بيروت ـ حسين عبد الله
الحوار مع العلامة محمد حسين فضل الله يكتسب أهمية خاصة، فالرجل يطلُّ على كل القضايا بسعة تبصّر واستشراف تعطيه ميزة في قراءة الأحداث والتطورات، إضافةً إلى الانفتاح الذي يتّسم به في حركته الدينية التي لا تنحصر في لبنان، وإنما تمتد على مدى الساحتين الإسلامية والعربية.
عمان التقت فضل الله في حوار تناول القضايا الساخنة الآن، وفيما يلي نصّه:
* لنبدأ الأسئلة من المناطق الساخنة، من العراق، هذا البلد الذي يعيش الآن في أدق مرحلة، لا بل هو معلَّق بين الحياة والموت، وتنتظره انتخابات بعد أسابيع قليلة، فهل ـ في رأيكم ـ تستطيع الانتخابات انتشاله من الواقع الحالي؟ وهل ستستطيع تغيير وجهه؟
ـ من الطبيعي جداً أن الانتخابات في العراق إذا سارت بطريقة حرة وجدية شاملة، فإنها ستغيِّر وجه العراق من الاحتلال إلى الاستقلال والحرية، حيث تؤدي الانتخابات إلى أن يمسك العراقيون أمرهم بأيديهم، من خلال الممثلين لهم من الداخل، والذين يعملون على تشكيل حكومة عراقية حرة مستقلة، إضافة إلى الدستور الذي تضعه هذه الحكومة.
ولكننا نتحفّظ على هذه الانتخابات, لأنها تجري تحت سلطة الاحتلال الذي مهما تحدث الممثلون له والمؤيدون له عن منحه الحرية للشعب العراقي في اختيار ممثليه، فإن خلفيات الاحتلال السياسية والأمنية والاقتصادية، التي أرادت للعراق أن يكون جسراً للمنطقة، قد لا تجعل هذه الكلمات من الحرية وما إلى ذلك واقعيةً، ولا سيما أن الإعلام تداول سابقاً أن المندوب الأمريكي بريمر تحدث مع كثير من الفاعليات العراقية، بتأسيس أحزاب تنفِّذ خطط السياسة الأمريكية في الانتخابات. وإن صحّ ذلك فإنّه يعني أنّ كثيراً من القوائم الانتخابية سوف تكون قوائم أمريكية في هذا المجال.
إضافةً إلى الفوضى السياسية التي لم تستطع أن تنتج قاعدة أو قيادة موحدة للوضع في العراق بالشكل السليم، إلى جانب المسألة الأمنية التي قد تمنع الكثيرين من العراقيين من الحضور إلى مراكز الاقتراع، ولا سيما بعد أن هدّد هؤلاء الذين يحرّكون العنف في الواقع العراقي بمهاجمة كل مراكز الاقتراع وما إلى ذلك.
ولعل مقاطعة الأكثرية السنية للانتخابات، قد تضع علامات سلبية أمام تمثيل المجلس الوطني لكلِّ العراقيين، لأنه يخلق انطباعاً بأن المجلس الوطني لا يمثل كل العراقيين، بل يمثل فريقاً منهم، وهو ما قد يثير بعض الفتن المذهبية في التداول السياسي، وقد يحقِّق ما يـبشر به الإعلام الأمريكي وغيره من حرب أهلية وفتنة طائفية وما إلى ذلك.
لهذا، فإننا في الوقت الذي نعتقد أن الانتخابات في العراق أو في أي بلدٍ آخر تمثل نقلة نوعية للواقع، لكن هذه التحفظات السلبية قد لا تجعل هذه الانتخابات وسيلة من وسائل هذا الهدف الكبير.
* نلاحظ لديكم خوفاً على وحدة العراق؟
ـ لست قلقاً على الوحدة من ناحية العلاقات السنية الشيعية، لأنني أعتقد أنّ التاريخ العراقي لم يحمل في مداه أية مشكلة سنية شيعية في المستوى الذي يؤدي إلى الفتنة كما يتحدث المتحدثون.
ولكن المشكلة التي تكمن وراء هذا الخوف على الوحدة هي الفديرالية، لأن الفديرالية في تصور الذين أطلقوها قد تقسِّم العراق إلى مناطق عدة، إن من خلال التقسيم على مستوى المحافظات، أو بالنسبة إلى المسألة الكردية التي تعتبر الفديرالية مقدمة للدولة، وهذا ما تابعناه عندما قُدِّمت وثيقة للأمم المتحدة تطالب بإيجاد استفتاء في المنطقة الكردية لتحويل كردستان إلى دولة، ما ينعكس سلباً على دول الجوار التي تحتوي فريقاً كردياً كبيراً كإيران وسوريا وتركيا.
