س: كيف تنظرون، ومن موقعكم الإسلامي، إلى شرعية الحوار مع الآخر، ومقاصد هذا الحوار؟
ـ لقد انطلق الإسلام في حركته الثقافية، في دعوته الآخر إلى الإيمان بفكره من قاعدة الحوار التي ترتكز على طرح الفكرة الإسلامية بكل تفاصيلها، والاستماع إلى فكرة الآخر على أساس الجدال بالتي هي أحسن، ما يفتح العقل على عناصر الفكر المتنوع للوصول إلى النتائج الإيجابية الحاسمة، الأمر الذي يجعل الحوار مع الآخر ضرورة إسلامية ثقافية في حركة الدعوة في مقاصدها الحركية في الانفتاح على الآخر للوصول معه إلى مواقع اللقاء.
س: هل حوار الحضارات هو الحوار بين الأديان فحسب؟
ـ الحضارات تتنوع في خطوطها الفكرية على مستوى القاعدة ومفاهيمها الإنسانية وقيمها الأخلاقية وانطلاقاتها الروحية والحركية، وبذلك، فإنها قد ترتكز على قاعدة دينية منفتحة على الغيب، إضافةً إلى الشهود، وقد ترتكز على قاعدة فلسفية مادية بما يتفرع عن ذلك من خطوط التشريع على صعيد قضايا الحريات العامة والخاصة والحقوق الإنسانية، إضافةً إلى العناصر الأخرى المتصلة بالجانب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني.
وفي ضوء ذلك، فإن حوار الحضارات يتسع لكل حضارة إنسانية في أبعادها الدينية وغيرها، بل إن الجانب الجدلي في القاعدة الدينية للحضارة الإسلامية، ينفتح على الصراع الفكري بين العنصر الروحي الغيبـي الذي يتمثل في الدين، والعنصر المادي الحسي الذي يتمثل في الحضارة المادية، ما يمنع من الفصل في عملية الحوار بينهما في مفرداته الفكرية.
س: في رأيكم، هل حوار الحضارات واقع ممكن، أم أن مشاكل العالم المتراكمة أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً تعتبر من العقبات الكبرى أمامه؟
ـ أتصوّر أنّه من الصعب الحديث عن حوار الحضارات في مواقع الدول السائرة في صراعها الحاد من أجل تحريك مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية، والأخذ بأسباب القوة في سبيل الوصول إلى نتائج إيجابية لأهدافها المتنوعة، لأنها ليست في معرض الحوار على أساس الاقتناع الحضاري بما يؤمن به الآخرون في مقابل ما تؤمن به بعيداً عن الواقع، بل هي في معرض السيطرة على الآخر ومصادرة قضاياه الكبرى بما يؤمّن لها استقرار مصالحها الحيوية. ولكن ذلك لا يمنع من إيجاد فرصة واقعية للدخول في حوار الحضارات من نافذة المراكز الثقافية المنتشرة في أنحاء العالم في الشرق والغرب، ومواقع الدراسات المتخصصة التي تستهدف تحريك الحوار حول الاختلافات الفكرية في القاعدة الحضارية في مرتكزاتها وامتداداتها في هذه الحضارة أو تلك، في نطاق الجو العلمي الثقافي بذهنية موضوعية عقلانية. وهذا ما نلاحظ واقعيته في أكثر من موقع في عالمنا المعاصر، وقد حقّق بعض النجاحات على مستوى جزئي، ولا سيما في الحوار بين الإسلام والغرب، وبين المسيحية والإسلام.
س: ما هي الرؤية الإسلامية لحوار الحضارات في مقابل الرؤية الغربية؟
ـ الإسلام لا يضع شروطاً للحوار مع الآخر من خلال طبيعة انتمائه الفكري أو الديني، لأنه يعمل على أساس مخاطبة الإنسان كلّه، ودعوته إلى الاطلاع على قاعدة الحضارة الإسلامية في أبعادها العقيدية والتشريعية والمفاهيمية والمنهجية. ولذلك فإنه يلتقي بالغرب في رؤيته للحوار على قاعدة الأصول العلمية الموضوعية التي يخاطب فيها العقل العقل، والمعرفة المعرفة، من دون الدخول في أية سلبيات ذاتية غريزية، لأن ذلك هو السبيل للوصول إلى التفاهم أو اللقاء حسب النتائج الواقعية في مفردات الحضارتين.
