بيروت - منصور الجمري
أكد المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله في حديث خاص "للوسط" أنه تسلّم دعوة رسمية هي الثانية من نوعها لزيارة البحرين. وعبَّر عن شكره للملك حمد بن عيسى آل خليفة على تقديمه الدعوة، مؤكداً أنه مازال يفكر فيها، وأن ما منعه من زيارة "بلد يحبه كثيراً" يعود إلى "ظروف خاصة وعامة"، آملاً في الوقت ذاته أن يعتمد العاملون للإسلام مبدأ الحوار مع الآخر وفيما بينهم، لأن الحوار هو الذي يحقق السلام الاجتماعي والسلام الحضاري، وهو الذي ينتج عالماً جديداً فيه الكثير من العلم والروح، وهو الذي يوجه حركة التجربة التي تنقل الإنسان إلى موقعه الذي يليق به وهو خليفة الله على الأرض.
س: سماحة السيد، كيف تنظر إلى واقع الحركة الإسلامية اليوم في ظل الأوضاع المتغيرة والمتزاحمة؟
كنت أتحدث أخيراً عن أحد الشعراء، وهو "عمر بن أبي ربيعة"، رأوه مرّةً في الطواف ينظر إلى النساء، فقيل له: يا أبا حفص أفي هذا المكان؟ فقال: "إني موكل بالجمال أتبعه"... وأنا قلت لبعض الإخوة: "إنني موكل بالإسلام أتبعه"؛ الإسلام في كل آفاقه الحضارية، بما فيها الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأننا نعتقد أنّ الإسلام عندما يفهم من خلال الإيمان ومن خلال الوعي، فإنه يمكن أن يحلّ مشكلات الإنسان، وأن يقدِّم أطروحةً إنسانيةً يلتقي فيها الإنسان بالله، ليكون "إنسان الله" الذي يندفع إلى كل الحياة من خلال كلمة الله التي تخلق للحياة نظامها وحيويتها وحركيتها وإبداعاتها كما خلقت الحياة نفسها.
ولذلك أتابع الحركة الإسلامية مع كل جيل من الأجيال، وأنا في الساحة منذ خمسين سنة، وكنا نواجه الصراعات منذ البداية، وكنت أؤمن بالحوار مع كلِّ الناس، وليس عندي عقدة مع أحد، بمعنى الانغلاق، وإن كنت أختلف مع الكثيرين في ما يختلفون فيه معي، ولكن الاختلاف يوحي للإنسان بأن عليه أن يتفهم وجهة نظر الآخر ليفهم الآخر وجهة نظره، لتتحرك الحياة على أساس التفاهم. وإذا لم يقد الحوار إلى وحدة الفكر، فإنه يقود إلى تعايش الفكر مع الفكر الآخر. وهذا تعلَّمناه من القرآن الذي أطلق الحوار مع أهل الكتاب والمشركين والكافرين والمنافقين، وحتى بين الإنسان ونفسه.
لذلك أنا أعتقد أن على الإسلاميين في العالم، وعلى الآخرين من غير الإسلاميين أيضاً، سواء كانوا من أتباع الأديان أو من العلمانيين، أن يعتبروا أن الحوار هو الذي يمكن أن يجعل الإنسانية تقترب من بعضها البعض، وأن تنتج من خلال هذا التمازج والتواصل الفكري والإنساني الكثير مما يفعّل حركية الإنسان في الحياة، حتّى يفهم الجميع أن السلام الفكري الذي لا يمتنع عن الحوار عمّا اختُلف فيه، هو الذي يصنع السلام الاجتماعي والسلام الإنساني، وهو الذي ينتج لنا عالماً جديداً فيه الكثير من العقل والعلم والروح، وفيه حركة التجربة التي تنقل الإنسان من موقع إلى موقع، وتحلِّق بالإنسان ليكتشف أسرار الكون ويعرف الله من خلال هذه الأسرار، وليشعر بأن الله خلق له العقل وأعطاه حريته، وقال له كن القوة التي يمكن لها أن تكتشف الله في الكون، وتكتشف الكون من خلال عظمة الله، ولتكون خليفة الله في عقلك وروحك وفي حركتك في الحياة.
