهم في ولاية الفقيه، ونقول إنّ علينا أن نناقش كل عالِم في فكره، سواء كان فكراً في العقيدة، أو في الشريعة أو في السياسة أو في الحياة.
ونحن نروي عن الإمام علي بن أبي طالب(ع) قوله: "فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة (المجاملة) ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنّ مَن استثقل الحقّ أن يُقال له، أو العدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالةٍ بحقّ، أو مشورةٍ بعدل".
س: هناك مشاكل بين العلمانيين والإسلاميين في تركيا. في نظركم، كيف تنتج هذه المشاكل وتتفاقم؟
ج: أنا أعتقد أنّ الطريقة التي يدير بها الجيش شؤون تركيا، والتي يدير بها العلمانيون هذه الضغوط ضد المسلمين، سواء كانوا من الذين ينتمون إلى حزب إسلامي أو لا ينتمون، ستؤدي إلى نتائج سلبية على الواقع التركي، لأن الجيل الجديد لا يمكن أن يخضع للحصار الثقافي والحصار السياسي والفكري، وهذا ما لاحظناه في الأصوات الغالبة التي صوّتت لحزب العدالة والتنمية، أما المظاهرات التي خرجت في تركيا من قِبَل العلمانيين، والتي لم يتجاوز عددها سبعة ملايين شخص، فإنّ هؤلاء لا يمثلون الأكثرية بالنسبة إلى الشعب التركي الذي يبلغ عدده سبعين مليون. ونحن نعتقد أن الانتخابات القادمة، سواء كانت نيابية أو رئاسية، إذا لم يلغ رئيس الجمهورية قانون انتخابات الرئيس من الشعب، ستؤكد أنّ العلمانيين ليسوا هم القوة الكبرى في تركيا.
س: الشيخ منتظري كان من المقرّبين من الإمام الخميني(رض)، وهو الآن محبوس في بيته من قِبَل الحكم، ما هي شرعية هذا الحكم؟
ج: نحن نعتقد أن الشيخ منتظري هو من أكابر العلماء الذين نظّروا للثورة الإسلامية في إيران، وجاهدوا فيها وساروا إلى جانب الإمام الخميني جنباً إلى جنب، ولكن التعقيدات السياسية التي أحاطت بإيران قبل وفاة الإمام الخميني وبعدها، أدّت إلى هذا الواقع الذي لا نرى فيه أية مصلحة لإيران.
س: سمعنا أنكم تؤلّفون تفسيراً جديداً للقرآن؟
ج: لقد ألّفت قبل خمسة عشر عاماً تفسيراً عنوانه "من وحي القرآن"، وقد طبع مرتين، وهو تفسير معاصر يتحدث بلغة العصر وأفكار العصر، ونحن الآن نعيد النظر فيه في الطبعة الثالثة، كما طبعت بعض أجزائه باللغة التركية.
أنا إسلاميّ حرّ التفكير وأطلب الحقيقة في كل خطوط الإسلام
س: ما سبب تقرّب السنّة من أفكاركم؟
ج: أنا أدعو إلى الوحدة الإسلامية منذ أكثر من خمسين سنة، كما أنني أفتي بحرمة سبّ أيّ من الصحابة أو الإساءة إليهم، حتى لو اختلفنا معهم، لأن الإمام علياً(ع) رفض ذلك، وأيضاً أفتي بأنه يحرم الإساءة إلى أمهات المؤمنين. كما أنني أناقش بعض القضايا التاريخية.
أنا إنسان إسلامي حرّ التفكير في مناقشة التاريخ الإسلامي، أنا لا أجامل أحداً في الوحدة، ولكني أطلب الحقيقة في كل خطوط الإسلام، سواء كانت في الدائرة السنية أو الشيعية.