تخفيف من قسوة الواقع
س: يتحدث البعض عن مصطلحات ثلاث: حوار الحضارات، صدام الحضارات، وتحالف الحضارات، أي مصطلح تفضلون، وما تقييمكم لذلك؟
ـ لا أتفاعل مع كلمة "صدام الحضارات"، لأنها توحي بالعنف الذي قد يتحرك بالوسائل القاسية والمدمرة من خلال ذهنية الغلبة التي تسقط الآخر على صعيد الصدمة القوية بعيداً عن الوسائل الإنسانية العقلانية مما يتنافس فيه الفكر مع الفكر. ولكن قد نقترب من هذه الكلمة إذا أُريد لها أن تعبر عن صدام الفكر الحضاري مع الفكر الحضاري الآخر، وصراع القيم الإنسانية في هذه الحضارة مع القيم في الحضارة الأخرى، ما يقرّب الأمر من كلمة "حوار الحضارات" التي لا تمنع من العنف الفكري في طريقة تحديد عناصر الفكرة لتأصيل مفهومها بدقة، مع مراعاة الرفق في الأسلوب، لأن حوار الحضارات لا يبتعد عن مقولة الصدام الفكري الذي يراد له صدمة الفكرة للفكرة، لا صدمة الإنسان للإنسان.
أما مسألة تحالف الحضارات، فقد نلتقي بها في بعض المراحل الواقعية عند حدوث بعض الضرورات التي تفرض اللقاء في القضايا والمصالح أو الأوضاع المشتركة، بما يمثل حاجة حيوية أو مصيرية للطرفين، وهذا من الأمور التي يعيشها الإنسان في بعض مراحله على صعيد الواقع.
س: ما تقييمكم لمبادرة الرئيس الإيراني، محمد خاتمي، حول موضوع حوار الحضارات؟ وفي رأيك، ما هي الملامح التي ينبغي أن تتوافر في حوار كهذا، عندما تتقدم نحو جهات إسلامية أو دول إسلامية؟
ـ نحن مع هذا الشعار الذي يخفف في تأثيره الإنساني من قسوة الواقع في حركة الصراع، ولكننا نعتقد أنه بحاجة إلى الكثير من التخطيط في رسم القاعدة والفكرة والمنهج والأسلوب، مع إيجاد المناخ الملائم في الأجواء العامة التي يعيش فيها الحوار. ولعل من الطبيعي أن ملامح الحوار لا بد من أن تخضع لروحية إنسانية تعترف بالآخر في موقع إنسانيته، بحيث لا يتنكّر كل من الفريقين للآخر ولصلاحيته العقلية والعلمية للدخول في هذا الحوار.
قد يختلف الحوار في طرح الجهات الإسلامية الثقافية والاجتماعية له مع جهات أخرى غير إسلامية، في موضوعاته وشروطه، عن الحوار الذي تطرحه دول إسلامية في القضايا التي قد تتنوع فيها الخطوط في أبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية على صعيد الواقع، ما قد يختلف معه منطق هذه الحضارة مع تلك تبعاً لاختلاف المناخ النفسي والعملي.
س: ما جدوى الحديث عن حوار للحضارات في ظل العدوان الأمريكي و"الإسرائيلي" المتواصل على الأمة العربية والإسلامية؟
ـ هناك أكثر من جدوى لحوار الحضارات من خلال النخب الثقافية المنفتحة على الحقيقة في محاولة اكتشاف الرأي الآخر في التنوعات الحضارية، سواء من خلال المجتمعات الأخرى التي تشن الحرب على العالم الإسلامي، أو المجتمعات المستضعفة في العالم الثالث، لأن هذا الحوار قد يؤدي إلى خلق عالم جديد يرفض حروب الاستكبار العدوانية، ويهيىء أكثر من مناخ سياسي ضد هؤلاء الذين يصنعون مأساة الإنسان.
إن المستكبرين ليسوا كل العالم، بل إنهم يمثلون موقعاً محدوداً من مواقع عدوانية القوّة، ولكن المستضعفين قد يملكون تطوير عناصر قوّتهم في إيجاد بعض الإرباك للمستكبرين بطريقة وبأخرى.
لقد عاش الأنبياء والمصلحون في التاريخ في فترة سيطرة المستكبرين، ولكنهم استطاعوا القيام بتأكيد المفاهيم الروحية والإنسانية التي أضعفت مواقع القوة للظالمين في نهاية المطاف: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} [آل عمران:140].
رسالـة للنـاس
س: تكاد معظم أحاديث الحوار مع الحضارات تنحصر في الحوار مع الغرب، ألا ترون أن من الأهمية بمكان الانطلاق في حوار الحضارات مع الحضارات غير الغربية، فمثلاً اليابان طرحت مشروعاً للحوار مع العالم العربي والإسلامي تمثل في مبادرة قدمها وزير الخارجية الياباني الأسبق "يهوكونو"، العام 2001، فما هي أفضل الطرق لحوار حضاري شامل مع الغرب وغيره؟
ـ علينا أن لا نقتصر في حوار الحضارات على الحوار مع الغرب، بل أن نثيره في الحوار مع الحضارات الآسيوية، ولا سيما البوذية، من أجل اكتشاف العناصر الإنسانية والروحية التي نلتقي معها في الخطوط القيمية الأخلاقية العامة، أو التعرف على ما نختلف فيه معها للدخول مع الملتزمين بها في حوار علمي ثقافي حول الصواب والخطأ في ذلك. وبكلمة حاسمة: إن الإسلام جاء رسالة للناس كافة، فلا بد له من الانفتاح على العالم كله في حضاراته وأفكاره، من أجل تحريك الدعوة في دراسة ذلك كله للوصول إلى القاعدة المشتركة أو المواقع المختلف عليها، من أجل الوصول إلى أفق رحب للتفاهم تارة وللتوافق أخرى، على قاعدة الاعتراف بالآخر والاحترام للموقع الديني والثقافي الذي نختلف معه فيه.
