لبنان تحكمه لاءات ثلاث: لا تقسيم... لا انهيار... لا استقرار
العلامة السيد فضل الله لـ «الأنباء»:
الأصولية مشتركة بين كل الأديان وتمتد أحياناً إلى العلمانيّة، والحرب في الإسلام دفاعية وقائية وليست عدوانية
سيّدٌ للتاريخ أتى، وللتاريخ وللفقه مرجع، صفاءٌ في الوجه وفي الذهن والروح، لا يسعك وأنت في حضرته، إلاّ أن تكون صامتاً مصغياً مسافراً معه في بحر من المعرفة والتعريف.
كبير في محبته للناس إلى أيّ طائفة أو مذهب انتموا، يشرق عليك شمساً من الطمأنينة والأمان لحظة إطلالته البهية المصحوبة بسطوة في الترحيب والاستضافة.
اللغة العربية تأنس إليه وتستأنس به، فتراه يحدِّثك شعراً يغني المعاجم والدواوين. يأبى الدخول في زواريب السياسات الضيقة، فيأخذك إلى سبر أغوار الدول واستراتيجياتها السياسية عبر التاريخ، من حيث صراعها على حفنة من الأطماع المادية والجغرافية، وبناءً عليه وعلى مرجعيته، كان لـ «الأنباء» مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، هذا الحوار:
الأصولية بين المعنى الديني والاصطلاح الغربي:
* ما الأصولية؟ وكيف نشأت؟ وما سبب نشأتها؟
- الأصوليّة في الإسلام أساساً، هي الفكر الذي بلغ القمة في تأكيد حرفية النص بما لا يفسح في المجال للاجتهاد المتحرك المتنوع أن ينفذ إلى قلب النص ليفسره تفسيراً أكثر رحابةً. ولعل ذلك يظهر في مسألة التكفير.
إنّ مشكلة الأصولية ليست مجرَّد مشكلة فكرية اجتهادية، ولكنّها في العنف الذي تختزنه، بحيث تجعل فيها أصحابها ينظرون إلى من يخالفهم الرأي نظرة المسلم إلى الكافر الذي يمثل خطراً على الإسلام والمسلمين، حتى إنّنا سمعنا من بعضهم، أنّ خطر الذين يختلفون معهم في الرأي ممن ينسبونهم إلى الشرك من الشيعة أو من السنة، أكثر من خطر اليهود والنصارى وما إلى ذلك.
الأصولية كلمة مشتركة بين كل الأديان
وإنّنا نلاحظ أنّ كلّ الذين يأخذون بأسباب العنف، ويحاولون التحرّك في الواقع الإسلامي تحت تأثير فكرة إصلاح هذا الواقع، بطرد كلِّ من يخالفهم رأيهم من حياة المسلمين، نلاحظ أنّه عندما تتهيَّأ لهم الظروف لممارسة العنف الذي قد يأخذ اسم الإرهاب أو اسم التطرف أو التشدد أو ما إلى ذلك، حسب المصطلحات السياسية، فإنّهم يبادرون إلى إعطاء فتاوى في القتل، وهذا ما نلاحظه فيما يحدث الآن في العراق أو فيما حدث في السعودية أو في المغرب أو في العالم، سواء في أمريكا أو في بريطانيا أو في إسبانيا، وإعطاء كلِّ هذه الأحداث اسم الجهاد الإسلامي في هذا المجال.
إنّنا نعتقد أن كلمة الأصولية هي كلمة مشتركة بين كلِّ الأديان، فنحن نعرف أن هناك أصولية يهودية تحوَّلت إلى هذه الحركة الصهيونية التي عاشت العنصرية في ذاتها ضد العرب والمسلمين، وتبرز العنصرية في الفتاوى التي يطلقها الحاخامات باستحلال دماء المدنيين الفلسطينيين، أو من خلال نظرتهم إلى العرب، بحيث يعتبرونهم حشرات لا بد من إبادتهم أو ما إلى ذلك. وهكذا قد نجد في بعض مواقع المسيحية، خصوصاً المتمثّلة بالمحافظين الجدد، الذين قد يعبّر عنهم بالمسيحية المتصهينة، أنهم أيضاً يعيشون هذه الأصولية الحاقدة التي تبرر قتل الفلسطينيين، وقتل المسلمين، والتي تدفع أميركا إلى محاربة العالم الإسلامي في كلّ مجالاته.