مقابلة مع صحيفة "الحياة التركية"، 25-5-2007م
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 09 جمادى الأول 1428 هـ الموافق: 25/05/2007 م
أنا لا أجامل أحداً في الوحدة وأطلب الحقيقة في كل خطوط الإسلام
المرجع فضل الله لصحيفة (الحياة التركية): مشكلة تركيا في العلمانية المتعصّبة
عن تركيا العثمانية والعلمانية، وعن موقف الشيعة من الاحتلال وبعض معتقداتهم وعلاقتهم بالسنّة، تحدّث سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، لصحيفة الحياة التركية، وهذا نصّ الحوار:
تركيا بين الإسلام والعلمانية
س: ما هي نظرتكم إلى تركيا قديماً وحديثاً؟
ج: تركيا هي دولة إسلامية، لأن تاريخها هو تاريخ الحركة الإسلامية التي قد يدور الجدل حولها من خلال الجدل الذي حدث سابقاً ولاحقاً بالنسبة إلى الخلافة العثمانية، سواء ما يتصل بالخلفاء، أو ما يتصل بطريقة الحكم، ونحن نعتقد أن الكثير مما أثير من أمور سلبية ضد الخلافة العثمانية لم يكن حقيقياً، بل كان الغرب يخطِّط له من أجل إسقاط الخلافة العثمانية، لأنه يريد إسقاط الإسلام في المنطقة، ويريد أن يكون هو البديل عن الحكم الإسلامي، فيملأ هو الفراغ السياسي، كما حدث بعد سقوط الخلافة.
ونحن نعرف أن الشعب التركي لا يزال ملتزماً بالإسلام، سواء كان ذلك من خلال الالتزام بالعبادات والأخلاقيات الإسلامية وما إلى ذلك، أو من خلال الالتزام الإسلامي بالمعنى الحركي والفكري، الذي يفكر في إرجاع الإسلام إلى الحكم، وهذا يتمثل بالحركة الإسلامية التي كان يمثّلها السيد أربكان.
كما أننا نعرف أنه عندما سقطت الحكومة العثمانية، جاء أتاتورك وفرض العلمانية على تركيا، ولكنها علمانية شرقية وليست علمانية غربية، لأن العلمانية الغربية ليست متعصبة، فهي لا تريد للدين أن يدخل في القانون أو في السياسة، لكنها ليست ضد السلوك الديني والالتزام الديني، وليست ضد الحجاب بالنسبة إلى المرأة المسلمة. وهذا ما نراه في أمريكا وفي أكثر أوروبا، لكن هناك بعض مواقع أوروبا كفرنسا التي منعت الحجاب في المدارس، ذلك لأنها لا تزال تعيش امتداد الكاثوليكية حتى وهي تتحدث عن العلمانية.
لذلك، نحن نعتقد أن العلمانية في تركيا هي علمانية متعصّبة، لأنها لا تترك للشعب التركي أن يفكر بحرية في مناقشة العلمانية في كل موادها وأفكارها. وفي الوقت الذي ينتقدون الدِّين بأنه يقدّس رموزه، نراهم يقدسون أتاتورك إلى مستوى العبادة، بحيث إن العلمانيين في تركيا يعبدون أتاتورك كما يعبد المؤمنون الله، فهم يرون فيه الشخص المعصوم الذي لا يخطىء، ولا يجوز لأي فرد من الشعب التركي، وحتى المثقفين، أن يناقش مجرد مناقشة أي فكرة من أفكار أتاتورك.
مشكلة تركيا اليوم هي في هذه العلمانية المتعصبة المقدّسة التي تختلف عن كل العلمانية الغربية في العالم، إضافةً إلى دور الجيش الذي يدعم ويقوّي ويحرس هذه العلمانية، حتى على حساب الديمقراطية، وهذا ما دفع الجيش للقيام بأكثر من انقلاب عسكري في تاريخه، خوفاً من أن تأخذ تركيا بالديمقراطية الغربية، والتي يمكن أن تشكّل خطراً على العلمانية.
س: لقد تحدّثتم عن الجيش، واليوم تعيش تركيا حالاً من التوتّر والخلاف بين حكومة أردوغان وحزب العدالة، كيف تقدّرون ذلك؟
ج: نحن نعتقد أن الجيش يمثّل القوة العسكرية التي تشبه ما هو موجود في كل دول العالم الثالث، التي يسيطر فيها الجيش على مقدّرات الأمور، بحيث يلغي الديمقراطية ويتدخل في القضايا السياسية، وهذا ما لاحظناه في الجزائر، حيث يعرف الجميع أن الجيش هو الذي يتدخل في كل شؤون الجزائر لحساب فرنسا التي يرتبط بها بعض ضباط الجيش، أو لحساب أمريكا التي يرتبط بها بعض الضباط الآخرين.
