لهذه الأسباب لا تريد أميركا تفجير حرب أهليـة في لبنان
فضل الله لـ«السفير»: دخلنا «هدنة الجدار المسدود»... وستكون طويلة!
الحديث مع المرجع السيد محمد حسين فضل الله له نكهة خاصة، فأنت أمام إمام عالم وفقيه يفهم الإسلام بعقل منفتح، وظيفته خدمة الإنسانية... وأمام محلّل سياسي وقارئ للأحداث، يتعاطى معها بواقعية اللحظة وبمنطق استراتيجي يرسم آفاقاً للمستقبل القريب والبعيد. الحديث مع السيد فضل الله شيّق ومشوّق، لكن صحته لا تسمح بالإطالة. "السفير" حاورت المرجع فضل الله حول واقع الساحة اللبنانية على ضوء الحراك الدولي والإقليمي. وهذا نص الحوار:
هدنة الجدار المسدود
* سماحة السيد، سنبدأ مما انتهى إليه الحوار في فرنسا. هل تعتقد أننا على أبواب هدنة تسبق المهلة الدستورية للاستحقاق الرئاسي؟
عندما ندرس الأزمة اللبنانية لكلِّ خلفياتها وتداعياتها وحركتها، نلاحظ أن من الصعب جداً أن نجد فيها شيئاً لبنانياً، لأنّ الذين يديرون المسألة ـ ولا نريد أن نتحدّث بشكل مطلق حتى لا نظلم أحداً ـ يتحركون على أساس أنّ لبنان كان ولا يزال ساحةً للتراكمات السياسية الدولية التي تنطلق في كلِّ موقع من مواقع الطوائف، لتحدث ثغرة تجعل الآخرين ينفذون من خلالها.
وقد كنت أقول سابقاً، إنّ مشكلة لبنان هي النظام الطائفي وليس تنوّع الطوائف. فالنظام الطائفي الذي كان عرفاً وأصبح قانوناً، أعطى كل طائفة شيئاً من الاستقلالية الذاتية. وهذه الخلفية أوحت لكلِّ طائفة بأن تبحث عن مواقع القوة في مواجهة الطائفة الأخرى. فهناك بعض الطوائف تشعر بأنّها تستقوي ببعض الدول الغربية، وأخرى بالدول العربية أو الإسلامية، ما جعل لبنان غائباً عن أكثر اللبنانيين، بحيث إنّه عندما تسأل أيّ لبناني «من أنت؟»، يحدثك عن طائفته وليس عن وطنه.
تعقيد الأزمة اللبنانية انطلق من خلال التدخلات الإقليمية والدولية، التي تمنع الاستقرار السياسي
إنّ الحرية في لبنان تحوّلت إلى لعنة لبنانية، بحيث إن كل الاتجاهات الدولية والإقليمية، استغلَّت هذه الحرية لإرباك الكثير من القضايا، وإيجاد الكثير من الحساسيات والفتن. ومن خلال هذا العرض، نجد أن الأزمة اللبنانية ليس فيها شيء لبناني في العمق، بل هناك بعض الجزئيات اللبنانية التي تمتدُّ إلى كليات دولية أو إقليمية. وهناك سياسات دولية تحاول أن تحرّك مشاريعها في المنطقة من خلال الخصوصيات اللبنانية، سواء من خلال الحرية الموجودة في لبنان، أو من خلال النظام الطائفي. وهناك خلفيات إقليمية تحاول أن تحمي نفسها أو توسع مواقعها من خلال ذلك. ولهذا، فإنّني أتصوّر أن تعقيد الأزمة اللبنانية انطلق من خلال التدخلات الإقليمية والدولية التي لا تريد لأيّ فريق لبناني أن يحصل على الاستقرار السياسي أو الأمني. وهذا ما لاحظناه من خلال الأزمة اللبنانية التي لو فكّر الإنسان فيها لوجدها أزمةً سخيفة، بحيث يشعر بسخافة الذهنية اللبنانية، كأن تكون المشكلة في حكومة الوحدة الوطنية وعدد الوزراء. هذه المشكلة كان يمكن أن تعالج في نصف ساعة، لكن المسألة هي أن بعض المواقع الدولية والإقليمية، ترى أن إعطاء فريق لبناني معين رقماً هنا أو رقماً هناك، يمكن أن يحقِّق له انتصاراً، إضافة إلى الانتصارات التي تحققت في تاريخه. ومن جهة أخرى، فإن مسألة المحكمة الدولية التي اختصرت كل تاريخ لبنان وأوضاعه، كانت تتحرك في إطار يريد السرعة، من دون إعطاء أي فرصة عاقلة هادئة وقانونية لدراسته.
