المرجع فضل الله(رض) للّبنانيّين في ذكرى الحرب الأهليَّة:
كونوا عقلانيّين ولا تنطلقوا من الغرائز الطائفيَّة
ونحن نستذكر الحرب الأهليَّة اللّبنانيَّة الَّتي اندلعت في 13 نيسان/ أبريل 1975م، نستذكر الفظاعات والمآسي الَّتي رافقت سني هذه الحرب، ونحاول أن ندرس خلفيَّاتها الداخليّة والخارجيَّة.
وتعود بنا الذكرى والذكريات إلى سماحة العلامة المرجع السيِّد محمّد حسين فضل الله(رض)، لأخذ العبر مما قاله عن هذه الحرب.
يقول المرجع فضل الله(رض): "عندما نستعرض الخلفيّات السياسيَّة للحرب الأهليَّة في لبنان، نجد أنَّها قد استفادت كثيراً من نقاط الضَّعف الموجودة في الواقع اللّبنانيّ، ولا سيَّما في بعض التّعقيدات الطائفيَّة المسيحيَّة والإسلاميَّة، الَّتي جعلت المخطّطين لهذه الحرب يحاولون الاستفادة من بعض الخطوط الفلسطينيَّة والخطوط السياسيَّة الوطنيَّة، الَّتي تتحرّك من خلال أكثر من محورٍ عربيٍّ يحاول أن يجد لنفسه موقعاً في السياسة اللّبنانيّة، في حركة الصّراع بين العرب في هذا المقام".
ويضيف سماحته: "ولذلك، فإنَّ الحرب اللّبنانيَّة كانت ترجمةً للخطّة الأميركيَّة الَّتي قادها الوزير الأسبق، هنري كيسنجر، حتى إذا استكملت وبلغت بعض أهدافها في إخراج البندقيّة الفلسطينيّة من لبنان، جاء اتّفاق الطائف الّذي كنت أقول عنه بنحو النّكتة، إنّه اتفاق أميركيّ بطربوشٍ لبنانيٍّ وعقالٍ عربيّ، ولم يكن اتّفاق الطائف حلاً للمشكلة اللّبنانيَّة، بل كان حلاً لقضيَّة الحرب، ولذلك لم يدرس دراسةً قانونيَّةً دقيقة، بحيث يمكن أن يسدّ كلّ الثغرات الموجودة في الواقع اللبناني، ويحوّل لبنان إلى بلدٍ يشعر فيه المواطنون بالمواطنة بدلاً من الطائفيّة"[1].
ويستفيض سماحة السيّد الرّاحل في الحديث عن لبنان والطائفيّة، فيقول: "لعلّ مشكلة لبنان أنّه لم يؤسَّس ليكون وطناً لبنيه، بحيث يشعر كلّ شخصٍ فيه بأنَّ حقوقه وواجباته تنطلق من موقع مواطنيَّته، لا من موقع طائفيَّته. ولذلك، فإنَّ النظام الطائفيّ في لبنان، استطاع أن يخرّب هذا الصَّفاء الّذي كان من الممكن أن يعيش في عقل اللّبنانيّ المثقَّف، الّذي يمكن له أن يستشرف الآفاق الرَّحبة الواسعة في انفتاح العصر على كلِّ قضايا الإنسان، وكلّ تطلّعاته، وكلّ حركيّته، وكلّ مواقع الصِّراع فيه، لأنَّ النّظام الطائفيّ عمّق الطائفيَّة في ذهنيّة اللّبناني، بحيث إنّها اختلقت له شخصيَّةً مغلقةً تفصله عن الإنسان الآخر، على أساس التّمايز الّذي لم ينطلق من حالة عقليّة أو ثقافيّة، وإنما انطلق من حالةٍ غرائزيَّةٍ على الطَّريقة العشائريّة القبليّة".[2]
ويتابع: "فالطائفيَّة في لبنان ليست ديناً حتى ينفتح الإنسان عليها من خلال انفتاحه على القيم الرّوحيَّة التي يأمر بها الدّين، والتي يمكن أن يلتقي فيها مع الإنسان الآخر، ويمكن أن ينفتح فيها على الإنسان كلّه، باعتبار أنَّ الأديان، وإن اختلفت في بعض خططها على المستوى اللاهوتي، إلا أنّها تلتقي في الخطّ الإنساني. لذلك، فإنَّ مشكلة الطائفيَّة أنها عشائريَّة وقبليَّة، ولكن بدون أن تعيش قيم البداوة. كنت أقول إنَّ المشكلة عندنا في لبنان أو في الشّرق، أننا نعيش البداوة الفكريَّة من دون قيم البداوة الّتي كان يتميَّز بها البدو في أوضاعهم الاجتماعيَّة.[3]