وهكذا نرى أن تركيا التي يقال عنها إنها دولة ديمقراطية، تحوّلت إلى دولة من دول العالم الثالث الذي يضغط فيه الحاكمون على شعوبهم، ولا يتركون لهم الحرية في تغيير أنظمتهم أو أفكارهم. فمثلاً عندما تكون هناك انتخابات نيابية في تركيا، نرى الجيش يضغط على هذه الديمقراطية عندما تقترب من العلمانية في مناقشة بعض أفكارها. وهكذا لاحظنا كيف أن الجيش يضغط على الشعب التركي من خلال مسألة الحجاب، فهو يمنع المحجبات من الدخول إلى الجامعات ومن العمل في المؤسسات والدوائر الحكومية، ما يمثل نوعاً من أنواع الاضطهاد العنصري للشعب التركي، وليس كما يتصوّر البعض، بأنّ المسألة هدفها الضغط على حزب العدالة والتنمية، لأنه ليس كل الشعب التركي، وليست كل المحجبات، منتمين إلى هذا الحزب، ولكن المشكلة أن الجيش يشعر بالضعف أمام هذا المدّ الإسلامي في العالم، وخصوصاً في تركيا، وهذا ما تمثّل في ما حصل عليه حزب العدالة والتنمية في تصويت أكثر الشعب التركي له، بحيث أصبح أكثريةً في المجلس النيابي.
تركيا اليوم تمثّل العلمانية المتعصّبة التي تختلف عن كل العلمانية الغربية في العالم
لهذا، فإن الجيش وكل العلمانيين، يشعرون بالضعف أمام أي مظهر إسلامي، حتى في قطعة القماش التي تلبسها المرأة المسلمة، وأنا أعتقد أن الجيش لا مانع عنده من الناحية الفكرية العلمانية أن تخرج المرأة عارية تماماً، كما هو الواقع في الدول الأوروبية، لأنه لا يرى في ذلك خطراً على العلمانية، في الوقت الذي يخاف من الحجاب الذي تلبسه المرأة المسلمة.
س: كيف وجدتم حكومة أردوغان؟
ج: منذ أن تولّى السيد أردوغان الحكم، وأنا أرى أنه قد أتى بشيء جديد، من خلال الحكم الذي يديره أشخاص يؤمنون بالإسلام، وإن لم يعطوا حركتهم اسم الإسلام، فقد كان إنساناً واقعياً، درس الظروف السياسية الموضوعية في تركيا من جهة، والظروف السياسية بالنسبة إلى الواقع الدولي والإسلامي من جهة أخرى. لهذا فهو لم يقم بثورة، بمعنى أنه لم يقطع علاقات بلاده مع إسرائيل، لكنه وقف مع القضية الفلسطينية بكل قوة، واستقبل ممثل حماس الذي لم ترد أمريكا وإسرائيل له أن يستقبله.
أردوغان كان إنساناً واقعياً في دراسته للظروف السياسية الموضوعية في تركيا، وعلى مستوى علاقتها بالواقع الدولي
وكذلك قام بخطة اقتصادية استطاعت أن ترفع مستوى الاقتصاد بكل واقعية وحكمة، وعمل على أساس أن تدخل تركيا في الاتحاد الأوروبي. أنا أعتقد أنه لم يمرّ على تركيا حاكم مثله استطاع أن يكون واقعياً في رفع مستوى الاقتصاد، وفي تحريك السياسة في الخط الواقعي العملي دون أن يثير أية مشكلة في الوسط الشعبي، أو أيّ صراع بينه وبين الأحزاب الأخرى. لهذا أعتقد أن تركيا والأحزاب المعارضة قد خسرت في امتناعها عن التصويت للسيد "غول" لرئاسة الجمهورية، لأنه لو استطاع أن يصل إلى رئاسة الجمهورية، لعمل على أساس أن تكون تركيا أفضل مما هي عليه الآن.