لذلك كلّه، أعتقد أن الهدنة التي حصلت الآن، لم تكن هدنة المؤتمر الذي انعقد في باريس، بل هي هدنة الجميع الذين وقفوا أمام الجدار المسدود، فشعروا بأنّهم لا يملكون الكثير من حرية الحركة، حتى إدارة الحرب والفتنة، لأن كل عناصرها كانت غائبة في الواقع اللبناني، حيث شعروا بأنّ كل أتباعهم لا يوافقون على إثارة الفتنة بالشكل الذي يحرق البلد، أو إثارة الحرب بالشكل الذي يدمّره. إنها هدنة الجدار المسدود، وفقدان أيّ خيار في أيّ حركة خارج نطاق التصريحات الاستهلاكية.
إمكانات التسوية
* هذا الجدار المسدود الذي تحدَّثتم عنه، ألا يمكن أن يفتح الطريق أمام تسوية مؤقّتة على الأقل، تتيح الفرصة لانتخاب رئيسٍ للجمهورية في الخريف المقبل؟
- المسألة تحتاجُ إلى ملاحقة المفردات الإقليمية والدولية في مسألة انتخاب رئيس، لأن من المعروف في لبنان، من قبل ما سمِّي بالوصاية الإقليمية أو بعدها أو معها، أن البرلمان ينتظر الوحي أو كلمة السرّ، لأن أي رئيس لبناني لا بد من أن يأتي فرنسياً في مرحلة، وبريطانياً أو أميركياً في مرحلة أخرى، وربما يعطى لهذه الدولة العربية أو تلك رأي هنا أو رأي هناك في هذه المسألة.
ربما يتحدّث الآن الوسط السياسي اللّبناني، أنّنا أصبحنا نعيش في مرحلة لا يملك أحد فيها أن يفرض على اللبنانيين رئيساً للجمهورية أو رئيساً للمجلس النيابي أو رئيساً للحكومة، ولكنَّ المسألة في الواقع أصبحت أكثر فاعليةً من الماضي، لأننا عندما ندرس المداخلات الأميركية من جهة، والعنصر الفرنسي من جهة أخرى، نلمس ذلك بوضوح. أمّا بعض المواقع العربية، فمن الممكن أن تربك الوضع بدل أن تحقق نتائج إيجابية على هذا المستوى. لذلك أنا أتخوَّف من أن تكون المرحلة المقبلة، بفعل التعقيدات والعناد الذي يتحرّك من خلاله اللبنانيون، وهذا ما شهدناه في الحوار الذي دار في فرنسا، أتخوّف من أن يكون التفكير هو هل يكون للبنان رئيس أو لا يكون، وليس إيجاد تسوية أو عدم إيجادها. فمسألة التسوية لا تزال تعيش في قبضة الخطر، وليس في قبضة الحركة السياسية الطبيعية.