وربما تمتدُّ الأصولية إلى العلمانية، فنحن نجدُ أنَّ هناك بعض العلمانيين يعيشون هذه العصبية ضدَّ الآخرين، خصوصاً ضدَّ المتدّينين، بالمستوى الذي قد يدفعهم إلى أن يحركوا العنف في هذا الموقع أو ذاك. وهذا ما لاحظناه في حركة الشيوعيين الذين أطلقوا الفكرة الماركسية لتحرّك العنف ضد كل من هو ليس شيوعياً، وهذا ما عشناه في العراق أيام الانقلاب على الحكم الملكي في زمن عبد الكريم قاسم، وما قام به الشيوعيون في ذلك الوقت مما سمي بالمدِّ الأحمر. وهكذا تحرّّك العنفُ من قبلِ الشيوعيّين الذين يؤمنون بالفكر الماركسي، وخصوصاً من خلال ما تحرّك به لينين وستالين.
ففكرة العنف هي فكرة أصولية في المقام الأول، في الأيديولوجيات، فضلاً عن كونها علمانية أصولية.
العنف فكرة أصولية علمانية
* هل فكرة الشيوعيَّة فكرةٌ علمانية غير تكفيرية؟
- الشيوعيَّة فكرةٌ تكفيريَّة لكن بطريقةٍ علمانية، باعتبار أنهم كانوا يقولون إن كلَّ من ليس شيوعياً أو لا يؤمن بالخطِّ الماركسي فهو عميل واستعماري ورجعي، وما إلى ذلك من الكلمات التي تشبه الكلمات الدينية التي يقولها المتدينون لغيرهم من الأديان الأخرى، من الكلمات الحادَّة التي تمثل اتهام الآخرين بالارتداد، كما حصل مع بعض الشيوعيين في هذا المقام، مثل «تيتو» وغيره في هذا المجال.
إنّنا نجد أن ذهنية العنف تتحرّك باتجاه الآخر، سواء كان العنف عنفاً سياسياً أو عنفاً أمنياً أو عسكرياً، من أجل إلغاء الآخر.
إنَّنا نعتقدُ أنَّ كلمة الأصوليَّة في بعدها الإسلامي، تعني الرُّجوع إلى الأصول، أي الرجوع إلى القواعد الأصلية الإسلامية التي جاء بها الكتاب والسنَّة، فيما المعنى الغربيّ لهذا المصطلح يتصّل بالاتّجاه الّذي يرى العنف وسيلةً وحيدةً لحلّ الاختلافات.
فالأصوليَّة في المصطلح الإسلامي شيء، وفي المصطلح الغربي شيءٌ آخر. ونحن عندما نعترض على استخدام هذه المفردة في اللّغة السّياسيّة، يكون الاعتراض على استخدام كلمة الأصولية بمعناها الغربي لا من خلال المصطلح الإسلامي.
فالأصولية في مفهومنا، تعني أننا نؤمن بأصول الإسلام، نؤمن بالاجتهاد في فهم الكتاب والسنَّة، وفق الأسس العلمية المتداولة بين المسلمين في حلّ نزاعاتهم، على أساس قوله تعالى: {
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}(النساء/59)، ما لا يجعل المسلم يكفِّر المسلم الآخر أو يقتله، بل يحاوره في اجتهاداته بطريقة وبأخرى.
الإسلام دين سلام لا عنف:
* يقول د. أحمد موصللي أستاذ العلوم السياسية والدراسات الإسلامية في الجامعة الأميركية في بيروت: «توصَّل بعض منظِّري الإدارة الأميركية إلى اعتبار أن هذه المجموعات المتشدّدة، تجد تربتها الخصبة في الإسلام كدين، نظراً إلى وجود آيات قرآنية وأحاديث نبوية تشجع على ذلك». ما مدى صحة ذلك؟
نحن نرفض هذه الفكرة استناداً إلى النصوص الإسلامية في حديثها عن مسألة العنف أو الجهاد أو القتال.
فنحن عندما ندرسُ الآيات القرآنية دراسةً دقيقةً، وحتى عندما ندرس النصوص الصَّحيحة الثابتة عن النبيّ محمَّد(ص)، فإنّنا نجد أنها تؤكِّد أنَّ الحرب في الإسلام هي حرب دفاعيّة ووقائيّة وليست حرباً عدوانيّة.