س: أيضاً، يمكن أن نقول إن السيد أردوغان ناجح في إدارته للحكم؟
ج: نحن نعتقد أن الرجل عندما كان وزيراً للداخلية، استطاع، من خلال الأسلوب الذي عمل به، أن يحقِّق للأتراك الكثير في مسألة الأمن، وحتى في سياسته مع الأكراد، كان يحاول أن يحلّ المشكلة الكردية في تركيا بطريقة واقعية، ولكن الجيش الذي لم يستطع أن يحلّ المشكلة الكردية في تركيا بطريقة واقعية، وهي مشكلة قد تتعاظم في المستقبل، وخصوصاً بعدما تأسست كردستان العراقية التي ربما تتحوّل إلى دولة، سوف يعاني الكثير من المشكلة الكردية في المستقبل، كما عانى منها في الماضي. وأعتقد أن سياسة حزب العدالة والتنمية بالنسبة إلى المسألة الكردية، لو أعطيت لها الفرصة، لاستطاعت أن تحل هذه المشكلة حلاً واقعياً.
إسلاميّ الحركة
س: هناك الكثير من الوسائل الإعلامية تعرّف عنكم بأنكم الزعيم الروحي لحزب الله، كيف تصف لنا طبيعة العلاقة بينكم وبين حزب الله؟
ج: أنا لم أدخل في أية مؤسسة حزبية تنظيمية، لكن حزب الله في لبنان هو كحزب الدعوة في العراق، كان كل جمهوره يستفيد من محاضراتي وأفكاري وكتبي، وكانوا يلتقون بي ويسألونني عن كثير من القضايا الإسلامية على المستوى الثقافي والسياسي، وحتى على المستوى العسكري، لأنني كنت إسلامياً منذ أن انطلقت في الخميسنيات، وأنا لا أزال أتحرك مع كل حركة إسلامية. لهذا، فإنني أعطيت الجمهور المسلم في لبنان هذا الاتجاه الإسلامي الحركي الذي يعتقد أن الإسلام هو قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة. وهكذا أعطيت الجمهور الإسلامي العراقي في حزب الدعوة الكثير من هذا، فقد كانوا حتى في زمن الطاغية يقرأون كتبي ويستفيدون منها، لأنني كنت في الخميسنيات زميلاً للشهيد السيد محمد باقر الصدر، وكنا نتحرّك معاً في هذا المجال. كما كنت، ولا أزال، ضد السياسة الأمريكية في العالم، لأنني أرى أن أمريكا تمثّل المشكلة لكل شعوب العالم، كما أنني ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وهكذا فإنني أقف بكل قوة ضد احتلال أمريكا للعراق ولأفغانستان، وضد تدخلها في لبنان وسوريا وفي إيران، وضدّ حركتها في إثارة الفتنة في السودان والصومال.
كنت إسلامياً منذ أن انطلقت ولا أزال مع كل حركة إسلامية
حرب في لبنان
س: هل يمكن أن يؤدي التوتر بين الحكومة اللبنانية (الحالية) والمعارضة إلى حرب أهلية؟
ج: لا، لأن المشكلة الأساس في الأزمة اللبنانية بين المعارضة وفريق السلطة هي مشكلة أمريكية، فأمريكا لا تريد لهذه الأزمة أن تجد طريقها إلى الحلّ في هذا المقام، لأنها تريد للبنان أن يكون قاعدةً لسياستها في المنطقة ولمشروعها "الشرق الأوسط الكبير"، وخصوصاً أن لأمريكا فريقاً سياسياً لبنانياً يتمثّل في فريق الحكومة. ولكننا نعتقد أن هناك ضوابط في لبنان من خلال الشعب اللبناني والقيادات اللبنانية، وحتى من خلال ما هو مصلحة لأمريكا، أن لا تكون هناك حرب أهلية في لبنان.