مسألة التسوية لا تزال تعيش في قبضة الخطر وليس في قبضة الحركة السياسية السياسية الطبيعية
الخوف على الكيان
* تخشون ألا يكون للبنان رئيس، أليس من خوف ساعتئذ على لبنان، أن تكون هناك دولة وكيان أو لا يكون؟
- السؤال هنا: من الذي يهتم بأن يبقى لبنان دولة كما هي الدول التي يعيش مواطنوها في حركية المواطنة، بحيث يشعر المواطن أن علاقته بوطنه هي علاقة مواطنة، لجهة ما يحصل عليه من حقوق وواجبات؟ إنّ لبنان يعيش الآن واقع اللادولة. هناك قرارات تصدر، لكن الواقع هو أقل من واقع حكومة تصريف أعمال من حيث التطبيق.
* لكن في الشّكل هناك دولة؟!
- الخطورة هي أن تكون هناك دولة في الشكل وليس في المضمون، فإذا لم يتم انتخاب رئيس الجمهورية في وقته، أو تأخر انتخابه، أو حصلت تعقيدات في أجواء الانتخاب، فإن الشكل يمكن أن يحافظ عليه من خلال حكومة جديدة على أنقاض هذه الحكومة، أو في بعض ما يجري الحديث عنه من أن الرئيس سيقوم ببعض الحلول. إنّنا نستذكر في هذا المجال كلام الرئيس الأميركي بوش عن الفوضى الخلاقة أو البنّاءة، لأنه قد يجد في هذه الفوضى مجالاً لتحريك بعض المشاريع في المنطقة، وهو ما عبّرت عنه وزيرة الخارجية الأميركية عندما تحدثت عن الحرب اللبنانية، واعتبرت أن اللبنانيين كسبوا من هذه الحرب من خلال تحريك الوضع الدولي وإصدار أكثر من قرار، وجعل لبنان ساحة تدار منها قضايا المنطقة.
أميركا والرئاسة
* هل تحمّل الأميركيين مسألة الفراغ الرئاسي في لبنان؟
- نحن نتحدّث عن تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية، من أن لبنان يمثِّل الساحة المفضلة للسياسة الأميركية في المنطقة. ولا نتحدّث عن سر. ولكن عندما أتحدث عن الموقف الدولي والإقليمي، فأنا أحمّل اللبنانيين مسؤولية المشاكل التي يعيشونها أيضاً، لأنهم قبلوا بأن يكونوا صدى للآخرين ولا يكونوا صوتاً.
أحمّل اللبنانيين مسؤولية المشاكل التي يعاني منها البلد لأنهم قبلوا بأن يكونوا صدى للآخرين ولا يكونوا صوتاً
* ولكن هل ترى مصلحة للأميركيين في الفراغ الرئاسي؟
- أنا لا أتحدث عن فراغ طويل في هذا المجال، بل يمكن أن يكون هناك فراغ مرحلي قد يخلق بعض التعقيدات التي يمكن أن يستفيد منها الأميركيون في بعض الأوضاع التي يريدون تحريكها في لبنان.
الحرب الأهليَّة!
* قلت إن قرار الحرب الأهلية حتى ليس في أيدينا. هل تخشى من ظروف ومصالح دولية وإقليمية تفرض حربا أهلية على ساحتنا؟
- أنا لا أتصوّر ذلك، لأنّ أيّ حرب أهلية كالتي مررنا بها، ربما تربك الوضع الدولي في علاقته بالواقع اللبناني، فهناك صراع إسرائيلي ـ لبناني، وهناك القوات الدولية (اليونفيل)، وهناك خطوط سياسية يرسمها مجلس الأمن هنا وهناك في ما يتصل بمفردات الواقع اللبناني، سواء من خلال الداخل اللبناني أو من خلال تأثيره على الواقع الإقليميّ، ولا سيما في ما يتصل بسوريا وإسرائيل.
لذلك فإنّ أيّ حرب أهلية في لبنان سوف تؤدي إلى حرب إسرائيلية ـ لبنانية، لأنَّ الحرب الأهلية ستخلق فوضى تتيح للسلاح الفلسطيني من جهة، ولبعض السّلاح الإقليميّ من جهة أخرى، أن يتحرّك. وربما يترك ذلك تأثيراً على الداخل الفلسطيني. عندها لا تبقى هناك حدود مرسومة في هذا المجال، وهذا ما لا ينسجم مع السياسة الأميركية والفرنسية أو العربية، لأنّ ذلك يحرج الكثير من الواقع العربي، وربما يترك تأثيره السلبي على الأمن العربي بطريقة أو بأخرى.