وهذا ما نقرأه في قوله تعالى: {
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ}(البقرة/190)، {
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ}(النساء/75)، {
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}(البقرة/193).
والمقصود بالفتنة فتنة المسلمين عن دينهم بواسطة الضغط أو العنف الذي يقوم به المشركون. وهكذا نقرأ أيضاً: {
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}(الأنفال/58)، مما يمثِّل الحرب الوقائية في هذا المقام.
وتتكرَّر في القرآن الكريم: {
وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ}(البقرة/190).
ثم لننظر في مسألة نظرية العنف في الإسلام، فنحن نقرأ في القرآن الكريم، قول الله سبحانه: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}(البقرة/208)، {
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(الأنفال/61)، {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصِّلت/34).
أيضاً نقرأ قول الله تعالى، عندما يتحدّث عن العلاقة مع الَّذين يخالفون المسلمين في الخطِّ الديني، وهم أهل الكتاب: {
قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}(آل عمران/64)، تعالوا نتفق على وحدة الله ووحدة الإنسانية.
وهكذا نلاحظ أنَّ الله عندما أراد للمسلمين أن ينفتحوا على الآخرين قال: {ا
دْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(النحل/125).
ثم نقرأ في الحديث النبوي الشريف في مسألة الرفق والعنف، أنّ النبي(ص) كان يقول في ما يرويه السنة والشيعة: «إنّ الرفق ما وضع على شيء إلا زانه، ولا رفع عن شيء إلاّ شانه»، و«إن الله رفيق يحبُّ الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف».
القرآن يدعو المسلمين إلى القتال دفاعاً عن النّفس أو صداً للعدوان
أمَّا الآيات التي تتحدَّث عن القتال، ومنها: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ}(التوبة/123)، فهي تتحدّث عن ظروف الحرب عندما تتحرك في واقع المسلمين من خلال عدوان الآخرين عليهم، ففي مثل هذه الظّروف، يدعو القرآن المسلمين إلى أن يخوضوا الحرب ضدّ هؤلاء وأن يحققوا الانتصار فيها.
بين الجهاد والحرابة:
* يقول د. موصللي: القتال لا يكون إلاّ للعدو الخارجي، فمن حرّك القتال في داخل المجتمع، فهو نوع من أنواع الحرابة، وليست من أنواع الجهاد المحدد حصراً بالعدو؟
- نحن نؤمن بهذا، لأنّ المصطلح الفقهي الإسلامي يتحدّث عن الذين يثورون على الحكم الشرعي بأنهم بغاة، {
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ}(الحجرات/9).
ونحن نلاحظ في تجربة الإمام عليّ(ع)، أنَّه في خلافته، عندما كفَّره الخوارج، فانعزلوا عنه وهو خليفة المسلمين آنذاك، لم يحاربهم، بل دخل في حوار معهم، ولم يمنع عنهم أعطياتهم، ولم يحكم بكفرهم مع أنهم كفَّروه، بل قاتلهم عندما أخلّوا بالنظام وقطعوا طريق المسلمين وقتلوا خبّاب وامرأته. قاتلهم من أجل حفظ النظام العام للمسلمين، كما يُقاتَلُ في أيّ دولة شرعية الذين يحاولون أن يخرقوا الأمن العام للواقع الإسلامي. حتى إنّ الإمام(ع) لم يقاتل معاوية في صفّين إلاّ باعتباره متمرِّداً على الشرعية، وبعد أن أعلن الحرب عليه.
التكفيريون لا يملكون الفقه ولا الاجتهاد ولا العلم الإسلامي الذي يسمح لهم بالتخطيط للعنف وفق النظرية الإسلامية
لذلك نحن نقول إن الحرب الداخلية التي تنطلق من خلال حفظ أمن المسلمين وحفظ النظام الإسلامي العام ضد من يسيء إلى الأمن الداخلي لهذا النظام، ليست حرباً جهادية، وإنّما هي حرب تستهدف حفظ النّظام. نحن نتفق مع الأستاذ الموصللي ـ الذي نحترمه ونقدِّره ـ نتفق معه في هذه النتيجة، أنَّ هذا ليس جهاداً، وإنما الجهاد يتحرَّك في مواجهة العدوِّ الخارجي الذي يفرض نفسه على الواقع الإسلامي بهدف السيطرة عليه ومصادرة أمنه وثرواته وسياسته.