إننا ندعو إلى الإسلام الحضاريّ، ونرفض التخلّف والخرافة والتحرك في الهوامش الجزئية، ولاسيّما هوامش التاريخ التي لا علاقة لها بأصالة العقيدة ولا أصالة الشريعة. إنّ أمام المسلمين وأمام العالم قضايا كبرى تتجمَّع حولها العواصف وتؤدي إلى الكثير من التعقيدات، فلنلتقِ في مواقع اللقاء مع المسلمين فيما بينهم في مذاهبهم واتجاهاتهم ومع العالم كله، لنلتق على الكلمة السواء، ولنتحاور في الكلمات التي تثير الكثير من علامات الاستفهام أو الجدل.
س: ماذا عن الدعوة الرسمية التي وجهها الملك لكم لزيارة البحرين؟ وهل ستُلبي الدعوة؟
- أنا أشكر هذه الدعوة، وهي الدعوة الثانية، وللبحرين في عقلي وفي قلبي الكثير من المحبة والتقدير، ولاسيما أنّ البحرين كانت أول دولة خليجية أخذت بأسباب الثقافة منذ منتصف القرن الماضي على المستوى المعاصر، وهي تملك تاريخاً علمياً ثقافياً منذ قرون كثيرة، ولذلك كانت البحرين الجزيرة الثقافية العلمية الروحية التي تملك الكثير من الرموز الفقهية والأدبية على المستوى القديم والمعاصر. كما أنني أقدر لشباب البحرين هذا الوعي المتحرك النابض للمستقبل، والرافض لكل جمود وتخلف وظلم واضطهاد، فهو يحمل قضايا بلده في آفاق القضايا الكبرى التي تهزّ العالم العربي والإسلامي. لذلك فإنني أعيش الشوق للقاء هذا الشعب الطيب في هذا البلد الطيب، ولكن بعض الظروف الخاصة والعامة تؤخر ذلك، وأرجو أن يسهِّل الله سبحانه وتعالى بعض هذه الظروف لنلتقي بهذه الطليعة المؤمنة المسلمة الشابة التي أعطت الكثير وقدَّمت الكثير، ولا تزال تعيش مسألة الحرية في كل أبعادها وانفتاحها، ولا نزال نراقب حركية هذه الطلائع الشابة، ونرجو لها أن تنفتح على الحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية في إطار من المسؤولية الإيمانية الإسلامية التي تجعل الإنسان يفكِّر أولاً، ويخطِّط ثانياً، ويتحرَّك ثالثاً، في إطار دراسة كل الظروف الدولية والإقليمية على جميع الأصعدة في ما يتحرك به العالم في تطوراته السلبية والايجابية.
إنني أعيش مع البحرين بكل إحساسي ومشاعري، وأستجيب لها بكل قلبي.
س: نعيش اليوم استقبال الأسرى المحررين في بيروت الذين أفرج عنهم بعد سنوات من العذاب، فما هي مشاعرك بهذه المناسبة؟
- المسألة بالنسبة إليّ تتمثل في خطين، الأول: هو الخط الشعوري العاطفي، لأن أكثر هؤلاء الأسرى وأكثر هؤلاء الشهداء عاشوا معي منذ طفولتهم فكراً وروحاً وحركةً ومقاومةً، وكنت أرعى هذا الجيل المنفتح المقاوم المجاهد، المنفتح على الإسلام الحركي، الذي يعيش إرادة التحدي ويواجه كل التحديات بشجاعة لا تعرف الخوف، وبحركة لا تعرف التراجع. لذلك كانت روح الشهادة في نموذجي الشهيد الحي، والشهيد الشهيد، تمثِّل القوة والنموذج الأمثل الذي يعطي عالمنا العربي والإسلامي الصورة المشرقة للإنسان، الذي استطاع الإسلام في عقله وفي قلبه وروحه أن يقوي حركته وينظمها، ويحرك مختلف الوسائل نحو الهدف. هؤلاء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، وهكذا أشعر بالأبوّة لكل هذا الجيل المقاوم الذي عاش معي منذ أكثر من ثلاثين سنة...
عاش معي في تنوّع أجياله، وفي تنوع شخصياته، درساً ومحاضرةً وحركةً وعاطفةً، لذلك أنا أشعر بهذا التحرير - تحرير الأسرى، وتحرير الأجساد من الأسر الحاقد كما يشعر الأب عند تحرير أولاده ولقائهم.