إيران وأمريكا: التهديدات المتبادلة
س: هناك أقوال للرئيس الإيراني "أحمدي نجاد" تتضمّن تهديدات لأمريكا وإسرائيل، هل هذه التهديدات تصبّ في مصلحة الجمهورية الإسلامية؟
ج: أعتقد أنه عندما يقصد بالتهديد، التهديد بالقوة وبالعسكر، فمن المعروف أن إيران لا تملك القوة التي تستطيع أن تهدد بها أمريكا وإسرائيل عسكرياً، لكن إيران تملك القوة التي تستطيع أن تدافع بها عن نفسها عندما تحاول أمريكا وإسرائيل القيام بأي عدوان أو هجوم عليها.
ولذلك، فإنّ بعض المسؤولين الأمريكيين، مثل ديك تشيني وغيره، الذين تحدّثوا عن إمكانية الحرب ضد إيران، وبأن جدولة هذه الحرب موجودة على أجندة الرئيس الأمريكي، أصبحوا يصرّحون بأنهم لا يريدون الهجوم على إيران، وخصوصاً أن الدول العربية في المنطقة حذّرت أمريكا بأن أي هجوم عسكري على إيران سوف يحرق المنطقة كلها، وسوف يحرق كل بترول الخليج ويربك الواقع في العالم كله.
أي هجوم عسكري على إيران سوف يحرق المنطقة كلها ويحرق بترول الخليج
س: الآن إيران أصبحت دولةً تنفذ إلى الأمة العربية من خلال سياستها في العراق، ما رأيكم في هذا؟
ج: لإيران دور كبير في العراق، كأية دولة مجاورة لدولة أخرى، لأن شؤون العراق تمثّل مسألة حيوية بالنسبة إلى الأمن الإيراني، وكذلك لها تأثيرها على الاستقرار في إيران، ونحن نعرف أن احتلال العراق من قِبَل القوات الأمريكية، جعل هذه القوات على حدود إيران، كما جعلها على حدود سوريا، وحدود الخليج، وحدود تركيا.
لذلك، فإن الدول المجاورة للعراق، حتى الدول التي لها علاقات مع أمريكا، مثل تركيا ودول الخليج، أصبحت تخاف من هذه الفوضى الأمنية الموجودة في العراق، والتي تديرها أمريكا، وتتحرك بها القاعدة من خلال الاتجاه التكفيري الذي يستحلّ دماء المسلمين.
أنا أتصور أن أمريكا التي فشلت في الحوار مع إيران، ولم تنجح في إيجاد حالة حوار في مؤتمر "شرم الشيخ"، اضطرت أن تطلب من إيران رسمياً أن تدخل معها في حوار حول مسألة العراق، ومن الطبيعي أن إيران وافقت على ذلك لكن بشروطها الخاصة، لأنها تريد أن يكون هناك استقرار في العراق، وأن يكون لها دور في هذه المسألة مما تعترف به أمريكا.
المقاومة الشيعية في العراق
س: في لقاء حواري معكم، تحدثتم عن بعض الشباب الشيعة الذين يقاومون قوات الاحتلال في العراق، هؤلاء الشباب إلى مَن ينتمون؟ ومن يمثلون؟
ج: هؤلاء الشباب لا يمثّلون حزباً معيناً، بل هم شباب وطني إسلامي يرفضون الاحتلال والسياسة الأمريكية، وهم أيضاً يرفضون الاعتداء على المدنيين، حتى إنهم لا يقومون بأيِّ عمل عسكري ضد قوات الاحتلال إذا كان بينهم مدنيّون، والمعروف أن الكثير من الطائرات الأمريكية التي سقطت، سقطت بفعل هؤلاء الشباب.