إشكالية الأصولية والإرهاب:
* كيف تستطيع أن تربط بين المنظَّمات والحركات الأصولية والإرهاب من جهة، والوضع الإقليمي من جهة ثانية؟
- نحن نقول إنّ أيّ عنف يصدر من أيّة منظّمة تحمل عنوان الإسلام في واجهتها، ويمتدُّ هذا العنف إلى المدنيين المسالمين من النساء والأطفال والشيوخ وما إلى ذلك، فإنَّ ذلك ليس من الإسلام في شيء، لأنّ «كلّ المسلمِ على المسلمِ حرام؛ دمه وماله وعرضه». لذلك فإنّّ المشكلة في بعض المنظَّمات الإسلامية التكفيريّة، أنها تعيش حالةً من الجهل في فهم الكتاب والسنَّة، وتحاول أن تُفسِّر بعض الكلمات، مثل كلمة «الجهاد» أو آيات القتال وما إلى ذلك، تفسيراً غير علمي وغير دقيق في هذا المقام، ولا سيّما أننا نلاحظ أنَّ الذين يخوضون هذه الحركات، هم غالباً ليسوا من الذين يملكون الفقه أو يملكون الاجتهاد والعلم الذي يسمح لهم بأن يخططوا لعمليات العنف على أساس النظرية الإسلامية.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنَّنا نلاحظُ أنَّ المخابرات الدُّوليَّة من جهة، والمخابرات الإقليمية من جهة أخرى، والأجهزة الداخلية، تملك بعض الخطوط للسيطرة على واقع هذا البلد أو ذاك، كما حصل في الجزائر، من خلال محاولة تشجيع هذه الأجهزة للفئات التكفيرية. وهكذا نلاحظ أنّ أميركا هي التي شجَّعت الكثير من هذه الفئات المتطرّفة في أفغانستان عندما احتلَّها الاتحاد السوفييتي، وهي أيضاً التي طلبت من أكثر الدول العربية ولاسيما دول الخليج، مساعدة هؤلاء الناس بكلِّ الوسائل، للضغط على الاحتلال السوفييتي في أفغانستان، حتى إنَّهم كانوا يطلقون على هؤلاء الذين يقفون ضد الاتحاد السوفييتي ويحملون الأفكار التكفيرية، اسم المجاهدين، ليتحوّل هؤلاء بعد تحرير أفغانستان، وفي ضوء أفكارهم المتطرّفة، إلى منظّمات عسكريّة وأمنيّة، استبدلت حربها ضدّ الاتحاد السوفييتي، الّتي اتّخذت عنوان «الدفاع عن الإسلام»، ومحاربة الكفر والكافرين، بالحرب ضد أميركا والغرب، باعتبار أنّ أميركا تنتمي إلى دين غير الدين الإسلامي، وبأنّها تقف ضد المسلمين، سواء في فلسطين أو في غيرها، وتستولي على مقدّرات العالم الإسلامي. وتحوّلت هذه الذهنية التي حركّها الأميركيون والكثير من الناس الذين كانوا يواجهون الاحتلال السوفييتي، تحوّلت إلى محاربة كلِّ الذين يعتبرهم هؤلاء من الكافرين في هذا المقام.
لهذا، فإنّ المسألة أصبحت من الخطورة بالمستوى الذي قد لا يكون من السهل معها حلّ هذه المشكلة، ولا سيما أنَّ هذه الفئات التي تسمى إرهابيّة أو متطرّفة أو متشدّدة، جعلت من الاحتلال الأميركي للعراق وسيلةً من وسائل محاربة الاحتلال الأميركي، كما أنّ الاحتلال الأميركي أيضاً كذلك أراد أن يحارب هذه المنظمات في داخل مناطق احتلاله، حتى لا تتحرك إلى بلاده؛ إلى أميركا أو إلى أوروبا أو ما إلى ذلك.
لذلك أصبحت المسألةُ من قبيل المصلحة المشتركة بين هذه المنظَّمات وبين الاحتلال، ولعلَّ الجميع سمع أنّ بعض قادة هذه المنظمات يقولون إن العراق أصبح جامعةً للإرهاب أو للعنف. لذلك أنا أعتقد أنّ محاربة هؤلاء بالطريقة التي يحاربون فيها، وهي طريقة العنف، في الوقت الذي نجد الكثير ممن يتحرّكون لإثارة الفتنة بين المسلمين من جهة، ويكفّرون المسلمين من جهة أخرى، حتى على مستوى بعض المشايخ وبعض العلماء في هذا المقام، أنا أتصور أن المسألة أصبحت أكبر من العنف.