أيضاً، عندما تحدث حرب أهلية، فإن كل الفئات التي تسمى متطرّفة، أصوليّة أو غير أصوليَّة، سوف توجَّه لمحاربة القوات الدولية، ما يجعل هذه القوات في حال من الاهتزاز الذي قد يدفع بدولها إلى سحبها من لبنان، وهذا ما يزيد الفوضى في المسألة اللبنانية ـ الإسرائيلية. وهكذا نجد أن هذه الحرب الأهلية التي قد تنفتح على حرب إسرائيلية ـ لبنانية، قد تجذب حرباً سورية ـ إسرائيلية، وأعتقد أن الولايات المتحدة لا تجد مصلحة في هذه الفوضى الدامية والخطيرة، فهي تريد نوعاً من الفوضى التي تتحرك في دائرة الاستقرار الداخلي في مواقع الاهتزاز السيـاسي من دون اهـتزاز أمني، إلاّ على مستوى ما يحصل في نهر البارد، أو على مستوى اغتيال هذا الشـخص في هـذه الجـهة أو تـلك.
أمريكا تريد فوضى تتحرك في دائرة الاستقرار الداخلي دون الاهتزاز الأمني في لبنان
هدنة طويلة!
* هل تتوقَّعون أن تكون «هدنة الجدار المسدود» طويلة؟
- إنني أعتقد ذلك... فلبنان عندما يبقى ساحةً للمشاريع الدولية أو الإقليمية، فإن من الصعب جداً أن نجد حلاً لمشاكله، لأنّ اللّبنانيّين سيبقون على هذا الواقع الذي يحاول فيه كل فريق أن يقف عند مواقعه، ولا يتقدم خطوة نحو الآخر.
* ما الذي يمكن أن يغيّر هذا الواقع؟ هل تعتقدون أن تغييرات ما في الولايات المتحدة يمكن أن تبدِّل هذه المعادلة التي تتحدثون عنها؟
- من الطَّبيعي أن مشكلة لبنان ليست مشكلة محليَّة، بل هي مشكلة مرتبطة بأزمة المنطقة. فهناك تأثيرات من خلال الاحتلال الأميركي للعراق، وتأثيرات نتيجة تعقيدات الواقع العراقي من خلال دول الجوار، التي تجد أنَّ من مسؤولياتها للحفاظ على أمنها، أن تحارب أميركا في العراق بطريقة أو بأخرى، لأن أميركا أصبحت على حدود إيران وسوريا، وأيضاً هناك وضع تركيا التي بدأت تهتز بفعل قضية حزب العمال الكردستاني، وتتحفَّظ على إدارة السياسة الأميركية لوضع كردستان العراق، وحتى بالنسبة إلى الخليج، فيما يتعلّق بالأفراد الذين يفدون من بعض دوله لينضموا إلى تنظيم «القاعدة» وغيره... إنَّ هذا الواقع سوف يؤدِّي إلى نتائج سلبية على الواقع اللبناني، ولا سيّما من خلال ما يراد تحريكه من فتنة سنيّة ـ شيعيّة على مستوى العالم الإسلاميّ. لذلك من الصعب جداً أن تنصب للبنان أسوار تمنع الآخرين من دخوله، لأنّ لبنان ساحة لا سقف لها ولا حيطان.
في لبنان «قاعدة»
* هل تدعمون فكرة أن في لبنان «قاعدة»؟
- أنا أعتقد أنه عندما ندرس تجربة نهر البارد، أو بعض المخيّمات أو الاعتقالات في منطقة البقاع وغيرها، نعرف أن هناك وجوداً كبيراً للقاعدة في لبنان.