س: هل يمكن لنا أن نقول إن السلطة السياسية الشيعية في العراق أخطأت لأنها لم تشارك الشعب العراقي في المقاومة؟
ج: لم تكن هناك ظروف واقعية حقيقية لأن يدخل هؤلاء الشباب في مواجهة مع الأمريكان، لأن نظام صدام حسين استطاع أن يضغط على الشباب الشيعة بشكل جمّد كل حركتهم، وأسقط كل قوتهم، وجعلهم يهاجرون من العراق إلى الخارج، وذلك لأنّ سياسة صدام حسين كانت سياسة أمريكية بامتياز، حيث عملت الإدارة الأمريكية على استخدامه لتنفيذ سياستها في المنطقة، فهي التي طلبت منه أن يحارب إيران، وأن يحتل الكويت، وهي التي طلبت منه أيضاً أن يقصف المناطق الكردية بالكيميائي، وأن يضرب المعارضة الشيعية، وخصوصاً العلماء الكبار منهم، كما أنها أرادت له أن يربك سياسة العالم العربي في هذا المجال. ولكن صدام انتهت وظيفته عند أمريكا، وجاءت أمريكا لتخدع الشعب العراقي، وخصوصاً الشيعة، وقالت لهم: "نحن نريد أن نحرّركم من صدام"، والواقع أن السياسة الأمريكية احتلت العراق لا لتحرر الشيعة، ولكن لخدمة مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، كما صرّح بذلك مسؤولوها عند احتلالهم للعراق.
فالمسألة هي مسألة خديعةٍ للشيعة في هذا المجال، وليست أن الشيعة مع الاحتلال، لأن الشيعة بشكلٍ عام هم مسلمون يرفضون مبدأ الاحتلال، أيَّ احتلال كان، وهذا ما لاحظناه في "ثورة العشرين" عندما حارب الشيعة الاستعمار البريطاني لصالح الحكومة العثمانية في ذلك الوقت، وهي حكومة سنية وليست شيعية. لذلك، أنا لا أوافق على القول بأن الشيعة مع الاحتلال، لكن المحتل خدعهم واستغلّ الأوضاع السلبية بالنسبة إليهم.
الشيعة مسلمون يرفضون مبدأ الاحتلال أيٍ كان، وهذا ما لاحظناه في ثورة العشرين
س: سماحة السيد، لو فرض أنكم كنتم في العراق، وأدخلت أمريكا قواتها إليه، ماذا كنتم تفعلون؟ هل كنتم تدعون الشعب إلى المقاومة؟
ج: لقد أصدرت فتوى قبل أن تحتل أمريكا العراق، وهذه الفتوى تقول: "لا يجوز من الناحية الشرعية مساعدة أمريكا في الضغط على الشعب العراقي".
الولاية التكوينية
س: الشيعة في كتبهم المعتبرة، يؤكّدون مسألة الولاية التكوينية عند الأئمة المعصومين الإثني عشر، ما رأيكم في ذلك؟
ج: أنا لا أقول بالولاية التكوينية لأيٍّ من الأنبياء أو الأئمة(ع)، بمعنى أن بيدهم أصول تدبير الكون، لأنّ دور الأنبياء والأئمة هو دور إسلامي إصلاحي ثقافي يهدي الناس إلى الله سبحانه وتعالى، {
يا أيّها النبيّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشِّراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} (الأحزاب:45-46). حتى إننا نقول إن النبي(ص) لا يعرف الغيب، لأن الله سبحانه وتعالى يقول عن النبي: {
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} (الأنعام:50)، {
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء إن أنا إلا نذيرٌ وبشير لقوم يؤمنون} (الأعراف:188).
نحن نعتقد أن الأئمة والأنبياء معصومون، بمعنى أن الله جعلهم هداةً للناس ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، فلا بدّ لهم من أن يستقيموا على الخط الذي يريدون أن يرشدوا الناس إليه، فلا يكون عندهم خطأ في الفكر ولا في العمل، لأنّ من كان دورهم أن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، لا ينبغي أن يكون عندهم ظلمة لا في عقولهم ولا في فكرهم. أما مسألة أن الأنبياء والأئمة يملكون التصرّف في شؤون الكون، فهذا أمرٌ لا نؤمن به.