* هل نستطيع إن نقول أن الولايات المتحدة الأميركية ترعى جزءاً من هذه المنظمات الأصولية؟
- أنا أعتقد أنها ترعاها بطريقة متحرّكة، باعتبار أنّ هؤلاء يمكن أن يحققوا لها الكثير من حرية الحركة نتيجة احتلالها للعراق، ويساهمون في تبرير استمرارها في هذا الاحتلال بحجّة حفظ أمن البلد. ولعلَّ الجميع سمع وزير الدفاع الأمريكي يتحدث قائلاً إنّنا سنبقى في العراق على الطريقة التي بقينا فيها في كوريا الجنوبية.
العلاقات الأميركية الإيرانية وانعكاساتها:
* التفاهم الأميركي ـ الإيراني ـ السوري، وقد شهدنا بداية انطلاقته بين الولايات المتحدة وإيران، ماذا ستكون نتائج هذا التفاهم على المنطقة في حال نجاحه أو في حال فشله؟
-إنني أتصوَّر أنّ اضطرار الإدارة الأميركية لأن تتقبَّل الحوار مع سوريا والحوار مع إيران في القضيَّة العراقية، تماماً على طريقة بيكر ـ هاملتون التي كان يرفضها الرئيس بوش، إنّما هو من أجل البحث عن حلّ لمشكلة أميركا في العراق من خلال هذا الفشل الفظيع الذي أصاب الإدارة الأمريكية نتيجة عدم قدرتها على إدارة احتلالها للعراق.
لذلك، فإنّ المسألة في تصوّري لا يمكن أن تقتصر على المسألة العراقية، باعتبار أن لإيران مشاكل مع أميركا، وإنّ أميركا أصبحت على حدود إيران من خلال وجود الجيش الأميركي في العراق، وأيضاً بالنسبة إلى سوريا، لا يمكن أن تحلّ مشكلة أميركا، لأنّ هناك مشاكل كثيرة بين سوريا وأميركا، ولأن أميركا أصبحت على حدود سوريا. إنني أعتقد أن أبرز دول الجوار، حتى التي تملك بعض التحالفات مع أميركا، تخاف من أميركا، لأنّ أميركا دولة لا صديق لها، ولأنّها تتحرّك من خلال مصالحها التي قد تنعكس سلباً على حلفائها، كما تنعكس سلباً على أعدائها.
لذلك، فإنّي أعتقد أنَّ إيران وسوريا، تريدان من أميركا أن توسِّع دائرة الحوار ودائرة المفاوضات، لتشمل كلَّ القضايا المختلف عليها بين هذه الدَّولة أو تلك، وإلاّ فإنَّ المسألة لن تصير إلى أيِّ حلٍّ. وقد لاحظنا أنّ المفاوضات التي جرت بين وزيرة خارجية أميركا ووزير خارجية سوريا، وأيضاً المفاوضات بين السّفير الأمريكي والسّفير الإيراني، لن تحقق أيِّ حلٍّ وأي تهدئة. وهناك أيضاً اتهامات أميركية لإيران بأنها تتدخل في العراق، وأنها تمول الذين يحاربون الاحتلال الأميركي. وهكذا لا تزال بعض الأحاديث حول مسألة إفساح سوريا المجال للذين يدخلون إلى العراق.
لا حلّ للمشكلة العراقية إن لم تغيِّر الإدارة الأمريكيّة استراتيجيّتها
أنا أعتقد أنه من الصَّعب جداً حلُّ المشكلة العراقية من خلال هذا الحوار بين أميركا والدولتين إذا لم تغيِّر الإدارة الأمريكية استراتيجيتها في ما تختلف فيه مع الدولتين، وخصوصاً الملفَّ النووي الإيراني من جهة، والتعقيدات المتّصلة بعزل سوريا من جهة أخرى.
* هل سينجح التفاهم الأميركي ـ الإيراني؟
- أشك في ذلك، على الأقّل لسببين؛ السبب الأول هو أن إدارة الرئيس بوش لا يزال يسيطر عليها المحافظون الجدد، والذين يتزعّمهم ديك تشيني واللوبي اليهودي الصهيوني. وهذان الفريقان لا يسمحان بوجود علاقات طبيعية بين إيران وأميركا.