* وماذا عن تأثيرات ذلك؟
- أنا أعتقد أن أفق «القاعدة» في لبنان، لا يشبه أفق «القاعدة» في العراق أو أفغانستان، لأنَّ النسيج اللبناني لا يسمح بوجود حالة فوضوية أمنية بالطريقة الموجودة في العراق، لكن «القاعدة» يمكن أن تقوم ببعض الإرباكات، كالإرباك الذي حصل في نهر البارد، وما قد تطلّ عليه بعض الأحداث في عين الحلوة والمخيمات الأخرى، ونرجو ألا يحصل ذلك، وعلينا أن ننظر إلى ما يمكن أن يثار بطريقة مخابراتية هنا أو هناك، بالنسبة إلى واقع المخيمات في لبنان.
أفق "القاعدة" في لبنان لا يشبه أفق القاعدة في العراق وغيرها الذي يسمح بخلق فوضى دموية
أسلمة لبنان
* في هذا المجال، هناك تخوّف مسيحي في لبنان. كيف تنظرون إلى ما قاله المطران بشارة الراعي من أنّ هناك اتّجاهاً لأسلمة البلد؟
- أنا أتصوَّر أنَّ هذا الكلام يمثِّل تضخيماً للواقع، لأنّه ليس هناك أيّ فريق في لبنان يملك أن يؤسلم أو ينصرن البلد. لبنان سوف يبقى بلداً تعيش فيه الطوائف، ولا أعتقد أنّ مسألة حقوق الطفل في الإسلام أو الوظائف في قوى الأمن الداخلي وغيرها يمكن أن تؤسلم لبنان. قبل اتفاق الطائف كان المسيحيون يملكون القوة على مستوى الوظائف وغيرها، لكنهم لم يتمكّنوا من «نصرنة لبنان»، لذلك فإن الحكومة الحالية التي تشمل المسيحيين بشكلٍ كبير، وكذلك السنة والدروز، لا يمكن أن تخطط لأسلمة لبنان. لذلك نحن نتمنى ألاّ ينطلق أي تصريح بهذه الصراحة، ما يمكن أن يثير المشاعر والأحاسيس التي نحن بغنى عنها.
الحديث عن أسلمة البلد هو تضخيم للواقع وإثارة للحساسيات الطائفية
* هل تعتقدون أنَّ الصّيغة اللبنانية التقليدية لا يزال المجال مفتوحاً للملمتها وإعادة ترميمها، أم أننا أصبحنا بحاجة إلى عقد جديد في لبنان؟
- إنَّ التَّعقيدات الطَّائفية التي تزداد عنفاً وعصبيةً بفعل التطورات الداخلية والأوضاع المحيطة بلبنان، لا تسمح بإسقاط النظام الطائفي فيه. ليكون نظاماً مواطنياً، لأنّ بعض المواقع الكبرى في بعض الطوائف تتدخَّل حتى في قضية الانتخابات، عندما تصل المسألة إلى حد أنّه لا يحق للنَّاخب المسلم أن ينتخب المسيحي، والعكس أيضاً، فالمسألة الطَّائفية في عصبيّتها السَّوداء، وصلت إلى المستوى الذي يتحدّث عنه كبار القوم، ويُراد لقوانين الانتخاب والتوظيف أن تخضع له، لأنّه ممنوع أن ينطلق اللبناني بصفة كونه مواطناً ينفتح على اللبناني الآخر بروح المواطنة، مع التنوّع الطائفي والمذهبي، وقد كنّا نسمع عن خصوصية بيروت وأنّ لها خصوصية، مع أنها عاصمة البلد ويعيش فيها الجميع، فأن يصل الاستغراق في المسألة إلى خصوصية العاصمة، فهذا أمر يدلل على مدى الاستغراق في المسألة الطائفية والمذهبية.
* ولكن هناك من يتحدَّث عن خصوصيات أخرى في الجبل والجنوب وغير ذلك، بالمستوى الذي تكاد فيه كل طائفة أن يكون لها جمهورية خاصة؟!