دور الأنبياء هو دور إسلامي إصلاحي ثقافي ليخرج الناس من الظلمات إلى النور
س: بعض الشيعة يعتبرون أن أقوال الولي الفقيه حجّة ولا يمكن مناقشتها؟
ج: نحن نقول إن الولي الفقيه هو عالم ديني يخطىء ويصيب في اجتهاده كبقية المجتهدين، فلا عصمة لأحد من العلماء، سواء كانوا من مراجع التقليد أو ممن يفرضون أنفسهم في ولاية الفقيه، ونقول إنّ علينا أن نناقش كل عالِم في فكره، سواء كان فكراً في العقيدة، أو في الشريعة أو في السياسة أو في الحياة.
ونحن نروي عن الإمام علي بن أبي طالب(ع) قوله: "فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة (المجاملة) ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنّ مَن استثقل الحقّ أن يُقال له، أو العدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالةٍ بحقّ، أو مشورةٍ بعدل".
س: هناك مشاكل بين العلمانيين والإسلاميين في تركيا. في نظركم، كيف تنتج هذه المشاكل وتتفاقم؟
ج: أنا أعتقد أنّ الطريقة التي يدير بها الجيش شؤون تركيا، والتي يدير بها العلمانيون هذه الضغوط ضد المسلمين، سواء كانوا من الذين ينتمون إلى حزب إسلامي أو لا ينتمون، ستؤدي إلى نتائج سلبية على الواقع التركي، لأن الجيل الجديد لا يمكن أن يخضع للحصار الثقافي والحصار السياسي والفكري، وهذا ما لاحظناه في الأصوات الغالبة التي صوّتت لحزب العدالة والتنمية، أما المظاهرات التي خرجت في تركيا من قِبَل العلمانيين، والتي لم يتجاوز عددها سبعة ملايين شخص، فإنّ هؤلاء لا يمثلون الأكثرية بالنسبة إلى الشعب التركي الذي يبلغ عدده سبعين مليون. ونحن نعتقد أن الانتخابات القادمة، سواء كانت نيابية أو رئاسية، إذا لم يلغ رئيس الجمهورية قانون انتخابات الرئيس من الشعب، ستؤكد أنّ العلمانيين ليسوا هم القوة الكبرى في تركيا.
س: الشيخ منتظري كان من المقرّبين من الإمام الخميني(رض)، وهو الآن محبوس في بيته من قِبَل الحكم، ما هي شرعية هذا الحكم؟
ج: نحن نعتقد أن الشيخ منتظري هو من أكابر العلماء الذين نظّروا للثورة الإسلامية في إيران، وجاهدوا فيها وساروا إلى جانب الإمام الخميني جنباً إلى جنب، ولكن التعقيدات السياسية التي أحاطت بإيران قبل وفاة الإمام الخميني وبعدها، أدّت إلى هذا الواقع الذي لا نرى فيه أية مصلحة لإيران.
س: سمعنا أنكم تؤلّفون تفسيراً جديداً للقرآن؟
ج: لقد ألّفت قبل خمسة عشر عاماً تفسيراً عنوانه "من وحي القرآن"، وقد طبع مرتين، وهو تفسير معاصر يتحدث بلغة العصر وأفكار العصر، ونحن الآن نعيد النظر فيه في الطبعة الثالثة، كما طبعت بعض أجزائه باللغة التركية.
أنا إسلاميّ حرّ التفكير وأطلب الحقيقة في كل خطوط الإسلام
س: ما سبب تقرّب السنّة من أفكاركم؟
ج: أنا أدعو إلى الوحدة الإسلامية منذ أكثر من خمسين سنة، كما أنني أفتي بحرمة سبّ أيّ من الصحابة أو الإساءة إليهم، حتى لو اختلفنا معهم، لأن الإمام علياً(ع) رفض ذلك، وأيضاً أفتي بأنه يحرم الإساءة إلى أمهات المؤمنين. كما أنني أناقش بعض القضايا التاريخية.
أنا إنسان إسلامي حرّ التفكير في مناقشة التاريخ الإسلامي، أنا لا أجامل أحداً في الوحدة، ولكني أطلب الحقيقة في كل خطوط الإسلام، سواء كانت في الدائرة السنية أو الشيعية.
مقابلة مع صحيفة "الحياة التركية"، 25-5-2007م
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 09 جمادى الأول 1428 هـ الموافق: 25/05/2007 م