ثانياً: إسرائيل تعتبر أنّ إيران قوية، سواء صنعت السلاح النووي أو لم تصنعه، وهي تمثل الدولة التي تشكّل الخطر عليها مستقبلياً، لأنها حتى الآن لا تعترف بإسرائيل كدولة، ولأنها تقف مع المقاومة الفلسطينية، لذلك فإن أميركا التي تدعم الأمن الإسرائيلي بالمطلق، لا بد من أن تخضع للاستراتيجية المشتركة بينها وبين إسرائيل في هذا المجال، وهذا الأمر تفسِّره المناورات الأميركية ـ الإسرائيلية في النقب بأحدث والأسلحة وأقواها من أجل مواجهة مسألة الملف الإيراني النووي على حسب ما يتحدّث به الإعلام.
لذلك، أنا أعتقد أنّ المسألة تبقى في حالة تعقيد، وربما تتحوّل إلى حرب عندما يشعر الرئيس الأميركي بالضَّعف الذي يدعوه إلى أن يعطي لنفسه في آخر رئاسته شيئاً من القوَّة، وخصوصاً من خلال ما يتحرك به الوسواس الخنّاس، وديك تشيني، وهو القيام بعمل عنف ضد إيران.
وبعد هذه الإدارة، فماذا يحدث؟ الأمر لا بد لنا أن نتابعه ونراقبه للمستقبل.
* ما تداعيات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بشكل عام، وفي لبنان ودول الجوار بشكل خاص؟
أمريكا تفكر بعقلية الإمبراطور ورئيسها يفكر بعقلية الرسول الإلهي الذي أرسله الله لتغيير العالم
- من الواضح أنَّ أميركا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أصبحت تفكّر بذهنية الدولة القائدة للعالم. وهذا ما يصرّح به بعض المسؤولين الأميركيين، وقد اعترف الاتحاد الأوروبي بهذه القيادة، لذلك فإنّ أوروبا تعتمد على أميركا في دفاعاتها، وهذا يمثل الجدل بين أميركا وروسيا في مسألة الدفاع الصاروخي (الدرع) الذي تحاول أميركا أن تقوم به في بعض الدول الأوروبية، وترفضه روسيا في هذا المجال، ما قد يهيىء للحرب الباردة.
بوش يفكر بعقلية الرسول الإلهي:
إن أميركا تفكِّر بعقلية الإمبراطور، ورئيسها يفكِّر بعقلية الرسول الإلهي الذي أرسله الله من أجل إصلاح العالم وتغييره على أساس الديموقراطية وحقوق الإنسان وما إلى ذلك. ولذلك فإنّه يعتبر أن كل ما يفعله هو بوحي من الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا الأساس، فإن أميركا ـ أميركا الإدارة، أميركا المحافظين الجدد، وأميركا اللوبي الصهيوني ـ تعمل بكلِّ ما عندها من طاقة في سبيل تغيير المنطقة لحساب مصالحها الاستراتيجية، خصوصاً بالنسبة إلى بترول المنطقة، لأنّ احتياطي أميركا وبعض حلفائها في الغرب، قد يجفُّ في حدود عشرين سنة، بينما احتياطي البترول في مناطق الشرق الأوسط والعراق وإيران والسعودية، قد يمتدّ إلى أكثر من مائة سنة.
ونقطة ضعف أميركا في القرن العشرين وفي القرن الواحد والعشرين، هي السيطرة على بترول العالم، لتبقى في دائرة القوة التي تخنق اليابان والصين وأوروبا في هذا المجال. لذلك عندما تريد أن تفهم السياسة الأميركية، فتّش عن البترول.
عرقنة لبنان:
* وماذا عن التخوّف من «عرقنة» لبنان؟
-إني عبَّرت بالتخوُّف، لأنّ السَّاحة اللُّبنانية هي الساحة التي تختصر في هذه المرحلة كلَّ تعقيدات الأوضاع الدَّولية والإقليميَّة. إنّني أعتقد أن لبنان كان ولا يزال، من خلال النظام الطائفي، ساحةً لا سقف لها ولا حيطان، لأن النظام الطائفي يفتح في داخل كل طائفة ثغرة يمكن أن ينفذ إليها الآخرون. وهذا ما نلاحظه في حركة مندوبي الدول الّذين يأتون إلى لبنان لحلّ مشكلة الحكومة والمعارضة، ويتحدثون عن سوريا وعن إسرائيل. وهذا ما لاحظناه في معركة المحكمة الدولية، ولاحظناه في مسألة القوات الدولية، وغير ذلك من الأمور والأوضاع.