- هذا الواقع ينطلق من خلال النظام الطائفي، فكلّ طائفة تريد أن تحصل على حصة ترضي مصالحها بمعزل عن المسألة اللبنانية. فالمشكلة هي أنّ النظام الطائفي جعل كل طائفة تريد أن تجعل لبنان على صورتها. سابقاً أريد للبنان أن يكون دولة الموارنة، وربما فكّر البعض في أن يكون لبنان دولة السنّة، ويتحدث البعض عن دولة الشيعة، وإن كان الشيعة لا يملكون أيّ فرصة لذلك.
القوة الشيعية
* ولكن هناك من يتحدث عن القوة الشيعية الصاعدة بفعل السلاح وغير ذلك...
- لا أدري لماذا تثار المسألة الشيعية في لبنان أو في العالم العربي والإسلامي في هذا الشكل، فعندما ندرس المسألة على الأرض ميدانياً، نجد أن الشيعة في لبنان تمثلوا بالمقاومة، لكن السؤال: هل تحرّك الشيعة من خلال هذه القوة العددية أو العسكرية، للدخول في حركة عدوانية على الكيان اللبناني؟ هل فكَّروا في كانتون طائفي يستقلُّون فيه؟ هل حرّكوا هذا السلاح في مواجهة الطوائف الأخرى؟... نعم، لقد حرّك الشيعة هذا السلاح ضدَّ بعضهم بعضاً، في بعض المراحل. وحتّى في العراق، نجد أنّ الشيعة في كل تاريخه كانوا على الهامش، ولم يكن لهم أي دور في الحكم والإدارة، ومع ذلك، لم يقوموا بأيّ عمل سلبي ضد الحكم الذي كانت عناوينه الكبرى سنية، حتى إنَّ الهاشميين عندما جيء بهم من الحجاز، وقد جاء بهم علماء الشيعة، كانوا يعلنون أنهم على مذهب السنّة، وقد تعاون الشيعة معهم ولم يقوموا بأيِّ عمل أو فتنة ضدهم، بل كانوا يتعاونون معهم سياسياً وثقافياً وغير ذلك. وهكذا نجد الشيعة في الخليج يمثّلون الدرجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، ومع ذلك، لم يقوموا بأيّ عمل عنف. ربما نجد بعض المواقع الشيعية الّتي تقف في موقع المعارضة، ولكن لم يقوموا بأيّ فتنة. حتى إنه خلال حرب العراق على الكويت والخليج، وقف الشيعة في الكويت ضد الجيش العراقي، وكانت المناطق الشرقية الشيعية في السعودية تستقبل النازحين من الكويت.
الشيعة لم يقوموا بأي دور سلبي في أي موقع من المواقع في العالم العربي والإسلامي
نحن نعتقد أن الشيعة لم يقوموا بأيّ دور سلبي في أيّ موقع من المواقع في العالم العربي والإسلامي، وكانت بعض المواقع تفرض عليهم الاضطهاد.
خائفة ومخيفة؟
* هذا الأمر لا يغني عن القول، إنّ الآخرين ينظرون بخوف إلى الطائفة الشيعية في لبنان، وهي في الوقت نفسه خائفة وقلقة بعد حرب تموز، وباتت متمسّكةً بسلاحها، والآخرون خائفون منها. كيف السبيل إلى إزالة هذا الخوف المشترك؟
- نحن نريد أن نناقش خلفيَّة هذا الخوف؛ هناك حالة عداء مع إسرائيل، ولم تحدث في أيِّ بلد عربي حالة عدوانية متكرّرة كما يحدث في لبنان. لذلك فإنّ الشّيعة في لبنان حملوا السّلاح في مواجهة العدوان الإسرائيلي، لأنّ الحكومات المتعاقبة في لبنان لم تعمل على تزويد الجيش اللّبناني بالسلاح الذي يمكن أن يواجه به العدوان الإسرائيلي. وكانت إسرائيل تقصف الثكنات العسكرية والجنود نيام من دون أن تتحرك الدولة لمواجهة هذا العدوان.