وعن بداية الحرب اللّبنانيَّة، أو ما يعرف بحرب السَّنتين، يستذكر المرجع فضل الله تلك الفترة، فيقول: "عشت طيلة تلك المدَّة في النبعة، حتى إنّني خرجت منها يوم السَّبت الأسود لتأدية بعض الواجبات الاجتماعيَّة في الجنوب، ولم أعرف ماذا حدث يومذاك قبل ذهابي إلى الجنوب. المهمّ أنّني لم أستقرّ في الجنوب، لأنّني كنت أشعر بالمسؤوليَّة في العودة إلى النبعة، لأنّه حتى ذلك الوقت، لم أكن مقتنعاً لعدّة اعتبارات، بأنَّ سقوط النّبعة وشيك، وكنت أشعر بكلماتٍ من هنا وهناك، فبدأت أعيش القلق في المسألة، لكنَّني لم أكن أملك المعطيات في ذلك الوقت".
ويتابع سماحته رحلة الذّاكرة: "لذلك، أحببت أن أصمد مع النَّاس، فعدت إلى النبعة، في الوقت الّذي كان الجميع يتحدَّث برعبٍ عن كيفيَّة عودتي إلى هناك في ذلك الجوّ، ومع ذلك، عدت مع أولادي وعيالي، حتى إنّنا تجاوزنا القنّاصين، وعندما وصلت إلى النّبعة آنذاك، فوجئ النّاس بذلك، لكن لم تمضِ مدّة قليلة حتى أصبت بعارض صحيّ، هبط خلاله وزني أكثر من ثلاثين كيلو غراماً، نتيجة الجهد الّذي كنّا نقوم به، وهذا الوضع سبَّب خطراً على صحّتي، أجبرني على الخروج من النّبعة، فمررنا بطريقنا على الحواجز والدّوائر الجمركيّة، والدّوائر الّتي تشبه دوائر الجوازات، ودوائر الحدود الّتي توحي إليك بأنّك خرجت من دولةٍ لتدخل أخرى، وسقطت النّبعة بعد أيّام من ذلك".
ويردف السيِّد فضل الله(رض) قائلاً: "إنّني أتذكّر في تلك المرحلة نداءات الحقد والعداوة والبغضاء والوحشيّة الطائفيّة الّتي كان يتحرّك فيها النّاس غرائزيّاً من دون عقل وروح، وكانت عمليّة سقوط النّبعة، وسقوط تلّ الزّعتر والمسلخ والكرنتينا وبعض المناطق الأخرى، الّتي كانت تمثّل تفاصيل في هذه المناطق الرّئيسة، ولاحظنا من الحقد الطائفي ومن الغرائزيّة الحيوانيّة، ومن انتهاك أعراض وانتهاك كلّ المحرّمات، ما جعلنا نتصوّر أنّ هذا اللّبنان الذي يُحكى عن حضارته، هو لبنان التخلّف الغارق في غرائزيّته، لتكون الحضارة مجرّد شيء على السَّطح في الشّكل، ولكنَّه لا يقترب من أقرب نقطةٍ في العمق، بدلاً من أن ينزل إلى كلِّ الأعماق"[4].
وفي النّهاية، ينصح سماحته اللّبنانيّين بـ"أن يكونوا عقلانيّين وموضوعيّين، وألا ينطلقوا من خلال الغرائز الطائفيَّة، وألاّ يتحركوا مع الزّعامات السياسيَّة على أساس أن يكونوا مغمضي العيون"[5].
[1] مقابلة أجراها مجموعة من الباحثين مع المرجع فضل الله، بتاريخ 4 جمادى الثانية 1428هـ/ الموافق: 20/06/2007م.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه.
[4] كتاب "العلامة فضل الله وتحدّي الممنوع"، ص 71، 72.
[5] مقابلة مع مجلَّة الحوادث اللّبنانيّة، بتاريخ: 8-12-2006م.