ولهذا نحن نقول: إننا لا نخاف الآن في لبنان من الفتنة السنية ـ الشيعية، لأنّها سقطت بفعل التطوّرات الأخيرة التي حدثت في لبنان في قضية مخيّمات نهر البارد، ولكن ربما تحاول أميركا أن تستخدم هذه الفئات المسمّاة الأصولية في إيجاد بعض المشاكل الداخلية، التي ربما ـ وإن كنت أستبعد ذلك ـ تمتد إلى كلِّ الساحة اللبنانية.
إنما عبرت بالتخوّف من خلال التطورات الدولية والإقليمية في المنطقة على أساس ما يقتضيه المستقبل، ولكنني حتى الآن، لا أجد هناك أيّ فرصة لأيّ حرب أهلية داخلية في لبنان.
العرب في موت سريري:
* السِّلم العربي ـ الإسرائيلي: من الذي يسعى إليه؛ العرب أم إسرائيل؟ وما أسبابه؟
الضعف العربي وصل إلى ما يشبه الموت السريري
- أعتقد أن الضَّعف العربي وصل إلى ما يشبه الموت السريري، وأستحضر في ذلك قول المتنبي:
من يهنْ يسهل الهوان عليه وما لجرح بميت إيلام
لقد كانت قمَّة بيروت هي القمَّة التي قدّم فيها العرب كلَّ التنازلات لإسرائيل في سبيل أن تقبل إسرائيل السَّلام مع العرب على أساس حدود 67، حيث قال شارون آنذاك، إن قرارات القمة لا تستحق الورق الذي كتبت فيه، كما قالت أميركا، إن هذه ليست قرارات للتنفيذ، بل هي قرارات للمفاوضات.
وعاش الواقع العربي حالاً من الضعف، حيث فرض عليهم توقيع صلح مع إسرائيل، وتمثِّل ذلك بإخراج مصر والأردن من الصراع العربي _ الإسرائيلي، وإدخال موريتانيا في هذا الصلح، إضافة إلى استحداث مكاتب اقتصادية في هذا البلد العربي أو ذاك.
وعليه، فإن العرب هم الذين يركضون وراء السلام الذي لا تريده إسرائيل، لأن إسرائيل ليست مستعدة لأن تقبل بالدولة الفلسطينية إلاّ بعد استكمال كل استراتيجيتها في السيطرة على فلسطين كلّها كما هي الآن، ولكن على أساس أن تسيطر على فلسطين بشكل مباشر أو غير مباشر.
* كيف ستنعكس تلك التنازلات على الجماعات الأصولية والتكفيرية؟
- إنني أعتقد أنَّ هذه التنازلات العربية، ستعطي هذه الجماعات مبرراً قوياً جداً للاستمرار في مواجهة أميركا وإسرائيل، ومواجهة الأنظمة العربية وبعض الأنظمة الإسلامية وهناك معلومات تشير إلى أنّ قيادات هذه الجماعات في لبنان، تعمل لجعل لبنان موقعاً للنصرة بمعنى إقامة معسكرات تدريب واستقطاب الأنصار في لبنان وما إلى ذلك، ولعل مسألة فتح الإسلام وجند الشام وكل هؤلاء تشكّل البداية التي لا نعرف إلى أين تنتهي؟!
الوحيد الذي لن يستطيع اللعب في الساحة اللبنانية هو لبنان
لا استقرار في لبنان:
* أين ترون لبنان يتجه في ظل ما تشهده ساحته من حركات ومنظمات أصولية؟
- كنت أقول عن لبنان إنّه الرئة التي تتنفَّس فيها مشاكل المنطقة، وكنت أقول إن هناك لاءات ثلاثة تحكم لبنان: لا تقسيم، لا انهيار، ولا استقرار.
سيبقى لبنان الحرية، ولبنان التنوّع الطائفي، والتنوّع الفكري والديني، سيبقى ساحةً يلعب فيها الآخرون، ولكن الوحيد الذي لن يستطيع اللعب في الساحة اللبنانية هو لبنان.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 03 جمادى الثاني 1428 هـ الموافق: 19/06/2007 م