لذلك، فإنني أخشى من الفديرالية على الوحدة العراقية، لأنها سوف تؤدي إلى وجود حواجز بين العراقيين أنفسهم. نحن لا نمانع من إقامة لامركزية إدارية تُسهِّل للمواطنين أعمالهم وخدماتهم ضمن نطاق الوحدة العراقية، ولكن وجود فديرالية قد يؤثر على وحدة العراق، مع ملاحظة أن الفديرالية تعتبر حلاً للتقسيم، أي للوطن المقسَّم، وليست حلاً للوطن الموحَّد، فالعراق يمثل دولة موحدة وشعباً موحداً في تاريخه، لذلك فإن الفديرالية هنا التي يراد من خلالها إزالة هذه الوحدة، يعني أنها ستكون طريقاً للتقسيم في نهاية المطاف.
* ماذا لو نجحت دعوة التقسيم في إحلال الفديرالية، وتم تقاسم ثروات العراق بين هذه الفئة أو تلك، فكيف سيكون العراق في ظل ذلك؟
ـ أنا أتصوّر أن مسألة التقارب السني الشيعي ـ وهو أدقّ من كلمة الوحدة ـ ينطلق من داخل النسيج العراقي ومن تاريخه، ولكن المسألة في الفديرالية أنها تجعل فريقاً من العراقيين، وهم الأكراد، يستولون على بعض الثروات الطبيعية، وخصوصاً في المناطق الغنية، فهم يطالبون الآن بمدينة كركوك، بنفط كركوك، وإذا كان الجنوب يملك خزاناً كبيراً من النفط، سواء مما هو موجود فعلاً، أو في ما يمكن أن يكتشف، فإن هذا الاستيلاء يؤدِّي إلى تقسيم ثروة العراق، وربما يربك الوضع الاقتصادي للعراق بشكل كامل.
* هناك خوف حقيقي من أن يصيب العنف في العراق بعض دول الجوار، وتتطور الأوضاع نحو الأسوأ. كيف ترون أنتم صورة الوضع؟
ـ من الطبيعي أن هناك نوعاً من أنواع التداخل في العلاقات بين دول المنطقة، ولا سيما عندما تبقى أمريكا طويلاً في العراق، فإنّ الدول المجاورة ستشعر بالخطر من الوجود الأمريكي على حدودها، ولا سيما أن أمريكا دخلت العراق تحت عنوان تغيير المنطقة والدفاع عن مصالحها الاستراتيجية فيها، بما يعطي لأمريكا الحرية في الحركة للعبث بمقدّرات المنطقة وبسياستها وأمنها واقتصادها، ما يؤدي إلى المزيد من الاهتزاز في هذا المجال.
كما أن بقاء الفوضى السياسية والأمنية في العراق، يمكن أن يؤدّي إلى مؤثرات سلبية على دول المنطقة، ومن الممكن جداً أن نستعيد ما قام به صدّام في حربه على إيران واحتلاله الكويت، وما سمعناه من بعض وزراء الحكومة العراقية المؤقتة من تهديد لدول الجوار، بأنه إذا بقي تدخّلكم في العراق من الناحية الأمنية، فإننا سننقل العنف والفوضى إلى مناطقكم. فعندما نسمع هذا المنطق في الوضع العراقي الذي لا يملك أيّ استقرار، فإنّ من الممكن أن يتحوّل إلى واقع في المستقبل عندما تتطور الأمور في المنطقة.
* إذا قرأنا بتمعّن مسار التطوّرات، نرى أن التغيير سيصيب لبنان أيضاً، فهل تؤيّدون هذا الرأي؟
ـ لا أتصوّر أن هناك مشكلة فوق العادة في مسألة التغيير في لبنان من خلال الأوضاع الدولية الكبرى. إنني أعتقد أن لبنان لن يتغير تغيراً كبيراً في تركيبته السياسية، لأن تأسيس لبنان كان من أجل أن يكون الرئة التي تتنفس منها دول المنطقة، ومن أجل أن يكون نافذة الشرق على الغرب ونافذة الغرب على الشرق. لكن من الطبيعي جداً أن يستخدم لبنان كورقة للضغط في حساب المصالح الإسرائيلية ضد سوريا، ويستخدم للضغط على سوريا من أجل المسألة العراقية، أو من أجل العلاقات الأمريكية السورية.
ولذا، فإن الضغوط التي توجه إلى لبنان أو إلى سوريا، تستهدف سوريا في الدرجة الأولى، ولا سيما القرار 1559، الذي يقصد به الضغط على سوريا أساساً للحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات في الوضع العراقي في تسهيل مهمّة الاحتلال هناك.
* هل يعود لبنان إلى مرحلة الاهتزاز الأمني الضاغط؟
ـ أنا لا أتصوّر إمكانية أن يتحوّل الوضع في لبنان إلى حالة أمنية ضاغطة، كما أن مسألة الانسحاب السوري من لبنان ليست بهذه الشمولية كما يحكى، وإنما يتحرك في نطاق إعادة انتشار، بحيث لا يتطوّر إلى حالة من حالات الضغط على سوريا من أجل عملية انسحاب شاملة، وحتى الذين يطالبون بانسحاب الجيش السوري من لبنان يقولون إننا لا نطالب بعملية انسحاب سريعة، بل على سوريا أن تدرس خياراتها وظروفها في لبنان، ليتحوّل ذلك إلى واقع من حيث المبدأ.