س: نتعامل مع حوار ـ صدام الحضارات ـ كدعاوى خارجية مطروحة علينا، فما هي الرؤية الإسلامية لمفهوم التعايش والحوار؟
ـ الإسلام أكّد مسألة التعايش على قاعدة الكلمة السواء مع أهل الكتاب، باعتبار القيم العقيدية والعملية المشتركة بيننا وبينهم، ومن الممكن استيحاء ذلك مع غير أهل الكتاب على أساس المصلحة الحيوية للإسلام والمسلمين، ولعل الدراسة الدقيقة للواقع الإسلامي في كل تاريخ المسلمين مع غيرهم، يدل على أنهم عاشوا مع الشعوب الأخرى التي لا تدين بدينهم ولا تلتقي معهم في الأفكار العامة، من دون أية إساءة إليها.
س: البعض ينادي بأسبقية الحوار الداخلي على الحوار مع الحضارات الأخرى، من قبيل الحوار السني ـ الشيعي. إلى أي مدى تتفقون أو تختلفون مع هذا الرأي؟
ـ نعتقد أنّه علينا الانفتاح بالحوار الداخلي والخارجي من خلال الظروف المحيطة بنا، فنحن لا نجد مانعاً من الدخول في الحوار الإسلامي ـ الإسلامي إلى جانب الحوار بين الديانات أو بين الدين والعلمانية، لأن الساحة لا تضيق بموقع خاص، بل تتسع لكل المواقع، وربما يساعد حوار في جانب على الحوار في جانب آخر، من خلال التجربة الخارجية في وسائلها وأساليبها، أو على أساس إشغال بعض المواقع عن الضغط على المواقع الداخلية.
س: لعلّ المفارقة أننا لا نجد ما ينشر ويقال في أدبيات الحوار بين الأديان، معالجات دقيقة وعميقة وصريحة لقضايا الأديان في نقاط الالتقاء والافتراق معاً. فما السبب في تلك الفراغات البحثية؟
ـ السبب في ذلك هو أن فكرة حوار الحضارات، ولا سيما الحوار بين الأديان، لم تنفتح على الواقع إلا في فترات قريبة، إضافةً إلى التعقيدات النفسية والواقعية التي تضع الحواجز أمام هذا المشروع، باعتبار أن هذه القضية تصطدم ببعض الأوضاع السياسية التي قد تمنع الوصول إلى النتائج الحاسمة في هذا الاتجاه، ولكننا نلاحظ أن المسألة قد بدأت تفرض نفسها على حركة الواقع الديني على مستوى العالم المعاصر الذي بدأ اللقاء بين المسلمين وغيرهم على صعيد الحوار.
س: الفاتيكان بخطى للتقارب مع العالم الإسلامي بعد المجمع الفاتيكاني الثاني على المستوى الثقافي، ولكننا نلحظ تلكؤاً في الوقوف أمام الهجمة الغربية على عالمنا الإسلامي. فهل تشعرون بوجود ازدواجية في التعاطي من أعلى مرجعية مسيحية في العالم؟
ـ إن للآخرين مصالحهم السياسية والدينية في نظرتهم إلى أوضاعهم الخاصة، ما يجعل لهم وجهة نظر في كثير من القضايا التي قد يرى المسلمون ابتعادها عن القيم الدينية الروحية العليا، كما في القضية الفلسطينية ونحوها، ولذلك فإنهم قد لا يرون هذه الازدواجية التي نراها، لأن علينا في حركة الحوار، أن نتفهم الآخرين كما يرون أنفسهم، لا كما يروننا، لإيجاد بعض الأجواء النفسية التي قد تساعد في الوصول إلى نتيجة إيجابية مشتركة على صعيد القيم الروحية التي نلتقي عليها مسيحياً وإسلامياً. إن المسألة هي أن الحوار الإنساني يرتكز على أساس أن لا يفرض أحدنا على الآخر وجهة نظره، بل يناقش كل واحد من الفريقين وجهة نظر الآخر باحترام وموضوعية لا علاقة لها بالذات، على هدى قوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ:24].
مجلة "الشروق" 10كانون الثاني2005م (العدد:666/678)