الخط الثاني: هو خطُّ القضيّة. إنني أعتبر أن هذا الجيل المقاوم الذي عانى الأسر واستقبل الشهادة، هو الذي يمثِّل نقاط الضوء في كلِّ هذا الظلام العربي والإسلامي الكبير الذي يحاول أن ينظّر للهزيمة والتراجع والانبطاح أمام المستكبرين، سواء كانوا من الدول الكبرى، وفي مقدمتها أميركا، أو من خلال "إسرائيل"، أو من خلال كثير من القيادات التي يصحُّ فيها ما جاء في معركة خيبر عندما أعطى الرسول "ص" الراية لبعض الناس، "فرجع يجبّن أصحابه ويجبّنونه"... إن هذا الجيل من الشباب المقاوم المجاهد عندما كان يندفع كان يقوي أفراده ويقوّونه، كان يشير إلى المستقبل، مستقبل التحرر والانتصار، وكان يقدم الشهيد تلو الشهيد، والجريح تلو الجريح، والأسير تلو الأسير. كان يقدم هؤلاء إلى الساحة ويصرُّ على ذلك، رغم وجود الكثيرين الذين يتحدثون بروح انهزامية، ويقولون "إن العين لا تقابل المخرز"، وإنّ هذه المقاومة عبثية، وإن "إسرائيل" هي الدولة التي لا يمكن الانتصار عليها، وقد هزمت الجيوش العربية.
ولكنهم أصرُّوا وتقدّموا وكان الانتصار، وأعتقد أن هذا الإنجاز الجديد هو انتصار سياسي باعتراف الإسرائيليين، لأن المقاومة - بوعيها وبقيادتها وبإصرارها وبالحنكة السياسية التي جعلتها تعرف كيف تضغط هنا وكيف تتحرك بمرونة هناك، استطاعت أن تنتزع من "إسرائيل" هذا التنازل، ووضعت "إسرائيل" في مأزق، ليكون هناك أسرى إسرائيليون لدى المقاومة، لتضغط على "إسرائيل" من خلال ذلك، وحاولت "إسرائيل" أن تلقي الرعب، وحاول عملاء "إسرائيل" الذين هم في خلفيات "إسرائيل" من الدول أن يضغطوا بطريقة أو بأخرى، ولكن المقاومة صمدت سياسياً، كما صمدت جهادياً.
إن هذا الإنجاز هو رسالة إلى كل المتخاذلين في العالم العربي والإسلامي، يؤكد أن من الممكن جداً الانتصار على "إسرائيل" سياسياً والانتصار عليها جهادياً، ولكن لابد من عقل يخطط، ومن إرادة تؤكّد خطَّ السير، ومن روح إيمانية تفكر بالأمة وبالمستقبل من خلال التفكير بالله، الذي وعد المؤمنين بالنصر في قوله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج/40).
إنه رسالة إلى كلِّ العالم العربي والإسلامي، بأنّه يمثل صفعة في وجه الذين يعملون على إنتاج ثقافة الهزيمة وثقافة التراجع وثقافة الانبطاح، هؤلاء الذين يريدون أن يتقربوا إلى أمريكا من خلال العلاقات مع "إسرائيل"، لأن "إسرائيل" هي الباب الذي قالت لهم أمريكا أن يدخلوا من خلاله إلى البركة الأميركية.
إن البركة الحقيقية هي بركة الحرية والاستقلال، والجهاد والوعي، والرشد السياسي هو الذي يمكن أن يدخلنا إلى المستقبل الكبير، لأن علينا دائماً أن نحدّق بالمستقبل، لنستوحي من إضاءات بعض الماضي في تحريك الحاضر، والتخطيط له حتى ننتج المستقبل، وألاّ نكون الماضويين الذين يدمنون الماضي وينسون المستقبل... أن نكون المستقبليين الذين يأخذون من الماضي ما يبقى للحياة ويعيشون مسؤولية الحاضر، لذلك هذا إنجاز للأمة كلها، وانتصار جديد، وأمامنا أكثر من انتصار. فلنعش ثقافة النصر ونرفض ثقافة الهزيمة، وكل الذين ينظّرون ويعملون للهزيمة والانبطاح أمام المستكبرين.