* نجح الفلسطينيون في تجاوز قطوع مرحلة ما بعد عرفات باختيار رئيس جديد، السؤال: هل يستطيع الشعب الفلسطيني إكمال هذه الخطوة الضارية؟ وما هي التحدّيات التي تواجه القيادة الجديدة؟
ـ إنني أعتقد أنّ الانتخابات كانت مجرد حركة من أجل إيجاد شخصية تمثِّل الخط السياسي الذي ترتاح إليه أمريكا وإسرائيل في شكله ومضمونه. ولكن الثوابت الفلسطينية التي تحدث بها الرئيس الجديد محمود عباس تتوافق مع الثوابت التي تحدث عنها الرئيس الراحل ياسر عرفات، كما أن الشعب الفلسطيني الذي يريد السلام والاستقرار وإزالة الاحتلال، ليس مستعداً للتنازل عن هذه الثوابت.
ولهذا، فإن هناك مشكلة أولى سوف تواجه الرئيس الجديد، وهي أن أمريكا وإسرائيل وضعتا شرطاً أساسياً لبداية التفاوض، وهو تفكيك منظمات الانتفاضة ونزع أسلحتها، وهذا أمر يثير الكثير من المشاكل في الساحة الفلسطينية، لا سيما مع وجود علامات استفهام حول شخصية الرئيس الجديد في المنطقه بعد لقائه شارون وبوش سابقاً، وما إلى ذلك مما يثير بعض علامات استفهام حوله.
إن المسألة الأساس التي تقف أمام الوضع الفلسطيني الجديد هي الثوابت الإسرائيلية، ومنها منع عودة اللاجئين، منع تفكيك المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية، ومنع عودة القدس كعاصمة لفلسطين، وربما منع تفكيك الجدار، إضافة إلى المطالبة بتفكيك المنظمات المجاهدة تحت عنوان الإرهاب. وسوف تواجه الرئيس الجديد بشكل فوق العادة مشكلة، عندما يراد للانتخابات التشريعية في مايو المقبل أن تجري في فلسطين، فإن الانتخابات ستدخل الكثير من ممثلي الانتفاضة إلى المجلس التشريعي، ما سيؤدي إلى الكثير من المشاكل في هذا المجال.
* الاقتتال الداخلي، هل هو واقع لا محالة؟
ـ من الصعب جداً أن يحدث هناك اقتتال داخلي، لأن الفلسطينيين يدركون جميعاً ـ قيادةً وشعباً ـ أن أي اقتتال داخلي سوف يسقط الجميع، وسوف يسقط الهيكل على رؤوس الجميع.
* هل من حلٍّ في الأفق للمسألة الفلسطينية؟
ـ أنا لا أتصوّر أن هناك حلاً قريباً، لأن شارون ومعه الليكود، وحتى حزب العمل، إضافةً إلى السياسة الأمريكية، لا يسمح بوجود حلٍّ يحقق للفلسطينيين الدولة بأدنى ما يمكن من الحلول، لأن اللاءات الشارونية تمنع من وجود دولة قابلة للحياة، كما يعبّر بوش، لأنها سوف تكون دولة مقطعة الأوصال وأدنى من الحكم الذاتي.
* يبدو أنّ نقاط الضعف في الأمتين العربية والإسلامية أكثر من نقاط القوة، فهل سقطت الأمّتان؟
ـ أنا أعتقد أن القائمين على الشؤون العربية قد سقطوا تحت تأثير السياسة الأمريكية من خلال نقاط الضعف التي تعيش في داخل مواقعهم، ولكن الأمة لا تسقط، فإذا ضعفت في مرحلة، فإن عناصر القوّة سوف تستيقظ في مراحل أخرى.
* هل نحن نعيش عصر انحسار العصر الأمريكي؟
ـ إنني لا أتحدث بشكل تلقائي عن انحسار العصر الأمريكي، لكنني أؤمن أن ما من قوة خالدة، وليس هناك ضعف خالد، الضعيف الآن قد يكون قوياً في المستقبل، والعكس صحيح. نحن نعرف أين كانت أمريكا، كانت مستعمرة بريطانية، فأين أمريكا اليوم وأين بريطانيا؟ وهكذا كانت الصين. ولذلك فإنني أعتقد أن الآية الكريمة التي يقول فيها الله تعالى: {وتلك الأيّام نداولها بين الناس}، هي التي تمثِّل الحتمية التاريخية.
* كيف تصفون العلاقة العمانية اللبنانية في هذه الظروف بالذات؟
ـ إن هناك نوعاً من العقلانية الواقعية في السياسة العمانية، فالسياسة العمانية تجاوزت الأوضاع الحادة التي عاشها العالم العربي، سواء في الدائرة العربية، أو في الدائرة العربية الإيرانية، ولذلك أتصور أن العلاقات العمانية اللبنانية تتحرك بشكل واقعي متوازن، لأنه ليست هناك أية مشكلة بين عمان ولبنان، بل إن هناك مصالح متبادلة يستفيد منها البلدان، وأنا أعتقد أن البلدين يملكان من العقل ما يستطيعان من خلاله أن يجعلا هذه العلاقات الأكثر تطوراً والأكثر مصداقيةً.
صحبفة عمان: 16/1/2005