المقاومة استطاعت أن تعطي لبنان عنفواناً تحريراً جديداً
ونحن نعرف أنّ الشيعة اللبنانيين من خلال حركتهم الجهادية، تمكّنوا عام 2000 من تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي. وعندما انطلقت حرب تموز، كان الحديث أنّ المقاومة هي التي تفرض على لبنان مسألة الحرب والسلم، وأن «حزب الله» هو الذي أدخل لبنان في مسألة العدوان الإسرائيلي من خلال أسر الجنديين، ولكن عندما ندرس هذه القضية بعقل موضوعي بارد، نجد أن أسر الجنديين لم يكن حركةً لإيجاد حالة حرب مع إسرائيل، ولم تكن إسرائيل في تاريخ أسر جنودها تخطِّط لحرب على لبنان. ولذلك كانت المسألة من أجل القيام بعملية تبادل لإنقاذ الأسرى اللبنانيين، ولم تكن هناك أيّ فكرة مسبقة لدى المقاومة الإسلامية أن يدخل لبنان في الحرب. لكنّنا فوجئنا بأنّ هناك خطة أميركية ـ إسرائيلية لاستغلال هذا الحدث من أجل ضرب «حزب الله» والمقاومة، وعرفنا من خلال النتائج كيف استطاعت المقاومة أن تعطي لبنان عنفواناً تحريرياً جديداً، بحيث سقط الجيش الإسرائيلي تحت تأثير هذا النصر الذي حققته المقاومة الإسلامية، وهزمت إسرائيل باعتراف السياسيين الإسرائيليين، وأعطت تاريخاً جديداً للعالم العربي والإسلامي... وهذا واقع وليس عنتريات.
لذلك، عندما جرى الحوار سابقاً، كان الحديث عن وضع استراتيجية دفاعية للبنان. فلماذا يخافون الآن من «حزب الله» وسلاحه، ما دام هذا الأخير مستعداً للتحدث مع كل الفرقاء اللبنانيين، على أساس وضع هذه الاستراتيجية؟! فإذا استطاع الجيش الحصول على القوة التي يستطيع من خلالها الدفاع عن لبنان ضد العدوان الإسرائيلي، فعندها تنتفي الحاجة إلى المقاومة.
النظرة إلى إسرائيل
* هناك من يقول بكلِّ صراحة: أنا لا أريد أن أتعاطى مع إسرائيل إلا كما تتعاطى الدول العربية الأخرى، فلماذا يريد «حزب الله» أن يزجني في حرب مع إسرائيل كلّ سنة أو سنتين. كيف يمكن الردُّ على هذا القول؟
- نحن لا نزجُّ أحداً، إسرائيل هي التي تزجُّ اللبنانيين من خلال عدوانها. فلم يحدث مرّة أن بدأ المجاهدون بخوض حرب ضدّ إسرائيل. لذلك نقول إنّ هذا الكلام لا ينطلق من واقع، فعندما ندرس تاريخ العدوان الإسرائيلي على لبنان، نجد أنّها كانت تتحرّك دائماً من دون أساس. ففي حادثة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، ما هي المناسبة لكي تهجم إسرائيل على لبنان وتحتل بيروت؟! المسألة أن هناك سياسة إسرائيلية أميركية كانت تحاول الاستفادة من هشاشة الوضع في لبنان قبل أن تنشأ المقاومة الإسلامية. عام 1982، حيث لم تكن هناك مقاومة إسلامية، وكانت المقاومة فلسطينية. لم يكن الشيعة من يدير الحرب مع إسرائيل آنذاك. لذلك أعتقد أن الذين يتحدَّثون بهذه اللّغة، ليسوا مقتنعين بما يتحدَّثون به، وإنما يحاولون إثارة الأمور من أجل تسجيل النقاط.
أقول بكلِّ مسؤولية، إنّ الشيعة في لبنان هم أكثر الطوائف الذين يتحملون مسؤولية الأمن فيه والانفتاح على المواقع الأخرى لصنع لبنان السيد الحر المستقل، لأن الشيعة في لبنان لا يقبلون أن تحكمهم سوريا ولا إيران، وهم يريدون أن يكونوا مواطنين متساوين مع المواطنين الآخرين، تحكمهم الحقوق والواجبات، وكل كلام غير ذلك هو كلام غير واقعي.
الشيعة في لبنان هم أكثر الطوائف الذين يتحملون مسؤولية الأمن فيه
الشيعة والسلاح
* لكن الشيعة هم الطرف الوحيد الذي يملك سلاحاً في لبنان، وإسرائيل دولة عدوة كانت وستبقى. فهل هذا يعني أن السلاح سيبقى حتى إيجاد حل مع إسرائيل أو زوالها؟
- مشكلة سلاح الشيعة أنهم الفئة الوحيدة التي تتحمّل مسؤولية حماية لبنان. وعندما يرتفع هذا الخطر عن لبنان، تزول ضرورة هذا السلاح. فالشيعة لن يقوموا بأي حركة تجعل الوضع الأمني في لبنان مختلاً، وعندما يكون هناك دولة قوية قادرة تستطيع حماية لبنان من أيِّ عدوان، سوف تحلّ مسألة السلاح.
نعم، الشيعة لديهم سلاح، وقد قالوا للآخرين تعالوا لنقاوم معاً. الشيعة لديهم سلاح، ولكن متى يستعملون هذا السّلاح؟ هل هم يبادرون إلى الحرب مع إسرائيل بمناسبة وبدون مناسبة؟ هذا كلام غير واقعي، ولكن إذا اعتدت إسرائيل فنحن لها.
* ولكن هل سيبقى هذا السلاح طالما إسرائيل موجودة؟
- عندما تحصل علاقات طبيعية بين لبنان وإسرائيل، لا تعود هنالك ضرورة للحرب والسلاح.
* العلاقات بين لبنان وسوريا، لا تبدو الأبواب مفتوحة لتطبيعها. كيف السبيل إلى ذلك؟
- لا بدَّ من أن يأتي وقت تعود فيها العلاقات إلى طبيعتها، إنّ لبنان لا يستغني عن سوريا، كما أن سوريا لا تستغني عن لبنان. وهناك نقطة كان يردّدها السوريون، وهي أن لبنان يمثل خاصرة سوريا، وأن كل الانقلابات الّتي كانت تحدث في سوريا كانت من لبنان. لذلك نعتقد أن البلدين بحاجة إلى تطمينات متبادلة.
ولكن دخل على العلاقات اللبنانية ـ السورية، موضوع العلاقات الأميركية ـ السورية، والعلاقات الإسرائيلية ـ السورية. لذلك من الصعب جداً حصول علاقات طبيعية في الوقت الحاضر بين لبنان وسوريا، إلاّ بعد أن تتوازن سياسة الإدارة الأميركية بين لبنان وسوريا.
طبيعية العلاقة اللبنانية السورية ترتبط بشكل مباشر بطبيعة العلاقة الأمريكية السورية
* هناك من يتحدّث عن تمايز في النظرة الإيرانية والسورية إلى لبنان. كيف تنظرون إلى ذلك؟
- هذا الاختلاف طبيعي، لأن إيران ليست على حدود لبنان، بينما سوريا هي دولة مجاورة له، وطبيعة الجوار المباشر قد تترك تأثيرها على الوضع السياسي، وهذا ما نلاحظه في كل الدول المتجاورة. من الطبيعي في كل دولة كبيرة مجاورة لدولة صغيرة، أن تكون هناك علاقات غير طبيعية إذا لم توضع ضوابط معينة للعلاقات.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 04 رجب 1428 هـ الموافق: 19/07/2007 م